إحـيـاء الطـريـق إلـى رومـا
ثمة مطعم "ماك دونالدز" في ضاحية روما حيث يمكن للمرء، بعد طلب وجبة "بيغ ماك"، أن ينظر من خلال الأرضية الزجاجية ليرى -على بعد أمتار قليلة في الأسفل- حجارةَ رصفٍ رمادية مسطحة لطريق رومانية قديمة وهياكل عظمية ملتوية حُشرت في ميزاب يعود عمره إلى ألفي سنة. تِلكُم بقايا جزء من أول طريق سريعة رئيسة في أوروبا: "طريق أَبّْيا".
شُيِّدت الطريق في عام 312 قبل الميلاد، وهي تتعرّج خارج روما لتَعبر الجنوب الإيطالي حتى تصل إلى مدينة "برينديسي" الساحلية شرقًا. وقد أسهمت هذه الطريق في إلهام مقولة "كل الطرق تؤدي إلى روما"؛ وفي إيطاليا لا تزال تسمى "ريجينا فِيا روم" (ملكة الطرق). لكن بقيّتها ظلت عُرضة للإهمال إلى حد كبير، إذ دُفنت مع أحجارها في طي آلاف السنين من التاريخ. ومع ذلك، يجري اليوم تنفيذ مشروع للحكومة الإيطالية لتحويل "طريق أَبّْيا" (فِيا أَبّْيا) إلى درب حُجّاج من روما الصاخبة إلى برينديسي البحرية، وهي مدينة هادئة تقع في كعب حذاء إيطاليا. وعلى امتداد طريق أَبّْيا البالغ زُهاء 580 كيلومترًا عبر أنحاء البلد، تتخذ أشكالًا عديدة: مسار ترابي مُشجَّر، ميدان في مدينة، طريق سريعة. وهي ليست دائمًا ذات مناظر خلابة أو بهيجة، لكنها جزء لا يتجزأ من إيطاليا لا يراه سوى قليل من السياح.
ولكن قبل أن تأتي حشود السياح إلى أَبّْيا، على الحكومة الإيطالية أولًا أن تنقّب عنها وفي بعض الحالات، أن تجدها. لذلك السبب وجدْتُني، في صباح خريفي من عام 2021، أنظر أسفل مني إلى تلك الطريق في ذلك المطعم. في روما، تتشكل أَبّْيا من امتداد يناهز الـ 18 كيلومترًا من منتزه أثري محفوظ جيدًا. وينتهي هذا المنتزه بمسار حرجي صاعد. بعدها، تختفي أَبّْيا إلا قليلًا تحت الإسفلت مسافة 80 كيلومترًا؛ ليكون آخر جزء ظاهر منها في "المدينة الخالدة" (يُقصد روما) تحت مطعم "ماك دونالدز".
هناك يوجد شطر صغير من أَبّْيا، وهو أحد الأجزاء النادرة التي اكتُشفت وحُفظت في الآونة الأخيرة. عندما سألت أحد مديري المطعم عن هذه الأحجار المرصوفة العتيقة، نادى على امرأة ترتدي حذاءً رياضيًا وتجلس على مائدة في زاوية. قالت لي إن اسمها "باميلا تشيرينو"، عالمة الآثار التي نقّبت عن الطريق في عام 2014. وفي ما احتسبتُه مصادفةً ذات مغزى، كانت تشيرينو تزور مسؤولي المطعم لمناقشة إمكانية إنجاز مشاريع أخرى بالموقع في المستقبل. غادرنا المطعم ونزلنا درجًا يفضي إلى تلك الأحجار المرصوفة العتيقة. هنالك قالت لي تشيرينو: "تم إنجاز هذا المشروع على نحو يتيح للزوار إلقاء نظرة إلى الطريق من دون الحاجة إلى دخول ماك دونالدز". ترقد ثلاثة هياكل عظمية بشرية في الميزاب؛ وهي نسخ طبق الأصل من العظام التي اكتشفَتها تشيرينو هناك خلال التنقيب. فوقنا، ومن خلال السقف الزجاجي، كنا نرى عائلات تتلذذ بوجبات المطعم الشهيرة. عندما اكتُشف جزء من أَبّْيا بدايةً خلال تشييد المطعم، خشي أهالي المدينة أن يؤدي الترخيص لهذا المطعم الأميركي إلى استحواذه على الكنوز الرومانية المطمورة. في الواقع، تقول تشيرينو، غالبًا ما يُعاد دفن المواقع الأثرية من أجل الحفاظ عليها لأن صيانتها باهظة الثمن. وكما علمت في وقت لاحق، فإن أَبّْيا لا تظهر إلا لِمامًا وعلى مسافات متباعدة، ومن قبيل المصادفة النادرة أن ينكشف هذا الجزء هنا تحت المطعم.
