لعب الكبار.. ضــرورة
في مناسبة نادرة تَلحَّفَت فيها العاصمة واشنطن بالبياض في أعقاب عاصفة ثلجية، شهدت المدينة تحولًا ملحوظًا. فقد صار "منتزه ناشيونال مول" يبدو كمشهد من القمر، واتخذت المعالم الأثرية شكلا غريبًا، وتحول مبنى "الكابيتول" الأميركي إلى قلعة تطفو فوق سحابة. وعندما استيقظت على هذا المشهد الآسر في صباح أحد أيام ديسمبر، سارعتُ إلى ارتداء أدفأ ما لدي من ملابس واندفعت إلى الخارج. فقد كنت أرغب في تشكيل رجل ثلج، لكن وعلى أنني كنت أكوّر كرة الثلج بلطف على الأرضية البيضاء اللامعة، فإنها أبت أن تتشكل. أحسستُ بالانهزام؛ فما كان مني إلا أن انكفأت على الثلج المنسحق وذراعاي وساقاي منفرجة. ولمّا كنت قد أنجزت نصف العمل المطلوب لتشكيل مَلاك ثلج، حرّكتُ أطرافي إلى الأمام والخلف لإتمام المَهمة. ثم لاحظتُ أن جمهورًا كان يتابع عملي.. زوجان بمظهر أنيق يحملان أكواب القهوة في أيديهما المغطاة بالقفازات. وبدت منهما علامات الاستهجان مثلما كان البخار ينبعث من مشروبهما. احمرَّ وجهي من فرط الإحراج وأنا أتلعثم في الإجابة عن سؤالهما غير المعلن: أليس لديك عمل أفضل لتقومين به؟ لا شك أن مشهد امرأة في منتصف العمر تلعب بمفردها في الثلج هو مشهدٌ غريب؛ ولكن ربما لا ينبغي أن يكون كذلك. فقد أشار بحثٌ جديد إلى أن الكبار في العصر الحالي يعانون فرط الجدية. فلقد قمعنا غريزة اللعب الطبيعية لدينا، وهو ما يسبب جميع أنواع المشكلات.. لنا، ولأطفالنا، ولكوكبنا. "إن نقيض اللعب ليس العمل، بل الاكتئاب. فنقص اللعب لدى الكبار أصبح أزمة صحة عامة"، كما يقول "ستيوارت براون"، طبيب نفسي وباحث في مجال اللعب. فقد يبدو اللعب أمرًا تافهًا، لكن الدراسات الحديثة تشير إلى أن أهميته قد لا تقل عن أهمية النوم لدى الثدييات وربما جميع الفقاريات. ففي صيف عام 2023، اكتشف العلماء أن دافع اللعب ينشأ في جذع الدماغ، وهو أحد أقدم أجزاء نظامنا العصبي من الناحية التطورية. فحتى لو أزيلت القشرة الدماغية لجُرذ بالكامل، ستظل الرغبة في اللعب ملازمة له. فالمرح يساعد بعض الحيوانات الصغيرة على تعلم السيطرة على أجسامها وبيئاتها؛ وما إنْ تحقق هذه السيطرة حتى يتوقف معظمها عن اللعب عندما تصبح بالغة. ومع ذلك، لا يتوقف بعضها عن اللعب أبدًا (وهي مجموعة تضم الذئاب والغربان والدلافين والبشر والقردة ورئيسات أخرى) وقد بدأ علماء الأحياء بالكاد في معرفة سبب ذلك.
أحد الاحتمالات هو أن لعب الكبار يمكن أن يؤدي إلى اكتشافات مفيدة، وهي نظرية تدعمها دراسة أُجريت على قردة المكاك طويلة الذيل في بالي بإندونيسيا. فخلال إعداد الباحثة في مجال الحيوان "كاميلا سيني" أطروحتها لنيل الدكتوراه من "جامعة ليثبريدج"، تركت نوعين من صناديق الألغاز لهذه القردة من أجل حلها. فكان الوصول إلى الطعام الموجود بالداخل يتطلب من هذه الحيوانات إما إسقاط حجر في الحاوية أو استخدامه لتضرب به الصندوق. ووجدت الباحثةُ أن قرَدة المكاك التي كانت قد شُوهدت سابقًا وهي تُسقط حَجرًا من أجل المرح كانت أكثر احتمالا أن تحل لغز إسقاط الحجر، فيما تلك التي كانت قد اكتشفت متعة طقطقة الحجر بعضه ببعض توصلت إلى حل اللغز الإيقاعي. وتشير هذه النتيجة أيضًا إلى أنه في مرحلة قديمة من تاريخنا التطوري، توصل إنسان بدائي لعوب إلى مفهوم الأدوات الحجرية. ويقول براون إن الرغبة في اللعب لا تزال حتى في العصر الحالي تشكل أساس معظم ما شهدته البشرية من اختراعات وأعمال فنية وإنجازات علمية عظمى. ويضيف قائلًا: "عندما أجريتُ مقابلات مع متوجين بجائزة نوبل، ذهلت لكون معظمهم لم يفصلوا بين العمل واللعب. وكانت مختبراتهم بمنزلة ساحات للعب". وإذا كان اللعب بالأشياء يفضي في بعض الأحيان إلى تطبيقات عملية مباشرة، فإن له فائدة عامة أيضًا، كما يقول عالم السلوك الحيواني "مارك بيكوف". يضيف قائلًا: "تقوم معظم أشكال اللعب على الاستعداد للتعامل مع الأمور غير المتوقعة من خلال توسيع الذخيرة السلوكية". فعندما تلعب الحيوانات بمفردها -مثل الماعز التي تتواثب بمرح وتنزل على قوائمها بكل رعونة- فإنها تتعلم درسين: كيفية استعادة التوازن بعد العثرات، وبصورة أعَم، كيفية الحفاظ على رباطة الجأش عندما تنحو الأمور منحى غير متوقع. "إن اللعب يمنحك الفرصة للتعامل مع عدم اليقين والمفاجأة في بيئة آمنة"، كما يقول بيكوف. وذلك ما يفسر السبب الذي يجعل الحيوانات التي تحتل مجالات آمنة يمكن التنبؤ بها، لا تلعب بالقدر نفسه الذي يلعب به البالغون؛ فيما تقوم الكائنات التي يجب أن تتأقلم من أجل البقاء باللعب مثل الكبار.
اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab
لعب الكبار.. ضــرورة
في مناسبة نادرة تَلحَّفَت فيها العاصمة واشنطن بالبياض في أعقاب عاصفة ثلجية، شهدت المدينة تحولًا ملحوظًا. فقد صار "منتزه ناشيونال مول" يبدو كمشهد من القمر، واتخذت المعالم الأثرية شكلا غريبًا، وتحول مبنى "الكابيتول" الأميركي إلى قلعة تطفو فوق سحابة. وعندما استيقظت على هذا المشهد الآسر في صباح أحد أيام ديسمبر، سارعتُ إلى ارتداء أدفأ ما لدي من ملابس واندفعت إلى الخارج. فقد كنت أرغب في تشكيل رجل ثلج، لكن وعلى أنني كنت أكوّر كرة الثلج بلطف على الأرضية البيضاء اللامعة، فإنها أبت أن تتشكل. أحسستُ بالانهزام؛ فما كان مني إلا أن انكفأت على الثلج المنسحق وذراعاي وساقاي منفرجة. ولمّا كنت قد أنجزت نصف العمل المطلوب لتشكيل مَلاك ثلج، حرّكتُ أطرافي إلى الأمام والخلف لإتمام المَهمة. ثم لاحظتُ أن جمهورًا كان يتابع عملي.. زوجان بمظهر أنيق يحملان أكواب القهوة في أيديهما المغطاة بالقفازات. وبدت منهما علامات الاستهجان مثلما كان البخار ينبعث من مشروبهما. احمرَّ وجهي من فرط الإحراج وأنا أتلعثم في الإجابة عن سؤالهما غير المعلن: أليس لديك عمل أفضل لتقومين به؟ لا شك أن مشهد امرأة في منتصف العمر تلعب بمفردها في الثلج هو مشهدٌ غريب؛ ولكن ربما لا ينبغي أن يكون كذلك. فقد أشار بحثٌ جديد إلى أن الكبار في العصر الحالي يعانون فرط الجدية. فلقد قمعنا غريزة اللعب الطبيعية لدينا، وهو ما يسبب جميع أنواع المشكلات.. لنا، ولأطفالنا، ولكوكبنا. "إن نقيض اللعب ليس العمل، بل الاكتئاب. فنقص اللعب لدى الكبار أصبح أزمة صحة عامة"، كما يقول "ستيوارت براون"، طبيب نفسي وباحث في مجال اللعب. فقد يبدو اللعب أمرًا تافهًا، لكن الدراسات الحديثة تشير إلى أن أهميته قد لا تقل عن أهمية النوم لدى الثدييات وربما جميع الفقاريات. ففي صيف عام 2023، اكتشف العلماء أن دافع اللعب ينشأ في جذع الدماغ، وهو أحد أقدم أجزاء نظامنا العصبي من الناحية التطورية. فحتى لو أزيلت القشرة الدماغية لجُرذ بالكامل، ستظل الرغبة في اللعب ملازمة له. فالمرح يساعد بعض الحيوانات الصغيرة على تعلم السيطرة على أجسامها وبيئاتها؛ وما إنْ تحقق هذه السيطرة حتى يتوقف معظمها عن اللعب عندما تصبح بالغة. ومع ذلك، لا يتوقف بعضها عن اللعب أبدًا (وهي مجموعة تضم الذئاب والغربان والدلافين والبشر والقردة ورئيسات أخرى) وقد بدأ علماء الأحياء بالكاد في معرفة سبب ذلك.
أحد الاحتمالات هو أن لعب الكبار يمكن أن يؤدي إلى اكتشافات مفيدة، وهي نظرية تدعمها دراسة أُجريت على قردة المكاك طويلة الذيل في بالي بإندونيسيا. فخلال إعداد الباحثة في مجال الحيوان "كاميلا سيني" أطروحتها لنيل الدكتوراه من "جامعة ليثبريدج"، تركت نوعين من صناديق الألغاز لهذه القردة من أجل حلها. فكان الوصول إلى الطعام الموجود بالداخل يتطلب من هذه الحيوانات إما إسقاط حجر في الحاوية أو استخدامه لتضرب به الصندوق. ووجدت الباحثةُ أن قرَدة المكاك التي كانت قد شُوهدت سابقًا وهي تُسقط حَجرًا من أجل المرح كانت أكثر احتمالا أن تحل لغز إسقاط الحجر، فيما تلك التي كانت قد اكتشفت متعة طقطقة الحجر بعضه ببعض توصلت إلى حل اللغز الإيقاعي. وتشير هذه النتيجة أيضًا إلى أنه في مرحلة قديمة من تاريخنا التطوري، توصل إنسان بدائي لعوب إلى مفهوم الأدوات الحجرية. ويقول براون إن الرغبة في اللعب لا تزال حتى في العصر الحالي تشكل أساس معظم ما شهدته البشرية من اختراعات وأعمال فنية وإنجازات علمية عظمى. ويضيف قائلًا: "عندما أجريتُ مقابلات مع متوجين بجائزة نوبل، ذهلت لكون معظمهم لم يفصلوا بين العمل واللعب. وكانت مختبراتهم بمنزلة ساحات للعب". وإذا كان اللعب بالأشياء يفضي في بعض الأحيان إلى تطبيقات عملية مباشرة، فإن له فائدة عامة أيضًا، كما يقول عالم السلوك الحيواني "مارك بيكوف". يضيف قائلًا: "تقوم معظم أشكال اللعب على الاستعداد للتعامل مع الأمور غير المتوقعة من خلال توسيع الذخيرة السلوكية". فعندما تلعب الحيوانات بمفردها -مثل الماعز التي تتواثب بمرح وتنزل على قوائمها بكل رعونة- فإنها تتعلم درسين: كيفية استعادة التوازن بعد العثرات، وبصورة أعَم، كيفية الحفاظ على رباطة الجأش عندما تنحو الأمور منحى غير متوقع. "إن اللعب يمنحك الفرصة للتعامل مع عدم اليقين والمفاجأة في بيئة آمنة"، كما يقول بيكوف. وذلك ما يفسر السبب الذي يجعل الحيوانات التي تحتل مجالات آمنة يمكن التنبؤ بها، لا تلعب بالقدر نفسه الذي يلعب به البالغون؛ فيما تقوم الكائنات التي يجب أن تتأقلم من أجل البقاء باللعب مثل الكبار.