نيـران تحـت الجليد
على حافة جبلية مكسوة بالجليد تنتصب على ارتفاع يناهز الـ900 متر فوق العُباب الهادر لجنوب الأطلسي، أخذَت "إيما نيكلسون" نفَسًا عميقًا من جهاز التنفس الصناعي الخاص بها، وتفحّصت رِباط الأمان، ثم راحت تخطو داخل فوهة بركان نشط. كان الزمن حينها قد تجاوز الساعة 4 مساءً بقليل على حافة قمة "جبل مايكل" الواقعة في مهب الرياح، والتي تلوح في أفق "جزيرة ساوندرز". تقبع الجزيرة في "أرخبيل ساندويتش الجنوبي" غير المأهول، وهي من بين أكثر الأماكن عزلة وبُعدًا على وجه الأرض؛ إذ تبعد نحو 800 كيلومتر عن أقرب محطة دائمة في جزيرة "جورجيا الجنوبية" وأكثر من 1600 كيلومتر عن أقرب حركة ملاحة. فأقرب الأشخاص إلى إيما وزملائها في البعثة هم في الواقع رواد الفضاء السبعة الموجودون على متن "محطة الفضاء الدولية"، والتي تمر فوقهم على ارتفاع نحو 400 كيلومتر في كل 90 دقيقة.
وعلى كل ذلك، وبعد أعوام من التخطيط ثم تَحَمّل مشاق رحلة بطول 2250 كيلومترًا عبر البحار المضطربة الطافحة بالجبال الجليدية، ها هي ذي عالمة البراكين، البالغة من العمر 33 عامًا، على وشك أن تصبح أول عالمة تَقود عملية استكشاف داخل فوهة جبل مايكل، حيث تأمل جمع أدلة جديدة بشأن العمليات المبهمة التي تعتمل في أعماق كوكبنا. لكن جبل مايكل ليس بركانًا يفشي أسراره بسهولة. للوهلة الأولى، بدا الجزء الداخلي للحافة غير مؤْذ، فاتحًا المجال لمنحدر ثلجي خفيف ولا يتجاوز في انحداره مسار تزلج متوسط المستوى. هنالك نزلت إيما و"جواو لاجيس"، شريكها في البحث، بحذر على حبل تسلق -صلة وصلهما الوحيدة بالعالم الخارجي- لكن كان كلاهما يدرك أن في مكانٍ ما بالأسفل، قد تُفضي هذه التضاريس الآمنة ظاهريًا إلى جرف جليدي غير مستقر يتدلى من الحافة الداخلية للبركان. ومع تقدمها رويدًا رويدًا إلى الأسفل، تحسنت الظروف: إذ هدأت الرياح وظهرت بقع من السماء الزرقاء فوق رأسيهما. تَبَيَّنَت إيما، خلف قناع وجهها، وجودَ دائرة جدران شبه عمودية من الصخر والجليد المكسو بالرماد. راح جواو وإيما ينزلان أعمق فأعمق في الجبل، حاملَين جهاز حاسوب وكاميرا تستشعر الحرارة. وأسفل منهما، هوى منحدر "التزلج" اللطيف ذاك فجأة إلى فراغ معتّم على مسافة غير معروفة من قاع الفوهة. بينما نظرت إيما حواليها، بعيون شبه فاغرة، أدركت أنها تقف داخل حافة "مِدْخنة" كوكب الأرض.. مكان يحمل ندوب أحد أعظم عروض جبروت الطبيعة. تلكم هي اللحظة المهنية المثالية لدى عالمة براكين.. أنْ تكون أول من يطل من بوابة غامضة على باطن هذا الكوكب. لكن ثمة شيء واحد فقط يستعصي عليها، وهو الشيء الذي أوصلها إلى هذا المكان المهجور: أين بحيرة الحمم البركانية؟ كان حبلُ شَدٍّ يُهدّئ روع إيما إذ يُثبت رباطَ الأمان الخاص بها. كانت تعرف أن هذا الحبل مربوط إلى مرساة هي الأكثر ثباتًا وأمانًا على قمة الجبل: إنها الدليلة الجبلية "كارلا بيريز". فعلى مرّ أسابيع ماضية، أصبحت إيما وكارلا صديقتين حميمتين إذ تقاسمتا مقصورة سفينة ضيقة ثم خيمة تهتز بفعل العواصف العاتية. في غياب خط رؤية واضح أمام إيما، تعلم كارلا أن منحدرًا جليديًا متدليًا قد يكون كامنًا في مكان ما أمام صديقتها؛ ويمكنه أن ينهار من دون سابق إنذار فيجرفها إلى بالوعة البركان. وحبل الشد هو بمنزلة تذكير بسيط لإيما بألّا تنسى نفسها وتذهب خطوة أبعد من اللازم.
في الثاني من فبراير عام 1775، وقف القبطان "جيمس كوك" وقد نال منه الإرهَاق عند الحاجز الخلفي لسفينته، "ريزولوشن"، وراح يحدّق في جزيرة قاتمة مكسوة بالثلوج. كان هذا الملّاح في رحلته البحرية الاستكشافية الثانية مدة عامين ونصف العام، إذ حدَث أن توافقت تلك التضاريس النذيرة مع حالته المزاجية؛ فأطلق عبارة "أفظع ساحل في العالم"، واصفًا الأرخبيل الذي كان قد أطلق عليه اسم "جزر ساندويتش الجنوبية" نسبةً إلى أحد مؤيديه الذي يدعى "إيرل ساندويتش". وكتب قائلًا إن هذه الجزر "قد حكمت عليها الطبيعة.. بألّا تتلقى دفء أشعة الشمس ولو مرة واحدة". وقد مرت عقود قبل أن يفهم العلماء أن إحداها، وهي ساوندرز، تمتلك مصدر حرارة خاصًا بها. وحتى حينها، لم يكن أحد مهتمًا بما يكفي بزيارة هذه الجزيرة الجليدية الواقعة في مهب رياح بمكان قصي معزول. يقول "جون سميلي"، أستاذ الجيولوجيا لدى "جامعة ليسيستر": "جزر ساندويتش الجنوبية.. يَصعب بلوغها؛ يَصعب النزول بشواطئها؛ يَصعب العمل فيها، لذلك لا بد أن يكون لديك سبب وجيه جدا للذهاب إليها". ومع ذلك، فإن هذه الجزر، التي تتشكل نتيجة لحركة الصفيحة التكتونية لأميركا الجنوبية أسفل من صفيحة جزر ساندويتش الجنوبية، هي واحدة من أبسط البيئات التكتونية في العالم لدراسة علم البراكين. قال لي سميلي عندما هاتفتُه في مكتبه بإنجلترا: "إنها في الواقع مصنع للقشرة الأرضية. إذ يمكن فحص ما يحدث للصهارة منذ بدايتها وحتى ظهورها على السطح.. لأن المتغيرات قليلة جدًا هناك". ولقد اتصلت بسميلي لأنه أحد الأشخاص القلائل الذين زاروا جزيرة ساوندرز. فخلال رحلة استكشافية في عام 1997، كان يأخذ عيّنات من الطرف الشمالي للجزيرة، عندما لاحظ أن العمود المنبعث من بركان جبل مايكل كان كثيفًا بصورة غير عادية. يتذكر سميلي ذلك قائلًا: "لقد كان العمود يرغد ويزبد؛ وتلك خصائص فاجأتني". وذكّره ذلك السلوك بـ"جبل إريبوس"، وهو بركان في القطب الجنوبي يؤوي بحيرة حمم بركانية دائمة. سأل سميلي صديقًا في "هيئة المسح البريطانية لأنتاركتيكا" عمّا إذا كان بإمكان صور الأقمار الصناعية تحديد أي عناصر حرارية شاذة حوالي جبل مايكل. وباستخدام مقياس إشعاعي يعتمد على الأقمار الصناعية، عَمِلا على تحديد بصمة حرارية تتوافق مع فوهة قمة جبل مايكل. وافترضا أنه مع متوسط حرارة بلغت زهاء 300 درجة مئوية، كانت تلكَ بحيرة حمم بركانية.. واحدة من أندر الظواهر البركانية. على الرغم من وجود نحو 1350 بركانًا يُحتمل أن تكون نشطة في العالم، فقد تم التأكد من أن ثمانية منها فقط تؤوي بحيرات حمم بركانية حديثة مستمرة؛ وهي مراجل دائمة من الصخور المنصهرة. في العادة، بعد ثوران البركان، تَبرد الحمم المعرّضة للظروف الجوية وتتحول إلى كتلة صلبة من الصخور، حابسةً الحرارة والغازات داخلها (وربما تهيئ البركان لانفجار آخر). لكن في البراكين ذات المَنافس المفتوحة، تظل القنوات التي تربط السطح بحُجرة الصهارة في الأعماق السحيقة مفتوحة. ولكي تتشكل بحيرة حمم بركانية، يجب أن يكون الضغط كبيرًا بما يكفي لدفع الحمم إلى السطح؛ مثل ضغط الماء في نافورة. ولكن، لكي تدوم بحيرة الحمم البركانية، يجب أن يستمر الضغط، ويجب أن تكون النسبة بين الحرارة الآتية من داخل عمود الصهارة ومعدل التبريد متوازنة تمامًا، للحفاظ على الحمم في حالتها المنصهرة. يقول سميلي إن كلمة "مزاجية" توصيف جيد لمستويات الضغط التي تضخ الحمم البركانية إلى فوهة جبل مايكل. "إن الحمم تأتي وتذهب، ربما عدة أشهر في كل مرة، ولكن بعد ذلك تُظهر أبحاثنا أنها تمكث شهورًا في كل مرة". ولأن منظومات المَنافس المفتوحة توفر فرصًا للعلماء لأخذ عيّنات وتحليل كل من الغازات والحمم البركانية، فإنها تُعد مختبرًا بالغ الأهمية لفهم السلوك البركاني فهمًا أفضل والمساعدة في التنبؤ بالمخاطر البركانية والتخفيف من حدتها. لكن سميلي كان مهتمًا أكثر بدراسة الصخور المحيطة بالبركان ولم يفكر جديًا قَط في تسلق بركان جبل مايكل. يقول: "بحيرات الحمم البركانية ليست اختصاصي. وإذْ أُدرك إمكانية أن تسوء الأمور، فعلى الأرجح أختارُ وقتًا تكون فيه الحمم قد انحسرت ولم تعد مرئية". وفي عام 2019، استخدم فريق آخر من علماء البراكين بيانات الأقمار الصناعية فائقة الدقة، لتحديث النتائج التي توصل إليها فريق سميلي، وأجرَوا حسابات لمَعلم تضاريسي شاذّ تزيد مساحته على 9940 مترًا مربعًا فوق سطح الفوهة. وكما فعل سميلي، فقد خلص تقييمهم إلى أن الأمر يتعلق ببحيرة حمم بركانية، أصغر قليلًا من مساحة 1.5 ملعب كرة قدم احترافي. ولفتت تلك الدراسة أيضًا انتباه أستاذة علم براكين حديثة التعيين حينها لدى "كلية لندن الجامعية".. إيما نيكلسون. وبقدر ما كانت صور الأقمار الصناعية دقيقة، فقد عرفت إيما أن الطريقة الوحيدة للتأكد من أن جبل مايكل يؤوي بحيرة حمم بركانية -ومن ثم دراستها- هي الصعود إلى الحافة وجمع العينات داخل فوهتها. إن حقيقة مرور عقدين من الزمن منذ أن عمل آخر جيولوجي ميداني في جزيرة ساوندرز، قد أثارت اهتمام عالمة البراكين هذه شديدة الإصرار والعزم. تقول إيما: "عندما كنت صغيرة، كنت دائمًا ما أتيه، وأتجول وأحاول الاستكشاف". كان والداها، وكلاهما من عشاق المشي مسافات طويلة، أو "التجول على التلال" كما يقول البريطانيون، يشجعان ابنتهما على المغامرة. وكان لنزهة واحدة خلال إجازة عائلية إلى الولايات المتحدة عندما كانت في السادسة من عمرها، تأثير كبير في حياتها: فلقد أتاحت لها مشاهدة "جبل سانت هيلينز". تتذكر إيما ذلك قائلةً: "كانت جميع الأشجار لا تزال ساقطة في اتجاه واحد. كان الرماد في كل مكان، حتى بعد مرور أكثر من 10 أعوام على ثوران البركان. أتذكّر رغبتي حينها في فهم القوى التي عملت على إنشاء ذلك المشهد".
في عام 2020، انضمت إيما إلى رحلة استكشافية على متن سفينة شراعية ذات هيكل من الألمنيوم، لاستطلاع جزر ساندويتش الجنوبية. بعد الرسو قبالة جزيرة ساوندرز، حاولت نيكلسون وشريكها في البحث، "كيران وود" وجملة من العلماء الآخرين، الصعود الأول لجبل مايكل؛ لكنهم عادوا أدراجهم بسبب تدهور أحوال الطقس. تقول: "في غضون دقائق، تحولت الأحوال من سماء زرقاء شبه صافية إلى ثلوج متساقطة وعواصف ثلجية. كان من قبيل التهور تمامًا الاستمرار". ومع ذلك، كان قرار العودة مؤلمًا للغاية، وكنت أسمع ذلك في صوتها عندما قالت إنها غادرت جبل مايكل بِـ "عمل غير مكتمل".
وفي نوفمبر 2022، انضممتُ إلى نيكلسون، وهي كذلك مستكشفة لدى ناشيونال جيوغرافيك، في "جزر فوكلاند" استعدادًا لرحلة العودة إلى ساوندرز. إذ كانت قد جهزت رحلة استكشافية لإتمام أول صعود لجبل مايكل، بالإضافة إلى إنجاز أول دراسة ميدانية لفوهته. وكانت "أستراليز"، وهي سفينة شراعية ذات هيكل فولاذي، بانتظارنا لدى الرصيف في "ميناء ستانلي". استقبلني رُبّانها، "بِنْ واليس"، وهو أسترالي نحيف يبلغ من العمر 43 عامًا، وكان مرتديًا بذلة إبحار ملطخة بالدهون.
كانت رحلتنا لتبدو ضئيلة جدا بالنسبة إلى كوك. تولّى بِنْ واثنين من طاقمه أمرَ تلك المركبة. وتَشكل الفريق العلمي من نيكلسون وزميليها "جواو لاجيس" (30 عامًا)، عالم كيمياء جيولوجية وعالم براكين، و"كيران وود" (37 عامًا)، مهندس طيران وخبير طائرات مسيّرة. وقاد المصور "رينان أوزتورك" (43 عامًا) فريقًا إعلاميًا مكونًا من أربعة أشخاص. أما قيادة مرحلة التسلق ضمن الرحلة، فآلت إلى "كارلا بيريز" (39 عامًا) متسلقة جبال إكوادورية وواحدة من مجموعة قليلة من النساء اللائي بلغن قمة "إيفرست" بلا أوكسجين إضافي.
اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab
نيـران تحـت الجليد
على حافة جبلية مكسوة بالجليد تنتصب على ارتفاع يناهز الـ900 متر فوق العُباب الهادر لجنوب الأطلسي، أخذَت "إيما نيكلسون" نفَسًا عميقًا من جهاز التنفس الصناعي الخاص بها، وتفحّصت رِباط الأمان، ثم راحت تخطو داخل فوهة بركان نشط. كان الزمن حينها قد تجاوز الساعة 4 مساءً بقليل على حافة قمة "جبل مايكل" الواقعة في مهب الرياح، والتي تلوح في أفق "جزيرة ساوندرز". تقبع الجزيرة في "أرخبيل ساندويتش الجنوبي" غير المأهول، وهي من بين أكثر الأماكن عزلة وبُعدًا على وجه الأرض؛ إذ تبعد نحو 800 كيلومتر عن أقرب محطة دائمة في جزيرة "جورجيا الجنوبية" وأكثر من 1600 كيلومتر عن أقرب حركة ملاحة. فأقرب الأشخاص إلى إيما وزملائها في البعثة هم في الواقع رواد الفضاء السبعة الموجودون على متن "محطة الفضاء الدولية"، والتي تمر فوقهم على ارتفاع نحو 400 كيلومتر في كل 90 دقيقة.
وعلى كل ذلك، وبعد أعوام من التخطيط ثم تَحَمّل مشاق رحلة بطول 2250 كيلومترًا عبر البحار المضطربة الطافحة بالجبال الجليدية، ها هي ذي عالمة البراكين، البالغة من العمر 33 عامًا، على وشك أن تصبح أول عالمة تَقود عملية استكشاف داخل فوهة جبل مايكل، حيث تأمل جمع أدلة جديدة بشأن العمليات المبهمة التي تعتمل في أعماق كوكبنا. لكن جبل مايكل ليس بركانًا يفشي أسراره بسهولة. للوهلة الأولى، بدا الجزء الداخلي للحافة غير مؤْذ، فاتحًا المجال لمنحدر ثلجي خفيف ولا يتجاوز في انحداره مسار تزلج متوسط المستوى. هنالك نزلت إيما و"جواو لاجيس"، شريكها في البحث، بحذر على حبل تسلق -صلة وصلهما الوحيدة بالعالم الخارجي- لكن كان كلاهما يدرك أن في مكانٍ ما بالأسفل، قد تُفضي هذه التضاريس الآمنة ظاهريًا إلى جرف جليدي غير مستقر يتدلى من الحافة الداخلية للبركان. ومع تقدمها رويدًا رويدًا إلى الأسفل، تحسنت الظروف: إذ هدأت الرياح وظهرت بقع من السماء الزرقاء فوق رأسيهما. تَبَيَّنَت إيما، خلف قناع وجهها، وجودَ دائرة جدران شبه عمودية من الصخر والجليد المكسو بالرماد. راح جواو وإيما ينزلان أعمق فأعمق في الجبل، حاملَين جهاز حاسوب وكاميرا تستشعر الحرارة. وأسفل منهما، هوى منحدر "التزلج" اللطيف ذاك فجأة إلى فراغ معتّم على مسافة غير معروفة من قاع الفوهة. بينما نظرت إيما حواليها، بعيون شبه فاغرة، أدركت أنها تقف داخل حافة "مِدْخنة" كوكب الأرض.. مكان يحمل ندوب أحد أعظم عروض جبروت الطبيعة. تلكم هي اللحظة المهنية المثالية لدى عالمة براكين.. أنْ تكون أول من يطل من بوابة غامضة على باطن هذا الكوكب. لكن ثمة شيء واحد فقط يستعصي عليها، وهو الشيء الذي أوصلها إلى هذا المكان المهجور: أين بحيرة الحمم البركانية؟ كان حبلُ شَدٍّ يُهدّئ روع إيما إذ يُثبت رباطَ الأمان الخاص بها. كانت تعرف أن هذا الحبل مربوط إلى مرساة هي الأكثر ثباتًا وأمانًا على قمة الجبل: إنها الدليلة الجبلية "كارلا بيريز". فعلى مرّ أسابيع ماضية، أصبحت إيما وكارلا صديقتين حميمتين إذ تقاسمتا مقصورة سفينة ضيقة ثم خيمة تهتز بفعل العواصف العاتية. في غياب خط رؤية واضح أمام إيما، تعلم كارلا أن منحدرًا جليديًا متدليًا قد يكون كامنًا في مكان ما أمام صديقتها؛ ويمكنه أن ينهار من دون سابق إنذار فيجرفها إلى بالوعة البركان. وحبل الشد هو بمنزلة تذكير بسيط لإيما بألّا تنسى نفسها وتذهب خطوة أبعد من اللازم.
في الثاني من فبراير عام 1775، وقف القبطان "جيمس كوك" وقد نال منه الإرهَاق عند الحاجز الخلفي لسفينته، "ريزولوشن"، وراح يحدّق في جزيرة قاتمة مكسوة بالثلوج. كان هذا الملّاح في رحلته البحرية الاستكشافية الثانية مدة عامين ونصف العام، إذ حدَث أن توافقت تلك التضاريس النذيرة مع حالته المزاجية؛ فأطلق عبارة "أفظع ساحل في العالم"، واصفًا الأرخبيل الذي كان قد أطلق عليه اسم "جزر ساندويتش الجنوبية" نسبةً إلى أحد مؤيديه الذي يدعى "إيرل ساندويتش". وكتب قائلًا إن هذه الجزر "قد حكمت عليها الطبيعة.. بألّا تتلقى دفء أشعة الشمس ولو مرة واحدة". وقد مرت عقود قبل أن يفهم العلماء أن إحداها، وهي ساوندرز، تمتلك مصدر حرارة خاصًا بها. وحتى حينها، لم يكن أحد مهتمًا بما يكفي بزيارة هذه الجزيرة الجليدية الواقعة في مهب رياح بمكان قصي معزول. يقول "جون سميلي"، أستاذ الجيولوجيا لدى "جامعة ليسيستر": "جزر ساندويتش الجنوبية.. يَصعب بلوغها؛ يَصعب النزول بشواطئها؛ يَصعب العمل فيها، لذلك لا بد أن يكون لديك سبب وجيه جدا للذهاب إليها". ومع ذلك، فإن هذه الجزر، التي تتشكل نتيجة لحركة الصفيحة التكتونية لأميركا الجنوبية أسفل من صفيحة جزر ساندويتش الجنوبية، هي واحدة من أبسط البيئات التكتونية في العالم لدراسة علم البراكين. قال لي سميلي عندما هاتفتُه في مكتبه بإنجلترا: "إنها في الواقع مصنع للقشرة الأرضية. إذ يمكن فحص ما يحدث للصهارة منذ بدايتها وحتى ظهورها على السطح.. لأن المتغيرات قليلة جدًا هناك". ولقد اتصلت بسميلي لأنه أحد الأشخاص القلائل الذين زاروا جزيرة ساوندرز. فخلال رحلة استكشافية في عام 1997، كان يأخذ عيّنات من الطرف الشمالي للجزيرة، عندما لاحظ أن العمود المنبعث من بركان جبل مايكل كان كثيفًا بصورة غير عادية. يتذكر سميلي ذلك قائلًا: "لقد كان العمود يرغد ويزبد؛ وتلك خصائص فاجأتني". وذكّره ذلك السلوك بـ"جبل إريبوس"، وهو بركان في القطب الجنوبي يؤوي بحيرة حمم بركانية دائمة. سأل سميلي صديقًا في "هيئة المسح البريطانية لأنتاركتيكا" عمّا إذا كان بإمكان صور الأقمار الصناعية تحديد أي عناصر حرارية شاذة حوالي جبل مايكل. وباستخدام مقياس إشعاعي يعتمد على الأقمار الصناعية، عَمِلا على تحديد بصمة حرارية تتوافق مع فوهة قمة جبل مايكل. وافترضا أنه مع متوسط حرارة بلغت زهاء 300 درجة مئوية، كانت تلكَ بحيرة حمم بركانية.. واحدة من أندر الظواهر البركانية. على الرغم من وجود نحو 1350 بركانًا يُحتمل أن تكون نشطة في العالم، فقد تم التأكد من أن ثمانية منها فقط تؤوي بحيرات حمم بركانية حديثة مستمرة؛ وهي مراجل دائمة من الصخور المنصهرة. في العادة، بعد ثوران البركان، تَبرد الحمم المعرّضة للظروف الجوية وتتحول إلى كتلة صلبة من الصخور، حابسةً الحرارة والغازات داخلها (وربما تهيئ البركان لانفجار آخر). لكن في البراكين ذات المَنافس المفتوحة، تظل القنوات التي تربط السطح بحُجرة الصهارة في الأعماق السحيقة مفتوحة. ولكي تتشكل بحيرة حمم بركانية، يجب أن يكون الضغط كبيرًا بما يكفي لدفع الحمم إلى السطح؛ مثل ضغط الماء في نافورة. ولكن، لكي تدوم بحيرة الحمم البركانية، يجب أن يستمر الضغط، ويجب أن تكون النسبة بين الحرارة الآتية من داخل عمود الصهارة ومعدل التبريد متوازنة تمامًا، للحفاظ على الحمم في حالتها المنصهرة. يقول سميلي إن كلمة "مزاجية" توصيف جيد لمستويات الضغط التي تضخ الحمم البركانية إلى فوهة جبل مايكل. "إن الحمم تأتي وتذهب، ربما عدة أشهر في كل مرة، ولكن بعد ذلك تُظهر أبحاثنا أنها تمكث شهورًا في كل مرة". ولأن منظومات المَنافس المفتوحة توفر فرصًا للعلماء لأخذ عيّنات وتحليل كل من الغازات والحمم البركانية، فإنها تُعد مختبرًا بالغ الأهمية لفهم السلوك البركاني فهمًا أفضل والمساعدة في التنبؤ بالمخاطر البركانية والتخفيف من حدتها. لكن سميلي كان مهتمًا أكثر بدراسة الصخور المحيطة بالبركان ولم يفكر جديًا قَط في تسلق بركان جبل مايكل. يقول: "بحيرات الحمم البركانية ليست اختصاصي. وإذْ أُدرك إمكانية أن تسوء الأمور، فعلى الأرجح أختارُ وقتًا تكون فيه الحمم قد انحسرت ولم تعد مرئية". وفي عام 2019، استخدم فريق آخر من علماء البراكين بيانات الأقمار الصناعية فائقة الدقة، لتحديث النتائج التي توصل إليها فريق سميلي، وأجرَوا حسابات لمَعلم تضاريسي شاذّ تزيد مساحته على 9940 مترًا مربعًا فوق سطح الفوهة. وكما فعل سميلي، فقد خلص تقييمهم إلى أن الأمر يتعلق ببحيرة حمم بركانية، أصغر قليلًا من مساحة 1.5 ملعب كرة قدم احترافي. ولفتت تلك الدراسة أيضًا انتباه أستاذة علم براكين حديثة التعيين حينها لدى "كلية لندن الجامعية".. إيما نيكلسون. وبقدر ما كانت صور الأقمار الصناعية دقيقة، فقد عرفت إيما أن الطريقة الوحيدة للتأكد من أن جبل مايكل يؤوي بحيرة حمم بركانية -ومن ثم دراستها- هي الصعود إلى الحافة وجمع العينات داخل فوهتها. إن حقيقة مرور عقدين من الزمن منذ أن عمل آخر جيولوجي ميداني في جزيرة ساوندرز، قد أثارت اهتمام عالمة البراكين هذه شديدة الإصرار والعزم. تقول إيما: "عندما كنت صغيرة، كنت دائمًا ما أتيه، وأتجول وأحاول الاستكشاف". كان والداها، وكلاهما من عشاق المشي مسافات طويلة، أو "التجول على التلال" كما يقول البريطانيون، يشجعان ابنتهما على المغامرة. وكان لنزهة واحدة خلال إجازة عائلية إلى الولايات المتحدة عندما كانت في السادسة من عمرها، تأثير كبير في حياتها: فلقد أتاحت لها مشاهدة "جبل سانت هيلينز". تتذكر إيما ذلك قائلةً: "كانت جميع الأشجار لا تزال ساقطة في اتجاه واحد. كان الرماد في كل مكان، حتى بعد مرور أكثر من 10 أعوام على ثوران البركان. أتذكّر رغبتي حينها في فهم القوى التي عملت على إنشاء ذلك المشهد".
في عام 2020، انضمت إيما إلى رحلة استكشافية على متن سفينة شراعية ذات هيكل من الألمنيوم، لاستطلاع جزر ساندويتش الجنوبية. بعد الرسو قبالة جزيرة ساوندرز، حاولت نيكلسون وشريكها في البحث، "كيران وود" وجملة من العلماء الآخرين، الصعود الأول لجبل مايكل؛ لكنهم عادوا أدراجهم بسبب تدهور أحوال الطقس. تقول: "في غضون دقائق، تحولت الأحوال من سماء زرقاء شبه صافية إلى ثلوج متساقطة وعواصف ثلجية. كان من قبيل التهور تمامًا الاستمرار". ومع ذلك، كان قرار العودة مؤلمًا للغاية، وكنت أسمع ذلك في صوتها عندما قالت إنها غادرت جبل مايكل بِـ "عمل غير مكتمل".
وفي نوفمبر 2022، انضممتُ إلى نيكلسون، وهي كذلك مستكشفة لدى ناشيونال جيوغرافيك، في "جزر فوكلاند" استعدادًا لرحلة العودة إلى ساوندرز. إذ كانت قد جهزت رحلة استكشافية لإتمام أول صعود لجبل مايكل، بالإضافة إلى إنجاز أول دراسة ميدانية لفوهته. وكانت "أستراليز"، وهي سفينة شراعية ذات هيكل فولاذي، بانتظارنا لدى الرصيف في "ميناء ستانلي". استقبلني رُبّانها، "بِنْ واليس"، وهو أسترالي نحيف يبلغ من العمر 43 عامًا، وكان مرتديًا بذلة إبحار ملطخة بالدهون.
كانت رحلتنا لتبدو ضئيلة جدا بالنسبة إلى كوك. تولّى بِنْ واثنين من طاقمه أمرَ تلك المركبة. وتَشكل الفريق العلمي من نيكلسون وزميليها "جواو لاجيس" (30 عامًا)، عالم كيمياء جيولوجية وعالم براكين، و"كيران وود" (37 عامًا)، مهندس طيران وخبير طائرات مسيّرة. وقاد المصور "رينان أوزتورك" (43 عامًا) فريقًا إعلاميًا مكونًا من أربعة أشخاص. أما قيادة مرحلة التسلق ضمن الرحلة، فآلت إلى "كارلا بيريز" (39 عامًا) متسلقة جبال إكوادورية وواحدة من مجموعة قليلة من النساء اللائي بلغن قمة "إيفرست" بلا أوكسجين إضافي.