تناقص في الصين
كنا في مطلع خريف عام 2022 بوسط الصين، إذ بدأت شوارع القرية حيث يقطن "دينغ تشينغزي" تتحول إلى اللون الذهبي بفعل الآلاف من عرانيس الذرة منزوعة القشرة التي كانت منشورةً في شكل مستطيلات منتظمة أمام المنازل، لتجف حبّاتها تحت أشعة الشمس. ومَشهد الحصاد هذا من نبضات الحياة الريفية في إقليم "أنهوي" الذي ظل دينغ -وعُمرُه 35 عامًا- يعرفها منذ الطفولة. إلا أن نبضات أخرى عديدة قد طالها الهجران. فلقد كانت الشوارع شبه خالية، إلا من الذرة. وما فتئت المنازل تُهجَر. وتناقصت أصوات الأطفال. وواجه دينغ صعوبات جمّة منذ أعوام في العثور على زوجة، إذ لم يعد في القرية سوى قلة من الشابّات؛ وقلة قليلة منهن راغبات في الزواج بلَحَّام لا قدرة له على شراء منزل أو دفع مهر. يقول دينغ: "عائلتي ليست غنية". وقفَت عمّةُ دينغ في فناء منزلها تقشر الذرة وتتحسر على محنة ما تسميه "فُتات الرجال". تقول إن القرية تضم عشرات العُزّاب في الثلاثينات والأربعينات من أعمارهم، وهم رجال وحيدون مثل دينغ، اصطدمت آمالهم في الحب وتكوين عوائل بقوة لا هوادة فيها، تتمثل في الاضطراب الديموغرافي بالصين.
بعد عقود من الانخفاض المستمر في معدل الولادات، بدأ هذا البلد انخفاضًا لا رجعة فيه لعدد السكان وسيتردد صداه في سائر أنحاء الصين والعالم على مرّ عقود مقبلة. يمكن استشعار التداعيات بالفعل في أماكن مثل أنهوي، حيث يعترض سبيل دينغ أيضا في بحثه عن زوجة اختلالٌ حاد في التوازن بين الجنسين. في زمن ولادته، خرج إلى الوجود 131 ذكرًا مقابل كل 100 فتاة في أنهوي؛ وكان ذلك انعكاسًا لميل تقليدي نحو الذكور تفاقم بسبب سياسة الطفل الواحد التي تخلت عنها بكين الآن.
يَطرح علماء الديموغرافيا سؤالًا آخر: هل كانت سياسة الطفل الواحد ضرورية من الأصل؟
يوجد في الصين اليوم فائض يقدر بنحو 30 مليون رجل، أزيد من نصفهم في سن الزواج. لقد هددت تلك الأرقام القاسية بإقصاء دينغ من سوق الزواج. لمّا تقدم لخطبة صديقته الأولى، رفض والداها لأنه لا يستطيع شراء منزل جديد. استجدى والدا دينغ القروض لاقتناء سيارة وتجديد شقة في مدينة قريبة.. لغاية فريدة مفادها جذب زوجة. إن مهر العروس، وهو المبلغ الذي يُدفع لعائلة الزوجة، قد يكلف نحو 29 ألف دولار. بل إن مقابلة والدَي العروس المحتملة قد يكلف 2500 دولار. على مرّ السنين، لم تتمكن الخاطبة سوى من إقناع عدد قليل من النساء ليلتقين دينغ في مواعيد عفوية. أهان الفشلُ دينغ إلى درجة أنه صار يتفادى التجمعات العائلية، والتي يقول عنها إنها "كانت لا تُطاق". كان أقاربه يركزون على موضوع واحد: وضعه المؤسف بوصفه "غصنا عقيمًا"، وهو التعبير الصيني لرجل لا يضيف ثمارا إلى شجرة العائلة.
قد يبدو نقص السكان في بلد تربو ساكنته على 1.4 مليار نسمة ضربًا من التناقض. فلطالما ارتبط إحساس الصين بالهوية والقوة على مرّ تاريخها بحجم سكانها المذهل. لمّا أمر الإمبراطور "تشين شو هوانغ" مليون عامل بتشييد سور الصين العظيم في عام 221 قبل الميلاد، كان المسعى الفخم جديرًا بسلالة شكلت أكثر من ربع سكان العالم. بعد ألفي عام على ذلك، ظل بروز الصين بوصفها قوة عظمى في القرن الحادي والعشرين يتغذى بإمدادات تبدو لا متناهية من العمال، هاجر مئات الملايين منهم إلى المدن. (توجد في الصين الآن 153 منطقة حضرية يقدر سكان كل منها بأزيد من مليون نسمة؛ فيما لا يوجد في الولايات المتحدة من هذا النوع سوى 50). منحت أربعة عقود من النمو الاقتصادي المذهل الصينَ هالة قوة جبارة لا يمكن إيقافها، مدعومة بعدد سكان يساوي عدد سكان نيجيريا سبع مرات تقريبًا، أو البيرو 24 مرة، أو السويد 140 مرة.
لكن الصين بلغت نقطة التحول. فحتى استنادًا إلى حسابات الحكومة، فقد تقلص عدد سكانها في عام 2022.. بداية انحدار طويل يتوقع علماء الديموغرافيا أنه سيستمر على مرّ بقية القرن الحالي. والسبب الرئيس: انخفاض معدل الولادات في الصين إلى أدنى مستوى منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949. على مرّ الأعوام السبعة الماضية وحدها، انخفض عدد الولادات إلى نحو النصف، من 18 مليونا في عام 2016 إلى 9.6 في عام 2022. يقول الخبراء إن عدد سكان الصين -وإنْ استقر معدل الولادات- سينخفض بنسبة 50 بالمئة أو أزيد من ذلك في أفق عام 2100.. وهو العام الذي يُحتمَل أن يبلغ فيه نصفَ عدد سكان الهند ويعادل عدد سكان نيجيريا.
اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab
تناقص في الصين
كنا في مطلع خريف عام 2022 بوسط الصين، إذ بدأت شوارع القرية حيث يقطن "دينغ تشينغزي" تتحول إلى اللون الذهبي بفعل الآلاف من عرانيس الذرة منزوعة القشرة التي كانت منشورةً في شكل مستطيلات منتظمة أمام المنازل، لتجف حبّاتها تحت أشعة الشمس. ومَشهد الحصاد هذا من نبضات الحياة الريفية في إقليم "أنهوي" الذي ظل دينغ -وعُمرُه 35 عامًا- يعرفها منذ الطفولة. إلا أن نبضات أخرى عديدة قد طالها الهجران. فلقد كانت الشوارع شبه خالية، إلا من الذرة. وما فتئت المنازل تُهجَر. وتناقصت أصوات الأطفال. وواجه دينغ صعوبات جمّة منذ أعوام في العثور على زوجة، إذ لم يعد في القرية سوى قلة من الشابّات؛ وقلة قليلة منهن راغبات في الزواج بلَحَّام لا قدرة له على شراء منزل أو دفع مهر. يقول دينغ: "عائلتي ليست غنية". وقفَت عمّةُ دينغ في فناء منزلها تقشر الذرة وتتحسر على محنة ما تسميه "فُتات الرجال". تقول إن القرية تضم عشرات العُزّاب في الثلاثينات والأربعينات من أعمارهم، وهم رجال وحيدون مثل دينغ، اصطدمت آمالهم في الحب وتكوين عوائل بقوة لا هوادة فيها، تتمثل في الاضطراب الديموغرافي بالصين.
بعد عقود من الانخفاض المستمر في معدل الولادات، بدأ هذا البلد انخفاضًا لا رجعة فيه لعدد السكان وسيتردد صداه في سائر أنحاء الصين والعالم على مرّ عقود مقبلة. يمكن استشعار التداعيات بالفعل في أماكن مثل أنهوي، حيث يعترض سبيل دينغ أيضا في بحثه عن زوجة اختلالٌ حاد في التوازن بين الجنسين. في زمن ولادته، خرج إلى الوجود 131 ذكرًا مقابل كل 100 فتاة في أنهوي؛ وكان ذلك انعكاسًا لميل تقليدي نحو الذكور تفاقم بسبب سياسة الطفل الواحد التي تخلت عنها بكين الآن.
يَطرح علماء الديموغرافيا سؤالًا آخر: هل كانت سياسة الطفل الواحد ضرورية من الأصل؟
يوجد في الصين اليوم فائض يقدر بنحو 30 مليون رجل، أزيد من نصفهم في سن الزواج. لقد هددت تلك الأرقام القاسية بإقصاء دينغ من سوق الزواج. لمّا تقدم لخطبة صديقته الأولى، رفض والداها لأنه لا يستطيع شراء منزل جديد. استجدى والدا دينغ القروض لاقتناء سيارة وتجديد شقة في مدينة قريبة.. لغاية فريدة مفادها جذب زوجة. إن مهر العروس، وهو المبلغ الذي يُدفع لعائلة الزوجة، قد يكلف نحو 29 ألف دولار. بل إن مقابلة والدَي العروس المحتملة قد يكلف 2500 دولار. على مرّ السنين، لم تتمكن الخاطبة سوى من إقناع عدد قليل من النساء ليلتقين دينغ في مواعيد عفوية. أهان الفشلُ دينغ إلى درجة أنه صار يتفادى التجمعات العائلية، والتي يقول عنها إنها "كانت لا تُطاق". كان أقاربه يركزون على موضوع واحد: وضعه المؤسف بوصفه "غصنا عقيمًا"، وهو التعبير الصيني لرجل لا يضيف ثمارا إلى شجرة العائلة.
قد يبدو نقص السكان في بلد تربو ساكنته على 1.4 مليار نسمة ضربًا من التناقض. فلطالما ارتبط إحساس الصين بالهوية والقوة على مرّ تاريخها بحجم سكانها المذهل. لمّا أمر الإمبراطور "تشين شو هوانغ" مليون عامل بتشييد سور الصين العظيم في عام 221 قبل الميلاد، كان المسعى الفخم جديرًا بسلالة شكلت أكثر من ربع سكان العالم. بعد ألفي عام على ذلك، ظل بروز الصين بوصفها قوة عظمى في القرن الحادي والعشرين يتغذى بإمدادات تبدو لا متناهية من العمال، هاجر مئات الملايين منهم إلى المدن. (توجد في الصين الآن 153 منطقة حضرية يقدر سكان كل منها بأزيد من مليون نسمة؛ فيما لا يوجد في الولايات المتحدة من هذا النوع سوى 50). منحت أربعة عقود من النمو الاقتصادي المذهل الصينَ هالة قوة جبارة لا يمكن إيقافها، مدعومة بعدد سكان يساوي عدد سكان نيجيريا سبع مرات تقريبًا، أو البيرو 24 مرة، أو السويد 140 مرة.
لكن الصين بلغت نقطة التحول. فحتى استنادًا إلى حسابات الحكومة، فقد تقلص عدد سكانها في عام 2022.. بداية انحدار طويل يتوقع علماء الديموغرافيا أنه سيستمر على مرّ بقية القرن الحالي. والسبب الرئيس: انخفاض معدل الولادات في الصين إلى أدنى مستوى منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949. على مرّ الأعوام السبعة الماضية وحدها، انخفض عدد الولادات إلى نحو النصف، من 18 مليونا في عام 2016 إلى 9.6 في عام 2022. يقول الخبراء إن عدد سكان الصين -وإنْ استقر معدل الولادات- سينخفض بنسبة 50 بالمئة أو أزيد من ذلك في أفق عام 2100.. وهو العام الذي يُحتمَل أن يبلغ فيه نصفَ عدد سكان الهند ويعادل عدد سكان نيجيريا.