بحثًا عن أجناس بشرية مفقودة

باتت الاكتشافات المذهلة والفتوحات الجديدة في مجال تحليل الحمض النووي تعيد كتابة تاريخ تأقلم نوعنا البشري وتطوره.. بل وتقدم صورة جديدة لـ"الأجناس البشرية الأخرى" الغامضة التي تقاطعت مساراتها مع أسلافنا أثناء انتشارهم في أنحاء قارتي أوروبا وآسيا.

فـي أعماق "كهف كوبرا"، داخل الجبال النائية في شمال شرق لاوس، ارتد شعاع المصباح المثبَّت على ناصيـة "إريك سـوزوني" عبـر الصخـور المجدبـة حتى
أضاء بوميضه شيئًا غير عاديًا: عشرات العظام والأسنان البارزة من طبقة رواسب وصخور.  سوزوني متخصص في استكشاف الكهوف، عمره 50 عامًا وله قامة طويلة ووشم في ذراعه على شاكلة بَبْر. هنالك صرخ مناديًا شريكَه "سيباستيان فرانجول". كانت هذه أول رحلة للمستكشفَين الفرنسيين في كهف كوبرا. وقد تسلقا للتو جُرفًا من الحجر الجيري بارتفاع 20 مترًا، حيث صعدا من أرضية الغابة إلى مدخل الكهف برفقة رفيقين لم يكونا في الحسبان: ولَدَان مراهقان من السكان المحليين كانا ينتعلان صنادل. كان الفتيان، وهما من شعب "الهمونغ"، يعرفان التضاريس المحيطة بالكهف وكذا أفاعي الكوبرا التي تحمل الاسم نفسه وكانت أحيانًا تتربص كامنة داخل الكهف. 
لكن في ذلك اليوم لم يكن هناك أي أثر لهذه الأفاعي في أي مكان. وبعد فترة وجيزة من التسلق ودخول الكهف، عثر هؤلاء المستكشفون على ما بدا أنه كنزٌ من الأحافير القديمة. كان سوزوني وفرانجول يستكشفان هذا الكهف لحساب فريق دولي من علماء أنثروبولوجيا الأحافير كانوا يُجرون عمليات تنقيب في مواقع قريبة. وكان هؤلاء العلماء ينقبون في هذه الجبال منذ أكثر من 15 عامًا، بحثًا عن أدلة لحل اثنين من أعقد ألغاز التطور البشري: متى وصل الإنسان العاقل (هومو سابْيين) إلى هنا؟ وما هي الأنواع البشرية الأخرى التي التقى؟  لم يجرؤ سوزوني على لمس الأحافير في البداية. ولكن عندما عاد لاستطلاع الكهف في اليوم التالي مع أحد الجيولوجيين من ذلك الفريق، كانت مَهمته انتزاع عيّنة من الرواسب على جدار الكهف. وبينما كان يطرق على الإزميل، سقطت سِن بُنية كبيرة، بدا على نحو واضح إلى درجة مرعبة أنها ضرس بشرية. لم يكن سوزوني ينوي تحقيق اكتشاف -فحسَب البروتوكول ومجال عمله، كانت تلك وظيفة العلماء- لكنه انبهر بالعيّنة لحظةً ووضعها في جيب قميصه. لقد كانت "هدية جميلة"، على حد تعبيره. عند العودة إلى المخيم الرئيس، اجتمع سوزوني مع قائد فريق البحث، خبير أنثروبولوجيا الأحافير، "فابريس ديميتر"، من "جامعة كوبنهاغن"، و"كليمنت زانولي"، خبير الأسنان القديمة لدى "جامعة بوردو". وصف لهما سوزوني بدقة ما رآه في كهف كوبرا وأظهر لهما بعض الأسنان التي انتزعها من الرواسب. ثم مَدَّ يده إلى جيبه وقال مبتسمًا:  "أوه، لقد أحضرت لكم شيئًا". انحنى زانولي، وكان يرتدي قبعة رعاة البقر الأميركيين، لإلقاء نظرة فاحصة. يقول مستذكرًا تلك اللحظات: "كانت السن سليمة تمامًا، ومحفوظة جيدًا. عرفت على الفور أنها تعود لبشر". لكن لأي نوع من البشر؟ وحسب اعتقاده، كانت السن كبيرة ومتموجة إلى حد يستبعد إمكانية أنها لإنسان عاقل حديث. وعلى أنها كانت تشبه ظاهريًا سن إنسان "نياندرتال"، فإن بقايا هذا النوع البشري لم يسبق أن حُسم في أمر وجودها في شرق آسيا بصفة قطعية. تبادل هؤلاء العلماء نظرات حائرة متسائلين عمّن كان صاحب هذه السن الغامضة؟ اكتشاف ضرس في لاوس، وعظم فك على هضبة التبت، وجزء من خنصر في سيبيريا.. يقول العلماء إننا الآن نُعيد كتابة تاريخنا التطوري من خلال اكتشافات صغيرة يفسرها ويوضحها التقدم العلمي السريع: فتوحات في علم الوراثة القديم، ودراسة البروتينات، والتأريخ الإشعاعي. ولا يكتفي هذا السيل من الرؤى الجديدة بتغيير مفهومنا عن أصل النوع البشري تغييرًا جذريًا فحسب، بل إنه يطرح تساؤلات بشأن معنى أن نكون بشرًا. إننا جميعًا، كل الثمانية مليارات إنسان على هذا الكوكب، ننتمي إلى نوع واحد. إننا نحن "البشر العاقلين"، آخر الأنواع البشرية على وجه الأرض. 
وقبل زمن ليس بالبعيد، ساد الاعتقاد على نطاق واسع أن البشر المعاصرين اتبعوا مسار تقدم خطيًا مستقيمًا نسبيًا تَرافق مع انتشارنا خارج إفريقيا، وهو مسار منفصل عن مسار الأنواع البشرية الأخرى ومتفوق عليها ضِمنًا. وحتى اليوم، فإن إحدى أكثر صور التطور التي لا تُنسى هي تلك التي تصور "مسيرة التقدم"، وهي صورة مرسومة على القمصان والملصقات تُظهر أسلافنا وهم يحسّنون من وضعية وقوفهم ومشيتهم مع تقدمهم الحثيث نحو طور البشر العاقلين، منتصبي القامة والفخورين، وهم يخطون خطوات واسعة نحو المستقبل.  لكن التغيرات والاضطرابات الحالية التي طغت على التفكير التطوري زعزعت هذه النظرة الأنيقة الخطية لأصول الإنسان وبدأت تحل محلها صورة أعقد بكثير. فما يعرفه الباحثون الآن هو أنه قبل 70 ألف سنة إلى 40 ألف سنة مضت -وكانت فترة حاسمة في نمونا وتأقلمنا وتطورنا- كان العالم يعج بتنوع الأجناس البشرية. ومع انتشار الإنسان العاقل في أنحاء أوروبا وآسيا، التقى هذا النوع، بل وتزاوج في بعض الأحيان، مع أجناس بشرية أخرى. وجاء دليل ذلك الاختلاط في عام 2010، عندما رسم عالم الوراثة القديمة السويدي "سفانتي بابو" الخريطة الجينومية لإنسان النياندرتال أول مرة. وأثبت عمله أن إنسان النياندرتال والإنسان العاقل تزاوجا وتكاثرا.. وأن ذلك التبادل الوراثي (الجيني) كان له عواقب كبيرة ودائمة. واليوم، بعد أكثر من 40 ألف سنة على انقراض النياندرتال، يحمل جُل البشر الأحياء بقايا من الحمض النووي للنياندرتال. ولكنْ، مَن يا ترى غيرهم من الأجناس البشرية تقاسم معنا العيش على هذا الكوكب؟ وكيف شكلت تفاعلاتنا مع تلك الأجناس الأخرى مسارَ تطورنا نحن وانقراضهم هم؟ يتعمق علماء أنثروبولوجيا الأحافير في فهم هذه الأسئلة أكثر فأكثر.. وهي الأسئلة ذاتها التي واجهها ديميتر وزانولي عندما درسا تلك السن الغامضة المستخرَجة من كهف كوبرا.

 

بحثًا عن أجناس بشرية مفقودة

باتت الاكتشافات المذهلة والفتوحات الجديدة في مجال تحليل الحمض النووي تعيد كتابة تاريخ تأقلم نوعنا البشري وتطوره.. بل وتقدم صورة جديدة لـ"الأجناس البشرية الأخرى" الغامضة التي تقاطعت مساراتها مع أسلافنا أثناء انتشارهم في أنحاء قارتي أوروبا وآسيا.

فـي أعماق "كهف كوبرا"، داخل الجبال النائية في شمال شرق لاوس، ارتد شعاع المصباح المثبَّت على ناصيـة "إريك سـوزوني" عبـر الصخـور المجدبـة حتى
أضاء بوميضه شيئًا غير عاديًا: عشرات العظام والأسنان البارزة من طبقة رواسب وصخور.  سوزوني متخصص في استكشاف الكهوف، عمره 50 عامًا وله قامة طويلة ووشم في ذراعه على شاكلة بَبْر. هنالك صرخ مناديًا شريكَه "سيباستيان فرانجول". كانت هذه أول رحلة للمستكشفَين الفرنسيين في كهف كوبرا. وقد تسلقا للتو جُرفًا من الحجر الجيري بارتفاع 20 مترًا، حيث صعدا من أرضية الغابة إلى مدخل الكهف برفقة رفيقين لم يكونا في الحسبان: ولَدَان مراهقان من السكان المحليين كانا ينتعلان صنادل. كان الفتيان، وهما من شعب "الهمونغ"، يعرفان التضاريس المحيطة بالكهف وكذا أفاعي الكوبرا التي تحمل الاسم نفسه وكانت أحيانًا تتربص كامنة داخل الكهف. 
لكن في ذلك اليوم لم يكن هناك أي أثر لهذه الأفاعي في أي مكان. وبعد فترة وجيزة من التسلق ودخول الكهف، عثر هؤلاء المستكشفون على ما بدا أنه كنزٌ من الأحافير القديمة. كان سوزوني وفرانجول يستكشفان هذا الكهف لحساب فريق دولي من علماء أنثروبولوجيا الأحافير كانوا يُجرون عمليات تنقيب في مواقع قريبة. وكان هؤلاء العلماء ينقبون في هذه الجبال منذ أكثر من 15 عامًا، بحثًا عن أدلة لحل اثنين من أعقد ألغاز التطور البشري: متى وصل الإنسان العاقل (هومو سابْيين) إلى هنا؟ وما هي الأنواع البشرية الأخرى التي التقى؟  لم يجرؤ سوزوني على لمس الأحافير في البداية. ولكن عندما عاد لاستطلاع الكهف في اليوم التالي مع أحد الجيولوجيين من ذلك الفريق، كانت مَهمته انتزاع عيّنة من الرواسب على جدار الكهف. وبينما كان يطرق على الإزميل، سقطت سِن بُنية كبيرة، بدا على نحو واضح إلى درجة مرعبة أنها ضرس بشرية. لم يكن سوزوني ينوي تحقيق اكتشاف -فحسَب البروتوكول ومجال عمله، كانت تلك وظيفة العلماء- لكنه انبهر بالعيّنة لحظةً ووضعها في جيب قميصه. لقد كانت "هدية جميلة"، على حد تعبيره. عند العودة إلى المخيم الرئيس، اجتمع سوزوني مع قائد فريق البحث، خبير أنثروبولوجيا الأحافير، "فابريس ديميتر"، من "جامعة كوبنهاغن"، و"كليمنت زانولي"، خبير الأسنان القديمة لدى "جامعة بوردو". وصف لهما سوزوني بدقة ما رآه في كهف كوبرا وأظهر لهما بعض الأسنان التي انتزعها من الرواسب. ثم مَدَّ يده إلى جيبه وقال مبتسمًا:  "أوه، لقد أحضرت لكم شيئًا". انحنى زانولي، وكان يرتدي قبعة رعاة البقر الأميركيين، لإلقاء نظرة فاحصة. يقول مستذكرًا تلك اللحظات: "كانت السن سليمة تمامًا، ومحفوظة جيدًا. عرفت على الفور أنها تعود لبشر". لكن لأي نوع من البشر؟ وحسب اعتقاده، كانت السن كبيرة ومتموجة إلى حد يستبعد إمكانية أنها لإنسان عاقل حديث. وعلى أنها كانت تشبه ظاهريًا سن إنسان "نياندرتال"، فإن بقايا هذا النوع البشري لم يسبق أن حُسم في أمر وجودها في شرق آسيا بصفة قطعية. تبادل هؤلاء العلماء نظرات حائرة متسائلين عمّن كان صاحب هذه السن الغامضة؟ اكتشاف ضرس في لاوس، وعظم فك على هضبة التبت، وجزء من خنصر في سيبيريا.. يقول العلماء إننا الآن نُعيد كتابة تاريخنا التطوري من خلال اكتشافات صغيرة يفسرها ويوضحها التقدم العلمي السريع: فتوحات في علم الوراثة القديم، ودراسة البروتينات، والتأريخ الإشعاعي. ولا يكتفي هذا السيل من الرؤى الجديدة بتغيير مفهومنا عن أصل النوع البشري تغييرًا جذريًا فحسب، بل إنه يطرح تساؤلات بشأن معنى أن نكون بشرًا. إننا جميعًا، كل الثمانية مليارات إنسان على هذا الكوكب، ننتمي إلى نوع واحد. إننا نحن "البشر العاقلين"، آخر الأنواع البشرية على وجه الأرض. 
وقبل زمن ليس بالبعيد، ساد الاعتقاد على نطاق واسع أن البشر المعاصرين اتبعوا مسار تقدم خطيًا مستقيمًا نسبيًا تَرافق مع انتشارنا خارج إفريقيا، وهو مسار منفصل عن مسار الأنواع البشرية الأخرى ومتفوق عليها ضِمنًا. وحتى اليوم، فإن إحدى أكثر صور التطور التي لا تُنسى هي تلك التي تصور "مسيرة التقدم"، وهي صورة مرسومة على القمصان والملصقات تُظهر أسلافنا وهم يحسّنون من وضعية وقوفهم ومشيتهم مع تقدمهم الحثيث نحو طور البشر العاقلين، منتصبي القامة والفخورين، وهم يخطون خطوات واسعة نحو المستقبل.  لكن التغيرات والاضطرابات الحالية التي طغت على التفكير التطوري زعزعت هذه النظرة الأنيقة الخطية لأصول الإنسان وبدأت تحل محلها صورة أعقد بكثير. فما يعرفه الباحثون الآن هو أنه قبل 70 ألف سنة إلى 40 ألف سنة مضت -وكانت فترة حاسمة في نمونا وتأقلمنا وتطورنا- كان العالم يعج بتنوع الأجناس البشرية. ومع انتشار الإنسان العاقل في أنحاء أوروبا وآسيا، التقى هذا النوع، بل وتزاوج في بعض الأحيان، مع أجناس بشرية أخرى. وجاء دليل ذلك الاختلاط في عام 2010، عندما رسم عالم الوراثة القديمة السويدي "سفانتي بابو" الخريطة الجينومية لإنسان النياندرتال أول مرة. وأثبت عمله أن إنسان النياندرتال والإنسان العاقل تزاوجا وتكاثرا.. وأن ذلك التبادل الوراثي (الجيني) كان له عواقب كبيرة ودائمة. واليوم، بعد أكثر من 40 ألف سنة على انقراض النياندرتال، يحمل جُل البشر الأحياء بقايا من الحمض النووي للنياندرتال. ولكنْ، مَن يا ترى غيرهم من الأجناس البشرية تقاسم معنا العيش على هذا الكوكب؟ وكيف شكلت تفاعلاتنا مع تلك الأجناس الأخرى مسارَ تطورنا نحن وانقراضهم هم؟ يتعمق علماء أنثروبولوجيا الأحافير في فهم هذه الأسئلة أكثر فأكثر.. وهي الأسئلة ذاتها التي واجهها ديميتر وزانولي عندما درسا تلك السن الغامضة المستخرَجة من كهف كوبرا.