كشف العجائب الخفية

يمكن للتصوير الفوتوغرافي، بفضل قدرته على التقاط المشاهد التي لا يمكن تمييزها بالعين البشرية، أن "يعلمنا رؤية العالم من جديد".

كنت أحلم في طفولتي بأن أصبح عالم أحياء بحرية وأن أعيش إلى جوار البحر. وإذْ نشأت في إحدى ضواحي أتلانتا غير الساحلية، فقد عشت ذلك الخيال عبر إنشاء أحواض السمك بالمنزل. وفي الرابعة عشرة من عمري، بدأت العمل في متجر للأحياء المائية لدى الحي حيث كنت أعيش. وفي ربيعي السادس عشر، كانت لدي سبعة أحواض سمك في المنزل. ثم تعرفت في سن العشرين إلى المصور "ديفيد ليتشفاغر" الذي وظفني لمساعدته في مَهمة لدى ناشيونال جيوغرافيك عن الحياة البحرية.
أمضينا عشرة أيام على متن سفينة الأبحاث "أوسكار إلتون سيتي" التابعة لِـ"الإدارة الوطنية (الأميركية) للمحيطات والغلاف الجوي"، وهي تُبحر قبالة ساحل "كونا" في هاواي. كانت مَهمة ديفيد هي التوثيق للتنوع البيولوجي المذهل الموجود على سطح المحيط. وكان دوري هو جمع العيّنات لتصويرها. وكنت في كل ليلة، بعد انتهاء سفينة "سيتي" من مَهمتها العلمية، أُلقي مصباحًا عائمًا على الجانب الأيسر من السفينة. فكانت تخرج كائنات غامضة من الأعماق، مثل فَراش الليل الذي ينجذب إلى اللهب، بحثًا عن ضوء المصباح: ثعابين صغيرة تلمع، وسرطانات بحر صغيرة شفافة، وحبار يتلألأ. وكنت أعمد إلى انتقاء ممثل عن كل نوع بعناية وإعداد أحواض لإيوائها في انتظار أن يلتقط ديفيد صورتها الساحرة. أشعرتني تلك الأمسيات على متن السفينة كما لو كنت في كوكب آخر. وفي نهاية كل ليلة، كنت أجلس فأنبهر بمجموعتي المدهشة. ولم أتخيل قَط أن هذه الكائنات الغريبة يمكن أن توجد في محيطاتنا. كانت عيناي مركزتين على الأحواض، واهتمامي موجه نحو هذه الكائنات الغريبة. لكنني لم أكن أدرك السحر الحقيقي لِما كان أمامي حتى رأيت ما كان يلتقطه ديفيد من صور لهذه الكائنات التي كنت أجمع. وكانت المفاجأة الكبرى هي الصورة التي التقطَها لصغير سمكة المفلطح (الظاهرة في الصفحة المقابلة). لقد اصطدتُ هذه السمكة مصادفةً إذ كنت أطارد هدفًا أكثر وضوحًا. ولم ألاحظ أن مقلتيها الصغيرتين تحدقان بي إلا وأنا أفتش في وقت لاحق محتويات وعاء التجميع. أما السمة الأخرى الوحيدة التي تمكنت من تمييزها فكانت البِنية المتلوية نوعًا ما لجسمها الشفاف. لكن الصورة التي التقطها ديفيد لهذه السمكة المفلطحة كشفت عن عالم من التفاصيل عجزت حتى عيناي المتلهفتان عن ملاحظته. فقد ضخمت عدسته الكبيرة أضلاع السمكة بمفاصلها الدقيقة. وتجمدت حركتها بفعل تقنية التعريض الضوئي السريع؛ مما ساعد على إتاحة رؤية واضحة المعالم. وأبرز ضوءٌ مركزٌ بدقة أطيافَ قوس قزح المتوارية في جلد السمكة المفلطح. وأزالت الخلفية السوداء كل عوامل التشتيت حتى يتركز انتباهنا على الجمال الموجود. وبعد مرور أعوام على هذا المشروع في هاواي، كنت أغوص ليلًا بالشعاب المرجانية الضحلة في بولينيزيا الفرنسية. وفجأة، ظهر من بين الظلام صغير آخر من صغار السمك المفلطح واستقر فوق قناع التنفس لدي. وفي تلك المرة كنت أعرف ما ينبغي لي البحث عنه. فوجَّهتُ مصباحي الكاشف نحو تلك السمكة الصغيرة وظهرت لي الألوان المتلألئة والعظام الرقيقة التي كانت صورة ديفيد قد كشفتها لي في بادئ الأمر.
قبل أن أعمل لدى ديفيد، كنت أعتقد أن الهدف من التصوير الفوتوغرافي هو استنساخ ملاحظة ما حتى يتمكن الآخرون من تقاسم التجربة نفسها. ولم يخطر ببالي قَط أن بإمكان التصوير أن يُوسع نطاق إدراكنا البصري ويعلمنا بالتالي رؤية العالم من جديد.

