إحيـاء كاتدرائية نوتردام

تعيد أشهر كاتدرائية في فرنسا فتحَ أبوابها بعد خمسة أعوام على اندلاع حريق فيها كاد أن يدمرها بالكامل. وإليكم أطوار إنجاز عملية الترميم المذهلة.. والطريقة التي تم بها إحياء الشعور بالقداسة من جديد.

بدأ الحريق الذي كاد أن يدمر "كاتدرائية نوتردام" في باريس تحت سقفها، في العلية الخشبية القديمة، على مقربة من قاعدة البرج. فقد شب بُعيد الساعة السادسة مساءً من يوم 15 أبريل 2019؛ وتصادَف أنه كان يوم "اثنين الأسبوع المقدس"، أي قبل ستة أيام من "عيد الفصح". هنالك داخل الكنيسة، كانت تُقام مراسم قداس. وكنت أنا وزوجتي قد وصلنا إلى المدينة في اليوم السابق، وحدَثَ أن مررنا من هناك في حدود الساعة السابعة من مساء ذلك الاثنين. فلمحنا من نافذة سيارة الأجرة التي كنا نَركب، ونحن نجتاز "جسر سان ميشيل"، بقعة برتقالية متوهجة على السطح. وبعد دقائق، رأينا ونحن متوقفون في زحمة السير، ألسنة لهب تتصاعد إلى أعلى البرج الخشبي. لم نصدق أعيننا وسرعان ما تحوّل الذهول إلى صدمة: فقد كانت كاتدرائية نوتردام تحترق بالفعل. ما مِنْ كاتدرائية تضاهي كاتدرائية نوتردام أهميةً لدى فرنسا أو العالم. فقد ظلت نوتردام على مرّ أكثر من 800 سنة في قلب الحياة الفرنسية، ومسرحَ أحداث تاريخية دينية ودنيوية على حد سواء. ففي عام 1239، قام الملك "لويس التاسع"، المعروف أيضًا باسم القديس لويس، بتسليم الكاتدرائية ما يُعتقد أنه "إكليل الشوك" الذي وضع على رأس المسيح. وفي عام 1944، حضر الجنرال "شارل دوغول" قُداسًا للاحتفال بتحرير باريس من الاحتلال النازي والرصاص الألماني لا يزال يتطاير في الخارج. وخلال كل أطوار الحرب العالمية الثانية، قُدِّر لكاتدرائية نوتردام أن تنجو إلى حد كبير من القنابل والحرائق التي دمرت الكاتدرائيات الأخرى. وقد أضحت هذه الكاتدرائية بوصفها جزيرة من الاستقرار وسط بحر من القلاقل آنذاك، أحد أكثر المعالم الأثرية زيارة في العالم؛ فضلًا عن أنها مكانٌ يحظى بتقديس من لدن ملايين الناس. عندما عُدنا إلى مكان الحريق في وقت لاحق من ذلك المساء، كان برج الكاتدرائية قد سقط والسقف الرصاصي قد انصهر. وقفنا لدى الضفة اليمنى لنهر "السين" وبدأنا نُحدّق وسط الظلام في الجملون الحجري للجناح الشمالي، ومن خلال النافذة الوردية الصغيرة رأينا النيران تلتهم دعامات السقف المصنوعة من خشب البلوط. أمّا على ضفّتي نهر السين وجسوره، فكان الآلاف قد تجمّعوا لمشاهدة الكارثة وتقاسم هذه اللحظة الموسومة بخسارة جماعية. وطفقوا يتناقلون أنباء الحريق على هواتفهم، وبعضهم ينشد "السلام عليك يا مريم". لم نكن سوى زائرين عابرين؛ أما جل تلك الحشود فقد كان هذا موطنهم، وبدا أن قطعة من قلوبهم تُحتضر. واليوم بعد انقضاء خمسة أعوام ونصف العام على الحريق، أُعيدت الحياة تدريجيًا إلى نوتردام. ففي مطلع شهر ديسمبر الجاري، من المقرر أن يقيم رئيس أساقفة باريس قُدّاسًا احتفاليًا في هذه الكنيسة بعد أن تم ترميمها. وفي ذلك الأسبوع ستفتح أبوابها الكبيرة للجمهور.. لتخفف من صدمتهم وبعضًا من آلامهم الجماعية. وقد مُنحت ناشيونال جيوغرافيك تصريحًا خاصًّا للاطلاع على العمل الذي قام به المعماريون والحِرفيون والعلماء طوال أعوام حتى أفضى إلى هذه اللحظة. ففي صيف 2021، عدت للمرة الأولى منذ اندلاع الحريق، حيث كانت عملية إعادة البناء على وشك البدء. وعدت في الصيف الماضي مرة أخرى لأشهد مرحلتها النهائية.. ولأعرف أيضًا خطة رجال الدين بشأن نوتردام. وقد أدركت مدى الجهد الكبير الذي بذله آلاف الأشخاص، ليس فحسب لصون هذه المَعلَمة البديعة التي تعود إلى القرون الوسطى، ولكن أيضًا لبعث الروح فيها بصفتها كنيسة للتعبّد. لم يكن هناك شك قَط في أنه سيُعاد بناء نوتردام؛ ولكن شكلها بعده لم يكن معروفًا؟ بعد الحريق، أصدر الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" مرسومًا يقضي بترميم الكاتدرائية على نحو "أجمل من أي وقت مضى". وقد وضع هدفًا طموحًا للانتهاء من العمل في أفق عام 2024 وتمويله من التبرعات التي وصلت قيمتها إلى 846 مليون يورو منذ وقوع هذه الكارثة. واقترح ماكرون بناء شكل جديد من الناحية الهيكلية بدلًا من إعادة بناء البرج القديم نفسه. وقد تحمس المعماريون لهذا الاقتراح بعرض أفكار جامحة كوضع سقف زجاجي أو برج من الكريستال. وقد أزعجَ ذلك حُماةَ المعالم التاريخية، ومنهم كبير مهندسي الآثار التاريخية "فيليب فيلنوف" الذي كان عند اندلاع الحريق يقود عملية تجديد أجزاء من نوتردام. فإضافة برج حديث، من وجهة نظر فيلنوف، كان سيشبه عملية تجميل أنف "الموناليزا". أما ترميمها في شكلها السابق، كما أخبرني المؤرخ المعماري "جان ميشيل لينيو" في عام 2021، بالحجر الجيري وخشب البلوط والرصاص، سيكون بمنزلة عملية تنفيس؛ أي وسيلة للتخلص من ذكرى تلك الليلة الكئيبة والحزن على فقدان ال الأصلية. في نهاية المطاف، انتصر حُماة المعالم التاريخية؛ إذْ أُعيد بناء كاتدرائية نوتردام بالشكل الذي كانت عليه قبل الحريق وكما تركها رائد الترميم "يوجين إيمانويل فيوليه لو دوك" في القرن التاسع عشر. قال فيلنوف: "لا يحق لنا أن نلمسها؛ فنحن نرممها ولا نترك أي أثر لمرورنا". ومع ذلك، فإن الكاتدرائية من الداخل ستبدو لأي شخص زارها من قبْل متغيرة تغيرًا تامًا؛ وأكثر إشراقًا مما رآه أي شخص على قيد الحياة. فقد تم تنظيف وترميم الجدران والزجاج الملون واللوحات والمنحوتات دفعة واحدة، وذلك لأول مرة منذ القرن التاسع عشر. يقول "فيليب جوست"، رئيس الهيئة العامة المتخصصة التي تشرف على الترميم، إن الزوار "سيُصيبهم الذهول وتَتملَّكهم الرهبة من التصميم الداخلي للكاتدرائية".

إحيـاء كاتدرائية نوتردام

تعيد أشهر كاتدرائية في فرنسا فتحَ أبوابها بعد خمسة أعوام على اندلاع حريق فيها كاد أن يدمرها بالكامل. وإليكم أطوار إنجاز عملية الترميم المذهلة.. والطريقة التي تم بها إحياء الشعور بالقداسة من جديد.

بدأ الحريق الذي كاد أن يدمر "كاتدرائية نوتردام" في باريس تحت سقفها، في العلية الخشبية القديمة، على مقربة من قاعدة البرج. فقد شب بُعيد الساعة السادسة مساءً من يوم 15 أبريل 2019؛ وتصادَف أنه كان يوم "اثنين الأسبوع المقدس"، أي قبل ستة أيام من "عيد الفصح". هنالك داخل الكنيسة، كانت تُقام مراسم قداس. وكنت أنا وزوجتي قد وصلنا إلى المدينة في اليوم السابق، وحدَثَ أن مررنا من هناك في حدود الساعة السابعة من مساء ذلك الاثنين. فلمحنا من نافذة سيارة الأجرة التي كنا نَركب، ونحن نجتاز "جسر سان ميشيل"، بقعة برتقالية متوهجة على السطح. وبعد دقائق، رأينا ونحن متوقفون في زحمة السير، ألسنة لهب تتصاعد إلى أعلى البرج الخشبي. لم نصدق أعيننا وسرعان ما تحوّل الذهول إلى صدمة: فقد كانت كاتدرائية نوتردام تحترق بالفعل. ما مِنْ كاتدرائية تضاهي كاتدرائية نوتردام أهميةً لدى فرنسا أو العالم. فقد ظلت نوتردام على مرّ أكثر من 800 سنة في قلب الحياة الفرنسية، ومسرحَ أحداث تاريخية دينية ودنيوية على حد سواء. ففي عام 1239، قام الملك "لويس التاسع"، المعروف أيضًا باسم القديس لويس، بتسليم الكاتدرائية ما يُعتقد أنه "إكليل الشوك" الذي وضع على رأس المسيح. وفي عام 1944، حضر الجنرال "شارل دوغول" قُداسًا للاحتفال بتحرير باريس من الاحتلال النازي والرصاص الألماني لا يزال يتطاير في الخارج. وخلال كل أطوار الحرب العالمية الثانية، قُدِّر لكاتدرائية نوتردام أن تنجو إلى حد كبير من القنابل والحرائق التي دمرت الكاتدرائيات الأخرى. وقد أضحت هذه الكاتدرائية بوصفها جزيرة من الاستقرار وسط بحر من القلاقل آنذاك، أحد أكثر المعالم الأثرية زيارة في العالم؛ فضلًا عن أنها مكانٌ يحظى بتقديس من لدن ملايين الناس. عندما عُدنا إلى مكان الحريق في وقت لاحق من ذلك المساء، كان برج الكاتدرائية قد سقط والسقف الرصاصي قد انصهر. وقفنا لدى الضفة اليمنى لنهر "السين" وبدأنا نُحدّق وسط الظلام في الجملون الحجري للجناح الشمالي، ومن خلال النافذة الوردية الصغيرة رأينا النيران تلتهم دعامات السقف المصنوعة من خشب البلوط. أمّا على ضفّتي نهر السين وجسوره، فكان الآلاف قد تجمّعوا لمشاهدة الكارثة وتقاسم هذه اللحظة الموسومة بخسارة جماعية. وطفقوا يتناقلون أنباء الحريق على هواتفهم، وبعضهم ينشد "السلام عليك يا مريم". لم نكن سوى زائرين عابرين؛ أما جل تلك الحشود فقد كان هذا موطنهم، وبدا أن قطعة من قلوبهم تُحتضر. واليوم بعد انقضاء خمسة أعوام ونصف العام على الحريق، أُعيدت الحياة تدريجيًا إلى نوتردام. ففي مطلع شهر ديسمبر الجاري، من المقرر أن يقيم رئيس أساقفة باريس قُدّاسًا احتفاليًا في هذه الكنيسة بعد أن تم ترميمها. وفي ذلك الأسبوع ستفتح أبوابها الكبيرة للجمهور.. لتخفف من صدمتهم وبعضًا من آلامهم الجماعية. وقد مُنحت ناشيونال جيوغرافيك تصريحًا خاصًّا للاطلاع على العمل الذي قام به المعماريون والحِرفيون والعلماء طوال أعوام حتى أفضى إلى هذه اللحظة. ففي صيف 2021، عدت للمرة الأولى منذ اندلاع الحريق، حيث كانت عملية إعادة البناء على وشك البدء. وعدت في الصيف الماضي مرة أخرى لأشهد مرحلتها النهائية.. ولأعرف أيضًا خطة رجال الدين بشأن نوتردام. وقد أدركت مدى الجهد الكبير الذي بذله آلاف الأشخاص، ليس فحسب لصون هذه المَعلَمة البديعة التي تعود إلى القرون الوسطى، ولكن أيضًا لبعث الروح فيها بصفتها كنيسة للتعبّد. لم يكن هناك شك قَط في أنه سيُعاد بناء نوتردام؛ ولكن شكلها بعده لم يكن معروفًا؟ بعد الحريق، أصدر الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" مرسومًا يقضي بترميم الكاتدرائية على نحو "أجمل من أي وقت مضى". وقد وضع هدفًا طموحًا للانتهاء من العمل في أفق عام 2024 وتمويله من التبرعات التي وصلت قيمتها إلى 846 مليون يورو منذ وقوع هذه الكارثة. واقترح ماكرون بناء شكل جديد من الناحية الهيكلية بدلًا من إعادة بناء البرج القديم نفسه. وقد تحمس المعماريون لهذا الاقتراح بعرض أفكار جامحة كوضع سقف زجاجي أو برج من الكريستال. وقد أزعجَ ذلك حُماةَ المعالم التاريخية، ومنهم كبير مهندسي الآثار التاريخية "فيليب فيلنوف" الذي كان عند اندلاع الحريق يقود عملية تجديد أجزاء من نوتردام. فإضافة برج حديث، من وجهة نظر فيلنوف، كان سيشبه عملية تجميل أنف "الموناليزا". أما ترميمها في شكلها السابق، كما أخبرني المؤرخ المعماري "جان ميشيل لينيو" في عام 2021، بالحجر الجيري وخشب البلوط والرصاص، سيكون بمنزلة عملية تنفيس؛ أي وسيلة للتخلص من ذكرى تلك الليلة الكئيبة والحزن على فقدان ال الأصلية. في نهاية المطاف، انتصر حُماة المعالم التاريخية؛ إذْ أُعيد بناء كاتدرائية نوتردام بالشكل الذي كانت عليه قبل الحريق وكما تركها رائد الترميم "يوجين إيمانويل فيوليه لو دوك" في القرن التاسع عشر. قال فيلنوف: "لا يحق لنا أن نلمسها؛ فنحن نرممها ولا نترك أي أثر لمرورنا". ومع ذلك، فإن الكاتدرائية من الداخل ستبدو لأي شخص زارها من قبْل متغيرة تغيرًا تامًا؛ وأكثر إشراقًا مما رآه أي شخص على قيد الحياة. فقد تم تنظيف وترميم الجدران والزجاج الملون واللوحات والمنحوتات دفعة واحدة، وذلك لأول مرة منذ القرن التاسع عشر. يقول "فيليب جوست"، رئيس الهيئة العامة المتخصصة التي تشرف على الترميم، إن الزوار "سيُصيبهم الذهول وتَتملَّكهم الرهبة من التصميم الداخلي للكاتدرائية".