I . المسار
تتقاطع فِيا أَبّْيا مع المدن والقرى والجبال والأراضي الزراعية، حيث تَعبر أربع مناطق ومئة بلدية في إيطاليا. وقد طُمس جلها تحت طريق مزدحمة تدعى "سترادا ستاتالي 7". لكن أحجارها الأصلية تظهر أحيانًا؛ على طول حانة في ساحة قرية، تحت أغطية قماش ثقيلة في حقل تجتاحه النباتات. كانت أَبّْيا، كما خطط لها المسؤول الإداري الروماني "أبيوس كلاوديوس"، أداة للهيمنة العسكرية. فقد قام المستعبَدون والعمال بانتشال ما قدره 45300 متر مكعب من الأتربة والحجر لكل 1.6 كيلومتر مرصوف جديد، أو ميل واحد (وكان قياس الميل نفسه اختراعًا رومانيًا). وسمّاها كلوديوس على اسمه -وكانت ممارسةً نادرة في تلك الأيام تشير إلى أهميتها- لكنه أصيب بالعمى وتوفي قبل اكتمال الطريق. وقد شقت أَبّْيا مسارها عبر البلد في خط مستقيم تقريبًا، حاملةً الجيش الروماني إذ بسطت الإمبراطورية نفوذها على جنوب إيطاليا وانطلقت شرقًا، عبر البحر، لتوسيع سيطرتها في الخارج. وكانت الأولى من بين 29 طريقًا مزدحمة تفضي إلى خارج روما.بدأت الروايات عن السفر عبر أَبّْيا مع الشاعر اللاتيني "هوراس" في عام 35 قبل الميلاد تقريبًا، ثم ما لبثت أن باتت موضوع إلهام للعديد من الكتاب المعجبين منذ ذلك الحين. لكن مكانة هذه الطريق بوصفها إنجازًا هندسيًا مذهلًا تلاشت بعد أن بدأت الإمبراطورية الرومانية في الانهيار عام 395 بعد الميلاد، وتوقف استخدام أَبّْيا تدريجيًا. وقد وصفها الكاتب البريطاني "تشارلز ديكنز" في كتاب صدر عام 1846، بأنها "مقابر ومعابد دُمرت ونُهبت فصارت حطامًا".
اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab
إحـيـاء الطـريـق إلـى رومـا
ثمة مطعم "ماك دونالدز" في ضاحية روما حيث يمكن للمرء، بعد طلب وجبة "بيغ ماك"، أن ينظر من خلال الأرضية الزجاجية ليرى -على بعد أمتار قليلة في الأسفل- حجارةَ رصفٍ رمادية مسطحة لطريق رومانية قديمة وهياكل عظمية ملتوية حُشرت في ميزاب يعود عمره إلى ألفي سنة. تِلكُم بقايا جزء من أول طريق سريعة رئيسة في أوروبا: "طريق أَبّْيا".
شُيِّدت الطريق في عام 312 قبل الميلاد، وهي تتعرّج خارج روما لتَعبر الجنوب الإيطالي حتى تصل إلى مدينة "برينديسي" الساحلية شرقًا. وقد أسهمت هذه الطريق في إلهام مقولة "كل الطرق تؤدي إلى روما"؛ وفي إيطاليا لا تزال تسمى "ريجينا فِيا روم" (ملكة الطرق). لكن بقيّتها ظلت عُرضة للإهمال إلى حد كبير، إذ دُفنت مع أحجارها في طي آلاف السنين من التاريخ. ومع ذلك، يجري اليوم تنفيذ مشروع للحكومة الإيطالية لتحويل "طريق أَبّْيا" (فِيا أَبّْيا) إلى درب حُجّاج من روما الصاخبة إلى برينديسي البحرية، وهي مدينة هادئة تقع في كعب حذاء إيطاليا. وعلى امتداد طريق أَبّْيا البالغ زُهاء 580 كيلومترًا عبر أنحاء البلد، تتخذ أشكالًا عديدة: مسار ترابي مُشجَّر، ميدان في مدينة، طريق سريعة. وهي ليست دائمًا ذات مناظر خلابة أو بهيجة، لكنها جزء لا يتجزأ من إيطاليا لا يراه سوى قليل من السياح.
ولكن قبل أن تأتي حشود السياح إلى أَبّْيا، على الحكومة الإيطالية أولًا أن تنقّب عنها وفي بعض الحالات، أن تجدها. لذلك السبب وجدْتُني، في صباح خريفي من عام 2021، أنظر أسفل مني إلى تلك الطريق في ذلك المطعم. في روما، تتشكل أَبّْيا من امتداد يناهز الـ 18 كيلومترًا من منتزه أثري محفوظ جيدًا. وينتهي هذا المنتزه بمسار حرجي صاعد. بعدها، تختفي أَبّْيا إلا قليلًا تحت الإسفلت مسافة 80 كيلومترًا؛ ليكون آخر جزء ظاهر منها في "المدينة الخالدة" (يُقصد روما) تحت مطعم "ماك دونالدز".
هناك يوجد شطر صغير من أَبّْيا، وهو أحد الأجزاء النادرة التي اكتُشفت وحُفظت في الآونة الأخيرة. عندما سألت أحد مديري المطعم عن هذه الأحجار المرصوفة العتيقة، نادى على امرأة ترتدي حذاءً رياضيًا وتجلس على مائدة في زاوية. قالت لي إن اسمها "باميلا تشيرينو"، عالمة الآثار التي نقّبت عن الطريق في عام 2014. وفي ما احتسبتُه مصادفةً ذات مغزى، كانت تشيرينو تزور مسؤولي المطعم لمناقشة إمكانية إنجاز مشاريع أخرى بالموقع في المستقبل. غادرنا المطعم ونزلنا درجًا يفضي إلى تلك الأحجار المرصوفة العتيقة. هنالك قالت لي تشيرينو: "تم إنجاز هذا المشروع على نحو يتيح للزوار إلقاء نظرة إلى الطريق من دون الحاجة إلى دخول ماك دونالدز". ترقد ثلاثة هياكل عظمية بشرية في الميزاب؛ وهي نسخ طبق الأصل من العظام التي اكتشفَتها تشيرينو هناك خلال التنقيب. فوقنا، ومن خلال السقف الزجاجي، كنا نرى عائلات تتلذذ بوجبات المطعم الشهيرة. عندما اكتُشف جزء من أَبّْيا بدايةً خلال تشييد المطعم، خشي أهالي المدينة أن يؤدي الترخيص لهذا المطعم الأميركي إلى استحواذه على الكنوز الرومانية المطمورة. في الواقع، تقول تشيرينو، غالبًا ما يُعاد دفن المواقع الأثرية من أجل الحفاظ عليها لأن صيانتها باهظة الثمن. وكما علمت في وقت لاحق، فإن أَبّْيا لا تظهر إلا لِمامًا وعلى مسافات متباعدة، ومن قبيل المصادفة النادرة أن ينكشف هذا الجزء هنا تحت المطعم.
I . المسار
تتقاطع فِيا أَبّْيا مع المدن والقرى والجبال والأراضي الزراعية، حيث تَعبر أربع مناطق ومئة بلدية في إيطاليا. وقد طُمس جلها تحت طريق مزدحمة تدعى "سترادا ستاتالي 7". لكن أحجارها الأصلية تظهر أحيانًا؛ على طول حانة في ساحة قرية، تحت أغطية قماش ثقيلة في حقل تجتاحه النباتات. كانت أَبّْيا، كما خطط لها المسؤول الإداري الروماني "أبيوس كلاوديوس"، أداة للهيمنة العسكرية. فقد قام المستعبَدون والعمال بانتشال ما قدره 45300 متر مكعب من الأتربة والحجر لكل 1.6 كيلومتر مرصوف جديد، أو ميل واحد (وكان قياس الميل نفسه اختراعًا رومانيًا). وسمّاها كلوديوس على اسمه -وكانت ممارسةً نادرة في تلك الأيام تشير إلى أهميتها- لكنه أصيب بالعمى وتوفي قبل اكتمال الطريق. وقد شقت أَبّْيا مسارها عبر البلد في خط مستقيم تقريبًا، حاملةً الجيش الروماني إذ بسطت الإمبراطورية نفوذها على جنوب إيطاليا وانطلقت شرقًا، عبر البحر، لتوسيع سيطرتها في الخارج. وكانت الأولى من بين 29 طريقًا مزدحمة تفضي إلى خارج روما.بدأت الروايات عن السفر عبر أَبّْيا مع الشاعر اللاتيني "هوراس" في عام 35 قبل الميلاد تقريبًا، ثم ما لبثت أن باتت موضوع إلهام للعديد من الكتاب المعجبين منذ ذلك الحين. لكن مكانة هذه الطريق بوصفها إنجازًا هندسيًا مذهلًا تلاشت بعد أن بدأت الإمبراطورية الرومانية في الانهيار عام 395 بعد الميلاد، وتوقف استخدام أَبّْيا تدريجيًا. وقد وصفها الكاتب البريطاني "تشارلز ديكنز" في كتاب صدر عام 1846، بأنها "مقابر ومعابد دُمرت ونُهبت فصارت حطامًا".