المدينة المستدامة

تُعد الإمارات من بين الدول الرائدة في الاستدامة بمفهومها الأشمل؛ ولها في دبي نموذج يُحتذى..

في عام 2008، حينَ أتممتُ عامي الرابع بمدينـة بريزبان الأسترالية، أدركتُ أني بحاجة ماسة إلى تغيير مساري الأكاديمي.. ومعه أمورٌ أخرى.
 إذ أيقنتُ أن المنهاج الذي اخترته لدراستي العليا لن يفتح لي أي آفاق غير المجال الإعلامي، فقررت أن أتوقف عند نهاية الفصل الأول وأغير وجهتي إلى مدينة ملبورن حيث لفتَ نظري منهاجٌ لدى إحدى الجامعات، يتمحور حول "التصميم المستدام". حينها، كان مفهوم الاستدامة لدي لا يتجاوز استخدام الورق الرفيق بالبيئة؛ على أنني كنت في الواقع -وبغير وعي مني- أمارس بعض أشكال الاستدامة في نمط حياتي؛ كعدم امتلاكي سيارة، وسكني على مقربة من الجامعة ومكان عمَلي. زِد على ذلك تقليلي النفايات المنزلية وحرصي الشديد على استخدام المواد القابلة للتدوير. ‬‬‬‬ففي ملبورن، أدركتُ أن مفهوم الاستدامة لا يشمل الجانب البيئي فحسب، بل يتعداه إلى البعد الاجتماعي والاقتصادي. وهنالك أيضًا اشتعلَت في دواخلي جذوة التصوير الفوتوغرافي الاحترافي، وبخاصة التوثيق للهوية العمرانية للحواضر، بأنماطها الهندسية والجمالية؛ فكانت ملبورن باكورة إلهامي. حملت معي ذلك الشغف يومَ عدت إلى وطني الإمارات العربية المتحدة في عام 2013؛ إذ اعتزمتُ استكشاف هويته الحضرية الأصيلة انطلاقًا من العاصمة أبوظبي. لكن لم تكن لدي دراية كافية بعناصر هذه الهوية التي تشكلت بُعيد تأسيس الدولة في عام 1971، فرسمَت التفاصيل الأولى لشكل مدنها، قبل أن تتحلى بالأبراج وناطحات السحاب. أمضيتُ زهاء العامين باحثًا ودارسًا لكل ما يتصل بعُمران أبوظبي، ومسترشدًا بمعلومات شافية موثوقة من الدكتورة "الأميرة ريم الهاشمي"، خبيرة إماراتية في تخطيط المدن ومعمارية ومؤرخة. ثم شرعتُ في التوثيق البصري لهذه المدينة في عام 2015. وفي أثناء هذا السفر الفوتوغرافي، الذي ما زال متواصلًا حتى اليوم، وقفت على مدى جمالية البنايات وتناسقها وكذا رحابة شوارعها. لكن أكثر ما شد انتباهي وأثار إعجابي هو الحضور البارز في كثير من تلك المعالم، سواء أكانت وظيفية أم سكنية، للهوية العربية الأصيلة؛ فضلًا عن مراعاتها الجانب البيئي وملاءمتها خصوصية المناخ المحلي. ومع تغلغل كاميرتي في بُنيان العاصمة الإماراتية، وكذا انكبابي على دراسة الجانب النظري المتعلق بها، بدأت تتكشف أمام ناظري ملامح الاستدامة، لا سيما في البنايات الحديثة التي صار بعضها تُحَفًا معمارية بشهرة عالمية. هنالك قررتُ استكشاف تلك العناصر ومدى تجسدها ليس فقط في أبوظبي وإنما على صعيد الدولة.. فكانت بداية الاستكشاف من إمارة دبي، حيث توجد "المدينة المستدامة". 

