نهضـة السيـن
يصعد رجلٌ فوق سياج "جسر الفنون" في باريس المُطل على مياه نهر "السين". تحت الجسر تمر مياه النهر العكِرة، التي ارتفع منسوبها من جرّاء أمطار هطلت حديثًا، بمحاذاة "متحف اللوفر" الشهير، فيما يتابع حشدٌ من الناس الرجلَ باهتمام وهو يستعد للقفز.. ثم يقفز! اسمه "توماس" (تَنص التوجيهات الرسمية على حذف الأسماء العائلية لأسباب أمنية) وهو واحد من نخبة رجال الإطفاء في باريس الذين يعملون لدى "مركز لا مونيه للنجدة"، وهو مركز إطفاء عائم في وسط باريس.. طفا توماس في النهر بضع ثوان قبل أن يُخرجه زملاؤه الإطفائيون من المياه التي تصل حرارتها إلى ثلاث درجات مئوية، ثم يضعونه في قارب إنقاذ كان بالانتظار. انتهت التدريبات وعاد القبطان بسرعة إلى قاعدته، وهي في الأصل قارب بضائع يعود تاريخ صنعه إلى عام 1927، مجهّز بصالة ألعاب رياضية وحوض أسماك ودُشّ خارجي مع إطلالة على أجمل المناظر في باريس. وتحت القارب تقبع سمكة سلّور ضخمة بطول يناهز المترين، أطلقوا عليها لقب "روجيه". تُعد "فرقة الإطفاء" بباريس فريدة من نوعها في فرنسا؛ فهي وحَدة تابعة للجيش الفرنسي بموجب مرسوم أصدره الإمبراطور الفرنسي "نابليون" في عام 1811. ويجب أن تخضع القوات "النهرية"، على خلاف نظيرتها "الأرضية"، لعملية تدريب وانتقاء صارمة تشمل إخماد حرائق المراكب، والإنقاذ من الغرق؛ وفي يوم مشهود في أبريل 2019، ساعدوا على إطفاء حريق "كاتدرائية نوتردام" المهول من خلال ضخ المياه مباشرة من نهر السين. ظل رجال الإطفاء هؤلاء منذ أعوام من بين القلائل المسموح لهم بالسباحة في نهر السين في باريس. فالسباحة التي كانت ذات يوم سبيلًا للترفيه، تتيح لسكان المدينة الاستمتاع بحمّامات الشمس واللهو في مياه النهر وارتداء ملابس البحر الجذابة في مسبح "ديليني" الذي كان يُغذّيه نهر السين، بقيت أكثر من قرن ممنوعة قانونًا بسبب حركة الملاحة النهرية والتلوث. لكن هذا الوضع من المقرَّر أن يتغير؛ فبعد الانتهاء من مشروع تنظيف طموح تبلغ تكلفته 1.5 مليار دولار، سيكون للنهر دور بارز في كل من الألعاب الأولمبية الصيفية والألعاب البارالمبية لعام 2024. إذ ستُقام فعاليات حفل افتتاح الألعاب الأولمبية على نهر السين، وإذا سارت الأمور على ما يرام، سيكون ميدانًا لثلاثة سباقات سباحة. يقول "بيير رَبَدان"، نائب عمدة باريس المكلَّف بالرياضة والألعاب الأولمبية والبارالمبية ونهر السين: "هدفنا هو أن نترك إرثًا أولمبيًا حتى يتسنى لنا أنا وأنت أو أي شخص آخر موجود في باريس أن نسبح في نهر السين". السين أقل طولًا من أنهار النيل والأمازون والدانوب وحتى اللوار، إلا أن هذا النهر الذي يبلغ طوله 777 كيلومترًا يأسر خيال العالم، ومجراه الملتوي يرمز لفرنسا نفسها. وكتب المؤرخ "جون فافييه" في كتابه "باريس: ألفا عام من التاريخ": "كانت ضفاف نهر السين على مرّ القرون العشرين الماضية مسرحًا للحظات حاسمة عديدة في تاريخ فرنسا". يكشف مجرى نهر السين المتعرج، وهو يشق طريقه إلى البحر بين أونفلور ولوهافر، الستارَ عن قصة عند كل منعطف، بدءًا من الغزو الروماني لبلاد الغال وغزوات الفايكينغ، مرورًا بسقوط قصر "غايار" الفخم للملك "ريتشارد قلب الأسد" ورماد الثائرة "جان دارك" المتناثر في نهر السين، وصولًا إلى الثورة الفرنسية وصعود الجمهورية. وحتى بعد وفاة نابليون في المنفى، عاد في النهاية -كما طلب في وصيته- إلى باريس للمرة الأخيرة عبر نهر السين، والذي كان يلقبه إبّان حياته باسم "الشارع الرئيس". لطالما كان نهر السين أداة لازدهار الحضارة والهوية الوطنية، إذ أَلهم الثقافة الفرنسية على مرّ قرون، بدءًا من فنون الفولكلور في العصور الوسطى وصولًا إلى الحركة الفنية الانطباعية، فضلًا عن دوره البارز في حياة المواطنين. ولئنْ كانت ذكريات رحلتي الأولى وأنا طفلة إلى فرنسا يلفّها الضباب، فإن مشهد مَعالم باريس وهي مزدانة بالأضواء والألوان مازال عالقًا في ذاكرتي. كان إعلان خطبتي وأنا شابة فوق أحد جسور النهر؛ وبعد أعوام، كنت أدفع عربات أطفالي على ضفافه؛ كما كنت أحتفل بأعياد ميلادي البارزة على متن مراكبَ في النهر. فدائمًا ما كان نهر السين مواساة لنا في لحظات الهموم والأحزان، ومُشاركًا لنا في لحظات الفرح والسعادة. وقد أضفى الفرنسيون على السين أوصافًا بشرية منذ زمن بعيد حتى قبل ظهور الجهود المعاصرة لمنح الشخصية القانونية للأنهار وسيلةً لتوفير الحماية القانونية والبيئية لها. فكان مجرى النهر، حسب وصف الأديب "فيكتور هوغو"، مصدر إلهام وقاتل في الوقت نفسه؛ وذلك إثر وفاة ابنته "ليوبولدين" غرقًا بعد انقلاب زورق كانت على متنه. وتأنَّق السين أمام لوحات الرسامين في الهواء الطلق ودندن الألحان للمنشدين والموسيقيين، كما أن هذا الكائن المائي حظي بالتبجيل في معظم تاريخ البشرية، لاسيما عند منبعه.
نهضـة السيـن
يصعد رجلٌ فوق سياج "جسر الفنون" في باريس المُطل على مياه نهر "السين". تحت الجسر تمر مياه النهر العكِرة، التي ارتفع منسوبها من جرّاء أمطار هطلت حديثًا، بمحاذاة "متحف اللوفر" الشهير، فيما يتابع حشدٌ من الناس الرجلَ باهتمام وهو يستعد للقفز.. ثم يقفز! اسمه "توماس" (تَنص التوجيهات الرسمية على حذف الأسماء العائلية لأسباب أمنية) وهو واحد من نخبة رجال الإطفاء في باريس الذين يعملون لدى "مركز لا مونيه للنجدة"، وهو مركز إطفاء عائم في وسط باريس.. طفا توماس في النهر بضع ثوان قبل أن يُخرجه زملاؤه الإطفائيون من المياه التي تصل حرارتها إلى ثلاث درجات مئوية، ثم يضعونه في قارب إنقاذ كان بالانتظار. انتهت التدريبات وعاد القبطان بسرعة إلى قاعدته، وهي في الأصل قارب بضائع يعود تاريخ صنعه إلى عام 1927، مجهّز بصالة ألعاب رياضية وحوض أسماك ودُشّ خارجي مع إطلالة على أجمل المناظر في باريس. وتحت القارب تقبع سمكة سلّور ضخمة بطول يناهز المترين، أطلقوا عليها لقب "روجيه". تُعد "فرقة الإطفاء" بباريس فريدة من نوعها في فرنسا؛ فهي وحَدة تابعة للجيش الفرنسي بموجب مرسوم أصدره الإمبراطور الفرنسي "نابليون" في عام 1811. ويجب أن تخضع القوات "النهرية"، على خلاف نظيرتها "الأرضية"، لعملية تدريب وانتقاء صارمة تشمل إخماد حرائق المراكب، والإنقاذ من الغرق؛ وفي يوم مشهود في أبريل 2019، ساعدوا على إطفاء حريق "كاتدرائية نوتردام" المهول من خلال ضخ المياه مباشرة من نهر السين. ظل رجال الإطفاء هؤلاء منذ أعوام من بين القلائل المسموح لهم بالسباحة في