العلم يطرق بـاب الإجهاد

تؤثر آلية الدفاع هذه في صحتنا عبر جميع مراحلنا العمرية؛ لذا يسعى الباحثون جاهدين لفهم كيفية حدوث ذلك على وجه الدقة.

قبل أكثر من نصف قرن، أفضت دراسة طويلة الأمد -وكانت إحدى أبكر الدراسات الموسعة من نوعها- إلى اكتشاف مثير للدهشة. ففي عام 1967، شرع الباحثون في المملكة المتحدة في تتبع صحة زُهاء 17500 موظف حكومي بريطاني تراوحت أعمارهم بين 40 و64 عامًا لدى منطقة "وايتهول" في لندن. ووجد هؤلاء الباحثون أن أصحاب المناصب المتدنية، مثل موظفي الدعم المكتبي، توفوا في زمن أبكر وبمعدل أعلى من ذوي الوظائف الحكومية الأعلى الذين كانوا ينتمون إلى صفوة المجتمع. فلسبب غير مفهوم، عانى موظفو المناصب الأدنى ارتفاعَ معدلات الإصابة بأمراض القلب التاجية. وفي دراسة متابعة أجريت على 10300 موظف حكومي تتراوح أعمارهم بين 35 و55 عامًا، أَدرك الباحثون تفسيرًا محتملًا لهذا التباين المرتبط بالسُّلم المهني؛ وهو أن ذوي الرتب الأدنى كان لهم تأثير أقل في عملية اتخاذ القرار في العمل. ونتيجة لذلك، شعر كثيرون منهم بالإجهاد؛ وبدا أن ذلك يؤثر سلبًا في صحتهم. على مرّ العقود الخمسة التي تلت تلك الدراسة، أثبت العلماء والباحثون الطبيون بما لا يدع مجالًا للشك أن الإجهاد المستمر يمكن أن يدمر صحتنا العامة. فقد ثبت أن الإجهاد، فضلًا عن زيادته خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، يُسهم في البدانة ومرض السكري. وقد أَدرك العلماء أيضًا أن للإجهاد قدرة على إضعاف جهاز المناعة وجعلنا أكثر عرضة للأمراض المُعدية. إننا جميعًا نعيش الإجهاد بصور مختلفة وبدرجات متفاوتة على نطاق واسع. وكان "هانز سيلي"، عالم الغدد الصماء ورائد بحوث الإجهاد، أول من اقترح المفهوم الأساسي للإجهاد بوصفه حاجةً للتغيير تَفرضها التحديات المختلفة في حياتنا العادية ومحيط عيشنا.  فقد وجد سيلي، بدءًا من دراسته المرجعية التي أجراها في عام 1936، أن أنواعًا مختلفة من المحفزات المزعجة للغاية -كالضوضاء العالية والضوء الشديد ودرجات الحرارة القصوى- أجبرت حيوانات المختبر على بذل كل ما في وسعها لمحاولة التأقلم.  في المجتمع الحديث، قد تتعدد مُسببات الإجهاد المحسوس، من المتاعب اليومية مثل الوجود في ازدحام مروري، إلى الأحداث الشديدة القاسية التي تغير مجرى الحياة مثل الطلاق أو وفاة شخص محبوب. والنتيجة هي "شعور المرء وكأنه لا يمتلك الموارد اللازمة لتلبية ذلك الطلب على التغيير"، كما يقول عالم النفس وطبيب الأعصاب في "جامعة شيكاغو"، "غريغ نورمان"، وهو باحث بارز في مجال الإجهاد. عندما نشعر بالإجهاد، يفرز الجسم الأدرينالين، فيتسارع النبض والتنفس وتتقلص العضلات ويرتفع ضغط الدم. ويُصاحب رد الفعل هذا ارتفاعٌ في الكورتيزول، وهو الهرمون الذي يُسهم بالشعور بأننا في وضع الكرّ أو الفرّ. والاضطراب الفجائي الذي قد يشعر به المرء حين يكون غير مستعد لرد فعل فوري مرتجل هو مثال على الإجهاد الوجيز، وهو استجابة دفاعية مثيرة نفسيًا وفيزيولوجيا ولكن بمقدور المرء أن يتعافى منها بسرعة حالَ زوال التهديد المحسوس.
أما الإجهاد المزمن فهو اضطراب شديد لا يلين ولا سبيل معه تقريبًا للعودة إلى الحياة الطبيعية؛ وهذا ما يجعله أشد ضررًا وفتكًا بالمرء. يوضح نورمان ذلك قائلًا: "يعيش المرءُ حالة تجعله دائم القول.. هذه ليست مشكلة عابرة، بل خطر محدق". وتُعد المتاعب المالية أحد عوامل الإجهاد المزمن؛ ومنها أيضًا العمل تحت إمرة مدير متنمر. على أنه قد تكون هناك أشكال إجهاد لا ندركها إلا بعد أن تلحق الضرر بنا فعلًا، مثل العزلة الاجتماعية، السائدة لدى كبار السن والتي عانتها جميع الفئات العمرية خلال جائحة "كوفيد19-". إذ وجدت دراسة استقصائية أجرتها "الجمعية الأميركية لعلم النفس" (APA) بالولايات المتحدة في عام 2023، أنه منذ بداية الجائحة، تسبب الإجهاد في خسائر فادحة؛ إذ تصاعدت معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة ومشاكل الصحة العقلية، وبخاصة لدى أولئك الذين تراوحت أعمارهم بين 35 و44 عامًا.
واليوم يبدو أن الإجهاد المزمن يتزايد على صعيد العالم، إذ يُصارع الناس التغير الاجتماعي والاقتصادي والبيئي السريع. وذكر "تقرير غالوب العالمي للمشاعر" لعام 2023 أن الإجهاد يدنو من مستويات قياسية في كثير من البلدان، وبخاصة أفغانستان تحت حكم "طالبان"، وسيراليون حيث أشعل ارتفاع تكاليف المعيشة احتجاجات مميتة في عام 2022.  ويميل الإجهاد إلى أن يكون أعلى وبتأثير أشد لدى المجتمعات المهمشة ذات الدخل المتدني التي تفتقر إلى موارد كافية لمعالجة هذه المشكلة. ومع ذلك، فحتى أولئك الذين يعيشون في رخاء نسبي ليسوا محصنين ضد الإجهاد؛ إذ قال ثلث المشاركين في استطلاع "الجمعية الأميركية لعلم النفس" لعام 2023 إنهم "يشعرون بالإجهاد التام مهما فعلوا لتدبير إجهادهم". ومع تصاعد الإجهاد إلى مستويات تكاد لا تُطاق، يسعى الباحثون جاهدين لمعرفة مزيد عن الآليات الدقيقة التي يؤثر من خلالها في الجسم والعقل، آملين أنه من خلال كشف حقائق أكثر وأشمل عن اشتغال الإجهاد من الناحية الفيزيولوجية، يمكننا إيجـاد سُبل لمنعه مـن إيذاء الناس بصفة دائمة. 
حتى الآن، فإن من أهم الأمور التي تم إدراكها هو أن الإجهاد ليس له أشكال أو شدة متبايـنة فحسب؛ بل يؤذينا جميعًا بطرق مختلفـة وقويـة، وفي كـل الأعمار.

العلم يطرق بـاب الإجهاد

تؤثر آلية الدفاع هذه في صحتنا عبر جميع مراحلنا العمرية؛ لذا يسعى الباحثون جاهدين لفهم كيفية حدوث ذلك على وجه الدقة.

قبل أكثر من نصف قرن، أفضت دراسة طويلة الأمد -وكانت إحدى أبكر الدراسات الموسعة من نوعها- إلى اكتشاف مثير للدهشة. ففي عام 1967، شرع الباحثون في المملكة المتحدة في تتبع صحة زُهاء 17500 موظف حكومي بريطاني تراوحت أعمارهم بين 40 و64 عامًا لدى منطقة "وايتهول" في لندن. ووجد هؤلاء الباحثون أن أصحاب المناصب المتدنية، مثل موظفي الدعم المكتبي، توفوا في زمن أبكر وبمعدل أعلى من ذوي الوظائف الحكومية الأعلى الذين كانوا ينتمون إلى صفوة المجتمع. فلسبب غير مفهوم، عانى موظفو المناصب الأدنى ارتفاعَ معدلات الإصابة بأمراض القلب التاجية. وفي دراسة متابعة أجريت على 10300 موظف حكومي تتراوح أعمارهم بين 35 و55 عامًا، أَدرك الباحثون تفسيرًا محتملًا لهذا التباين المرتبط بالسُّلم المهني؛ وهو أن ذوي الرتب الأدنى كان لهم تأثير أقل في عملية اتخاذ القرار في العمل. ونتيجة لذلك، شعر كثيرون منهم بالإجهاد؛ وبدا أن ذلك يؤثر سلبًا في صحتهم. على مرّ العقود الخمسة التي تلت تلك الدراسة، أثبت العلماء والباحثون الطبيون بما لا يدع مجالًا للشك أن الإجهاد المستمر يمكن أن يدمر صحتنا العامة. فقد ثبت أن الإجهاد، فضلًا عن زيادته خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، يُسهم في البدانة ومرض السكري. وقد أَدرك العلماء أيضًا أن للإجهاد قدرة على إضعاف جهاز المناعة وجعلنا أكثر عرضة للأمراض المُعدية. إننا جميعًا نعيش الإجهاد بصور مختلفة وبدرجات متفاوتة على نطاق واسع. وكان "هانز سيلي"، عالم الغدد الصماء ورائد بحوث الإجهاد، أول من اقترح المفهوم الأساسي للإجهاد بوصفه حاجةً للتغيير تَفرضها التحديات المختلفة في حياتنا العادية ومحيط عيشنا.  فقد وجد سيلي، بدءًا من دراسته المرجعية التي أجراها في عام 1936، أن أنواعًا مختلفة من المحفزات المزعجة للغاية -كالضوضاء العالية والضوء الشديد ودرجات الحرارة القصوى- أجبرت حيوانات المختبر على بذل كل ما في وسعها لمحاولة التأقلم.  في المجتمع الحديث، قد تتعدد مُسببات الإجهاد المحسوس، من المتاعب اليومية مثل الوجود في ازدحام مروري، إلى الأحداث الشديدة القاسية التي تغير مجرى الحياة مثل الطلاق أو وفاة شخص محبوب. والنتيجة هي "شعور المرء وكأنه لا يمتلك الموارد اللازمة لتلبية ذلك الطلب على التغيير"، كما يقول عالم النفس وطبيب الأعصاب في "جامعة شيكاغو"، "غريغ نورمان"، وهو باحث بارز في مجال الإجهاد. عندما نشعر بالإجهاد، يفرز الجسم الأدرينالين، فيتسارع النبض والتنفس وتتقلص العضلات ويرتفع ضغط الدم. ويُصاحب رد الفعل هذا ارتفاعٌ في الكورتيزول، وهو الهرمون الذي يُسهم بالشعور بأننا في وضع الكرّ أو الفرّ. والاضطراب الفجائي الذي قد يشعر به المرء حين يكون غير مستعد لرد فعل فوري مرتجل هو مثال على الإجهاد الوجيز، وهو استجابة دفاعية مثيرة نفسيًا وفيزيولوجيا ولكن بمقدور المرء أن يتعافى منها بسرعة حالَ زوال التهديد المحسوس.
أما الإجهاد المزمن فهو اضطراب شديد لا يلين ولا سبيل معه تقريبًا للعودة إلى الحياة الطبيعية؛ وهذا ما يجعله أشد ضررًا وفتكًا بالمرء. يوضح نورمان ذلك قائلًا: "يعيش المرءُ حالة تجعله دائم القول.. هذه ليست مشكلة عابرة، بل خطر محدق". وتُعد المتاعب المالية أحد عوامل الإجهاد المزمن؛ ومنها أيضًا العمل تحت إمرة مدير متنمر. على أنه قد تكون هناك أشكال إجهاد لا ندركها إلا بعد أن تلحق الضرر بنا فعلًا، مثل العزلة الاجتماعية، السائدة لدى كبار السن والتي عانتها جميع الفئات العمرية خلال جائحة "كوفيد19-". إذ وجدت دراسة استقصائية أجرتها "الجمعية الأميركية لعلم النفس" (APA) بالولايات المتحدة في عام 2023، أنه منذ بداية الجائحة، تسبب الإجهاد في خسائر فادحة؛ إذ تصاعدت معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة ومشاكل الصحة العقلية، وبخاصة لدى أولئك الذين تراوحت أعمارهم بين 35 و44 عامًا.
واليوم يبدو أن الإجهاد المزمن يتزايد على صعيد العالم، إذ يُصارع الناس التغير الاجتماعي والاقتصادي والبيئي السريع. وذكر "تقرير غالوب العالمي للمشاعر" لعام 2023 أن الإجهاد يدنو من مستويات قياسية في كثير من البلدان، وبخاصة أفغانستان تحت حكم "طالبان"، وسيراليون حيث أشعل ارتفاع تكاليف المعيشة احتجاجات مميتة في عام 2022.  ويميل الإجهاد إلى أن يكون أعلى وبتأثير أشد لدى المجتمعات المهمشة ذات الدخل المتدني التي تفتقر إلى موارد كافية لمعالجة هذه المشكلة. ومع ذلك، فحتى أولئك الذين يعيشون في رخاء نسبي ليسوا محصنين ضد الإجهاد؛ إذ قال ثلث المشاركين في استطلاع "الجمعية الأميركية لعلم النفس" لعام 2023 إنهم "يشعرون بالإجهاد التام مهما فعلوا لتدبير إجهادهم". ومع تصاعد الإجهاد إلى مستويات تكاد لا تُطاق، يسعى الباحثون جاهدين لمعرفة مزيد عن الآليات الدقيقة التي يؤثر من خلالها في الجسم والعقل، آملين أنه من خلال كشف حقائق أكثر وأشمل عن اشتغال الإجهاد من الناحية الفيزيولوجية، يمكننا إيجـاد سُبل لمنعه مـن إيذاء الناس بصفة دائمة. 
حتى الآن، فإن من أهم الأمور التي تم إدراكها هو أن الإجهاد ليس له أشكال أو شدة متبايـنة فحسب؛ بل يؤذينا جميعًا بطرق مختلفـة وقويـة، وفي كـل الأعمار.