"الإنسان قبل المكان"..
كانت نسائم الصباح في أبوظبي تداعبني حين انطلقت بالسيارة في أولى زياراتي إلى "المدينة المستدامة". كان ذلك في أواخر شهر ديسمبر من العام الماضي، وأجواء الاحتفالات باليوم الوطني لدولة الإمارات ما تزال تخيم على الأمكنة.. وعلى مخيلتي. إذ استحضرت وأنا في الطريق، إنجازات الأب المؤسس للدولة، المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في مجال التخطيط الحضري بأبوظبي، حيث كان يشرف بنفسه على رسم المعالم العمرانية لهذه الإمارة. وقد استقدم الشيخ زايد شركات عالمية للإسهام في تلك العملية، قبل أن يستقر اختياره في عام 1968 على "عبدالرحمن مخلوف". جاء هذا الاختيار ليس لكون مخلوف عربيًا فقط، بل أيضا لامتلاكه القيم الاجتماعية الأصيلة التي كان يؤمن الشيخ زايد بها. إذ نشأ في بيت كان يؤوي ثلاثة أجيال، وكان جده وأبوه من علماء الأزهر؛ فألقى ذلك بظلاله على حياة الرجل المهنية في مجال العَمارة. تقول الهاشمي، مؤلفة كتاب "تخطيط أبوظبي: تاريخ حضري"، والذي يوثق لمراحل تخطيط هذه الإمارة: "كان الشيخ زايد ومخلوف يؤمنان بأن التخطيط العمراني مَهمة اجتماعية؛ لذا عقدا العزم على حياكة نسيج عمراني يراعي القيم الاجتماعية والوظيفية ويؤمّن العيش المريح لسكان المدينة في تناغم وألفة وود بين مختلف الجنسيات والثقافات". ثم جاءت الطفرة النفطية وما واكبها من حاجات اقتصادية، فوضعَت بصمةً جديدة في النسيج العمراني لأبوظبي. واستوعبت هذه الأخيرة ذلك التغيير برحابة صدر، لكنها ظلت محافظة على الطابع الاجتماعي المتمثل في قرب المسافات ما بين البيوت السكنية والمرافق العامة؛ وهو طابع ما زالت ملامحه حاضرة في قلب المدينة، حيث يطيب التنقل مشيًا، لا سيما في شهور الطقس المعتدل.وما زالت أبوظبي منذ ستينيات القرن الماضي تتكيف مع كل مرحلة جديدة من التطور العمراني، مستجيبةً للنمو السكاني والازدهار الاقتصادي والتقدم التقني، ومستوعبةً مستجدات عصرها على المستوى العالمي. وهكذا صار النسيج الحضري للمدينة منوّعًا ومشَكَّلًا من "طبقات عمرانية" حملت كلٌّ منها سمات مرحلة بعينها.. وذلك سرّ من أسرار رونقها وسحرها.

"لم يكن هنا شيء سوى هذه الشجرة"،
هذا ما قاله لي المهندس "فارس سعيد"، مشيرًا إلى صورة مبروَزة لشجرة "غاف" تزين إحدى زوايا مكتبه، لدى وصولي إلى "المدينة المستدامة" في دبي. كان يرتدي قميصًا قصير الكمّين يُبرز مظهره الرياضي الأنيق الذي لا يشي بأنه في منتصف العمر. وسعيد هو رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمجموعة "سي القابضة"، المالكة لشركة "دايموند ديفالابرز" العقارية، والعقل المدبر لهذه الأيقونة الحضرية الرائدة في مجال الاستدامة. ففي عام 2013، كان الموقع بمنزلة ‪"‬لوحة بيضاء" إلى جوار "شارع القدرة"؛ وقد خلّدت تلك الصورة مرحلة البناء الأولى للمدينة المستدامة، والتي اقتضت إزالة تلك الشجرة السقيمة تجنبًا لانتشار مرضها. ‬‬لا تبعد "المدينة المستدامة" سوى أقل من 25 كيلومترًا عن مركز مدينة دبي وتمتد على مساحة تصل إلى 460 هكتارًا. وقبل انتقال السكان للعيش في بيوتهم هناك، عملت "دايموند ديفالابرز" على توفير مجموعة متكاملة من المرافق الاجتماعية والمزايا البيئية التي أصبحت جاهزة بحلول عام 2016. وتقطنها اليوم ساكنة تقدر بـ3000 نسمة، تعيش في 500 فيلا و89 شُّقة، ضمن مجتمع مستدام بالكامل هو الأول من نوعه في العالم. وبذلك تكون هذه المدينة الوليدة من أول المشروعات العقارية الإماراتية التي تبنت معايير الاستدامة بعناصرها الرئيسة الثلاثة، الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، والتي تُعد من الركائز المهمة للاقتصاد الأخضر.

"لطالما أرّقني البحث بشأن الجُزر الحرارية الحضرية"
 هكذا عبّر فارس سعيد عن لحظة اكتشافه تلك المشكلة. يطلَق على هذا المصطلح المناخي باللغة الإنجليزية اسم (Urban Heat Islands) ويشير إلى ارتفاع درجات الحرارة في المدن أكثر من ضواحيها والأرياف المحيطة بها، وذلك بفعل النشاط البشري؛ وكان هذا تحديدًا الرهان الأكبر الذي سعى سعيد لكسبه عند البدء في إنشاء المدينة المستدامة. وقد استند الرجل إلى خبرته الهندسية الواسعة، فضلا عن اطلاعه الكبير على تجارب عالمية رائدة وناجحة في مجال البناء المستدام؛ ليجد في نهاية المطاف الوصفة الأنسب.. فكان له ما أراد. استُخدم في تشييد المباني مواد رفيقة بالبيئة وعازلة للحرارة، من قبيل الطلاء العاكس للأشعة فوق البنفسجية، ومكيفات الهواء الموفرة للطاقة والإضاءة التي تعمل بنظام (LED)، إذ تقلل المدينة المستدامة من معدل البصمة الكربونية للفرد بنسبة 75 بالمئة مقارنة بالمساكن التقليدية. كما أن واجهات المباني المقابلة للجنوب مغلقة لحجب الشمس، فيما وُجّهت النوافذ ذات العزل الجيد صوب الشمال. وتم تبليط أسطح جميع الشوارع والمسالك بألوان فاتحة لتعكس أشعة الشمس وتمتص سخونة الجو. وتستخدم جميع المساكن في المدينة الطاقة النظيفة التي تُنتَج من الألواح الشمسية المركبة على واجهات وأسطح الفلل والمباني ومواقف السيارات، والتي نجحت تمامًا في توليد الطاقة حسب حاجة القاطنين. كما تُوصل الكهرباء لمحطات شحن السيارات الكهربائية، وللبيوت الزراعية، ولإنارة أضواء الشوارع من دون تكلفة مادية. ويطوق المدينةَ "حزام أخضر" بمنزلة منطقة عازلة، يبلغ عرضه ثلاثين مترًا ويتألف من ثلاث طبقات تؤدي أدوارًا بيئية حيوية. إذ تقلل الضوضاء وتنظف الهواء من الغبار وتلقي بظلالها على مضمار الخيل ومسار الدراجات الهوائية. ويشكل هذا الحزام ملاذَا طبيعيًا مهمًا للطيور والزواحف. ‬‬‬‬‬‬ وجُهزت مباني المدينة المستدامة بأجهزة ومُعدّات توفر المياه وتُسهم في ترشيد استهلاكها؛ فضلًا عن وجود منظومة متكاملة لمعالجة "المياه الرمادية" وإعادة استخدامها في ري المساحات الخضراء المنتجة، وكذا لمعالجة "المياه السوداء" واستخدامها في المشهد الطبيعي غير المنتج. كما أن البنية التضاريسية للمدينة تسمح بتوجيه مياه العواصف المطرية إلى داخل شبكة معقدة من الآبار الحيوية والأفلاج -نظام ري تقليدي- التي تساعد في تغذية الفُرشات المائية الجوفية العذبة.

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab

المدينة المستدامة

تُعد الإمارات من بين الدول الرائدة في الاستدامة بمفهومها الأشمل؛ ولها في دبي نموذج يُحتذى..

في عام 2008، حينَ أتممتُ عامي الرابع بمدينـة بريزبان الأسترالية، أدركتُ أني بحاجة ماسة إلى تغيير مساري الأكاديمي.. ومعه أمورٌ أخرى.
 إذ أيقنتُ أن المنهاج الذي اخترته لدراستي العليا لن يفتح لي أي آفاق غير المجال الإعلامي، فقررت أن أتوقف عند نهاية الفصل الأول وأغير وجهتي إلى مدينة ملبورن حيث لفتَ نظري منهاجٌ لدى إحدى الجامعات، يتمحور حول "التصميم المستدام". حينها، كان مفهوم الاستدامة لدي لا يتجاوز استخدام الورق الرفيق بالبيئة؛ على أنني كنت في الواقع -وبغير وعي مني- أمارس بعض أشكال الاستدامة في نمط حياتي؛ كعدم امتلاكي سيارة، وسكني على مقربة من الجامعة ومكان عمَلي. زِد على ذلك تقليلي النفايات المنزلية وحرصي الشديد على استخدام المواد القابلة للتدوير. ‬‬‬‬ففي ملبورن، أدركتُ أن مفهوم الاستدامة لا يشمل الجانب البيئي فحسب، بل يتعداه إلى البعد الاجتماعي والاقتصادي. وهنالك أيضًا اشتعلَت في دواخلي جذوة التصوير الفوتوغرافي الاحترافي، وبخاصة التوثيق للهوية العمرانية للحواضر، بأنماطها الهندسية والجمالية؛ فكانت ملبورن باكورة إلهامي. حملت معي ذلك الشغف يومَ عدت إلى وطني الإمارات العربية المتحدة في عام 2013؛ إذ اعتزمتُ استكشاف هويته الحضرية الأصيلة انطلاقًا من العاصمة أبوظبي. لكن لم تكن لدي دراية كافية بعناصر هذه الهوية التي تشكلت بُعيد تأسيس الدولة في عام 1971، فرسمَت التفاصيل الأولى لشكل مدنها، قبل أن تتحلى بالأبراج وناطحات السحاب. أمضيتُ زهاء العامين باحثًا ودارسًا لكل ما يتصل بعُمران أبوظبي، ومسترشدًا بمعلومات شافية موثوقة من الدكتورة "الأميرة ريم الهاشمي"، خبيرة إماراتية في تخطيط المدن ومعمارية ومؤرخة. ثم شرعتُ في التوثيق البصري لهذه المدينة في عام 2015. وفي أثناء هذا السفر الفوتوغرافي، الذي ما زال متواصلًا حتى اليوم، وقفت على مدى جمالية البنايات وتناسقها وكذا رحابة شوارعها. لكن أكثر ما شد انتباهي وأثار إعجابي هو الحضور البارز في كثير من تلك المعالم، سواء أكانت وظيفية أم سكنية، للهوية العربية الأصيلة؛ فضلًا عن مراعاتها الجانب البيئي وملاءمتها خصوصية المناخ المحلي. ومع تغلغل كاميرتي في بُنيان العاصمة الإماراتية، وكذا انكبابي على دراسة الجانب النظري المتعلق بها، بدأت تتكشف أمام ناظري ملامح الاستدامة، لا سيما في البنايات الحديثة التي صار بعضها تُحَفًا معمارية بشهرة عالمية. هنالك قررتُ استكشاف تلك العناصر ومدى تجسدها ليس فقط في أبوظبي وإنما على صعيد الدولة.. فكانت بداية الاستكشاف من إمارة دبي، حيث توجد "المدينة المستدامة". 

