هموم الأخدود العظيم

اعتزم مغامران الانطلاق في مسيرة بطول 1050 كيلومترًا خلال "الأخدود العظيم"، فواجها فيها الأخطار والشدائد.. ورأوا بأم أعينهم كيف أن المشروعات العمرانية تهدّد أحد أحبّ الأماكن إلى قلوب الناس في أميركا.

صاح إليّ "ريتش رادو": "إنْ زلّت قدمك وأفلتَّ الحبل هنا فلن تستطيع منع نفسك من السقوط، إذ إنك ستسقط في الهاوية". ليس من عادة هذا الرجل رابط الجأش صعب الاستثارة، أن ينفعل على هذا النحو. لكن رادو كان يعي تمامًا مدى خطر هذا المكان، فهو ليس مكانًا يُنصح فيه المرء بالتخلّي عن يقظته. لا عجب، فلقد كنا نقف على جرفٍ يعلو "نهر كولورادو" بنحو 1050 مترًا عند نهاية "غرَيت ثام ميسا"، وهي هضبة مستوية بديعة تنتأ من "الحافّة الجنوبية" للأخدود العظيم (غراند كانيون) كما لو أنها جؤجؤ (مقدّمة) سفينة هائلة. وتُعدّ أحد أنأى المواقع في الأخدود، إذ يَندر أن يحظى أحدٌ برؤيتها، حتى وإن كان من ممارسي المشي الأكثر دُربَةً وجرأةً. وفي حال قطعَ المرءُ كل هذه المسافة على الهضبة، فلن يجد طريقة للهبوط إلى النهر من دون استعمال لوازم تسلّق الجبال، وعندها فإن الطعام المتناقص في حقيبته لن يتيح له العودة من حيث أتى، والتي تتطلّب السير ثمانية أيام. لذا فلا مفرّ من المضيّ قُدُمًا.

أمامنا مباشرة، بدأ يتضاءل الحَيْد الذي كنا نمشي عليه طوال الأيام القليلة الماضية، متلاشيًا في فجوة عميقة -أو انحسار- لدى جدار الأخدود. يُعرَف هذا المكان باسم "آول آيز" (عيون البومة)، وذلك نظرًا لوجود حفرتين إهليلجيّتين في مركز الجرف الذي يلوح فوق وسط الانحسار. وقد كان "آول آيز"، فضلًا عن مِحجَري الجمجمة المشؤمَين اللَّذَين لديه، مسرحًا لقصّة مأساويّة؛ فقبل عشرة أعوام، وفي يومٍ مشمسٍ من أيام فبراير، كانت شابّة حسناء من أصدقاء رادو تقطع هذا الممرّ وإذا بها تهوي إلى مصرعها. طفقنا نجول بناظرينا عبر المشهد نفسه، ولكن في ظروف أسوأ بكثير. فلقد وصلتنا عاصفة ظلت تتحرّك بتثاقل منذ الليلة الفائتة فكست الأخدود بثلاثة وعشرين سنتيمترًا من الثلج. وبصراحة ما كنّا لنتخيّل هذا الموقف في بداية انطلاقنا في مغامرتنا تلك.. وأعني هنا مسيرة عبورنا الأخدود العظيم من أولّه إلى منتهاه! والحقيقة أن الإقبال على مغامرة من هذا النوع ليس تصرّفًا عاقلًا، إذْ لا يوجد درب واحد أو شبكة من الدروب تمتد على كامل الحافّة الشمالية أو الجنوبية للأخدود. وأفضل طريقة فعّالة لاجتياز الأخدود طولًا هو أن يتنقل المرء على متن قارب أو طوف في مجرى نهر كولورادو، الذي يتلوّى في الأخدود بشكل أفعوانيّ مسافة 433 كيلومترًا. ولهذا السبب كان "جون ويزلي باول"، الذي ترأّس أول عملية عبور للأخدود، قد فعل ذلك على متن قارب.