الحجم والتوقيت والإضاءة والتبئير.. تلكم هي سمات صورة ديفيد التي وسّعت فهمي لهذا السمك المفلطح الصغير. وتلكم هي الأدوات التي يزودنا التصوير الفوتوغرافي بها لمعاينة عجائب العالم غير المرئية وإبرازها. فلنأخذ الحجم، على سبيل المثال. عندما طلب إلي المحررون في ناشيونال جيوغرافيك التقاط صور لتحقيق عن نحل العسل، لم أكن متحمسا لأداء المَهمة. فقد كانت هذه الملقِّحات الصغيرة قد حظيت باهتمام إعلامي كبير إلى درجة أنني لم أستطع أن أتخيل أي شيء جديد يمكنني الإسهام به. ولكن كيف لي أن أرفض وأنا بعدُ مصور شاب غير مستقر؟ لذلك تظاهرت ببعض الحماس وحصلت على مَهمة لم يكن لدي أي فكرة عن كيفية أدائها.
هنالك شرعتُ في تعلّم كيفية تربية النحل بالفناء الخلفي لمنزلي في مدينة بيركلي الأميركية، آملًا أني سأكتشف، مع ما يكفي من الوقت والدراسة، طريقة جديدة لتصوير حياتها. وفي أحد الأيام، لاحظت شيئًا في غير محله؛ فقد علقت نحلة صغيرة أثناء خروجها من الخلية. عندها لجأتُ إلى حيلة كنت قد تعلمتها من أحد علماء الحشرات: فقد انتزعتُ أحد رموشي واستخدمت طرفه الرفيع والمرن لإزالة القليل من القش عن وجه النحلة. ثم وضعت ضوءًا خلف الخلية لجعل الشمع المحيط بها يتوهج.
وسمح لي وضع النحلة بتقريب الكاميرا والتقاط ملامح على رأسها لم ألاحظها من قبل، مثل قرون الاستشعار المفصلية ووجهها المكسو بالفراء. وكنت قد أمضيت عامًا في العناية بخليتي، لكن لم يسبق لي حتى تلك اللحظة أن رأيت نحلة تتصرف بتلك الطريقة. وعندما تلاقينا وجهًا لوجه، أوحى لي هذا القرب بأسئلة جديدة. كيف يرى هذا الكائن محيطه؟ وكيف أبدو له؟ ولِمَ كل هذا الشعر؟ نميل إلى التماهي على نحو أفضل مع الكائنات التي تماثلنا من حيث الحجم، أو على الأقل مع الكائنات التي يمكننا رؤيتها بالعين المجردة. وعندما يقوم التصوير الفوتوغرافي بتكبير موضوع ما، فبإمكانه أن يكسر هذا الحاجز. ويساعد ذلك في فتح أعيننا على منظورات غير مسبوقة. وثمة أيضًا إمكانات مماثلة فيما يخص التوقيت. ففي عام 2015، التقيت خبير الخفافيش "رودريغو ميديلين" في شبه جزيرة يوكاتان بالمكسيك، حيث عثر فريقه على عائلة من الخفافيش مصاصة الدماء "الزائفة الصوفية"، وهي أحد أكبر هذه الأنواع في الأميركيتين. وكانت ناشيونال جيوغرافيك تريد مني تصوير الخفافيش، وطلب إلي ميديلين إحضار قفص حتى نتمكن من الاشتغال عليها وهي حبيسة. فأحضرت قفصًا مشبكًا يُستخدم لممارسة لعبة البيسبول ووضعته أسفل سرير غرفتي في الفندق. ثم أطلقنا سراح خفاش كنت قد أمسكت به داخل الغرفة.