"الإنسان قبل المكان"..
كانت نسائم الصباح في أبوظبي تداعبني حين انطلقت بالسيارة في أولى زياراتي إلى "المدينة المستدامة". كان ذلك في أواخر شهر ديسمبر من العام الماضي، وأجواء الاحتفالات باليوم الوطني لدولة الإمارات ما تزال تخيم على الأمكنة.. وعلى مخيلتي. إذ استحضرت وأنا في الطريق، إنجازات الأب المؤسس للدولة، المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في مجال التخطيط الحضري بأبوظبي، حيث كان يشرف بنفسه على رسم المعالم العمرانية لهذه الإمارة. وقد استقدم الشيخ زايد شركات عالمية للإسهام في تلك العملية، قبل أن يستقر اختياره في عام 1968 على "عبدالرحمن مخلوف". جاء هذا الاختيار ليس لكون مخلوف عربيًا فقط، بل أيضا لامتلاكه القيم الاجتماعية الأصيلة التي كان يؤمن الشيخ زايد بها. إذ نشأ في بيت كان يؤوي ثلاثة أجيال، وكان جده وأبوه من علماء الأزهر؛ فألقى ذلك بظلاله على حياة الرجل المهنية في مجال العَمارة. تقول الهاشمي، مؤلفة كتاب "تخطيط أبوظبي: تاريخ حضري"، والذي يوثق لمراحل تخطيط هذه الإمارة: "كان الشيخ زايد ومخلوف يؤمنان بأن التخطيط العمراني مَهمة اجتماعية؛ لذا عقدا العزم على حياكة نسيج عمراني يراعي القيم الاجتماعية والوظيفية ويؤمّن العيش المريح لسكان المدينة في تناغم وألفة وود بين مختلف الجنسيات والثقافات". ثم جاءت الطفرة النفطية وما واكبها من حاجات اقتصادية، فوضعَت بصمةً جديدة في النسيج العمراني لأبوظبي. واستوعبت هذه الأخيرة ذلك التغيير برحابة صدر، لكنها ظلت محافظة على الطابع الاجتماعي المتمثل في قرب المسافات ما بين البيوت السكنية والمرافق العامة؛ وهو طابع ما زالت ملامحه حاضرة في قلب المدينة، حيث يطيب التنقل مشيًا، لا سيما في شهور الطقس المعتدل.وما زالت أبوظبي منذ ستينيات القرن الماضي تتكيف مع كل مرحلة جديدة من التطور العمراني، مستجيبةً للنمو السكاني والازدهار الاقتصادي والتقدم التقني، ومستوعبةً مستجدات عصرها على المستوى العالمي. وهكذا صار النسيج الحضري للمدينة منوّعًا ومشَكَّلًا من "طبقات عمرانية" حملت كلٌّ منها سمات مرحلة بعينها.. وذلك سرّ من أسرار رونقها وسحرها.

"لم يكن هنا شيء سوى هذه الشجرة"،
هذا ما قاله لي المهندس "فارس سعيد"، مشيرًا إلى صورة مبروَزة لشجرة "غاف" تزين إحدى زوايا مكتبه، لدى وصولي إلى "المدينة المستدامة" في دبي. كان يرتدي قميصًا قصير الكمّين يُبرز مظهره الرياضي الأنيق الذي لا يشي بأنه في منتصف العمر. وسعيد هو رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمجموعة "سي القابضة"، المالكة لشركة "دايموند ديفالابرز" العقارية، والعقل المدبر لهذه الأيقونة الحضرية الرائدة في مجال الاستدامة. ففي عام 2013، كان الموقع بمنزلة ‪"‬لوحة بيضاء" إلى جوار "شارع القدرة"؛ وقد خلّدت تلك الصورة مرحلة البناء الأولى للمدينة المستدامة، والتي اقتضت إزالة تلك الشجرة السقيمة تجنبًا لانتشار مرضها. ‬‬لا تبعد "المدينة المستدامة" سوى أقل من 25 كيلومترًا عن مركز مدينة دبي وتمتد على مساحة تصل إلى 460 هكتارًا. وقبل انتقال السكان للعيش في بيوتهم هناك، عملت "دايموند ديفالابرز" على توفير مجموعة متكاملة من المرافق الاجتماعية والمزايا البيئية التي أصبحت جاهزة بحلول عام 2016. وتقطنها اليوم ساكنة تقدر بـ3000 نسمة، تعيش في 500 فيلا و89 شُّقة، ضمن مجتمع مستدام بالكامل هو الأول من نوعه في العالم. وبذلك تكون هذه المدينة الوليدة من أول المشروعات العقارية الإماراتية التي تبنت معايير الاستدامة بعناصرها الرئيسة الثلاثة، الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، والتي تُعد من الركائز المهمة للاقتصاد الأخضر.

"لطالما أرّقني البحث بشأن الجُزر الحرارية الحضرية"
 هكذا عبّر فارس سعيد عن لحظة اكتشافه تلك المشكلة. يطلَق على هذا المصطلح المناخي باللغة الإنجليزية اسم (Urban Heat Islands) ويشير إلى ارتفاع درجات الحرارة في المدن أكثر من ضواحيها والأرياف المحيطة بها، وذلك بفعل النشاط البشري؛ وكان هذا تحديدًا الرهان الأكبر الذي سعى سعيد لكسبه عند البدء في إنشاء المدينة المستدامة. وقد استند الرجل إلى خبرته الهندسية الواسعة، فضلا عن اطلاعه الكبير على تجارب عالمية رائدة وناجحة في مجال البناء المستدام؛ ليجد في نهاية المطاف الوصفة الأنسب.. فكان له ما أراد. استُخدم في تشييد المباني مواد رفيقة بالبيئة وعازلة للحرارة، من قبيل الطلاء العاكس للأشعة فوق البنفسجية، ومكيفات الهواء الموفرة للطاقة والإضاءة التي تعمل بنظام (LED)، إذ تقلل المدينة المستدامة من معدل البصمة الكربونية للفرد بنسبة 75 بالمئة مقارنة بالمساكن التقليدية. كما أن واجهات المباني المقابلة للجنوب مغلقة لحجب الشمس، فيما وُجّهت النوافذ ذات العزل الجيد صوب الشمال. وتم تبليط أسطح جميع الشوارع والمسالك بألوان فاتحة لتعكس أشعة الشمس وتمتص سخونة الجو. وتستخدم جميع المساكن في المدينة الطاقة النظيفة التي تُنتَج من الألواح الشمسية المركبة على واجهات وأسطح الفلل والمباني ومواقف السيارات، والتي نجحت تمامًا في توليد الطاقة حسب حاجة القاطنين. كما تُوصل الكهرباء لمحطات شحن السيارات الكهربائية، وللبيوت الزراعية، ولإنارة أضواء الشوارع من دون تكلفة مادية. ويطوق المدينةَ "حزام أخضر" بمنزلة منطقة عازلة، يبلغ عرضه ثلاثين مترًا ويتألف من ثلاث طبقات تؤدي أدوارًا بيئية حيوية. إذ تقلل الضوضاء وتنظف الهواء من الغبار وتلقي بظلالها على مضمار الخيل ومسار الدراجات الهوائية. ويشكل هذا الحزام ملاذَا طبيعيًا مهمًا للطيور والزواحف. ‬‬‬‬‬‬ وجُهزت مباني المدينة المستدامة بأجهزة ومُعدّات توفر المياه وتُسهم في ترشيد استهلاكها؛ فضلًا عن وجود منظومة متكاملة لمعالجة "المياه الرمادية" وإعادة استخدامها في ري المساحات الخضراء المنتجة، وكذا لمعالجة "المياه السوداء" واستخدامها في المشهد الطبيعي غير المنتج. كما أن البنية التضاريسية للمدينة تسمح بتوجيه مياه العواصف المطرية إلى داخل شبكة معقدة من الآبار الحيوية والأفلاج -نظام ري تقليدي- التي تساعد في تغذية الفُرشات المائية الجوفية العذبة.

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab