ميــــــاه من صُلب الطـباشيـر
خُض في مياه جدول طباشيري إنجليزي، يصل عمقه إلى متر وتظلله أشجار صفصاف وجار ماء،وستشعرُ بسرعة جريان مياهه وبرودتها حول ركبتيك وفخذيك.
أما الحصى المرصوف تحت قدميك فيتبقّع بأشعة شمس تبلغ قاع الجدول. في كل مكان من حولك، ما مِن اضطراب يشوب وتيرة انسياب المياه واستقرارها، ولا تدفق فجائي لتيارها. ولأن مياه الجداول الطباشيرية تتغذى من الينابيع ولا يجد إلا طميٌ قليل سبيلَه إليها، فإنها صافية تمام الصفاء وشفافة كزجاج أحواض السمك؛ حتى إن أسماك السلمون المرقط (التروتة) تبدو داخلها وكأنها معلّقة في الهواء. تستمد هذه الجداول سِمَتها من الصخور التي تجري عليها مياهها؛ فهي صخور قلوية غنية بالمعادن، وتحوي كربونات الكالسيوم الذائبة من دون أي رواسب تقريبًا، وتتدفق تيارات مياهها إلى البحر على مدى كيلومترات عديدة فوق قاع من حصى الصوان الخالي من الأوحال. تنبجس هذه الجداول من ينابيع تشق طريقها من بين طبقات المياه الجوفية العميقة في الصخور الطباشيرية، لتجري عبر وديان مليئة بنباتات النعناع المائي والتكتلات الكثيفة من نبات أذن الفأر العقربي، والتي غالبًا ما تكون كثيفة التشابك بالأعشاب التي بدورها تشكل ملاذًا لجميع أشكال الحياة في الجدول. ولا تخضع هذه الجداول لتدفقات الأنهار التي تجري فوق صخور أكثر صلابة، لذا تتدفق بانتظام عبر الريف الإنجليزي ذي الصخور الطباشيرية، والذي ترتسم تضاريسه المتموجة برقّة عبر المناطق الجنوبية والشرقية من البلد. الطباشير هو نوع نقي من أحجار جير تتشكل من أصداف الكائنات البحرية الصغيرة. توجد رواسب الصخور الطباشيرية في جميع أنحاء العالم، غير أن التأثيرات الجيولوجية لتغير سطح الأرض وارتفاع مستوى جبال الألب منذ نحو 40 مليون سنة أدت إلى دفع مساحة واسعة من هذه الصخور إلى السطح في إنجلترا. وهي ذات طبيعة مسامية وهشة، إذ يتكون ما يصل إلى 40 بالمئة من حجمها من مسافات فراغية بين الحبيبات الصخرية. يغور المطر المتساقط على الطباشير في الأرض، ويستغرق أحيانًا أشهرًا حتى يترشح وتتسرب مياهه عبر التلال؛ وبهذه الطريقة، تتمتع الأنهار بنوع من الثبات والاستقرار في جريانها. فلا تتسبب العواصف المطرية في فيضانات، أما في حالة الجفاف فتستمر هذه الأنهار في الجريان. كما تكتسب المياه درجة حرارة الصخور التي تتراوح ما بين 10 و12 درجة مئوية طوال العام؛ ويعني ذلك أن النباتات والحيوانات التي تعيش في الجداول الطباشيرية يمكنها أن تعتمد على استقرار الجداول واستمراريتها. وإنْ جربتَ الغطس في جدول طباشيري، فستجد نفسك "في عالم آخر، يشدك ويغمرك تمامًا فلا يشغل بالك أي شيء آخر في العالم"، كما تقول "نيكولا كروكفورد"، غطاسة أنهار متمرسة ونصيرة بيئة لدى "الجمعية الملكية لحماية الطيور". توجد هناك نباتات مائية مزهرة من فصيلة الحوذان، تتفتح أزهارها البيضاء في البدء تحت الماء، بالإضافة إلى رُقع من نباتات خضراء زاهية من فصيلة بهائيات الشعر، تسبح في ظلالها أسماك التملوس والسلمون المرقط. وفي قاع الجدول المرصوف بالحصى، تبدو يرقات ذباب القمص وكأنها عصي صغيرة. أما صغار سمك السلمون المرقط، برقطها البَبْرية ولمعانها في الماء، فتَلزَم مكانها في هذه الزاوية أو تلك من التيار دون أن تكف أجسامها عن التحرك. وبعيدًا في ظلمة الجدول الخضراء الداكنة، تتخفى الأسماك الأكبر حجمًا بحذر. كل من له ارتباط بهذه الأنهار يتحدث عنها بمشاعر حب معلَنة. "زام بارينغ"، الذي يدير مع شقيقه وشقيقاته إقامة "غرانج" في قرية "إيتشن ستوك" بمقاطعة هامبشاير، يقول إن كرومه "توجد رؤوسها في هضبات هامبشاير الطباشيرية أما أقدامها فتنحدر في منابع نهر إيتشن المتلألئة". ويضيف بالقول إن الخوض في أعماق هذه الروافد التي تجري أسفل مزرعة الكروم هو أشبه "برحلة متخيَّلة إلى جنة عائمة". بارينغ صياد سمك طويل الباع وأحد نائبَي رئيس "مؤسسة ويسكس ريفرز"، وقد ساعد في قيادة عمليات لا تحصى لترميم الأنهار والاحتفاء حتى بأصغر الجداول. يقول: "ستجد كل أنواع الجَمال في مساحة ماء لا تتجاوز ربع بوصة". ويقول "راسل بيغز"، الذي يدعو إلى توفير احتياجات الجداول الطباشيرية في شرق إنجلترا، إن نهر "بابينغلي" الصغير أنقذ حياته. فقد كان عمله في مجال إعادة تدوير النفايات يمر بصعوبات كبيرة، ما دفعه إلى حافة اليأس. قال: "سأعود إلى المنزل و.."، ثم توقفَ لحظة قبل أن يستطرد قائلًا: "ولكن بعد ذلك، كنت آتي إلى هنا، وأتمشى على ضفاف النهر.. أعتقد أنني لو كنت أقطن شقة في وسط المدينة، فلن أكون هنا معكم اليوم؛ هكذا أتصور الأمر. إن هذا المكان يعطيك هدفًا من الوجود".
ميــــــاه من صُلب الطـباشيـر
خُض في مياه جدول طباشيري إنجليزي، يصل عمقه إلى متر وتظلله أشجار صفصاف وجار ماء،وستشعرُ بسرعة جريان مياهه وبرودتها حول ركبتيك وفخذيك.
أما الحصى المرصوف تحت قدميك فيتبقّع بأشعة شمس تبلغ قاع الجدول. في كل مكان من حولك، ما مِن اضطراب يشوب وتيرة انسياب المياه واستقرارها، ولا تدفق فجائي لتيارها. ولأن مياه الجداول الطباشيرية تتغذى من الينابيع ولا يجد إلا طميٌ قليل سبيلَه إليها، فإنها صافية تمام الصفاء وشفافة كزجاج أحواض السمك؛ حتى إن أسماك السلمون المرقط (التروتة) تبدو داخلها وكأنها معلّقة في الهواء. تستمد هذه الجداول سِمَتها من الصخور التي تجري عليها مياهها؛ فهي صخور قلوية غنية بالمعادن، وتحوي كربونات الكالسيوم الذائبة من دون أي رواسب تقريبًا، وتتدفق تيارات مياهها إلى البحر على مدى كيلومترات عديدة فوق قاع من حصى الصوان الخالي من الأوحال. تنبجس هذه الجداول من ينابيع تشق طريقها من بين طبقات المياه الجوفية العميقة في الصخور الطباشيرية، لتجري عبر وديان مليئة بنباتات النعناع المائي والتكتلات الكثيفة من نبات أذن الفأر العقربي، والتي غالبًا ما تكون كثيفة التشابك بالأعشاب التي بدورها تشكل ملاذًا لجميع أشكال الحياة في الجدول. ولا تخضع هذه الجداول لتدفقات الأنهار التي تجري فوق صخور أكثر صلابة، لذا تتدفق بانتظام عبر الريف الإنجليزي ذي الصخور الطباشيرية، والذي ترتسم تضاريسه المتموجة برقّة عبر المناطق الجنوبية والشرقية من البلد. الطباشير هو