 

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab

 

كشف العجائب الخفية

يمكن للتصوير الفوتوغرافي، بفضل قدرته على التقاط المشاهد التي لا يمكن تمييزها بالعين البشرية، أن "يعلمنا رؤية العالم من جديد".

كنت أحلم في طفولتي بأن أصبح عالم أحياء بحرية وأن أعيش إلى جوار البحر. وإذْ نشأت في إحدى ضواحي أتلانتا غير الساحلية، فقد عشت ذلك الخيال عبر إنشاء أحواض السمك بالمنزل. وفي الرابعة عشرة من عمري، بدأت العمل في متجر للأحياء المائية لدى الحي حيث كنت أعيش. وفي ربيعي السادس عشر، كانت لدي سبعة أحواض سمك في المنزل. ثم تعرفت في سن العشرين إلى المصور "ديفيد ليتشفاغر" الذي وظفني لمساعدته في مَهمة لدى ناشيونال جيوغرافيك عن الحياة البحرية.
أمضينا عشرة أيام على متن سفينة الأبحاث "أوسكار إلتون سيتي" التابعة لِـ"الإدارة الوطنية (الأميركية) للمحيطات والغلاف الجوي"، وهي تُبحر قبالة ساحل "كونا" في هاواي. كانت مَهمة ديفيد هي التوثيق للتنوع البيولوجي المذهل الموجود على سطح المحيط. وكان دوري هو جمع العيّنات لتصويرها. وكنت في كل ليلة، بعد انتهاء سفينة "سيتي" من مَهمتها العلمية، أُلقي مصباحًا عائمًا على الجانب الأيسر من السفينة. فكانت تخرج كائنات غامضة من الأعماق، مثل فَراش الليل الذي ينجذب إلى اللهب، بحثًا عن ضوء المصباح: ثعابين صغيرة تلمع، وسرطانات بحر صغيرة شفافة، وحبار يتلألأ. وكنت أعمد إلى انتقاء ممثل عن كل نوع بعناية وإعداد أحواض لإيوائها في انتظار أن يلتقط ديفيد صورتها الساحرة. أشعرتني تلك الأمسيات على متن السفينة كما لو كنت في كوكب آخر. وفي نهاية كل ليلة، كنت أجلس فأنبهر بمجموعتي المدهشة. ولم أتخيل قَط أن هذه الكائنات الغريبة يمكن أن توجد في محيطاتنا. كانت عيناي مركزتين على الأحواض، واهتمامي موجه نحو هذه الكائنات الغريبة. لكنني لم أكن أدرك السحر الحقيقي لِما كان أمامي حتى رأيت ما كان يلتقطه ديفيد من صور لهذه الكائنات التي كنت أجمع. وكانت المفاجأة الكبرى هي الصورة التي التقطَها لصغير سمكة المفلطح (الظاهرة في الصفحة المقابلة). لقد اصطدتُ هذه السمكة مصادفةً إذ كنت أطارد هدفًا أكثر وضوحًا. ولم ألاحظ أن مقلتيها الصغيرتين تحدقان بي إلا وأنا أفتش في وقت لاحق محتويات وعاء التجميع. أما السمة الأخرى الوحيدة التي تمكنت من تمييزها فكانت البِنية المتلوية نوعًا ما لجسمها الشفاف. لكن الصورة التي التقطها ديفيد لهذه السمكة المفلطحة كشفت عن عالم من التفاصيل عجزت حتى عيناي المتلهفتان عن ملاحظته. فقد ضخمت عدسته الكبيرة أضلاع السمكة بمفاصلها الدقيقة. وتجمدت حركتها بفعل تقنية التعريض الضوئي السريع؛ مما ساعد على إتاحة رؤية واضحة المعالم. وأبرز ضوءٌ مركزٌ بدقة أطيافَ قوس قزح المتوارية في جلد السمكة المفلطح. وأزالت الخلفية السوداء كل عوامل التشتيت حتى يتركز انتباهنا على الجمال الموجود. وبعد مرور أعوام على هذا المشروع في هاواي، كنت أغوص ليلًا بالشعاب المرجانية الضحلة في بولينيزيا الفرنسية. وفجأة، ظهر من بين الظلام صغير آخر من صغار السمك المفلطح واستقر فوق قناع التنفس لدي. وفي تلك المرة كنت أعرف ما ينبغي لي البحث عنه. فوجَّهتُ مصباحي الكاشف نحو تلك السمكة الصغيرة وظهرت لي الألوان المتلألئة والعظام الرقيقة التي كانت صورة ديفيد قد كشفتها لي في بادئ الأمر.
قبل أن أعمل لدى ديفيد، كنت أعتقد أن الهدف من التصوير الفوتوغرافي هو استنساخ ملاحظة ما حتى يتمكن الآخرون من تقاسم التجربة نفسها. ولم يخطر ببالي قَط أن بإمكان التصوير أن يُوسع نطاق إدراكنا البصري ويعلمنا بالتالي رؤية العالم من جديد.

الحجم والتوقيت والإضاءة والتبئير.. تلكم هي سمات صورة ديفيد التي وسّعت فهمي لهذا السمك المفلطح الصغير. وتلكم هي الأدوات التي يزودنا التصوير الفوتوغرافي بها لمعاينة عجائب العالم غير المرئية وإبرازها. فلنأخذ الحجم، على سبيل المثال. عندما طلب إلي المحررون في ناشيونال جيوغرافيك التقاط صور لتحقيق عن نحل العسل، لم أكن متحمسا لأداء المَهمة. فقد كانت هذه الملقِّحات الصغيرة قد حظيت باهتمام إعلامي كبير إلى درجة أنني لم أستطع أن أتخيل أي شيء جديد يمكنني الإسهام به. ولكن كيف لي أن أرفض وأنا بعدُ مصور شاب غير مستقر؟ لذلك تظاهرت ببعض الحماس وحصلت على مَهمة لم يكن لدي أي فكرة عن كيفية أدائها.
هنالك شرعتُ في تعلّم كيفية تربية النحل بالفناء الخلفي لمنزلي في مدينة بيركلي الأميركية، آملًا أني سأكتشف، مع ما يكفي من الوقت والدراسة، طريقة جديدة لتصوير حياتها. وفي أحد الأيام، لاحظت شيئًا في غير محله؛ فقد علقت نحلة صغيرة أثناء خروجها من الخلية. عندها لجأتُ إلى حيلة كنت قد تعلمتها من أحد علماء الحشرات: فقد انتزعتُ أحد رموشي واستخدمت طرفه الرفيع والمرن لإزالة القليل من القش عن وجه النحلة. ثم وضعت ضوءًا خلف الخلية لجعل الشمع المحيط بها يتوهج.
وسمح لي وضع النحلة بتقريب الكاميرا والتقاط ملامح على رأسها لم ألاحظها من قبل، مثل قرون الاستشعار المفصلية ووجهها المكسو بالفراء. وكنت قد أمضيت عامًا في العناية بخليتي، لكن لم يسبق لي حتى تلك اللحظة أن رأيت نحلة تتصرف بتلك الطريقة. وعندما تلاقينا وجهًا لوجه، أوحى لي هذا القرب بأسئلة جديدة. كيف يرى هذا الكائن محيطه؟ وكيف أبدو له؟ ولِمَ كل هذا الشعر؟ نميل إلى التماهي على نحو أفضل مع الكائنات التي تماثلنا من حيث الحجم، أو على الأقل مع الكائنات التي يمكننا رؤيتها بالعين المجردة. وعندما يقوم التصوير الفوتوغرافي بتكبير موضوع ما، فبإمكانه أن يكسر هذا الحاجز. ويساعد ذلك في فتح أعيننا على منظورات غير مسبوقة. وثمة أيضًا إمكانات مماثلة فيما يخص التوقيت. ففي عام 2015، التقيت خبير الخفافيش "رودريغو ميديلين" في شبه جزيرة يوكاتان بالمكسيك، حيث عثر فريقه على عائلة من الخفافيش مصاصة الدماء "الزائفة الصوفية"، وهي أحد أكبر هذه الأنواع في الأميركيتين. وكانت ناشيونال جيوغرافيك تريد مني تصوير الخفافيش، وطلب إلي ميديلين إحضار قفص حتى نتمكن من الاشتغال عليها وهي حبيسة. فأحضرت قفصًا مشبكًا يُستخدم لممارسة لعبة البيسبول ووضعته أسفل سرير غرفتي في الفندق. ثم أطلقنا سراح خفاش كنت قد أمسكت به داخل الغرفة.

 

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab