أســرار الأخطبوط: عجائب تحت الماء

أســرار الأخطبوط
يوصف الأخطبوط بكونه سيد التنكر، وفنان الهروب الماكر، والوالد غير الأناني؛ ما يجعل هذا الحيوان مخلوقًا خارج دائرة المألوف.

لـم أقابـل أي مخلـوق مثـل "أثينا" من قبل. كان طولها يقل عن متر واحد على الرغم من أنها كانت بالغة. ولم يكن وزنها يزيد على 18 كيلوجرامًا. وكانت غير عادية من عدة نواح أخرى. فقد كان بإمكانها أن تغير لونها وشكلها، وتتذوق بجلدها، وتُسيل السم، وتقذف حبرها، وتتنقل عن طريق نفث الماء عبر أنبوب على جانب رأسها، فضلًا عن قدرتها على إدخال جسدها المتضخم الخالي من العظام من خلال فتحة بحجم البرتقالة. ولم يكن رأسها في أعلى جسدها، مثلي. وكان يَشغل تلك البقعةَ جزءٌ من الجسم يُعرف باسم العباءة، ويحتوي على أعضاء التنفس والهضم والتكاثر. وكان رأسها في الموضع الذي تتوقع أن تجد فيه الجذع الذي يتوسط جسم الإنسان. أما فمها فكان في إبطها. كانت أثينا تنتمي إلى النوع المعروف بأخطبوط المحيط الهادي العملاق (Enteroctopus dofleini). التقينا أنثى الأخطبوط تلك لدى "حوض نيو إنغلاند للأحياء المائية" في بوسطن، عندما فتح كبير المشرفين على الأحياء المائية "سكوت دود"، الغطاءَ الثقيل لخزّانها. هنالك وقفتُ على كرسي منخفض، ومِلْتُ بجسدي فوق الماء. وسرعان ما تغير لون أثينا من البني المرقط إلى الأحمر الفاتح من شدة الإثارة وهي تبسط جسدها الرشيق خارج مخبأها الصخري. كانت إحدى عينيها الفضيتين المتلألئتين تبحث عن عيني، فيما كانت أذرعها الثماني تتصاعد إلى السطح لمقابلتي. بعد استئذان سكوت، غطستُ يدي وذراعي في الماء المالح الذي بلغت حرارته 8 درجات مئوية وكان يُشعرني بالخدر، وتركتها تلتف حول بشرتي بمِمَصاتها البيضاء الناعمة والمستطلِعة. فلقد كانت تتذوقني وتتحسسني في الوقت نفسه. لم تُرحب أثينا بصحبتي فحسب، بل تركتنني ألمس رأسها. ولم تكن قد سمحت لأي زائر بفعل ذلك من قبل. وبينما كنا نُمضي الوقت معًا وهي تتذوقني وأنا أداعبها، كانت تغير لونها مرة أخرى؛ فقد تحول إلى الأبيض تحت لمسة يدي، وهو لون الأخطبوط حين يشعر بالهدوء، كما عرفت في وقت لاحق. اتَّضَح لي أن تفاعلنا ذاك كان مفيدًا. فلقد تفاجأتُ إذْ كانت أثينا تُبدي فضولًا بالقدر نفسه الذي كان ينتابني تجاهها. "لكن، أليس الأخطبوط وحشًا؟"، هكذا سألتني صديقتي "جودي سيمبسون" في اليوم التالي إذ وصفتُ لها لقائي أثينا ونحن نمشي مع كلبينا وسط الغابة. لدى جودي صداقة جيدة مع حيوانات كثيرة؛ فهي تؤوي في منزلها كلبين وقطة. وهي بارعة في ركوب الخيل وتحب إطعام الطيور البرية. لكنْ.. الأخطبوط؟ كيف يمكن أن يكون لديك أي نوع من التواصل مع أخطبوط؟ لقد رسمَت قرونٌ من الأدب الغربي الأخاطبَ على شاكلة شياطين عابرة للمحيطات. 
فقد كتب الفيلسوف والقائد الروماني "بليني الأكبر" في عام 77 للميلاد تقريبًا: "لا يوجد حيوان أكثر وحشية [من الأخطبوط] في التسبب بموت الإنسان في الماء، لأنه يصارعه من خلال الالتفاف حوله ويبتلعه بممصاته ويَسحبه إربًا ممزقة". ولأن الأخطبوط يختلف عنا، نحن البشر، اختلافًا تامًا، ويمكن لبعض أنواعه أن تنمو إلى حجم كبير جدًا، وبالنظر إلى قوته الهائلة (يمكن لممصة واحدة كبيرة لدى أخطبوط المحيط الهادي العملاق أن ترفع نحو 16 كيلوجرامًا، وله منها 1600 أو أكثر).. فيمكن له أن يبعث الرعب والإرباك في نفوس البشر، أو على الأقل أولئك البشر الذين لا تتاح لهم فرصة التعرف إلى أخطبوط. لكنني انبهرت باختلاف أثينا. فنحن نُعد متناقضين، وفقًا لجل التصنيفات الأساسية لحياة الحيوان. فهي من أوليات الفم (أي أن الفم يتشكل أولا خلال عملية التطور الجنيني)؛ أما أنا، فمن ثانويات الفم. وكانت هي من اللافقريات، بلا عظام. أما أنا فمن الفقريات ويسندني هيكل عظمي. وكانت تعيش في الماء وأنا على الأرض. وكانت تتنفس الماء، أما أنا فأتنفس الهواء. ويقول العلماء إن آخر مرة تَقاسم فيها النوعان اللذان ننتمي إليهما سلفًا مشتركًا تعود إلى نصف مليار سنة. ومع كل ذلك، فقد أذهلني أيضًا وجود تشابه غير متوقع بيننا. فعلى الرغم من التباين الكبير في تصنيفينا من الناحية الأحيائية، بدت لي إمكانية التقاء أفكارنا، بل ربما كان بإمكاننا أن نصير صديقتين. وبعد ذلك، بدأت أثينا تسحبني إلى حوضها. للأخطبوط عضلات هيدروستاتيكية أشبه بتلك الموجودة في ألسنتنا من عضلتنا ذات الرأسين؛ ويمكن لأخطبوط بحجم أثينا، وفقَ بعض الحسابات، أن يقاوم سَحبًا يعادل وزنَه 100 مرة، أي أنه يمكن أن يصل إلى 1800 كيلوجرام. أما أنا فأزن 57 كيلوجرامًا. ولكن لم يساورني أي خوف، ولم أشعر بأي سوء نية من جانبها. كانت تصر على سحبي، لكن بلُطف. ولم أشعر بأي قلق من احتمال أن تكون راغبة في التهامي. فقد كنت أدرك تمامًا أن منقارها، الموجود في إبطها، والغدد السامة المجاورة له لم تكن قريبة من أجزاء الأذرع التي كانت تسحبني. ولم يكن إصرارها العنيد على سحبي يشكل أي تهديد، بل كان بمنزلة دعوة، وقد تشرفت بقبولها. وهكذا جذبتنــي هــذه المخلوقة الغريبة الجميلة والفضولية إلى عالمهــا.. عالـم استكشفته على مرّ أعوام بعد نفوقها، وما أزال. ومن المؤسف أن الأخطبوط لا يعيش طويلًا. أمد حياة أخطبوط المحيط الهادي العملاق يتراوح ما بين ثلاثة أعوام وخمسة فقط؛ وكانت أثينا تُعـد طاعنــة في السـن بالنســبة إلى أخطبـوط عندمــا التقيــتها.

أســرار الأخطبوط: عجائب تحت الماء

أســرار الأخطبوط
يوصف الأخطبوط بكونه سيد التنكر، وفنان الهروب الماكر، والوالد غير الأناني؛ ما يجعل هذا الحيوان مخلوقًا خارج دائرة المألوف.

لـم أقابـل أي مخلـوق مثـل "أثينا" من قبل. كان طولها يقل عن متر واحد على الرغم من أنها كانت بالغة. ولم يكن وزنها يزيد على 18 كيلوجرامًا. وكانت غير عادية من عدة نواح أخرى. فقد كان بإمكانها أن تغير لونها وشكلها، وتتذوق بجلدها، وتُسيل السم، وتقذف حبرها، وتتنقل عن طريق نفث الماء عبر أنبوب على جانب رأسها، فضلًا عن قدرتها على إدخال جسدها المتضخم الخالي من العظام من خلال فتحة بحجم البرتقالة. ولم يكن رأسها في أعلى جسدها، مثلي. وكان يَشغل تلك البقعةَ جزءٌ من الجسم يُعرف باسم العباءة، ويحتوي على أعضاء التنفس والهضم والتكاثر. وكان رأسها في الموضع الذي تتوقع أن تجد فيه الجذع الذي يتوسط جسم الإنسان. أما فمها فكان في إبطها. كانت أثينا تنتمي إلى النوع المعروف بأخطبوط المحيط الهادي العملاق (Enteroctopus dofleini). التقينا أنثى الأخطبوط تلك لدى "حوض نيو إنغلاند للأحياء المائية" في بوسطن، عندما فتح كبير المشرفين على الأحياء المائية "سكوت دود"، الغطاءَ الثقيل لخزّانها. هنالك وقفتُ على كرسي منخفض، ومِلْتُ بجسدي فوق الماء. وسرعان ما تغير لون أثينا من البني المرقط إلى الأحمر الفاتح من شدة الإثارة وهي تبسط جسدها الرشيق خارج مخبأها الصخري. كانت إحدى عينيها الفضيتين المتلألئتين تبحث عن عيني، فيما كانت أذرعها الثماني تتصاعد إلى السطح لمقابلتي. بعد استئذان سكوت، غطستُ يدي وذراعي في الماء المالح الذي بلغت حرارته 8 درجات مئوية وكان يُشعرني بالخدر، وتركتها تلتف حول بشرتي بمِمَصاتها البيضاء الناعمة والمستطلِعة. فلقد كانت تتذوقني وتتحسسني في الوقت نفسه. لم تُرحب أثينا بصحبتي فحسب، بل تركتنني ألمس رأسها. ولم تكن قد سمحت لأي زائر بفعل ذلك من قبل. وبينما كنا نُمضي الوقت معًا وهي تتذوقني وأنا أداعبها، كانت تغير لونها مرة أخرى؛ فقد تحول إلى الأبيض تحت لمسة يدي، وهو لون الأخطبوط حين يشعر بالهدوء، كما عرفت في وقت لاحق. اتَّضَح لي أن تفاعلنا ذاك كان مفيدًا. فلقد تفاجأتُ إذْ كانت أثينا تُبدي فضولًا بالقدر نفسه الذي كان ينتابني تجاهها. "لكن، أليس الأخطبوط وحشًا؟"، هكذا سألتني صديقتي "جودي سيمبسون" في اليوم التالي إذ وصفتُ لها لقائي أثينا ونحن نمشي مع كلبينا وسط الغابة. لدى جودي صداقة جيدة مع حيوانات كثيرة؛ فهي تؤوي في منزلها كلبين وقطة. وهي بارعة في ركوب الخيل وتحب إطعام الطيور البرية. لكنْ.. الأخطبوط؟ كيف يمكن أن يكون لديك أي نوع من التواصل مع أخطبوط؟ لقد رسمَت قرونٌ من الأدب الغربي الأخاطبَ على شاكلة شياطين عابرة للمحيطات. 
فقد كتب الفيلسوف والقائد الروماني "بليني الأكبر" في عام 77 للميلاد تقريبًا: "لا يوجد حيوان أكثر وحشية [من الأخطبوط] في التسبب بموت الإنسان في الماء، لأنه يصارعه من خلال الالتفاف حوله ويبتلعه بممصاته ويَسحبه إربًا ممزقة". ولأن الأخطبوط يختلف عنا، نحن البشر، اختلافًا تامًا، ويمكن لبعض أنواعه أن تنمو إلى حجم كبير جدًا، وبالنظر إلى قوته الهائلة (يمكن لممصة واحدة كبيرة لدى أخطبوط المحيط الهادي العملاق أن ترفع نحو 16 كيلوجرامًا، وله منها 1600 أو أكثر).. فيمكن له أن يبعث الرعب والإرباك في نفوس البشر، أو على الأقل أولئك البشر الذين لا تتاح لهم فرصة التعرف إلى أخطبوط. لكنني انبهرت باختلاف أثينا. فنحن نُعد متناقضين، وفقًا لجل التصنيفات الأساسية لحياة الحيوان. فهي من أوليات الفم (أي أن الفم يتشكل أولا خلال عملية التطور الجنيني)؛ أما أنا، فمن ثانويات الفم. وكانت هي من اللافقريات، بلا عظام. أما أنا فمن الفقريات ويسندني هيكل عظمي. وكانت تعيش في الماء وأنا على الأرض. وكانت تتنفس الماء، أما أنا فأتنفس الهواء. ويقول العلماء إن آخر مرة تَقاسم فيها النوعان اللذان ننتمي إليهما سلفًا مشتركًا تعود إلى نصف مليار سنة. ومع كل ذلك، فقد أذهلني أيضًا وجود تشابه غير متوقع بيننا. فعلى الرغم من التباين الكبير في تصنيفينا من الناحية الأحيائية، بدت لي إمكانية التقاء أفكارنا، بل ربما كان بإمكاننا أن نصير صديقتين. وبعد ذلك، بدأت أثينا تسحبني إلى حوضها. للأخطبوط عضلات هيدروستاتيكية أشبه بتلك الموجودة في ألسنتنا من عضلتنا ذات الرأسين؛ ويمكن لأخطبوط بحجم أثينا، وفقَ بعض الحسابات، أن يقاوم سَحبًا يعادل وزنَه 100 مرة، أي أنه يمكن أن يصل إلى 1800 كيلوجرام. أما أنا فأزن 57 كيلوجرامًا. ولكن لم يساورني أي خوف، ولم أشعر بأي سوء نية من جانبها. كانت تصر على سحبي، لكن بلُطف. ولم أشعر بأي قلق من احتمال أن تكون راغبة في التهامي. فقد كنت أدرك تمامًا أن منقارها، الموجود في إبطها، والغدد السامة المجاورة له لم تكن قريبة من أجزاء الأذرع التي كانت تسحبني. ولم يكن إصرارها العنيد على سحبي يشكل أي تهديد، بل كان بمنزلة دعوة، وقد تشرفت بقبولها. وهكذا جذبتنــي هــذه المخلوقة الغريبة الجميلة والفضولية إلى عالمهــا.. عالـم استكشفته على مرّ أعوام بعد نفوقها، وما أزال. ومن المؤسف أن الأخطبوط لا يعيش طويلًا. أمد حياة أخطبوط المحيط الهادي العملاق يتراوح ما بين ثلاثة أعوام وخمسة فقط؛ وكانت أثينا تُعـد طاعنــة في السـن بالنســبة إلى أخطبـوط عندمــا التقيــتها.