وبعد إنجاز باول الذي تحقّق صيفَ عام 1869، لم يكن أحدٌ ليحقّق الإنجاز نفسه ولكن سيرًا على الأقدام قبل مضيّ أكثر من مئة عام. وخلال تلك الفترة كان الأخدود نفسه قد تقدّم من كونه محميّة للغابات إلى موقع تراثٍ وطني محميّ، إلى أن أصبح أخيرًا جوهرة التاج لدى "نظام المنتزهات الوطنية" وأحد أشهر المشاهد الطبيعية بالولايات المتحدة وأحبّها إلى قلوب الناس، كما يزعم بعضهم. فقد أضحى الأخدود وجهة مرغوبة لإمضاء الإجازات لدى ملايين من العائلات؛ أما صوره فقد زيّنت عددًا لا يحصى من البطاقات البريدية. ومع ذلك، فلم يكتشف أحد كيف يمكن اجتياز كامل طول هذا التكوين الجيولوجي إلى أن نجح دليلٌ سياحيّ لنهر كولورادو اسمه "كينتون غروا" -وكان عمره حينها 25 عامًا-  في إتمام المسيرة، وذلك في شتاء عام 1976، أي بعد مُضي نحو 65 عامًا على وصول البشر إلى القطبين الشمالي والجنوبي أخيرًا، وبعد مضي 23 عامًا على اعتلائهم قمة "إيفرست" أول مرة.

لنتأمل معًا هذه الحقيقة المذهلة للحظة.. ولنفكّر بما تبوح به عن مدى تعقيد هذا المكان وقساوته. لا أحد يعلم على وجه اليقين ما هي المسافة التي كان غروا قد قطعها، لكن بوجود الأعداد الكبيرة من الانحسارات في جدارَي الأخدود، فمن المرجَّح أن يكون قد قطع مسافة 1100 كيلومتر خلال مسيرة الاجتياز الكامل التي طالت 37 يومًا على الجانب الجنوبي من النهر، ابتداءً من نقطة "ليز فيري" إلى منطقة "غراند وش كليفس". ولم يسعَ الرجل مطلقًا لإعلان إنجازه العظيم أمام العالم؛ ولكن بانتشار الخبر بين الناس شيئًا فشيئًا، أصبح هذا الإنجاز تحدّيًا جديدًا للأشدّاء من ممارسي المشي بحقائب الظهر؛ ومنهم مهندس كهرباء من مدينة فينيكس يدعى "ريتش رادو". بحلول خريف عام 2015، كان رادو قد أتمّ مئات المسيرات فضلًا عن استكشافه الأنفاق الأخدودية (slot canyons) ضمن الأخدود العظيم نفسه، فشعر عندها بأنه قد أصبح مؤهّلًا لخوض أكبر تحدٍّ له، ألا وهو: مسيرة 57 يومًا من الشرق إلى الغرب على طول الجانب الشمالي للأخدود. وإلى حين كان رادو واثنين من رفاقه جاهزين للانطلاق، أي بعد مُضي نحو 40 عامًا على مسيرة غروا عبر الأخدود، لم يكن عدد الذين قاربوا هذا الإنجاز المتمثل في الربط بين سلسلة من المسيرات الصغيرة المنفصلة (تُعرف باسم "المسيرة المجزّأة لاجتياز كامل الأخدود") على طول الأخدود، قد بلغ بعدُ 24 شخصًا. بل إن عدد ممارسي المشي بحقيبة الظهر الذين أتمّوا مسيرة عبور كامل "مستمرّة" دفعةً واحدة كان أقل من ذلك بكثير؛ إذ قبل عام 2015 كان عدد الأشخاص الذين بلغوا سطح القمر (12 شخصًا) أكثر من أولئك الذين أتمّوا مسيرة عبور كامل للأخدود العظيم (ثمانية أشخاص). وعندما وصل خبر ما يخطّط له رادو إلى مسمع المصوّر "بِيت ماك برايد"، اتصل بي وسألني إنْ كنت أرغب بالانضمام إلى مجموعته. وقد كان لي ولصاحبي بِيت سابق تجربة في ركوب الزوارق لدى الأخدود، ولكننا للأسف الشديد لم نكن مستعدّين لِما كان في انتظارنا لاحقًا. والتفسير الوحيد الذي لديّ لموافقة رادو على مصاحبته لنا هو أن دافعنا الأساس للمشاركة كان قد أقنعه، ألا وهو: التحقّق من بعض التقارير المؤسفة التي كانت قد وصلتنا عن مستقبل الأخدود، والتي شملت منشآت سياحية جديدة، ومزيدًا من الطلعات الجويّة بالمروحيّات، ومنجمًا لليورانيوم.

منذ أن دخل الأخدود العظيم وجدانَ الشعب الأميركي، أثار رغبتين مختلفتين: الرغبة بحمايته، ورغبة استغلاله بجشع لتحقيق أموال طائلة. فخلال الأعوام التي تلت بعثة باول، هُرِع المُعَدّنون إلى الأخدود لوضع أيديهم على مناجم النحاس والزنك والفضة والأسبست (الحرير الصخري) والمطالبة بحق تعدينها.

وخلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان أحد أباطرة المال يرغب بتحويل قاع الأخدود إلى ممرّ للسكك الحديدية ليشحن من خلاله الفحم من مدينة دينفر إلى ولاية كاليفورنيا (لكن الرجل غرق في نهر كولورادو مع اثنين من مرافقيه في البعثة الاستطلاعية للأخدود). وفي خمسينيات القرن الماضي، حاولت شركة تعدين أن تكوّن ثروة بإنشاء تلفريك ضخم لنقل ذَرْق الخفافيش (المستعمَل سمادًا) من أحد الكهوف في الأخدود لبيعه إلى زارعي الورد؛ لكن ذلك لم يُكلَّل بالنجاح فانتهى عهده سريعًا. بل وكانت هناك خطة حكومية لبناء سدّين لإنتاج الكهرباء بطاقة المياه في قلب الأخدود، وكان من شأن المشروع أن يحوّل مساحات واسعة من نهر كولورادو إلى سلسلة من الخزّانات المائية التي لو تحقّقت لوجدتم سواحلها بلا أدنى شكّ مزدحمة بالقوارب المُعدّة للسُّكنى وكذلك بالدرّاجات المائية.

وقد كان لنجاح الحملة التي أُطلِقت لمنع بناء السدّين، والتي تزعّمتها منظمة "سييرا كلاب" البيئية خلال ستّينيات القرن الماضي، أن توطّدت فكرة أنَّ للأخدود العظيم حرمته. ومع ذلك، فقد سمعنا أنا وبِيت عن مجموعة من المقترحات الجديدة، كثير منها مدفوع من روّاد أعمال حذقين يعملون مباشرةً خارج حدود الأخدود في مناطق لم تكن تديرها فيما مضى "إدارة المنتزهات الوطنية" بل "هيئة الغابات الأميركية" أو إحـدى القبائل الأميركية الأصلية الخمس التي تقع محميّاتها المعترف بها من الحكومة الاتحادية حوالي الأخدود. وكان المرء يجد أخطارًا تحيق بهذا المنتزه، الذي يُعدّ من أفضل المنتزهات في العالم، من كل حدب وصوب.. بدءًا من المنشآت السياحية الضخمة والطلعات الجويّة السياحية غير المحدودة بالمروحيّات، وانتهاءً بتعدين اليورانيوم. وقد ارتأينا، أنا وبِيت، أنَّ أفضل وسيلة لفهم كُنه هذا المشهد الطبيعي المعرّض للتهديد هو بأن نحذو حذو كينتون غروا وأن نسير في قلب الأخدود.

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab

هموم الأخدود العظيم

اعتزم مغامران الانطلاق في مسيرة بطول 1050 كيلومترًا خلال "الأخدود العظيم"، فواجها فيها الأخطار والشدائد.. ورأوا بأم أعينهم كيف أن المشروعات العمرانية تهدّد أحد أحبّ الأماكن إلى قلوب الناس في أميركا.

صاح إليّ "ريتش رادو": "إنْ زلّت قدمك وأفلتَّ الحبل هنا فلن تستطيع منع نفسك من السقوط، إذ إنك ستسقط في الهاوية". ليس من عادة هذا الرجل رابط الجأش صعب الاستثارة، أن ينفعل على هذا النحو. لكن رادو كان يعي تمامًا مدى خطر هذا المكان، فهو ليس مكانًا يُنصح فيه المرء بالتخلّي عن يقظته. لا عجب، فلقد كنا نقف على جرفٍ يعلو "نهر كولورادو" بنحو 1050 مترًا عند نهاية "غرَيت ثام ميسا"، وهي هضبة مستوية بديعة تنتأ من "الحافّة الجنوبية" للأخدود العظيم (غراند كانيون) كما لو أنها جؤجؤ (مقدّمة) سفينة هائلة. وتُعدّ أحد أنأى المواقع في الأخدود، إذ يَندر أن يحظى أحدٌ برؤيتها، حتى وإن كان من ممارسي المشي الأكثر دُربَةً وجرأةً. وفي حال قطعَ المرءُ كل هذه المسافة على الهضبة، فلن يجد طريقة للهبوط إلى النهر من دون استعمال لوازم تسلّق الجبال، وعندها فإن الطعام المتناقص في حقيبته لن يتيح له العودة من حيث أتى، والتي تتطلّب السير ثمانية أيام. لذا فلا مفرّ من المضيّ قُدُمًا.

أمامنا مباشرة، بدأ يتضاءل الحَيْد الذي كنا نمشي عليه طوال الأيام القليلة الماضية، متلاشيًا في فجوة عميقة -أو انحسار- لدى جدار الأخدود. يُعرَف هذا المكان باسم "آول آيز" (عيون البومة)، وذلك نظرًا لوجود حفرتين إهليلجيّتين في مركز الجرف الذي يلوح فوق وسط الانحسار. وقد كان "آول آيز"، فضلًا عن مِحجَري الجمجمة المشؤمَين اللَّذَين لديه، مسرحًا لقصّة مأساويّة؛ فقبل عشرة أعوام، وفي يومٍ مشمسٍ من أيام فبراير، كانت شابّة حسناء من أصدقاء رادو تقطع هذا الممرّ وإذا بها تهوي إلى مصرعها. طفقنا نجول بناظرينا عبر المشهد نفسه، ولكن في ظروف أسوأ بكثير. فلقد وصلتنا عاصفة ظلت تتحرّك بتثاقل منذ الليلة الفائتة فكست الأخدود بثلاثة وعشرين سنتيمترًا من الثلج. وبصراحة ما كنّا لنتخيّل هذا الموقف في بداية انطلاقنا في مغامرتنا تلك.. وأعني هنا مسيرة عبورنا الأخدود العظيم من أولّه إلى منتهاه! والحقيقة أن الإقبال على مغامرة من هذا النوع ليس تصرّفًا عاقلًا، إذْ لا يوجد درب واحد أو شبكة من الدروب تمتد على كامل الحافّة الشمالية أو الجنوبية للأخدود. وأفضل طريقة فعّالة لاجتياز الأخدود طولًا هو أن يتنقل المرء على متن قارب أو طوف في مجرى نهر كولورادو، الذي يتلوّى في الأخدود بشكل أفعوانيّ مسافة 433 كيلومترًا. ولهذا السبب كان "جون ويزلي باول"، الذي ترأّس أول عملية عبور للأخدود، قد فعل ذلك على متن قارب.

وبعد إنجاز باول الذي تحقّق صيفَ عام 1869، لم يكن أحدٌ ليحقّق الإنجاز نفسه ولكن سيرًا على الأقدام قبل مضيّ أكثر من مئة عام. وخلال تلك الفترة كان الأخدود نفسه قد تقدّم من كونه محميّة للغابات إلى موقع تراثٍ وطني محميّ، إلى أن أصبح أخيرًا جوهرة التاج لدى "نظام المنتزهات الوطنية" وأحد أشهر المشاهد الطبيعية بالولايات المتحدة وأحبّها إلى قلوب الناس، كما يزعم بعضهم. فقد أضحى الأخدود وجهة مرغوبة لإمضاء الإجازات لدى ملايين من العائلات؛ أما صوره فقد زيّنت عددًا لا يحصى من البطاقات البريدية. ومع ذلك، فلم يكتشف أحد كيف يمكن اجتياز كامل طول هذا التكوين الجيولوجي إلى أن نجح دليلٌ سياحيّ لنهر كولورادو اسمه "كينتون غروا" -وكان عمره حينها 25 عامًا-  في إتمام المسيرة، وذلك في شتاء عام 1976، أي بعد مُضي نحو 65 عامًا على وصول البشر إلى القطبين الشمالي والجنوبي أخيرًا، وبعد مضي 23 عامًا على اعتلائهم قمة "إيفرست" أول مرة.

لنتأمل معًا هذه الحقيقة المذهلة للحظة.. ولنفكّر بما تبوح به عن مدى تعقيد هذا المكان وقساوته. لا أحد يعلم على وجه اليقين ما هي المسافة التي كان غروا قد قطعها، لكن بوجود الأعداد الكبيرة من الانحسارات في جدارَي الأخدود، فمن المرجَّح أن يكون قد قطع مسافة 1100 كيلومتر خلال مسيرة الاجتياز الكامل التي طالت 37 يومًا على الجانب الجنوبي من النهر، ابتداءً من نقطة "ليز فيري" إلى منطقة "غراند وش كليفس". ولم يسعَ الرجل مطلقًا لإعلان إنجازه العظيم أمام العالم؛ ولكن بانتشار الخبر بين الناس شيئًا فشيئًا، أصبح هذا الإنجاز تحدّيًا جديدًا للأشدّاء من ممارسي المشي بحقائب الظهر؛ ومنهم مهندس كهرباء من مدينة فينيكس يدعى "ريتش رادو". بحلول خريف عام 2015، كان رادو قد أتمّ مئات المسيرات فضلًا عن استكشافه الأنفاق الأخدودية (slot canyons) ضمن الأخدود العظيم نفسه، فشعر عندها بأنه قد أصبح مؤهّلًا لخوض أكبر تحدٍّ له، ألا وهو: مسيرة 57 يومًا من الشرق إلى الغرب على طول الجانب الشمالي للأخدود. وإلى حين كان رادو واثنين من رفاقه جاهزين للانطلاق، أي بعد مُضي نحو 40 عامًا على مسيرة غروا عبر الأخدود، لم يكن عدد الذين قاربوا هذا الإنجاز المتمثل في الربط بين سلسلة من المسيرات الصغيرة المنفصلة (تُعرف باسم "المسيرة المجزّأة لاجتياز كامل الأخدود") على طول الأخدود، قد بلغ بعدُ 24 شخصًا. بل إن عدد ممارسي المشي بحقيبة الظهر الذين أتمّوا مسيرة عبور كامل "مستمرّة" دفعةً واحدة كان أقل من ذلك بكثير؛ إذ قبل عام 2015 كان عدد الأشخاص الذين بلغوا سطح القمر (12 شخصًا) أكثر من أولئك الذين أتمّوا مسيرة عبور كامل للأخدود العظيم (ثمانية أشخاص). وعندما وصل خبر ما يخطّط له رادو إلى مسمع المصوّر "بِيت ماك برايد"، اتصل بي وسألني إنْ كنت أرغب بالانضمام إلى مجموعته. وقد كان لي ولصاحبي بِيت سابق تجربة في ركوب الزوارق لدى الأخدود، ولكننا للأسف الشديد لم نكن مستعدّين لِما كان في انتظارنا لاحقًا. والتفسير الوحيد الذي لديّ لموافقة رادو على مصاحبته لنا هو أن دافعنا الأساس للمشاركة كان قد أقنعه، ألا وهو: التحقّق من بعض التقارير المؤسفة التي كانت قد وصلتنا عن مستقبل الأخدود، والتي شملت منشآت سياحية جديدة، ومزيدًا من الطلعات الجويّة بالمروحيّات، ومنجمًا لليورانيوم.

منذ أن دخل الأخدود العظيم وجدانَ الشعب الأميركي، أثار رغبتين مختلفتين: الرغبة بحمايته، ورغبة استغلاله بجشع لتحقيق أموال طائلة. فخلال الأعوام التي تلت بعثة باول، هُرِع المُعَدّنون إلى الأخدود لوضع أيديهم على مناجم النحاس والزنك والفضة والأسبست (الحرير الصخري) والمطالبة بحق تعدينها.

وخلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان أحد أباطرة المال يرغب بتحويل قاع الأخدود إلى ممرّ للسكك الحديدية ليشحن من خلاله الفحم من مدينة دينفر إلى ولاية كاليفورنيا (لكن الرجل غرق في نهر كولورادو مع اثنين من مرافقيه في البعثة الاستطلاعية للأخدود). وفي خمسينيات القرن الماضي، حاولت شركة تعدين أن تكوّن ثروة بإنشاء تلفريك ضخم لنقل ذَرْق الخفافيش (المستعمَل سمادًا) من أحد الكهوف في الأخدود لبيعه إلى زارعي الورد؛ لكن ذلك لم يُكلَّل بالنجاح فانتهى عهده سريعًا. بل وكانت هناك خطة حكومية لبناء سدّين لإنتاج الكهرباء بطاقة المياه في قلب الأخدود، وكان من شأن المشروع أن يحوّل مساحات واسعة من نهر كولورادو إلى سلسلة من الخزّانات المائية التي لو تحقّقت لوجدتم سواحلها بلا أدنى شكّ مزدحمة بالقوارب المُعدّة للسُّكنى وكذلك بالدرّاجات المائية.

وقد كان لنجاح الحملة التي أُطلِقت لمنع بناء السدّين، والتي تزعّمتها منظمة "سييرا كلاب" البيئية خلال ستّينيات القرن الماضي، أن توطّدت فكرة أنَّ للأخدود العظيم حرمته. ومع ذلك، فقد سمعنا أنا وبِيت عن مجموعة من المقترحات الجديدة، كثير منها مدفوع من روّاد أعمال حذقين يعملون مباشرةً خارج حدود الأخدود في مناطق لم تكن تديرها فيما مضى "إدارة المنتزهات الوطنية" بل "هيئة الغابات الأميركية" أو إحـدى القبائل الأميركية الأصلية الخمس التي تقع محميّاتها المعترف بها من الحكومة الاتحادية حوالي الأخدود. وكان المرء يجد أخطارًا تحيق بهذا المنتزه، الذي يُعدّ من أفضل المنتزهات في العالم، من كل حدب وصوب.. بدءًا من المنشآت السياحية الضخمة والطلعات الجويّة السياحية غير المحدودة بالمروحيّات، وانتهاءً بتعدين اليورانيوم. وقد ارتأينا، أنا وبِيت، أنَّ أفضل وسيلة لفهم كُنه هذا المشهد الطبيعي المعرّض للتهديد هو بأن نحذو حذو كينتون غروا وأن نسير في قلب الأخدود.

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab