شيخوخة العصر الحديث

تَقود اليابانُ العالمَ في التأقلم مع ساكنة تَشيخ وتتناقص سريعًا.

في صباح يوم سبت ملبَّد بالغيوم في "إيواسي"، وهي ضاحية ساحلية هادئة في طرف "خليج توياما" لدى أكبر جزيرة في اليابان، كانت الشوارع مهجورة، إلى أن دنت الساعة المحدَّدة.

هنالك أطلّت امرأةٌ مُسِنَّة برأسها من باب منزلها، ناظرةً إلى أسفل الطريق الرئيسة التي تصطف على جانبيها المباني الخشبية التقليدية المنخفضة. ثم تقدمت أخرى بحذر شديد على طول ممر جانبي ضيق. بعد بضع دقائق، وصلت شاحنتان صغيرتان وتوقفتا. وفجأة بدأت الحياة تدب في المنطقة. تَرجَّل من الشاحنتين خمسة عمال مرتدين سترات برتقالية اللون وهم يتحركون بهمّة ونشاط إذ يضعون على الطريق أقماع التحذير المرورية، ويوزعون سلال التسوق، معتذرينَ أشد الاعتذار عن نقل شاحنة البقالة المتنقلة، "توكوشيمارو"، من مكانها المعتاد بنحو متر أو مترين. راحوا ينقلون مواد البقالة من الشاحنة الأولى إلى الثانية، والتي تحولت بكفاءة إلى متجر صغير برفوف قابلة للطي ومظلات حمراء. في الجانب الأيسر المبرَّد، كُدِّست حصص فردية من الأسماك واللحوم واللبن والبيض وغيرها من المواد سريعة التلف. في الجانب الأيمن، وُضعَت المنتجات الزراعية الطازجة؛ فيما صُفّفت الوجبات الخفيفة والمقرمَشات في الجزء الخلفي. راحت خمس متسوقات مُسنّات يتنقلن حوالي الشاحنة بخطوات متثاقلة.

كان من بينهن "ميواكو كاواكامي"، وهي امرأة تَقوّس ظهرها، ولها قصة شعر قصيرة، وقد بلغت من العمر 87 عامًا. ناولَت عكازها لعاملة وأخذت سلة تسوق صغيرة. ثم اشترت الكراث والجزر وثلاث بصلات وعلبة حليب. تعيش كاواكامي وحدها خلف معبد قريب. تقول: "كان ههنا كثير من المتاجر، لكنها اختفت جميعًا. كشك للخضار، وكشك للأسماك.. أُغلقت جميعها منذ نحو خمسة أعوام". راحت تمشي بتمايل عبر الشارع لمقابلة جارتها البالغة من العمر 86 عامًا، والتي جاءت للمساعدة في نقل مواد البقالة. لقد فقدت إيواسي ساكنتها. غادرها شبانها. ومن مكثوا فيها، يَكبرون ويَشيخون. وتَحدث هذه الدينامية في جميع أنحاء اليابان حيث يستمر معدل الولادات في الانخفاض منذ عقود طويلة. بلغ تِعداد سكان البلد ذروته في عام 2010، بوصوله إلى 128 مليون نسمة. أما الآن فهو أقل من 125 مليون نسمة ومن المتوقع أن يستمر في التقلص خلال العقود الأربعة المقبلة. وفي الوقت نفسه، يعيش اليابانيون أمد حياة أطول: 87.6 سنة للنساء و81.5 سنة للرجال، في المتوسط. باستثناء إمارة موناكو الصغيرة، فإن سكان اليابان هم الآن الأكبر سنًّا في العالم.

على الرغم من أن هذه الأرقام صارخة، فهي لا تُعبر عن مدى عمق هذا التحول الديموغرافي الذي يحدث يومًا بعد يوم. إن المزيج غير المتناسب على نحو متزايد من كبار سِنٍّ أعدادهم في ارتفاع، وشباب أعدادهم في انخفاض، يُغير بالفعل كل جانب من جوانب الحياة في اليابان، من مظهرها المادي إلى سياساتها الاجتماعية، ومن استراتيجية الأعمال التجارية إلى سوق العمل، ومن الأماكن العامة إلى المنازل الخاصة. وها هي اليابان تتحول يومًا بعد يوم إلى دولة مصمَّمَة لأجل كبار السن ويهيمن عليها كبار السن.

ولا تخلو القنوات التلفزيونية اليابانية من أخبار دورية عن "شيخوخة المجتمع" في اليابان، حيث تتصدرها عناوين من قبيل: "شباب يرعون أفراد عائلاتهم المسنين، بحاجة إلى دعم أكبر"؛ "سائق بعُمر الـ 100 يجنح بسيارته فوق الرصيف ويصيب أحد المشاة"؛ "غالبية أفراد عصابة ياكوزا في اليابان هم الآن فوق سن الخمسين". إن الشيخوخة ههنا في كل مكان. في بعض أرصفة محطات القطار، توجد عبارة نُقشت في قاعدة كل مقعد، تقول: اُركن عكازك هنا. وبات مشهد "منازل الأشباح" المهجورة التي غزتها النباتات المعترشة مألوفًا في المجتمعات التي نزح منها أهاليها -مثل إيواسي- وكذلك في أحياء مدن كبيرة.

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab 

شيخوخة العصر الحديث

تَقود اليابانُ العالمَ في التأقلم مع ساكنة تَشيخ وتتناقص سريعًا.

في صباح يوم سبت ملبَّد بالغيوم في "إيواسي"، وهي ضاحية ساحلية هادئة في طرف "خليج توياما" لدى أكبر جزيرة في اليابان، كانت الشوارع مهجورة، إلى أن دنت الساعة المحدَّدة.

هنالك أطلّت امرأةٌ مُسِنَّة برأسها من باب منزلها، ناظرةً إلى أسفل الطريق الرئيسة التي تصطف على جانبيها المباني الخشبية التقليدية المنخفضة. ثم تقدمت أخرى بحذر شديد على طول ممر جانبي ضيق. بعد بضع دقائق، وصلت شاحنتان صغيرتان وتوقفتا. وفجأة بدأت الحياة تدب في المنطقة. تَرجَّل من الشاحنتين خمسة عمال مرتدين سترات برتقالية اللون وهم يتحركون بهمّة ونشاط إذ يضعون على الطريق أقماع التحذير المرورية، ويوزعون سلال التسوق، معتذرينَ أشد الاعتذار عن نقل شاحنة البقالة المتنقلة، "توكوشيمارو"، من مكانها المعتاد بنحو متر أو مترين. راحوا ينقلون مواد البقالة من الشاحنة الأولى إلى الثانية، والتي تحولت بكفاءة إلى متجر صغير برفوف قابلة للطي ومظلات حمراء. في الجانب الأيسر المبرَّد، كُدِّست حصص فردية من الأسماك واللحوم واللبن والبيض وغيرها من المواد سريعة التلف. في الجانب الأيمن، وُضعَت المنتجات الزراعية الطازجة؛ فيما صُفّفت الوجبات الخفيفة والمقرمَشات في الجزء الخلفي. راحت خمس متسوقات مُسنّات يتنقلن حوالي الشاحنة بخطوات متثاقلة.

كان من بينهن "ميواكو كاواكامي"، وهي امرأة تَقوّس ظهرها، ولها قصة شعر قصيرة، وقد بلغت من العمر 87 عامًا. ناولَت عكازها لعاملة وأخذت سلة تسوق صغيرة. ثم اشترت الكراث والجزر وثلاث بصلات وعلبة حليب. تعيش كاواكامي وحدها خلف معبد قريب. تقول: "كان ههنا كثير من المتاجر، لكنها اختفت جميعًا. كشك للخضار، وكشك للأسماك.. أُغلقت جميعها منذ نحو خمسة أعوام". راحت تمشي بتمايل عبر الشارع لمقابلة جارتها البالغة من العمر 86 عامًا، والتي جاءت للمساعدة في نقل مواد البقالة. لقد فقدت إيواسي ساكنتها. غادرها شبانها. ومن مكثوا فيها، يَكبرون ويَشيخون. وتَحدث هذه الدينامية في جميع أنحاء اليابان حيث يستمر معدل الولادات في الانخفاض منذ عقود طويلة. بلغ تِعداد سكان البلد ذروته في عام 2010، بوصوله إلى 128 مليون نسمة. أما الآن فهو أقل من 125 مليون نسمة ومن المتوقع أن يستمر في التقلص خلال العقود الأربعة المقبلة. وفي الوقت نفسه، يعيش اليابانيون أمد حياة أطول: 87.6 سنة للنساء و81.5 سنة للرجال، في المتوسط. باستثناء إمارة موناكو الصغيرة، فإن سكان اليابان هم الآن الأكبر سنًّا في العالم.

على الرغم من أن هذه الأرقام صارخة، فهي لا تُعبر عن مدى عمق هذا التحول الديموغرافي الذي يحدث يومًا بعد يوم. إن المزيج غير المتناسب على نحو متزايد من كبار سِنٍّ أعدادهم في ارتفاع، وشباب أعدادهم في انخفاض، يُغير بالفعل كل جانب من جوانب الحياة في اليابان، من مظهرها المادي إلى سياساتها الاجتماعية، ومن استراتيجية الأعمال التجارية إلى سوق العمل، ومن الأماكن العامة إلى المنازل الخاصة. وها هي اليابان تتحول يومًا بعد يوم إلى دولة مصمَّمَة لأجل كبار السن ويهيمن عليها كبار السن.

ولا تخلو القنوات التلفزيونية اليابانية من أخبار دورية عن "شيخوخة المجتمع" في اليابان، حيث تتصدرها عناوين من قبيل: "شباب يرعون أفراد عائلاتهم المسنين، بحاجة إلى دعم أكبر"؛ "سائق بعُمر الـ 100 يجنح بسيارته فوق الرصيف ويصيب أحد المشاة"؛ "غالبية أفراد عصابة ياكوزا في اليابان هم الآن فوق سن الخمسين". إن الشيخوخة ههنا في كل مكان. في بعض أرصفة محطات القطار، توجد عبارة نُقشت في قاعدة كل مقعد، تقول: اُركن عكازك هنا. وبات مشهد "منازل الأشباح" المهجورة التي غزتها النباتات المعترشة مألوفًا في المجتمعات التي نزح منها أهاليها -مثل إيواسي- وكذلك في أحياء مدن كبيرة.

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab