أنهـار طائـرة
في معظم أيام الأسبوع، أستيقظ قبل الفجر داخل غرفة نومي لدى محطتي الميدانية في جبال الأنديز البيروفية. تبدأ الخفافيش حركاتها الرشيقة على السقف؛ ومع انبلاج أولى خيوط الفجر، تتراءى لي الغيوم في الخارج وهي تمر بانسياب على طول التلال الحرجية شديدة الانحدار. تلك الغيوم أنهارٌ سابحة في الهواء، أو أنهار طائرة، تحمل الرطوبة التي ستشق طريقها إلى داخل التربة، ثم الجداول، وآلاف الكيلومترات من الأنهار على الأرض، وصولًا إلى البحر. نشأتُ في مكان غير بعيد عن هنا، وقد لقّنتني هذه الأنهار الطائرة خلال يوم واحد من اليأس درسًا لن أنساه؛ فقد علقتُ وسط النباتات الكثيفة في هذه الجبال، وعانيت الظمأ الشديد. لكن دعوني أسرد القصة من البداية. لقد جئتُ إلى هذه المحطة والمختبر، على بعد بضع ساعات بالسيارة شرق مدينة كوسكو، لإجراء دراسة عن دب الأنديز، وهو حيوان مراوغ لم نبدأ إلا منذ وقت قريب في تقدير دوره الحيوي في المنظومة البيئية للأمازون. كان ذلك في شهر مايو من عام 2021، وكنت أعيش هنا منذ أسبوعين مع "أوكوكو"، كلبة موئلي هذا والتي ربّيتُها ودرّبتُها على تعقّب الدببة. وكان يعيش هنا أيضًا طاقم من المساعدين، جُلهم من القرى المجاورة، وكانت مَهمتنا الرئيسة الأولى هي رحلة مشي على مَرّ أيام لنَصْب 48 كاميرا، على مسافات متباعدة، على طول امتداد جبلي حرجي لِما كنا نأمل أن يكون منطقة الدببة. في البداية، كانت لدينا خيول لنقل أحمالنا، لكن المنحدرات الوعرة كانت فوق طاقتها. فأعدْنا الخيول إلى المأوى، ووضعنا كل شيء على ظهورنا: الكاميرات والخيام والطعام والماء والأراجيح الشبكية للمبيت على المنحدرات الحادة، والسواطير لتسوية الطريق. كانت تلك الأحمال ثقيلة. وكنتُ، بِبِنيَتي الصغيرة ومع وجود 27 كيلوجرامًا على ظهري، أحاذر خطواتي. وحتى عندما كان أحدنا يقطع الأغصان أمامنا بالساطور، كانت الطحالب الأرضية ونباتات العليق تحتنا تُخفي حفرًا يمكنها أن تكسر السيقان. كانت الليالي شديدة البرودة؛ وعندما بدأت أوكوكو ترتجف، دسَّت أنفها في كيس نومي واقتربت مني حتى نتقاسم الدفء. ومع حلول اليوم الخامس، توقف الطاقم وسط النباتات التي لم يسبق لي أن رأيت في حياتي مثيلًا لكثافتها، ولم نكن متأكدين من المسافة التي قطعنا صعودًا من النهر عند سفح الجبل. كان طعامنا قد أوشك على النفاد. أما الماء فقد نفد منا. ولم نتمكن من العثور على أي جداول أو بِرك. وأدركنا جميعًا حجم المأساة التي بِتنا نواجه في ذلك الوضع: فقد كنا نبحث في أعماق الغابة السحابية بحثًا محمومًا عن شيء نشربه.
ثم قال نارسيسو: لحى الأشجار. كان "نارسيسو ياكتا" أحد أفراد طاقمنا ودليلنا الذي يتحدث لغة "الكيتشوا" ويعرف الجبال أفضل مني. وضع يده على شجرة، ونزع بعض الطحالب التي تغطي جزءًا كبيرًا من اللحاء في هذه الغابات، وعصَر السيقان والأوراق الصغيرة حتى ظهرت حُبيبات من الماء. كانت قليلة، ثم تزايدت، ثم تحولت إلى قطرات كبيرة إلى درجة أننا كنا نراها تتناثر على الأرض. يُطلق على هذه الطحالب في لغة الكيتشوا أحيانًا اسم "ساتشاك سانكا"، أي لِحية الشجرة. وكنت أعرف أنها بمنزلة إسفنجات، أو أوعية للرطوبة وسط غيوم الأنديز، وعاينت في ذلك الوقت أحد أفراد طاقمنا وهو يحمل كوبًا تحت قطرات الماء التي كان نارسيسو يعصرها من رزمة الطحالب. امتلأ الكوب. ثم أحضرنا مزيدًا من الأكواب. فكّر "ماريانو هوانكا"، الذي نشأ أيضًا غير بعيد عن ذلك المكان، في "البروميلياد" الموجودة بهذه الغابة، وهي نباتات مزهرة ذات أوراق مجعدة ومستقيمة كالخناجر. فقد ظل ماريانو يعمل مع العلماء الذين يدرسون البرمائيات، وكان قد شاهد قلوب البروميلياد التي تتخذ شكل أوعية تتفرع منها الأوراق وهي تحمل مياهًا تكفي لتُشكل بِركًا صغيرة للضفادع. ويتحدث علماء الأحياء عن البروميلياد بوصفها خزانات مياه، وفي الوقت الذي وجدنا فيه البروميلياد ولحى الأشجار تختزن الماء الذي كان بُنّي اللون بفعل الطمي، تَذكّر فردٌ آخر من الطاقم كيفية صنع مرشح للماء بطريقة مرتجَلة. فوقفنا جميعًا، نحن المستكشفين المنهكين في تلك الرقعة من الأمازون التي كنا نرتاد، وبدأنا نثني حواف قمصاننا إلى الأعلى لنُصفّي مياه الغابات السحابية في أكواب.
أنهـار طائـرة
في معظم أيام الأسبوع، أستيقظ قبل الفجر داخل غرفة نومي لدى محطتي الميدانية في جبال الأنديز البيروفية. تبدأ الخفافيش حركاتها الرشيقة على السقف؛ ومع انبلاج أولى خيوط الفجر، تتراءى لي الغيوم في الخارج وهي تمر بانسياب على طول التلال الحرجية شديدة الانحدار. تلك الغيوم أنهارٌ سابحة في الهواء، أو أنهار طائرة، تحمل الرطوبة التي ستشق طريقها إلى داخل التربة، ثم الجداول، وآلاف الكيلومترات من الأنهار على الأرض، وصولًا إلى البحر. نشأتُ في مكان غير بعيد عن هنا، وقد لقّنتني هذه الأنهار الطائرة خلال يوم واحد من اليأس درسًا لن أنساه؛ فقد علقتُ وسط النباتات الكثيفة في هذه الجبال، وعانيت الظمأ الشديد. لكن دعوني أسرد القصة من البداية. لقد جئتُ إلى هذه المحطة والمختبر، على بعد بضع ساعات بالسيارة شرق مدينة كوسكو، لإجراء دراسة عن دب الأنديز، وهو حيوان مراوغ لم نبدأ إلا منذ وقت قريب في تقدير دوره الحيوي في المنظومة البيئية للأمازون. كان ذلك في شهر مايو من عام 2021، وكنت أعيش هنا منذ أسبوعين مع "أوكوكو"، كلبة موئلي هذا والتي ربّيتُها ودرّبتُها على تعقّب الدببة. وكان يعيش هنا أيضًا طاقم من المساعدين، جُلهم من القرى المجاورة، وكانت مَهمتنا الرئيسة الأولى هي رحلة مشي على مَرّ أيام لنَصْب 48 كاميرا، على مسافات متباعدة، على طول امتداد جبلي حرجي لِما كنا نأمل أن يكون منطقة الدببة. في البداية، كانت لدينا خيول لنقل أحمالنا، لكن المنحدرات الوعرة كانت فوق طاقتها. فأعدْنا الخيول إلى المأوى، ووضعنا كل شيء على ظهورنا: الكاميرات والخيام والطعام والماء والأراجيح الشبكية للمبيت على المنحدرات الحادة، والسواطير لتسوية الطريق. كانت تلك الأحمال ثقيلة. وكنتُ، بِبِنيَتي الصغيرة ومع وجود 27 كيلوجرامًا على ظهري، أحاذر خطواتي. وحتى عندما كان أحدنا يقطع الأغصان أمامنا بالساطور، كانت الطحالب الأرضية ونباتات العليق تحتنا تُخفي حفرًا يمكنها أن تكسر السيقان. كانت الليالي شديدة البرودة؛ وعندما بدأت أوكوكو ترتجف، دسَّت أنفها في كيس نومي واقتربت مني حتى نتقاسم الدفء. ومع حلول اليوم الخامس، توقف الطاقم وسط النباتات التي لم يسبق لي أن رأيت في حياتي مثيلًا لكثافتها، ولم نكن متأكدين من المسافة التي قطعنا صعودًا من النهر عند سفح الجبل. كان طعامنا قد أوشك على النفاد. أما الماء فقد نفد منا. ولم نتمكن من العثور على أي جداول أو بِرك. وأدركنا جميعًا حجم المأساة التي بِتنا نواجه في ذلك الوضع: فقد كنا نبحث في أعماق الغابة السحابية بحثًا محمومًا عن شيء نشربه.
ثم قال نارسيسو: لحى الأشجار. كان "نارسيسو ياكتا" أحد أفراد طاقمنا ودليلنا الذي يتحدث لغة "الكيتشوا" ويعرف الجبال أفضل مني. وضع يده على شجرة، ونزع بعض الطحالب التي تغطي جزءًا كبيرًا من اللحاء في هذه الغابات، وعصَر السيقان والأوراق الصغيرة حتى ظهرت حُبيبات من الماء. كانت قليلة، ثم تزايدت، ثم تحولت إلى قطرات كبيرة إلى درجة أننا كنا نراها تتناثر على الأرض. يُطلق على هذه الطحالب في لغة الكيتشوا أحيانًا اسم "ساتشاك سانكا"، أي لِحية الشجرة. وكنت أعرف أنها بمنزلة إسفنجات، أو أوعية للرطوبة وسط غيوم الأنديز، وعاينت في ذلك الوقت أحد أفراد طاقمنا وهو يحمل كوبًا تحت قطرات الماء التي كان نارسيسو يعصرها من رزمة الطحالب. امتلأ الكوب. ثم أحضرنا مزيدًا من الأكواب. فكّر "ماريانو هوانكا"، الذي نشأ أيضًا غير بعيد عن ذلك المكان، في "البروميلياد" الموجودة بهذه الغابة، وهي نباتات مزهرة ذات أوراق مجعدة ومستقيمة كالخناجر. فقد ظل ماريانو يعمل مع العلماء الذين يدرسون البرمائيات، وكان قد شاهد قلوب البروميلياد التي تتخذ شكل أوعية تتفرع منها الأوراق وهي تحمل مياهًا تكفي لتُشكل بِركًا صغيرة للضفادع. ويتحدث علماء الأحياء عن البروميلياد بوصفها خزانات مياه، وفي الوقت الذي وجدنا فيه البروميلياد ولحى الأشجار تختزن الماء الذي كان بُنّي اللون بفعل الطمي، تَذكّر فردٌ آخر من الطاقم كيفية صنع مرشح للماء بطريقة مرتجَلة. فوقفنا جميعًا، نحن المستكشفين المنهكين في تلك الرقعة من الأمازون التي كنا نرتاد، وبدأنا نثني حواف قمصاننا إلى الأعلى لنُصفّي مياه الغابات السحابية في أكواب.