بنت البيداء.. سفينتنا نحو برّ النماء
"أَصحيحٌ أنكم تذهبون إلى المدرسة على ظهور الجِمال؟"، سؤالٌ لطالما طُرِح علينا خلال فترة المراهقة كلما كنّا على سفر خارج الديار في مناطق مختلفة من العالم.
لم يَحدُث أن كان ذلك السؤال مفاجئًا لنا ولا لكثير من أصدقائنا من أهل منطقة الخليج العربي؛ فقد كنا نعرف أن كثيرًا من الأجانب -لا سيما قليلي الاطلاع- لا يستحضرون عند ذِكر منطقتنا سوى صورة ذهنية واحدة: كثبان رمال لا منتهية تُغذي صحاري لا محدودة يسكنها أُناس يعتمدون في حلهم وترحالهم على رفقاء أوفياء.. الإبل. ولقد نشأ رباطٌ متينٌ منذ زمن بعيد بين أهل الجزيرة العربية والإبل؛ إذ ظلت هذه الأخيرة تمدّهم بالطعام والشراب والملبس والمركب، وحتى الحب والوفاء المتبادلَين. وقد تجلّى ذلك في الآداب والفنون والأمثال الشعبية، لا سيما في قصائد الشعراء الجاهليين كما هو الحال في معلّقة "طرفة بن العبد" حيث يتغنى بجمال ناقته وحُسن قوامها. وقد عزز الإسلام أيضا مكانة الإبل ليس لدى أهل الجزيرة العربية فحسب، بل للناس أجمعين. إذ ورد ذكرها في القرآن الكريم مرات عديدة، جمعًا وفردًا وتأنيثًا وتذكيرًا. وتدعو الآية الكريمة "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ" إلى النظر في هيأة الإبل بوصفها شهادة على عظمة خلق الله. وساعدت الإبلُ، أو سفن الصحراء، أسلافَنا على قهر البيئة القاسية وحمَلَتهم إلى بقاعٍ بعيدة لقضاء مآربهم أو ممارسة التجارة والتبادل الثقافي؛ وذلك بفضل ما تتمتع به من قوة وصبر وتحَمّل لأقصى درجات الحرارة، والسير مُثقَلةً بالأحمال مسافات طويلة، والعيش أسابيع عديدة من دون ماء وشهورًا بلا طعام. لكن، وبدءًا من القرن الماضي، بدأت منطقةُ الخليج تَشهد تطورًا في نواحٍ عديدة، ومنها دخول السيارات بوصفها وسائل نقل سريعة؛ فصار الاعتماد على الإبل في الحياة اليومية يتراجع رويدًا رويدا. حتى إننا اليوم قد لا نرى ناقةً أو جملًا إلا بعد مضي شهور وشهور؛ ولا يعرف كثيرٌ من أبناء الجيل الحالي كيف يمتطون هذا الحيوان أو الاعتناء به. على أن الإبل مازالت تحظى بالتقدير والاهتمام من لدن أهل الخليج العربي وحكوماته. فضلًا عن ذلك، فإن منافعَها ما فتئت تُثبت قيمتها حتى في عصرنا الحديث، بل إن العلماء يرون أن الإبل ستكون في صلب الحلول المحتمَلة لمشاكل كوكبنا وللتحديات الكبيرة التي تهدد مستقبل البشرية. ويبدو أن هذه المنطقة عمومًا تُشكل أكبر تركّز في العالم للمنشآت والمرافق والمؤسسات التي تُعنى بالإبل والأنشطة الخاصة بها. على سبيل المثال، تُعد المملكة العربية السعودية موطنًا لواحد من أكبر المستشفيات الخاصة بالإبل في العالم بالإضافة إلى مراكز بحوث متخصصة.