نوع نقي من أحجار جير تتشكل من أصداف الكائنات البحرية الصغيرة. توجد رواسب الصخور الطباشيرية في جميع أنحاء العالم، غير أن التأثيرات الجيولوجية لتغير سطح الأرض وارتفاع مستوى جبال الألب منذ نحو 40 مليون سنة أدت إلى دفع مساحة واسعة من هذه الصخور إلى السطح في إنجلترا. وهي ذات طبيعة مسامية وهشة، إذ يتكون ما يصل إلى 40 بالمئة من حجمها من مسافات فراغية بين الحبيبات الصخرية. يغور المطر المتساقط على الطباشير في الأرض، ويستغرق أحيانًا أشهرًا حتى يترشح وتتسرب مياهه عبر التلال؛ وبهذه الطريقة، تتمتع الأنهار بنوع من الثبات والاستقرار في جريانها. فلا تتسبب العواصف المطرية في فيضانات، أما في حالة الجفاف فتستمر هذه الأنهار في الجريان. كما تكتسب المياه درجة حرارة الصخور التي تتراوح ما بين 10 و12 درجة مئوية طوال العام؛ ويعني ذلك أن النباتات والحيوانات التي تعيش في الجداول الطباشيرية يمكنها أن تعتمد على استقرار الجداول واستمراريتها. وإنْ جربتَ الغطس في جدول طباشيري، فستجد نفسك "في عالم آخر، يشدك ويغمرك تمامًا فلا يشغل بالك أي شيء آخر في العالم"، كما تقول "نيكولا كروكفورد"، غطاسة أنهار متمرسة ونصيرة بيئة لدى "الجمعية الملكية لحماية الطيور". توجد هناك نباتات مائية مزهرة من فصيلة الحوذان، تتفتح أزهارها البيضاء في البدء تحت الماء، بالإضافة إلى رُقع من نباتات خضراء زاهية من فصيلة بهائيات الشعر، تسبح في ظلالها أسماك التملوس والسلمون المرقط. وفي قاع الجدول المرصوف بالحصى، تبدو يرقات ذباب القمص وكأنها عصي صغيرة. أما صغار سمك السلمون المرقط، برقطها البَبْرية ولمعانها في الماء، فتَلزَم مكانها في هذه الزاوية أو تلك من التيار دون أن تكف أجسامها عن التحرك. وبعيدًا في ظلمة الجدول الخضراء الداكنة، تتخفى الأسماك الأكبر حجمًا بحذر. كل من له ارتباط بهذه الأنهار يتحدث عنها بمشاعر حب معلَنة. "زام بارينغ"، الذي يدير مع شقيقه وشقيقاته إقامة "غرانج" في قرية "إيتشن ستوك" بمقاطعة هامبشاير، يقول إن كرومه "توجد رؤوسها في هضبات هامبشاير الطباشيرية أما أقدامها فتنحدر في منابع نهر إيتشن المتلألئة". ويضيف بالقول إن الخوض في أعماق هذه الروافد التي تجري أسفل مزرعة الكروم هو أشبه "برحلة متخيَّلة إلى جنة عائمة". بارينغ صياد سمك طويل الباع وأحد نائبَي رئيس "مؤسسة ويسكس ريفرز"، وقد ساعد في قيادة عمليات لا تحصى لترميم الأنهار والاحتفاء حتى بأصغر الجداول. يقول: "ستجد كل أنواع الجَمال في مساحة ماء لا تتجاوز ربع بوصة". ويقول "راسل بيغز"، الذي يدعو إلى توفير احتياجات الجداول الطباشيرية في شرق إنجلترا، إن نهر "بابينغلي" الصغير أنقذ حياته. فقد كان عمله في مجال إعادة تدوير النفايات يمر بصعوبات كبيرة، ما دفعه إلى حافة اليأس. قال: "سأعود إلى المنزل و.."، ثم توقفَ لحظة قبل أن يستطرد قائلًا: "ولكن بعد ذلك، كنت آتي إلى هنا، وأتمشى على ضفاف النهر.. أعتقد أنني لو كنت أقطن شقة في وسط المدينة، فلن أكون هنا معكم اليوم؛ هكذا أتصور الأمر. إن هذا المكان يعطيك هدفًا من الوجود".