هجـرات مَلكيــة
في يوم حار وصحو من أيام أكتوبر، في منطقة "هيل كانتري" بولاية تكساس، راح "أندريه غرين الثاني" يكشط فراشة ملكية بلطف. انحنى على مقعده المرتجَل في المختبر وهو يقرص ببراعة أجنحتها اللامعة بين الإبهام والسبابة، مُمرِّرًا قطعة من ورق الصنفرة أسفل صدرها لإزالة بعض الشعيرات الرفيعة. أنشأ غرين وزملاؤه الباحثون أماكن مؤقتة داخل أحد أكواخ الصيد الفندقية العديدة بالمنطقة، تصطف على جدرانه رؤوس محنطة لطرائد محلية وأخرى غريبة. لكن غرين، أستاذ علم البيئة والبيولوجيا التطورية في "جامعة ميشيغان" ومستكشف لدى ناشيونال جيوغرافيك، لم يكن يتطلع سوى إلى نحو ثلاثين فراشة كان قد اصطادها في وقت سابق من ذلك اليوم. وضع نقطة من صمغ بين جناحي تلك الفراشة في يده، ثم ثبَّت عليها جهاز استشعار مصممًّا خصيصا لتلك الغاية، ويتّخذ شكل كومة رقائق حاسوبية تُشغَّل بلوح شمسي مصغَّر. لا يتجاوز وزن الجهاز مثقال ثلاث حبات أرز. كانت رفرفة الأجنحة الناعمة الصوتَ الوحيد في الغرفة. هنالك توقع غرين ومعاونوه أن تحمل هذه الفراشة الملكية ورفيقاتها أجهزة الاستشعار إلى جبال وسط المكسيك، على بعد 1300 كيلومتر جنوبًا. وفي غضون أسابيع قليلة، سيتتبع الباحثون الفراشات الملكية إلى المكسيك ليحاولوا رصد الإشارات الصادرة عن هوائيات أجهزة الاستشعار. وإنْ تمكنوا من استعادة فراشة أو أكثر -وذاك احتمال ضئيل- فسيكون بمقدورهم الوصول إلى بيانات الضوء ودرجة الحرارة التي جمعتها أجهزة الاستشعار في الطريق، مما يتيح لهم رسم خريطة لمسار كل فراشة. حظي هذا المشروع، على غرار المشروعات البحثية ذات الصلة بالفراشات الملكية في سائر أنحاء أميركا الشمالية، بالعون من متطوعين حريصين على مساعدة هذا النوع من الفراشات. بعدما أدرك زملاء غرين أن راكبي الدراجات يسيرون بسرعة الفراشات الملكية نفسها، استعانوا بدرّاجين لاختبار دقة أجهزة الاستشعار عبر حملها في جولات على مرّ أيام. أجرى غرين تجارب مخبرية للتأكد من أن أجهزة الاستشعار لا تعرقل طيران الفراشات. هنالك، باتت تلك التقنية الجديدة على وشك الخضوع لأول اختبار لها في العالم الحقيقي. لمّا انتهى غرين من تثبيت المستشعرات، جلس على كرسي جلدي محشو، وطفق يراقب الفراشات في القفص الشبكي قبالته. قال: "سنكون سعداء هذا العام إذا التقطنا أي نوع من الإشارات في المكسيك". قد يتطلب جمع بيانات ذات جدوى عدة مواسم أخرى من التجربة والخطأ، لكن غرين رجل صبور. ابتسم وهو يصرح بنبرة تهوين: "إننا إزاء فرصة حقيقية لفهم نظام الهجرة هذا تحديدًا". حين انخفضت درجة حرارة ذلك اليوم، حمل غرين قفص الفراشات إلى الخارج، وشق طريقه إلى بستان جوز البقّان أسفل الكوخ صوب سفح التلة. هناك إلى جوار جدول صغير، كانت مئات الفراشات الملكية المهاجرة تحوم حول الضوء الممتد. أخرج غرين الفراشات الحاملة لأجهزة الاستشعار واحدة تلو أخرى، ووضعها بحذر شديد على الأغصان الدانية، فبدت مثل زخارف زجاجية. وإنْ سارت الأمور على ما يرام فستواصل في الغد رحلتها جنوبًا حاملة معها أسرارها. إن نظام الهجرة هذا الذي يُذهل غرين يُعد أحد أكثر الرحلات الملحمية خطورة على وجه الأرض. تعيش الفراشات الملكية في ربوع العالم -بأميركا الجنوبية ومنطقة الكاريبي وأستراليا وأوروبا وأماكن أخرى- إلا أن تلك المتوطنة بأميركا الشمالية تتسم بهجرتها الموسمية الطموح على نحو استثنائي. ففي كل خريف، تحلق هذه الفراشات في شمال الولايات المتحدة وجنوب كندا نحو الجنوب؛ إذ تطير أفواجها الأولى معًا على امتداد رحلة طولها 5000 كيلومتر لا تعرفها سوى الأجيال السابقة. وتجتمع الفراشات الناجية في وسط المكسيك، حيث تُمضي الشتاء في أيكات التنوب نفسها التي آوت أسلافها، قريبهم وبعيدهم، في العام السابق.
هجـرات مَلكيــة
في يوم حار وصحو من أيام أكتوبر، في منطقة "هيل كانتري" بولاية تكساس، راح "أندريه غرين الثاني" يكشط فراشة ملكية بلطف. انحنى على مقعده المرتجَل في المختبر وهو يقرص ببراعة أجنحتها اللامعة بين الإبهام والسبابة، مُمرِّرًا قطعة من ورق الصنفرة أسفل صدرها لإزالة بعض الشعيرات الرفيعة. أنشأ غرين وزملاؤه الباحثون أماكن مؤقتة داخل أحد أكواخ الصيد الفندقية العديدة بالمنطقة، تصطف على جدرانه رؤوس محنطة لطرائد محلية وأخرى غريبة. لكن غرين، أستاذ علم البيئة والبيولوجيا التطورية في "جامعة ميشيغان" ومستكشف لدى ناشيونال جيوغرافيك، لم يكن يتطلع سوى إلى نحو ثلاثين فراشة كان قد اصطادها في وقت سابق من ذلك اليوم. وضع نقطة من صمغ بين جناحي تلك الفراشة في يده، ثم ثبَّت عليها جهاز استشعار مصممًّا خصيصا لتلك الغاية، ويتّخذ شكل كومة رقائق حاسوبية تُشغَّل بلوح شمسي مصغَّر. لا يتجاوز وزن الجهاز مثقال ثلاث حبات أرز. كانت رفرفة الأجنحة الناعمة الصوتَ الوحيد في الغرفة. هنالك توقع غرين ومعاونوه أن تحمل هذه الفراشة الملكية ورفيقاتها أجهزة الاستشعار إلى جبال وسط المكسيك، على بعد 1300 كيلومتر جنوبًا. وفي غضون أسابيع قليلة، سيتتبع الباحثون الفراشات الملكية إلى المكسيك ليحاولوا رصد الإشارات الصادرة عن هوائيات أجهزة الاستشعار. وإنْ تمكنوا من استعادة فراشة أو أكثر -وذاك احتمال ضئيل- فسيكون بمقدورهم الوصول إلى بيانات الضوء ودرجة الحرارة التي جمعتها أجهزة الاستشعار في الطريق، مما يتيح لهم رسم خريطة لمسار كل فراشة. حظي هذا المشروع، على غرار المشروعات البحثية ذات الصلة بالفراشات الملكية في سائر أنحاء أميركا الشمالية، بالعون من متطوعين حريصين على مساعدة هذا النوع من الفراشات. بعدما أدرك زملاء غرين أن راكبي الدراجات يسيرون بسرعة الفراشات الملكية نفسها، استعانوا بدرّاجين لاختبار دقة أجهزة الاستشعار عبر حملها في جولات على مرّ أيام. أجرى غرين تجارب مخبرية للتأكد من أن أجهزة الاستشعار لا تعرقل طيران الفراشات. هنالك، باتت تلك التقنية الجديدة على وشك الخضوع لأول اختبار لها في العالم الحقيقي. لمّا انتهى غرين من تثبيت المستشعرات، جلس على كرسي جلدي محشو، وطفق يراقب الفراشات في القفص الشبكي قبالته. قال: "سنكون سعداء هذا العام إذا التقطنا أي نوع من الإشارات في المكسيك". قد يتطلب جمع بيانات ذات جدوى عدة مواسم أخرى من التجربة والخطأ، لكن غرين رجل صبور. ابتسم وهو يصرح بنبرة تهوين: "إننا إزاء فرصة حقيقية لفهم نظام الهجرة هذا تحديدًا". حين انخفضت درجة حرارة ذلك اليوم، حمل غرين قفص الفراشات إلى الخارج، وشق طريقه إلى بستان جوز البقّان أسفل الكوخ صوب سفح التلة. هناك إلى جوار جدول صغير، كانت مئات الفراشات الملكية المهاجرة تحوم حول الضوء الممتد. أخرج غرين الفراشات الحاملة لأجهزة الاستشعار واحدة تلو أخرى، ووضعها بحذر شديد على الأغصان الدانية، فبدت مثل زخارف زجاجية. وإنْ سارت الأمور على ما يرام فستواصل في الغد رحلتها جنوبًا حاملة معها أسرارها. إن نظام الهجرة هذا الذي يُذهل غرين يُعد أحد أكثر الرحلات الملحمية خطورة على وجه الأرض. تعيش الفراشات الملكية في ربوع العالم -بأميركا الجنوبية ومنطقة الكاريبي وأستراليا وأوروبا وأماكن أخرى- إلا أن تلك المتوطنة بأميركا الشمالية تتسم بهجرتها الموسمية الطموح على نحو استثنائي. ففي كل خريف، تحلق هذه الفراشات في شمال الولايات المتحدة وجنوب كندا نحو الجنوب؛ إذ تطير أفواجها الأولى معًا على امتداد رحلة طولها 5000 كيلومتر لا تعرفها سوى الأجيال السابقة. وتجتمع الفراشات الناجية في وسط المكسيك، حيث تُمضي الشتاء في أيكات التنوب نفسها التي آوت أسلافها، قريبهم وبعيدهم، في العام السابق.