وفي الآونة الأخيرة، قدمت وزارة الثقافة في المملكة مِنَحًا لدراسات الإبل، ضمن مبادرة لإبراز الدور المهم الذي تؤديه هذه المخلوقات في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، ما فتئ الاهتمام بالإبل يزداد يومًا بعد يوم؛ إذ ظل حُبها المتجذّر في النفوس مُحفزًا للابتكار العلمي والتجاري الرائد على المستوى العالمي. ويقف وراء الإنجازات في هذا المجال باحثون متعددو المشارب العلمية ورواد أعمال يرون في الإبل أحد المفاتيح لتحديات عالمية مختلفة.
تحسين ممارسات الإكثار
قبالة "شارع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان" في منطقة هادئة من صحراء إمارة دبي، حيث كانت الإبل تسافر بأصحابها ومعهم في الماضي، ثمة منشأة حققت إنجازات رائدة في عالم الإبل: "مركز استيلاد الهجن". تم إنشاء المركز في عام 1989، تحت قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والذي ظل حريصًا على النهوض بمجال تربية الإبل والحث على استفادتها من ممارسات التلقيح الصناعي نفسها المطبَّقة على الخيول والماشية. والمركز مخصص لدراسة كل ما يتعلّق بتكاثر الجمل العربي (Camelus dromedarius)، الذي يتميز بسنام واحد وجسم فارع ورقبة طويلة؛ وهو أكثر أنواع الإبل انتشارًا في الإمارات (بنحو 450 ألف رأس) ومنطقة الخليج العربي. كان صباحًا حارًّا وهادئًا من شهر يوليو الماضي يومَ قصدنا المركز للقاء الدكتورة "لولو سكيدمور"، المدير العلمي للمركز، وزميلها الباحث العلمي، "برندان مليجان". ههنا رأينا الإبل الخاصة بالمركز وقد بركت لتستريح في أماكنها المظلَّلة، وكذلك فعلت إبل العملاء. تقول سكيدمور، خريجة "جامعة كامبريدج" البريطانية والتي تعمل في المركز منذ 33 عامًا وشهدت تطوره وتوسع أنشطته وقاعدة عملائه: "كنا فريقًا صغيرًا جدًا عندما بدأنا، ولم يكن لدينا سوى 30 من الإبل التي كانت مخصصة حصرًا لبحوثنا. شرعنا في دراسة دورة الإباضة لدى النوق والتي لا تَحدث تلقائيًا، على خلاف البشر والخيول، بل يجب التزاوج أولًا". ثم راح المركز يستكشف سبل تحسين تكاثر الإبل، من خلال حَصر أفضل أوقات التزاوج، وأحجام الجريبات المثالية، والتحكم في دورة الإباضة من خلال الهرمونات، فضلًا عن الكشف المبكر عن حالات الحمل لدى النوق. وتشمل نشاطات المركز عملية نقل الأجنة الناتجة عن مزاوجة ناقة مثالية بجمل بعد حقنها بهرمونات لإنتاج جريبات أكثر. فبعد عملية التزاوج بثمانية أيام، تُسحب الأجنة من أرحام النوق باستخدام تقنية القسطرة، لتُزرع في أرحام النوق المتلقية، والتي يتأكد الفريق من أنها في الطور الجُريبي مثل النوق المانحة. وهكذا تحمل النوقُ المتلقية الأجنة حتى ولادتها. ونقل الأجنة مفيد على نحو خاص للإبل التي تشارك في سباقات الهجن؛ فبدلًا من استبعاد ناقة ثمينة من المنافسة بسبب حملها (وتبلغ فترة الحمل 13 شهرًا) يمكنها أن تستمر في المنافسة، فيما تحمل ناقةٌ أخرى عادية الجنين حتى الولادة. وعمليات نقل الأجنة مطلوبة أيضًا من لدن أصحاب الإبل الجميلة، أو تلك التي تعاني مشاكل في الخصوبة. تقول سكيدمور: "يستقبل المركز -على وجه التقريب- ما بين 100 و300 من الإبل سنويًا؛ وعمليات نقل الأجنة هي الخدمة الأكثر رواجًا لدينا في الوقت الحالي".
