أحافير حيـة

ظلت أسماك الحفش تتصدى لكل ما يواجهها على مرّ 162 مليون سنة.. إلى أن دفعها البشر إلى حافة الانقراض. وفيما يلي متابعة للجهود العاجلة لحماية آخر هذه الأحافير الحية.

تنساب مياه النهر بتدفقات هائلة بلا هدير. إنه شهر ديسمبر في جنوب كازاخستان، وتغلب على المشهد الطبيعي بالقرب من نهر "سير داريا" ظلال من اللون البني والرمادي الداكن؛ وهي لأعشاب نائمة وسهول فيضية مغمورة بالطمي وأشجار بلا أوراق. لم يعد هذا الامتداد على ضفة النهر بتلك الروعة المعهودة؛ إذْ تتناثر في المكان لفافات طعام وقنينات بالإضافة إلى سيارة مهجورة. وفي الأعلى، يحتجب ضوء الشمس تحت غشاوة تشكلت بفعل دخان الفحم ودخان الخشب. ولكن هذا المكان يُعد مثاليًا لِمَا يبحث عنه "بيرني كوهادا". "هذا ما نحتاج إليه"، يقول كوهادا، عالم الأحياء المتخصص في حفظ الأحياء المائية لدى "معهد صون الأحياء المائية" التابع لـ"حوض أسماك تينيسي". فهو يَأمل العثور على نوع من سمك الحفش (يُدعى سير داريا) المتوطن بالأصل في هذه المياه، لكنه لم يشاهَد منذ ستينيات القرن الماضي، بعد بناء سلسلة من السدود السوفييتية عبر منظومة النهر. وقد حدَّت تلك المشاريع من وصول هذه الأسماك إلى مناطق تفريخها وغيّرت إلى الأبد تدفق نهر سير داريا الذي ينحدر من قمم قيرغيزستان العالية باتجاه ما يشكل الآن بقايا بحر آرال. فإذا كان الحفش لا يزال موجودًا بطريقة أو بأخرى، فإن كوهادا يعتقد أن هذا الامتداد الطيني الضحل من النهر هو المكان حيث يمكن العثور عليه. قبل بضعة أشهر من ذلك، كان كوهادا قد تلقى اتصالًا من منظمة "ريوايلد" (Re:Wild) المَعنية بصون الطبيعة والتي تدير برنامجًا للبحث عمّا تسميه الأنواع المفقودة؛ وهي كائنات لم تُشاهد منذ عقد من الزمن على الأقل ويمكن أن تكون منقرضة، ولكن لا توجد بيانات قاطعة في هذا الأمر. تواصل مسؤولو المنظمة مع كوهادا لِعِلمهم بأنه كان واحدًا من مجموعة صغيرة جدًّا من العلماء الذين وقعت أعينهم على سمك حفش سير داريا. فعندما كان طالب دراسات عليا في تسعينيات القرن الماضي، زار متاحف في لندن وموسكو وسان بطرسبرغ وصوّر بالفيديو 27 عيّنة صار لونها يميل إلى البياض الباهت بفعل سنوات التخزين. ويقول كوهادا متذكرًا المكالمة مع المنظمة: "قالوا لي: 'أنت الخبير'. فقلت: 'حسنًا، لقد رأيتها نافقة في وعاء'".  لحفش سير داريا مَظهر مميز، ويُعد أصغر أنواع الحفش البالغ عددها 26 نوعًا، بطول أقصى يصل إلى نحو 22 سنتيمترًا. أما أكبرها فهو "البيلوغا"، إذ وصل طول أكبر سمكة من هذا النوع تُرصَد على الإطلاق (صِيدَت في نهر الفولغا عام 1827) إلى أكثر من سبعة أمتار ووزنها إلى أكثر من 1450 كيلوجرامًا. ولجميع أسماك الحفش خطم طويل مسطح؛ وزوائد لمسية متدلية تشبه الشوارب تَرصد بها الفرائس التي تعيش في القاع؛ وخمسة صفوف من الحواف العظمية القرنية التي تمتد عموديًا على طول أجسامها. ومن الصعب الخلط بين هذه السمكة القديمة وأي نوع آخر. فاذا استبعد المرء من تخميناته سمك السلور وسمك القرش والستيغوصور ومنشار التقليم، فلن يجنح به الخيال ويذهب به إلى أبعد من سمك الحفش. لقد عاشت هذه الأسماك على مرّ 162 مليون سنة في خضم التقلبات المناخية والتحولات القارية وثورات البراكين وانقراض جماعي. يقول كوهادا: "لقد نجت من الكويكب الذي قتل الديناصورات، وكل ما أمكن للطبيعة والفضاء أن يلقياه عليها". نجت من كل شيء.. ما عدا البشر. وهي اليوم من أكثر مجموعات الأسماك المهددة بالانقراض في العالم. فمنذ عام 1970، انخفضت أعداد أسماك الحفش في العالم بنسبة كارثية بلغت 94 بالمئة. ويدرج "الاتحاد الدولي لصون الطبيعة" 25 نوعًا من أسماك الحفش على قائمة الأنواع المعرضة لخطر انقراض متوسط أو كبير،  و17 نوعًا مهددًا لخطر انقراض أقصى، ونوعًا واحدًا منقرضًا في البرية. ويُخشى أن تنقرض ثلاثةٌ من الأنواع المهددة بخطر انقراض أقصى، ومنها حفش سير داريا. من الناحية البيئية، تقف أسماك الحفش على حافة الهاوية. أما من الناحية الاقتصادية، فهي من أكثر الحيوانات قيمة على وجه الأرض. ويمكن أن يُعزى جزء كبير من تناقص أعداد الحفش إلى الصيد المفرط؛ فالكافيار الذي هو البيض الذي يُستخرَج من هذا السمك بكميات وفيرة ويتخذ لون السبج (الزجاج البركاني الأسود) ويُملَّح ويُباع في جميع أنحاء العالم بوصفه رمزًا للوجاهة والثروة. ويتجاوز سعر بعض العُلب منه 20 ألف دولار للكيلوجرام الواحد. وقد ظلت القرارات التي اتخذها البشر والتغيرات البيئية تتسم بطابعها المدمر حتى لأنواع مثل حفش سير داريا التي لا تُستهدَف طلبًا لبطارخها؛ إذْ يقول كوهادا: "لم يستغرق تدمير البشر كلَّ الموائل النهرية التي يعيش فيها الحفش سوى 200 عام". وقد تطور هذا السمك على مرّ أكثر من 160 مليون سنة في الأنهار التي تتدفق بِحُرية، وهي أماكن لا توجد فيها حواجز. يقول كوهادا: "اعتادت أسماك الحفش جميعها على الهجرة". لكن كثيرًا من الأشياء تعترض سبيلها اليوم. فالسدود والخزانات والتجريف وتحويلات الري تعيق تنقلها إلى مناطق التفريخ في أعلى النهر، وتدفع اليرقات الطافية في اتجاه مجرى النهر. ومن الممكن أيضًا أن يؤدي الجريان السطحي الناتج عن النشاط الزراعي إلى تكاثر الطحالب السامة؛ فيما تتسبب أنشطة التوسع العمراني وقطع الأشجار والتعدين في تدمير موائل التفريخ وطرح الرواسب الضارة. ويأمل كوهادا أن يكون عدد قليل من حفش سير داريا قد نجا من عصر الإنسان هذا. فإذا أمكن العثور على هذا السمك، فسيتّبع كوهادا "قواعد لعبة قديمة" تشمل اصطياد مجموعة من الذكور والإناث في سن التكاثر، ووضعها في مِفرخة، وتربيتها لإعادة توطينها في البرية. وإذا كانت هناك سدود تعيق الوصول إلى طرق التفريخ، فهناك الآن برامج تفريخ وتنقيل. أما بالأماكن حيث كان يسود الصيد المفرط، فتوجد الآن قوانين ومؤسسات تَحظر الصيد غير المستدام أو تحد منه، بل إنه حتى صناعة الكافيار صارت تُسهم اليوم في إعادة الحفش من حافة الهاوية.

أحافير حيـة

ظلت أسماك الحفش تتصدى لكل ما يواجهها على مرّ 162 مليون سنة.. إلى أن دفعها البشر إلى حافة الانقراض. وفيما يلي متابعة للجهود العاجلة لحماية آخر هذه الأحافير الحية.

تنساب مياه النهر بتدفقات هائلة بلا هدير. إنه شهر ديسمبر في جنوب كازاخستان، وتغلب على المشهد الطبيعي بالقرب من نهر "سير داريا" ظلال من اللون البني والرمادي الداكن؛ وهي لأعشاب نائمة وسهول فيضية مغمورة بالطمي وأشجار بلا أوراق. لم يعد هذا الامتداد على ضفة النهر بتلك الروعة المعهودة؛ إذْ تتناثر في المكان لفافات طعام وقنينات بالإضافة إلى سيارة مهجورة. وفي الأعلى، يحتجب ضوء الشمس تحت غشاوة تشكلت بفعل دخان الفحم ودخان الخشب. ولكن هذا المكان يُعد مثاليًا لِمَا يبحث عنه "بيرني كوهادا". "هذا ما نحتاج إليه"، يقول كوهادا، عالم الأحياء المتخصص في حفظ الأحياء المائية لدى "معهد صون الأحياء المائية" التابع لـ"حوض أسماك تينيسي". فهو يَأمل العثور على نوع من سمك الحفش (يُدعى سير داريا) المتوطن بالأصل في هذه المياه، لكنه لم يشاهَد منذ ستينيات القرن الماضي، بعد بناء سلسلة من السدود السوفييتية عبر منظومة النهر. وقد حدَّت تلك المشاريع من وصول هذه الأسماك إلى مناطق تفريخها وغيّرت إلى الأبد تدفق نهر سير داريا الذي ينحدر من قمم قيرغيزستان العالية باتجاه ما يشكل الآن بقايا بحر آرال. فإذا كان الحفش لا يزال موجودًا بطريقة أو بأخرى، فإن كوهادا يعتقد أن هذا الامتداد الطيني الضحل من النهر هو المكان حيث يمكن العثور عليه. قبل بضعة أشهر من ذلك، كان كوهادا قد تلقى اتصالًا من منظمة "ريوايلد" (Re:Wild) المَعنية بصون الطبيعة والتي تدير برنامجًا للبحث عمّا تسميه الأنواع المفقودة؛ وهي كائنات لم تُشاهد منذ عقد من الزمن على الأقل ويمكن أن تكون منقرضة، ولكن لا توجد بيانات قاطعة في هذا الأمر. تواصل مسؤولو المنظمة مع كوهادا لِعِلمهم بأنه كان واحدًا من مجموعة صغيرة جدًّا من العلماء الذين وقعت أعينهم على سمك حفش سير داريا. فعندما كان طالب دراسات عليا في تسعينيات القرن الماضي، زار متاحف في لندن وموسكو وسان بطرسبرغ وصوّر بالفيديو 27 عيّنة صار لونها يميل إلى البياض الباهت بفعل سنوات التخزين. ويقول كوهادا متذكرًا المكالمة مع المنظمة: "قالوا لي: 'أنت الخبير'. فقلت: 'حسنًا، لقد رأيتها نافقة في وعاء'".  لحفش سير داريا مَظهر مميز، ويُعد أصغر أنواع الحفش البالغ عددها 26 نوعًا، بطول أقصى يصل إلى نحو 22 سنتيمترًا. أما أكبرها فهو "البيلوغا"، إذ وصل طول أكبر سمكة من هذا النوع تُرصَد على الإطلاق (صِيدَت في نهر الفولغا عام 1827) إلى أكثر من سبعة أمتار ووزنها إلى أكثر من 1450 كيلوجرامًا. ولجميع أسماك الحفش خطم طويل مسطح؛ وزوائد لمسية متدلية تشبه الشوارب تَرصد بها الفرائس التي تعيش في القاع؛ وخمسة صفوف من الحواف العظمية القرنية التي تمتد عموديًا على طول أجسامها. ومن الصعب الخلط بين هذه السمكة القديمة وأي نوع آخر. فاذا استبعد المرء من تخميناته سمك السلور وسمك القرش والستيغوصور ومنشار التقليم، فلن يجنح به الخيال ويذهب به إلى أبعد من سمك الحفش. لقد عاشت هذه الأسماك على مرّ 162 مليون سنة في خضم التقلبات المناخية والتحولات القارية وثورات البراكين وانقراض جماعي. يقول كوهادا: "لقد نجت من الكويكب الذي قتل الديناصورات، وكل ما أمكن للطبيعة والفضاء أن يلقياه عليها". نجت من كل شيء.. ما عدا البشر. وهي اليوم من أكثر مجموعات الأسماك المهددة بالانقراض في العالم. فمنذ عام 1970، انخفضت أعداد أسماك الحفش في العالم بنسبة كارثية بلغت 94 بالمئة. ويدرج "الاتحاد الدولي لصون الطبيعة" 25 نوعًا من أسماك الحفش على قائمة الأنواع المعرضة لخطر انقراض متوسط أو كبير،  و17 نوعًا مهددًا لخطر انقراض أقصى، ونوعًا واحدًا منقرضًا في البرية. ويُخشى أن تنقرض ثلاثةٌ من الأنواع المهددة بخطر انقراض أقصى، ومنها حفش سير داريا. من الناحية البيئية، تقف أسماك الحفش على حافة الهاوية. أما من الناحية الاقتصادية، فهي من أكثر الحيوانات قيمة على وجه الأرض. ويمكن أن يُعزى جزء كبير من تناقص أعداد الحفش إلى الصيد المفرط؛ فالكافيار الذي هو البيض الذي يُستخرَج من هذا السمك بكميات وفيرة ويتخذ لون السبج (الزجاج البركاني الأسود) ويُملَّح ويُباع في جميع أنحاء العالم بوصفه رمزًا للوجاهة والثروة. ويتجاوز سعر بعض العُلب منه 20 ألف دولار للكيلوجرام الواحد. وقد ظلت القرارات التي اتخذها البشر والتغيرات البيئية تتسم بطابعها المدمر حتى لأنواع مثل حفش سير داريا التي لا تُستهدَف طلبًا لبطارخها؛ إذْ يقول كوهادا: "لم يستغرق تدمير البشر كلَّ الموائل النهرية التي يعيش فيها الحفش سوى 200 عام". وقد تطور هذا السمك على مرّ أكثر من 160 مليون سنة في الأنهار التي تتدفق بِحُرية، وهي أماكن لا توجد فيها حواجز. يقول كوهادا: "اعتادت أسماك الحفش جميعها على الهجرة". لكن كثيرًا من الأشياء تعترض سبيلها اليوم. فالسدود والخزانات والتجريف وتحويلات الري تعيق تنقلها إلى مناطق التفريخ في أعلى النهر، وتدفع اليرقات الطافية في اتجاه مجرى النهر. ومن الممكن أيضًا أن يؤدي الجريان السطحي الناتج عن النشاط الزراعي إلى تكاثر الطحالب السامة؛ فيما تتسبب أنشطة التوسع العمراني وقطع الأشجار والتعدين في تدمير موائل التفريخ وطرح الرواسب الضارة. ويأمل كوهادا أن يكون عدد قليل من حفش سير داريا قد نجا من عصر الإنسان هذا. فإذا أمكن العثور على هذا السمك، فسيتّبع كوهادا "قواعد لعبة قديمة" تشمل اصطياد مجموعة من الذكور والإناث في سن التكاثر، ووضعها في مِفرخة، وتربيتها لإعادة توطينها في البرية. وإذا كانت هناك سدود تعيق الوصول إلى طرق التفريخ، فهناك الآن برامج تفريخ وتنقيل. أما بالأماكن حيث كان يسود الصيد المفرط، فتوجد الآن قوانين ومؤسسات تَحظر الصيد غير المستدام أو تحد منه، بل إنه حتى صناعة الكافيار صارت تُسهم اليوم في إعادة الحفش من حافة الهاوية.