نهر السين في باريس. فالسباحة التي كانت ذات يوم سبيلًا للترفيه، تتيح لسكان المدينة الاستمتاع بحمّامات الشمس واللهو في مياه النهر وارتداء ملابس البحر الجذابة في مسبح "ديليني" الذي كان يُغذّيه نهر السين، بقيت أكثر من قرن ممنوعة قانونًا بسبب حركة الملاحة النهرية والتلوث. لكن هذا الوضع من المقرَّر أن يتغير؛ فبعد الانتهاء من مشروع تنظيف طموح تبلغ تكلفته 1.5 مليار دولار، سيكون للنهر دور بارز في كل من الألعاب الأولمبية الصيفية والألعاب البارالمبية لعام 2024. إذ ستُقام فعاليات حفل افتتاح الألعاب الأولمبية على نهر السين، وإذا سارت الأمور على ما يرام، سيكون ميدانًا لثلاثة سباقات سباحة. يقول "بيير رَبَدان"، نائب عمدة باريس المكلَّف بالرياضة والألعاب الأولمبية والبارالمبية ونهر السين: "هدفنا هو أن نترك إرثًا أولمبيًا حتى يتسنى لنا أنا وأنت أو أي شخص آخر موجود في باريس أن نسبح في نهر السين". السين أقل طولًا من أنهار النيل والأمازون والدانوب وحتى اللوار، إلا أن هذا النهر الذي يبلغ طوله 777 كيلومترًا يأسر خيال العالم، ومجراه الملتوي يرمز لفرنسا نفسها. وكتب المؤرخ "جون فافييه" في كتابه "باريس: ألفا عام من التاريخ": "كانت ضفاف نهر السين على مرّ القرون العشرين الماضية مسرحًا للحظات حاسمة عديدة في تاريخ فرنسا". يكشف مجرى نهر السين المتعرج، وهو يشق طريقه إلى البحر بين أونفلور ولوهافر، الستارَ عن قصة عند كل منعطف، بدءًا من الغزو الروماني لبلاد الغال وغزوات الفايكينغ، مرورًا بسقوط قصر "غايار" الفخم للملك "ريتشارد قلب الأسد" ورماد الثائرة "جان دارك" المتناثر في نهر السين، وصولًا إلى الثورة الفرنسية وصعود الجمهورية. وحتى بعد وفاة نابليون في المنفى، عاد في النهاية -كما طلب في وصيته- إلى باريس للمرة الأخيرة عبر نهر السين، والذي كان يلقبه إبّان حياته باسم "الشارع الرئيس". لطالما كان نهر السين أداة لازدهار الحضارة والهوية الوطنية، إذ أَلهم الثقافة الفرنسية على مرّ قرون، بدءًا من فنون الفولكلور في العصور الوسطى وصولًا إلى الحركة الفنية الانطباعية، فضلًا عن دوره البارز في حياة المواطنين. ولئنْ كانت ذكريات رحلتي الأولى وأنا طفلة إلى فرنسا يلفّها الضباب، فإن مشهد مَعالم باريس وهي مزدانة بالأضواء والألوان مازال عالقًا في ذاكرتي. كان إعلان خطبتي وأنا شابة فوق أحد جسور النهر؛ وبعد أعوام، كنت أدفع عربات أطفالي على ضفافه؛ كما كنت أحتفل بأعياد ميلادي البارزة على متن مراكبَ في النهر. فدائمًا ما كان نهر السين مواساة لنا في لحظات الهموم والأحزان، ومُشاركًا لنا في لحظات الفرح والسعادة. وقد أضفى الفرنسيون على السين أوصافًا بشرية منذ زمن بعيد حتى قبل ظهور الجهود المعاصرة لمنح الشخصية القانونية للأنهار وسيلةً لتوفير الحماية القانونية والبيئية لها. فكان مجرى النهر، حسب وصف الأديب "فيكتور هوغو"، مصدر إلهام وقاتل في الوقت نفسه؛ وذلك إثر وفاة ابنته "ليوبولدين" غرقًا بعد انقلاب زورق كانت على متنه. وتأنَّق السين أمام لوحات الرسامين في الهواء الطلق ودندن الألحان للمنشدين والموسيقيين، كما أن هذا الكائن المائي حظي بالتبجيل في معظم تاريخ البشرية، لاسيما عند منبعه.