درب البَرَكات

تمر طريق الحج الأشهر في اليابان بـ88 معبدًا على خطى راهب مشهور وُلد قبل 1250 عامًا.

اِنْحَنِ إجلالًا وإكبارًا عند بوابة المعبد. طَهّر يديك وفمك لدى النافورة. اِقْرَع الجرس. دَوّن على قُصاصة ورق اسمكَ وأمانيك واتركها في البهو الرئيس، ثم أوقد شمعة وثلاثة أعواد من البخور، وألقِ قطعًا نقدية في صندوق العطايا، واُتْلُ نصوصًا من "السوترا" البوذية. اُحصل على ختم لكتاب الحج الخاص بك. اُخرج من البوابة، وانحنِ مرة أخرى. اتّبع العلامات الحمراء إلى المعبد التالي.
كرّر ذلك 87 مرة.
أو لا تفعل. فعلى "شيكوكو هينرو"، أحد أطول دروب الحج في اليابان، يوجد كثيرٌ من العادات العريقة، ولكن مع قليل من التعاليم الصارمة. فليس عليك حتى السير على القدمين؛ فكثير من اليابانيين اليوم يؤدون هذه المناسك على متن السيارات أو في رحلات بالحافلات؛ أو بالقطارات أو الدراجات الهوائية. ويمكن السير على الدرب باتجاه يخالف اتجاه عقارب الساعة بدلًا من العكس. أو يمكن تقسيم المسيرة إلى أشطر. ويمكن ارتداء السترة البيضاء التقليدية أو الملابس الخاصة برياضة المشي كما فعل معظمنا ضمن المجموعة الصغيرة التي انضممتُ إليها في شهر سبتمبر الماضي لقطع شوط من هذا الحج يشمل سبعة معابد. قال "ديفيد موريتون"، وهو باحث متخصص في حج هينرو ويقيم في جزيرة شيكوكو: "البوذية أسلوب حياة أكثر من كونها دينًا يملي عليك الأوامر والنواهي. ومع ذلك، فإن التوقير والاحترام ههنا أمر مطلوب".
واليوم وصل اهتمام الحجاج بالمشي مسافات طويلة إلى أعلى مستوياته. فقد شهدت طريق "كامينو دي سانتياغو" الشهيرة في إسبانيا رقمًا قياسيا بلغ 446 ألف حاج في العام الماضي. ما زال حج هينرو بعيدًا عن ذلك الرقم، ولكن يبدو أن أعداد مُشاته وزواره الأجانب آخذة في الارتفاع. ويمر هذا الدرب الدائري بجميع المحافظات الأربع في شيكوكو، الجزيرة الرابعة كبرًا في اليابان. ولأن هينرو ظل يتطور على مرّ ألف سنة، فإنه يتسم بالتنوع. إذ تمر طريق التنوير هذه عبر مزارع عائلية صغيرة، وطرق سريعة مزدحمة، وشوارع الضواحي حيث تنتشر أجهزة البيع الذاتي. لكنها تكشف أيضًا عن مشاهد ساحلية ممتدة ومناظر طبيعية من حقبة "إيدو"
(1868-1603) كتلك الموجودة على الأعمال الخشبية للفنان "هيروشيغي". كان بديهيًا أن ننطلق في رحلتنا من المعبد 1 لدى محافظة توكوشيما بشمال شرق شيكوكو. وقفنا إلى جوار بِرْكته المليئة بسمك الشبوط، حيث حاول "جون هاشيبا"، وهو مرشد لدى شركة "أوكو جابان" السياحية ومقرها في كيوتو، الإجابة عن أسئلة بشأن راهب ياباني وُلد في القرن الثامن وألهمَ إنشاء درب دائري بطول يتجاوز الـ1200 كيلومتر ويضم 88 معبدًا لا تزال قيد الاستخدام منذ أكثر من ألف سنة. قال هاشيبا: "جميعنا نعرف 'كوكاي'؛ فنحن نقرأ عنه في المدرسة". وُلد كوكاي على هذه الجزيرة، وأسس إحدى الطوائف البوذية الأكثر شعبية في البلد، وتسمى "الشينغون". وهو يحظى بالتبجيل، ولكن ليس فقط بسبب تعاليمه الباطنية الخفية، والتي هي اسم على مسمى. إذ قال هاشيبا: "نحن معجبون به في الغالب لقدراته، بصفته شاعرًا وعالمًا وفنانًا. ولقد كان خطّاطًا عظيمًا". وتحولت إنجازات هذا الراهب الجوّال متعدد المواهب في الحياة الواقعية إلى مادة أسطورية، أفضت في النهاية إلى استحداث درب الحج الحالي وإشاعته. أشار هاشيبا إلى أن الإجابات الحقيقية عن أسئلتنا ستتكشَّف حال شروعنا في خوض رحلة الحج. كان شوطنا البالغ طوله ستة كيلومترات، من المعبد 20 إلى المعبد 21، محفوفًا بأشجار السرو والأرز والخيزران السامقة. كانت الجلاميد المكللة بالحبال، وهي تجسيد للآلهة، ترافقنا؛ وكذلك فعلَت تماثيل حجرية صغيرة زُيِّنت بمرايل قرمزية، وتسمى "الجيزو"، وهي حارسة الأطفال والحجاج حسب المعتقَد المحلي. وكان كوكاي، الذي يُدعى أيضًا "كوبو دايشي"، موجودًا هنا كذلك، متجسدًا في عكازات الحجاج التي نُقشت عليها كلمات يمكن ترجمتها إلى عبارة "نَطوف جنبًا إلى جنب". قالت "توموكو إيمايزومي"، المرشدة السياحية التي حجت هنا أربع مرات: "عندما أمشي، أفكر أكثر من اللازم أحيانًا، لكنني أستمر في المشي، وبعد ذلك لا أفكر في أي شيء.. لكن بطريقة مفعمة بالإيجابية". وفي معبد "التنين العظيم" (21)، والذي يعود تاريخ جزء منه إلى القرن الثاني عشر، كان من السهل أن ندرك لماذا شيدت العديد من الديانات مذابحها على قمم الجبال. زَعَمَ كوكاي في كتاباته أنه صعد إلى قمة التل وتلا المانترا مليون مرة. على الرغم من غموض بوذية طائفة الشينغون، فإن هذا جوهرها: كل شيء هو جزء من كلٍّ كوني، والتنوير يمكن تحقيقه من قِبَل الناس العاديين. قالت كيزومي، وهي امرأة التقيتها في المعبد 6 (معبد البهجة الأبدية): "لقد نلت بركات كثيرة من هينرو". لم تُفصح لي عن اسمها العائلي، لكنها منحتني سوار صداقة بلون أخضر باهت مصنوعًا من الخيوط. في الواقع، كان الحجاج على طول الدرب يتحدثون دائمًا عن لطف السكان المحليين. وتلك ثقافة "الأوسيتاي"، وهي سمة فريدة من نوعها لحج شيكوكو. قالت إيمايزومي: "أعيش هذا الأمر كل يوم تقريبًا بصفتي حاجّة. وعادةً ما أحصل منهم على حبّات ماندرين أو حلويات؛ وذات مرة أوقفَت امرأةٌ سيارتها وترجلت منها لتمنحني 300 ين". على مقربة من المعبد 1، (معبد قمة النسر) التقت مجموعتُنا "رانشو يانو"، أستاذ فن "آي-زومي" الآخذ في التلاشي. تُنتج منطقة توكوشيما الصباغ الأزرق النيلي الطبيعي. وكانت المنسوجات النيلية تُستخدم في السابق لصنع ملابس الساموراي. دعانا يانو إلى ورشته لمشاهدة جزء من عملية الإنتاج المضنية تلك. رفع الغطاء عن وعاء كبير؛ فهذا الخليط الأزرق يجب أن يُفحص ويحرَّك ثم يُترَك ليتخمر. قال وهو يرفع يديه دائمتي الزرقة: "إنه شيء حي. ويجب أن أشعر به". وتُصنع من هذه المنسوجات في النهاية أردية كيمونو رائعة. على درب هينرو، تأتي الهدايا بجميع أشكالها، وليس أقلها، فرصة التواصل مع أشخاص ما زالوا مرتبطين بالأرض، وما زالوا مرتبطين بالفن والتقاليد التي تم التخلي عنها منذ زمن بعيد في أماكن أخرى. قال يانو: "دأبَ الناس ههنا على فعل ما أفعل منذ ألف سنة. وأنا أقف في المنتصف.. بين الماضي والمستقبل". 

درب البَرَكات

تمر طريق الحج الأشهر في اليابان بـ88 معبدًا على خطى راهب مشهور وُلد قبل 1250 عامًا.

اِنْحَنِ إجلالًا وإكبارًا عند بوابة المعبد. طَهّر يديك وفمك لدى النافورة. اِقْرَع الجرس. دَوّن على قُصاصة ورق اسمكَ وأمانيك واتركها في البهو الرئيس، ثم أوقد شمعة وثلاثة أعواد من البخور، وألقِ قطعًا نقدية في صندوق العطايا، واُتْلُ نصوصًا من "السوترا" البوذية. اُحصل على ختم لكتاب الحج الخاص بك. اُخرج من البوابة، وانحنِ مرة أخرى. اتّبع العلامات الحمراء إلى المعبد التالي.
كرّر ذلك 87 مرة.
أو لا تفعل. فعلى "شيكوكو هينرو"، أحد أطول دروب الحج في اليابان، يوجد كثيرٌ من العادات العريقة، ولكن مع قليل من التعاليم الصارمة. فليس عليك حتى السير على القدمين؛ فكثير من اليابانيين اليوم يؤدون هذه المناسك على متن السيارات أو في رحلات بالحافلات؛ أو بالقطارات أو الدراجات الهوائية. ويمكن السير على الدرب باتجاه يخالف اتجاه عقارب الساعة بدلًا من العكس. أو يمكن تقسيم المسيرة إلى أشطر. ويمكن ارتداء السترة البيضاء التقليدية أو الملابس الخاصة برياضة المشي كما فعل معظمنا ضمن المجموعة الصغيرة التي انضممتُ إليها في شهر سبتمبر الماضي لقطع شوط من هذا الحج يشمل سبعة معابد. قال "ديفيد موريتون"، وهو باحث متخصص في حج هينرو ويقيم في جزيرة شيكوكو: "البوذية أسلوب حياة أكثر من كونها دينًا يملي عليك الأوامر والنواهي. ومع ذلك، فإن التوقير والاحترام ههنا أمر مطلوب".
واليوم وصل اهتمام الحجاج بالمشي مسافات طويلة إلى أعلى مستوياته. فقد شهدت طريق "كامينو دي سانتياغو" الشهيرة في إسبانيا رقمًا قياسيا بلغ 446 ألف حاج في العام الماضي. ما زال حج هينرو بعيدًا عن ذلك الرقم، ولكن يبدو أن أعداد مُشاته وزواره الأجانب آخذة في الارتفاع. ويمر هذا الدرب الدائري بجميع المحافظات الأربع في شيكوكو، الجزيرة الرابعة كبرًا في اليابان. ولأن هينرو ظل يتطور على مرّ ألف سنة، فإنه يتسم بالتنوع. إذ تمر طريق التنوير هذه عبر مزارع عائلية صغيرة، وطرق سريعة مزدحمة، وشوارع الضواحي حيث تنتشر أجهزة البيع الذاتي. لكنها تكشف أيضًا عن مشاهد ساحلية ممتدة ومناظر طبيعية من حقبة "إيدو"
(1868-1603) كتلك الموجودة على الأعمال الخشبية للفنان "هيروشيغي". كان بديهيًا أن ننطلق في رحلتنا من المعبد 1 لدى محافظة توكوشيما بشمال شرق شيكوكو. وقفنا إلى جوار بِرْكته المليئة بسمك الشبوط، حيث حاول "جون هاشيبا"، وهو مرشد لدى شركة "أوكو جابان" السياحية ومقرها في كيوتو، الإجابة عن أسئلة بشأن راهب ياباني وُلد في القرن الثامن وألهمَ إنشاء درب دائري بطول يتجاوز الـ1200 كيلومتر ويضم 88 معبدًا لا تزال قيد الاستخدام منذ أكثر من ألف سنة. قال هاشيبا: "جميعنا نعرف 'كوكاي'؛ فنحن نقرأ عنه في المدرسة". وُلد كوكاي على هذه الجزيرة، وأسس إحدى الطوائف البوذية الأكثر شعبية في البلد، وتسمى "الشينغون". وهو يحظى بالتبجيل، ولكن ليس فقط بسبب تعاليمه الباطنية الخفية، والتي هي اسم على مسمى. إذ قال هاشيبا: "نحن معجبون به في الغالب لقدراته، بصفته شاعرًا وعالمًا وفنانًا. ولقد كان خطّاطًا عظيمًا". وتحولت إنجازات هذا الراهب الجوّال متعدد المواهب في الحياة الواقعية إلى مادة أسطورية، أفضت في النهاية إلى استحداث درب الحج الحالي وإشاعته. أشار هاشيبا إلى أن الإجابات الحقيقية عن أسئلتنا ستتكشَّف حال شروعنا في خوض رحلة الحج. كان شوطنا البالغ طوله ستة كيلومترات، من المعبد 20 إلى المعبد 21، محفوفًا بأشجار السرو والأرز والخيزران السامقة. كانت الجلاميد المكللة بالحبال، وهي تجسيد للآلهة، ترافقنا؛ وكذلك فعلَت تماثيل حجرية صغيرة زُيِّنت بمرايل قرمزية، وتسمى "الجيزو"، وهي حارسة الأطفال والحجاج حسب المعتقَد المحلي. وكان كوكاي، الذي يُدعى أيضًا "كوبو دايشي"، موجودًا هنا كذلك، متجسدًا في عكازات الحجاج التي نُقشت عليها كلمات يمكن ترجمتها إلى عبارة "نَطوف جنبًا إلى جنب". قالت "توموكو إيمايزومي"، المرشدة السياحية التي حجت هنا أربع مرات: "عندما أمشي، أفكر أكثر من اللازم أحيانًا، لكنني أستمر في المشي، وبعد ذلك لا أفكر في أي شيء.. لكن بطريقة مفعمة بالإيجابية". وفي معبد "التنين العظيم" (21)، والذي يعود تاريخ جزء منه إلى القرن الثاني عشر، كان من السهل أن ندرك لماذا شيدت العديد من الديانات مذابحها على قمم الجبال. زَعَمَ كوكاي في كتاباته أنه صعد إلى قمة التل وتلا المانترا مليون مرة. على الرغم من غموض بوذية طائفة الشينغون، فإن هذا جوهرها: كل شيء هو جزء من كلٍّ كوني، والتنوير يمكن تحقيقه من قِبَل الناس العاديين. قالت كيزومي، وهي امرأة التقيتها في المعبد 6 (معبد البهجة الأبدية): "لقد نلت بركات كثيرة من هينرو". لم تُفصح لي عن اسمها العائلي، لكنها منحتني سوار صداقة بلون أخضر باهت مصنوعًا من الخيوط. في الواقع، كان الحجاج على طول الدرب يتحدثون دائمًا عن لطف السكان المحليين. وتلك ثقافة "الأوسيتاي"، وهي سمة فريدة من نوعها لحج شيكوكو. قالت إيمايزومي: "أعيش هذا الأمر كل يوم تقريبًا بصفتي حاجّة. وعادةً ما أحصل منهم على حبّات ماندرين أو حلويات؛ وذات مرة أوقفَت امرأةٌ سيارتها وترجلت منها لتمنحني 300 ين". على مقربة من المعبد 1، (معبد قمة النسر) التقت مجموعتُنا "رانشو يانو"، أستاذ فن "آي-زومي" الآخذ في التلاشي. تُنتج منطقة توكوشيما الصباغ الأزرق النيلي الطبيعي. وكانت المنسوجات النيلية تُستخدم في السابق لصنع ملابس الساموراي. دعانا يانو إلى ورشته لمشاهدة جزء من عملية الإنتاج المضنية تلك. رفع الغطاء عن وعاء كبير؛ فهذا الخليط الأزرق يجب أن يُفحص ويحرَّك ثم يُترَك ليتخمر. قال وهو يرفع يديه دائمتي الزرقة: "إنه شيء حي. ويجب أن أشعر به". وتُصنع من هذه المنسوجات في النهاية أردية كيمونو رائعة. على درب هينرو، تأتي الهدايا بجميع أشكالها، وليس أقلها، فرصة التواصل مع أشخاص ما زالوا مرتبطين بالأرض، وما زالوا مرتبطين بالفن والتقاليد التي تم التخلي عنها منذ زمن بعيد في أماكن أخرى. قال يانو: "دأبَ الناس ههنا على فعل ما أفعل منذ ألف سنة. وأنا أقف في المنتصف.. بين الماضي والمستقبل".