كشـف خبـايـا الكونغو الغامضة
بدأ ضياء الظهيرة يتـلاشى داخـل الظُّلة الكثيفة لغابات "حوض الكونغو" المطرية، ليكشف وميضه عن برج معدني شاهق ينتصب بحدة من الغابة. كان هذا الهيكل الفولاذي الضيق الذي يبلغ ارتفاعه 55 مترًا يشبه هوائيًا ضخمًا لشبكة الهاتف النقال، على أنه كان مجهزًا بمجموعة من أدوات الاستشعار العلمية المتطورة. وكانت الرياح قد اشتدت، مما جعل البرج يتمايل ويصدر صريرًا مع كل هبّة قوية. لكن عالم أحياء يدعى "فابريس كيمبيسا" بدا غير مكترث. فبعد أن ربط حزام أمان إلى جسمه، أمسك بسُلم معدني رفيع وتسلق بِخِفة إلى أعلى حيث تركني لألحق به إذْ راح يسرع الخطى نحو منصة صغيرة في الأعلى. يُعرف هذا الهيكل باسم برج قياس تباين التدفق الدوامي. وصار أول برج يُنصَب في حوض الكونغو عند تشغيله في أكتوبر 2020. ويَنظر الباحثون في مجال المناخ الذين يرصدون تبادل غازات الاحتباس الحراري بين الغابة والغلاف الجوي، إلى هذه الأبراج بوصفها "سمّاعات طبية" ضخمة. فهي قادرة على رصد كمية ثاني أكسيد الكربون المتدفقة التي تمتصها الغابة للمساعدة في حساب ما يحتبس من انبعاثات في الأرض، بالإضافة إلى كثير من العوامل الأخرى. وهكذا، يتجشم كيمبيسا في كل يوم عناء هذا التسلق المروع ليتحقق من القياسات التي تسجلها المُعدّات ويرصد بصورة دقيقة الكيفية التي تتنفس بها الغابة من حوله، إذْ يقول: "عندما ينظر المرء إلى البيانات.. ينتابه شعور بوجود رابط خاص بالغابة. ويمكنه رؤية أشياء لا يراها الآخرون". وفي ذلك اليوم، بدا أن الغابة المطرية تتنفس بعد أن ظلت ساعات وساعات تحت أشعة الشمس الاستوائية الحارقة، وأحاطت سحب من الضباب بظلتها من كل جانب. أظهرت البيانات المسجَّلة اتجاهًا محدَّدًا: على مدار الـ24 ساعة الماضية، انخفضت مستويات ثاني أكسيد الكربون في المنطقة انخفاضًا كبيرًا خلال النهار، إذ قامت الأشجار والنباتات الأخرى بتحويل غاز الدفيئة إلى أوكسجين أثناء عملية التمثيل الضوئي، لتعاود ارتفاعها من جديد بعد غروب الشمس. لقد صار هذا النوع من العمل يكتسي أهمية أكبر من أي وقت مضى. فقد كانت الغابات الاستوائية مسؤولة في السابق عن حبس زُهاء نصف الكربون المخزَّن على الأرض، لكن فعاليتها الشاملة آخذة في الانخفاض منذ أن بلغت ذروتها في تسعينيات القرن الماضي. ويضم حوض الكونغو الغابات المطرية الثانية كِبَرًا في العالم بعد غابات الأمازون، وتمتد على مساحة تقارب الـ200 مليون هكتار في وسط إفريقيا. على أن هذه المنطقة لم تأخذ نصيبها من الدراسة حتى عام 2020؛ علمًا أن هناك أكثر من ألف برج تدفق تجمع البيانات بشأن معدلات تبادل الغازات في ربوع شتى من العالم منذ عقود من الزمان. قبل أعوام، توصل ائتلاف دولي من الباحثين، استنادًا إلى عيّنة من بقع أراضي غابات استوائية قديمة في حوض الكونغو، إلى أن هذه الغابة المطرية تخزن الكربون بمعدل أكثر ثباتًا من غابات الأمازون التي تضاءل معدل الامتصاص فيها بوتيرة سريعة. لكن الباحثين لاحظوا أيضًا أن الغابات المطرية الإفريقية صارت تسير منذ عام 2010 وفق مسار تنازلي مشابه لنظيرتها في أميركا الجنوبية. ولمعرفة ما يحدث بالفعل -وربما تقديم بعض الحلول- يعمل كيمبيسا ومجموعة من العلماء الكونغوليين حديثي التدريب انطلاقًا من محطة أبحاث أُعيد إحياؤها داخل "محمية يانغامبي للمحيط الحيوي" التي تبلغ مساحتها 230 ألف هكتار في جمهورية الكونغو الديمقراطية. كان من المستبعد في الماضي أن يكون كيمبيسا، وهو المتخرِّج حديثًا في "جامعة كيسانغاني" المجاورة، أحد المساهمين المهمين في هذا البحث. فلا تزال جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تضم أكثر من نصف غابات حوض الكونغو المطرية، ترزح تحت وطأة الفقر المدقع وماض من الاستغلال الاستعماري والديكتاتورية والصراعات، حيث أعاق كل ذلك تطوير نظام جامعي متين وحدَّ من فرص العمل والموارد أمام العلماء المحليين. ولكن هذه المنطقة حظيت، مع بروز أهميتها البيئية، باهتمام متزايد من منظمات عالمية مَعنية بصون الطبيعة، من قبيل "المركز الدولي للبحوث الحرجية" الذي يتعاون مع حكومات وجامعات لاستثمار الملايين في البنية التحتية والتقنية وتدريب الباحثين. فمنذ عام 2005، ارتفع عدد طلاب الدراسات العليا في مجال الحِراجة من ستة طلاب إلى أكثر من 300 طالب. واليوم، تسعى هذه الطليعة الجديدة من العلماء الكونغوليين جاهدة لفهم أحد أضخم المنظومات البيئية التي لم تنل الدراسة الكافية على كوكبنا، في وقت تشتد فيه الحاجة إليها.
كشـف خبـايـا الكونغو الغامضة
بدأ ضياء الظهيرة يتـلاشى داخـل الظُّلة الكثيفة لغابات "حوض الكونغو" المطرية، ليكشف وميضه عن برج معدني شاهق ينتصب بحدة من الغابة. كان هذا الهيكل الفولاذي الضيق الذي يبلغ ارتفاعه 55 مترًا يشبه هوائيًا ضخمًا لشبكة الهاتف النقال، على أنه كان مجهزًا بمجموعة من أدوات الاستشعار العلمية المتطورة. وكانت الرياح قد اشتدت، مما جعل البرج يتمايل ويصدر صريرًا مع كل هبّة قوية. لكن عالم أحياء يدعى "فابريس كيمبيسا" بدا غير مكترث. فبعد أن ربط حزام أمان إلى جسمه، أمسك بسُلم معدني رفيع وتسلق بِخِفة إلى أعلى حيث تركني لألحق به إذْ راح يسرع الخطى نحو منصة صغيرة في الأعلى. يُعرف هذا الهيكل باسم برج قياس تباين التدفق الدوامي. وصار أول برج يُنصَب في حوض الكونغو عند تشغيله في أكتوبر 2020. ويَنظر الباحثون في مجال المناخ الذين يرصدون تبادل غازات الاحتباس الحراري بين الغابة والغلاف الجوي، إلى هذه الأبراج بوصفها "سمّاعات طبية" ضخمة. فهي قادرة على رصد كمية ثاني أكسيد الكربون المتدفقة التي تمتصها الغابة للمساعدة في حساب ما يحتبس من انبعاثات في الأرض، بالإضافة إلى كثير من العوامل الأخرى. وهكذا، يتجشم كيمبيسا في كل يوم عناء هذا التسلق المروع ليتحقق من القياسات التي تسجلها المُعدّات ويرصد بصورة دقيقة الكيفية التي تتنفس بها الغابة من حوله، إذْ يقول: "عندما ينظر المرء إلى البيانات.. ينتابه شعور بوجود رابط خاص بالغابة. ويمكنه رؤية أشياء لا يراها الآخرون". وفي ذلك اليوم، بدا أن الغابة المطرية تتنفس بعد أن ظلت ساعات وساعات تحت أشعة الشمس الاستوائية الحارقة، وأحاطت سحب من الضباب بظلتها من كل جانب. أظهرت البيانات المسجَّلة اتجاهًا محدَّدًا: على مدار الـ24 ساعة الماضية، انخفضت مستويات ثاني أكسيد الكربون في المنطقة انخفاضًا كبيرًا خلال النهار، إذ قامت الأشجار والنباتات الأخرى بتحويل غاز الدفيئة إلى أوكسجين أثناء عملية التمثيل الضوئي، لتعاود ارتفاعها من جديد بعد غروب الشمس. لقد صار هذا النوع من العمل يكتسي أهمية أكبر من أي وقت مضى. فقد كانت الغابات الاستوائية مسؤولة في السابق عن حبس زُهاء نصف الكربون المخزَّن على الأرض، لكن فعاليتها الشاملة آخذة في الانخفاض منذ أن بلغت ذروتها في تسعينيات القرن الماضي. ويضم حوض الكونغو الغابات المطرية الثانية كِبَرًا في العالم بعد غابات الأمازون، وتمتد على مساحة تقارب الـ200 مليون هكتار في وسط إفريقيا. على أن هذه المنطقة لم تأخذ نصيبها من الدراسة حتى عام 2020؛ علمًا أن هناك أكثر من ألف برج تدفق تجمع البيانات بشأن معدلات تبادل الغازات في ربوع شتى من العالم منذ عقود من الزمان. قبل أعوام، توصل ائتلاف دولي من الباحثين، استنادًا إلى عيّنة من بقع أراضي غابات استوائية قديمة في حوض الكونغو، إلى أن هذه الغابة المطرية تخزن الكربون بمعدل أكثر ثباتًا من غابات الأمازون التي تضاءل معدل الامتصاص فيها بوتيرة سريعة. لكن الباحثين لاحظوا أيضًا أن الغابات المطرية الإفريقية صارت تسير منذ عام 2010 وفق مسار تنازلي مشابه لنظيرتها في أميركا الجنوبية. ولمعرفة ما يحدث بالفعل -وربما تقديم بعض الحلول- يعمل كيمبيسا ومجموعة من العلماء الكونغوليين حديثي التدريب انطلاقًا من محطة أبحاث أُعيد إحياؤها داخل "محمية يانغامبي للمحيط الحيوي" التي تبلغ مساحتها 230 ألف هكتار في جمهورية الكونغو الديمقراطية. كان من المستبعد في الماضي أن يكون كيمبيسا، وهو المتخرِّج حديثًا في "جامعة كيسانغاني" المجاورة، أحد المساهمين المهمين في هذا البحث. فلا تزال جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تضم أكثر من نصف غابات حوض الكونغو المطرية، ترزح تحت وطأة الفقر المدقع وماض من الاستغلال الاستعماري والديكتاتورية والصراعات، حيث أعاق كل ذلك تطوير نظام جامعي متين وحدَّ من فرص العمل والموارد أمام العلماء المحليين. ولكن هذه المنطقة حظيت، مع بروز أهميتها البيئية، باهتمام متزايد من منظمات عالمية مَعنية بصون الطبيعة، من قبيل "المركز الدولي للبحوث الحرجية" الذي يتعاون مع حكومات وجامعات لاستثمار الملايين في البنية التحتية والتقنية وتدريب الباحثين. فمنذ عام 2005، ارتفع عدد طلاب الدراسات العليا في مجال الحِراجة من ستة طلاب إلى أكثر من 300 طالب. واليوم، تسعى هذه الطليعة الجديدة من العلماء الكونغوليين جاهدة لفهم أحد أضخم المنظومات البيئية التي لم تنل الدراسة الكافية على كوكبنا، في وقت تشتد فيه الحاجة إليها.