بنت البيداء.. سفينتنا نحو برّ النماء
"أَصحيحٌ أنكم تذهبون إلى المدرسة على ظهور الجِمال؟"، سؤالٌ لطالما طُرِح علينا خلال فترة المراهقة كلما كنّا على سفر خارج الديار في مناطق مختلفة من العالم.
لم يَحدُث أن كان ذلك السؤال مفاجئًا لنا ولا لكثير من أصدقائنا من أهل منطقة الخليج العربي؛ فقد كنا نعرف أن كثيرًا من الأجانب -لا سيما قليلي الاطلاع- لا يستحضرون عند ذِكر منطقتنا سوى صورة ذهنية واحدة: كثبان رمال لا منتهية تُغذي صحاري لا محدودة يسكنها أُناس يعتمدون في حلهم وترحالهم على رفقاء أوفياء.. الإبل. ولقد نشأ رباطٌ متينٌ منذ زمن بعيد بين أهل الجزيرة العربية والإبل؛ إذ ظلت هذه الأخيرة تمدّهم بالطعام والشراب والملبس والمركب، وحتى الحب والوفاء المتبادلَين. وقد تجلّى ذلك في الآداب والفنون والأمثال الشعبية، لا سيما في قصائد الشعراء الجاهليين كما هو الحال في معلّقة "طرفة بن العبد" حيث يتغنى بجمال ناقته وحُسن قوامها. وقد عزز الإسلام أيضا مكانة الإبل ليس لدى أهل الجزيرة العربية فحسب، بل للناس أجمعين. إذ ورد ذكرها في القرآن الكريم مرات عديدة، جمعًا وفردًا وتأنيثًا وتذكيرًا. وتدعو الآية الكريمة "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ" إلى النظر في هيأة الإبل بوصفها شهادة على عظمة خلق الله. وساعدت الإبلُ، أو سفن الصحراء، أسلافَنا على قهر البيئة القاسية وحمَلَتهم إلى بقاعٍ بعيدة لقضاء مآربهم أو ممارسة التجارة والتبادل الثقافي؛ وذلك بفضل ما تتمتع به من قوة وصبر وتحَمّل لأقصى درجات الحرارة، والسير مُثقَلةً بالأحمال مسافات طويلة، والعيش أسابيع عديدة من دون ماء وشهورًا بلا طعام. لكن، وبدءًا من القرن الماضي، بدأت منطقةُ الخليج تَشهد تطورًا في نواحٍ عديدة، ومنها دخول السيارات بوصفها وسائل نقل سريعة؛ فصار الاعتماد على الإبل في الحياة اليومية يتراجع رويدًا رويدا. حتى إننا اليوم قد لا نرى ناقةً أو جملًا إلا بعد مضي شهور وشهور؛ ولا يعرف كثيرٌ من أبناء الجيل الحالي كيف يمتطون هذا الحيوان أو الاعتناء به. على أن الإبل مازالت تحظى بالتقدير والاهتمام من لدن أهل الخليج العربي وحكوماته. فضلًا عن ذلك، فإن منافعَها ما فتئت تُثبت قيمتها حتى في عصرنا الحديث، بل إن العلماء يرون أن الإبل ستكون في صلب الحلول المحتمَلة لمشاكل كوكبنا وللتحديات الكبيرة التي تهدد مستقبل البشرية. ويبدو أن هذه المنطقة عمومًا تُشكل أكبر تركّز في العالم للمنشآت والمرافق والمؤسسات التي تُعنى بالإبل والأنشطة الخاصة بها. على سبيل المثال، تُعد المملكة العربية السعودية موطنًا لواحد من أكبر المستشفيات الخاصة بالإبل في العالم بالإضافة إلى مراكز بحوث متخصصة.
وفي الآونة الأخيرة، قدمت وزارة الثقافة في المملكة مِنَحًا لدراسات الإبل، ضمن مبادرة لإبراز الدور المهم الذي تؤديه هذه المخلوقات في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، ما فتئ الاهتمام بالإبل يزداد يومًا بعد يوم؛ إذ ظل حُبها المتجذّر في النفوس مُحفزًا للابتكار العلمي والتجاري الرائد على المستوى العالمي. ويقف وراء الإنجازات في هذا المجال باحثون متعددو المشارب العلمية ورواد أعمال يرون في الإبل أحد المفاتيح لتحديات عالمية مختلفة.
تحسين ممارسات الإكثار
قبالة "شارع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان" في منطقة هادئة من صحراء إمارة دبي، حيث كانت الإبل تسافر بأصحابها ومعهم في الماضي، ثمة منشأة حققت إنجازات رائدة في عالم الإبل: "مركز استيلاد الهجن". تم إنشاء المركز في عام 1989، تحت قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والذي ظل حريصًا على النهوض بمجال تربية الإبل والحث على استفادتها من ممارسات التلقيح الصناعي نفسها المطبَّقة على الخيول والماشية. والمركز مخصص لدراسة كل ما يتعلّق بتكاثر الجمل العربي (Camelus dromedarius)، الذي يتميز بسنام واحد وجسم فارع ورقبة طويلة؛ وهو أكثر أنواع الإبل انتشارًا في الإمارات (بنحو 450 ألف رأس) ومنطقة الخليج العربي. كان صباحًا حارًّا وهادئًا من شهر يوليو الماضي يومَ قصدنا المركز للقاء الدكتورة "لولو سكيدمور"، المدير العلمي للمركز، وزميلها الباحث العلمي، "برندان مليجان". ههنا رأينا الإبل الخاصة بالمركز وقد بركت لتستريح في أماكنها المظلَّلة، وكذلك فعلت إبل العملاء. تقول سكيدمور، خريجة "جامعة كامبريدج" البريطانية والتي تعمل في المركز منذ 33 عامًا وشهدت تطوره وتوسع أنشطته وقاعدة عملائه: "كنا فريقًا صغيرًا جدًا عندما بدأنا، ولم يكن لدينا سوى 30 من الإبل التي كانت مخصصة حصرًا لبحوثنا. شرعنا في دراسة دورة الإباضة لدى النوق والتي لا تَحدث تلقائيًا، على خلاف البشر والخيول، بل يجب التزاوج أولًا". ثم راح المركز يستكشف سبل تحسين تكاثر الإبل، من خلال حَصر أفضل أوقات التزاوج، وأحجام الجريبات المثالية، والتحكم في دورة الإباضة من خلال الهرمونات، فضلًا عن الكشف المبكر عن حالات الحمل لدى النوق. وتشمل نشاطات المركز عملية نقل الأجنة الناتجة عن مزاوجة ناقة مثالية بجمل بعد حقنها بهرمونات لإنتاج جريبات أكثر. فبعد عملية التزاوج بثمانية أيام، تُسحب الأجنة من أرحام النوق باستخدام تقنية القسطرة، لتُزرع في أرحام النوق المتلقية، والتي يتأكد الفريق من أنها في الطور الجُريبي مثل النوق المانحة. وهكذا تحمل النوقُ المتلقية الأجنة حتى ولادتها. ونقل الأجنة مفيد على نحو خاص للإبل التي تشارك في سباقات الهجن؛ فبدلًا من استبعاد ناقة ثمينة من المنافسة بسبب حملها (وتبلغ فترة الحمل 13 شهرًا) يمكنها أن تستمر في المنافسة، فيما تحمل ناقةٌ أخرى عادية الجنين حتى الولادة. وعمليات نقل الأجنة مطلوبة أيضًا من لدن أصحاب الإبل الجميلة، أو تلك التي تعاني مشاكل في الخصوبة. تقول سكيدمور: "يستقبل المركز -على وجه التقريب- ما بين 100 و300 من الإبل سنويًا؛ وعمليات نقل الأجنة هي الخدمة الأكثر رواجًا لدينا في الوقت الحالي".