مملكة موستانغ
ملك موستانغ يطلب حضورك الآن كان الملك مرتديًا سروال جينز رثًّا وسترة خضراء من الصوف وهو يقف في وسط غرفة منخفضة السقف لدى قصره المشيَّد منذ قرون خلت. كان يردد ترنيمة بوذية ويُقلّب حبّات مسبحة بين أصابعه. ومن حوله، زُينت الجدران والأعمدة الخشبية التي تسند السقف المتدلي، بلوحات معقدة مُبهمة للآلهة البوذية. كان بعضها متشحًا بأردية ذهبية وقد اتّخذ متّكأً هنيًا، فيما كانت أخرى تحمل السيوف وقد أحاط بها لهيب النار وهي تنوح بغضب عارم. كان ذلك في منتصف أكتوبر 2019 بهذه السلسلة القاحلة من السفوح الواقعة على الحافة الشمالية لجبال الهيمالايا. هنالك كانت برودة جدران القصر الطينية تعلن قرب حلول فصل الشتاء.
تطل نافذة بالقصر على مدينة "لو مانتانغ" المسوَّرة التي يعود تاريخها إلى 600 عام، وهي العاصمة التاريخية لمنطقة "موستانغ" الأسطورية في نيبال، ولا تبعد سوى 15 كيلومترًا عن الحدود الصينية. امتدت في الأسفل صفوف متراصة من البيوت الطينية المطلية باللون الأبيض، والدخان يتصاعد متموّجًا من أسطحها؛ فيما تلألأت أيكات شجر حور الهيمالايا في نسيم الظهيرة وقد شارفت أوراقها الذهبية اللامعة على أوج رونقها. إلى الجنوب الشرقي، تفرعت جدائل نهر "كالي غانداكي" مثل مروحة عبر الوادي، متدفقةً نحو جدار مهيب من قمم مكسوة بثلوج تتلألأ في السماء الزرقاء الداكنة. في ما مضى كانت هذه الإطلالة محظورة على الأجانب، مثلي. فعلى مرّ زمن طويل من القرن العشرين، كان الوصول إلى موستانغ يخضع لرقابة مشددة من قبل حكومة نيبال. أما اليوم فقد أخذني الملك إلى قصره المتهالك ليُريني أحد التحديات العديدة التي تواجهها مملكته في العصر الحديث.
الاسم الكامل لهذا الملك هو "جيغمي سينغي بالبار بيستا"، لكنه كان قد عرَّف نفسه إليَ ببساطة باسم "جيغمي". إنه رجل نحيف ذو شعر رمادي خفيف، وتبدو عليه حيوية لا تفصح عن عقوده الستة. كان قد قادني برشاقة إلى مسار ذي عقبات مضاء بشكل خافت عبر القصر، والذي اضطرت عائلته لمغادرته بعد تعرضه لأضرار جسيمة خلال زلزال عام 2015. تسلقنا سلالم خشبية مرتجّة، وتفادينا حفرًا واسعة في الأرضية، ومررنا بمحاذاة جدران متداعية زُيِّنت بجداريات مخططة بالطين. على رغم الحالة المتدهورة للقصر، بدت الغرفة حيث كنّا نقف ساعتَها محفوظةً على نحو جيد للغاية. لاحظ جيغمي أنّني أنظر إلى صورة لرجل وامرأة يرتديان أزياء التبت التقليدية، فقال: "إنهما والِدَاي. فقد كانت هذه غرفة الصلاة لدى والدِي. كان آخر ملوك موستانغ، والملك الخامس والعشرين في سلالتنا. وأنا السادس والعشرون". إلى يساري، امتدت من الأرض إلى السقف خزانةٌ من خشب الصندل مكسوة بورق الذهب. داخل الخزانة، حدّقت مجموعة من التماثيل البرونزية لآلهة بوذية من خلال الأبواب الزجاجية. ونَشرَ تجمّعٌ من المصابيح النُّذرية، المُنارة بوقود من زبدة بقر "الياك"، رائحةً دخانية مميزة بنكهة الحامض، والتي تُشبع المعابد البوذية عبر جبال الهيمالايا. أوضح جيغمي أن التماثيل أكثر من مجرد أعمال فنية، بل هي أرواح حية حرست عائلته منذ العصور القديمة. قال لي إنه قبل وضع كل تمثال على المذبح، كان راهبٌ رفيع المستوى يؤدي طقوسًا يبعث من خلالها استنارتَه في التمثال، جسدًا وكلامًا وعقلًا.
أما الآن فإن جيغمي هو الذي يحرس هذه الآلهة، على الأقل في شكلها المادي. ففي عالم البشر، يمكن لتاجر آثار في السوق السوداء بيع هذه المجموعة الصغيرة لقاء ثروة كبيرة. على مرّ قرون، لم تكن فكرة سرقتها من طرف شخصٍ ما تثير تخوفًا كبيرًا هنا في هذه المدينة البوذية المنعزلة الورعة. لكن العالم الخارجي قد صعد أخيرًا إلى عتبة موستانغ، وكانت سرقة التحف الفنية مبعث قلق واحد فحسب من بين العديد من المخاوف الجديدة التي أضحت تؤرّق بال الملك. لمّا كنتُ وجيغمي نتشارك لحظة الهدوء تلك في غرفة صلاته، كنت بالكاد أميز صوت الضجيج المنخفض لمُعدّات الحَفر وتهيئة الأرض العاملة على تحسين الطريق التي تصل إلى المدينة من الناحية الجنوبية. فلقد أصبح الآن بالإمكان إتمام رحلة الـ 450 كيلومترًا تقريبًا من العاصمة النيبالية كاتماندو في غضون ثلاثة أيام فقط بالسيارة، بعد أن كانت تستغرق أسابيع من السير على القدمين أو على صهوة حصان أو ثور.. لمن استطاع إلى ذلك سبيلًا. تَعبر المَركبات، ويُفضَّل أن تكون رباعية الدفع، بسلسلة مذهلة من المنعرجات على مسار وعر ضيق شُقَّ على طول الأجراف المصطفّة في "مضيق كالي غانداكي". خلال رحلتي إلى هنا، تأخرت بسبب الانهيارات الأرضية التي أغلقت الطريق ساعات، تاركةً طابورًا متعرجًا من السيارات العالقة عبر واجهة الجرف. ومع ذلك، فإن هذه الطريق تمثل تحولًا إيجابيًا عميقًا في حياة سكان موستانغ، بإتاحتها تدفق البضائع الرخيصة وسهولة الوصول إلى المرافق الطبية الحديثة، ومنافع أخرى كثيرة.
وقريبًا قد يصبح تدفق السلع والأشخاص هذا نهرًا مندفعًا من التجارة. وفي شمال لو مانتانغ، خطط الصينيون لدرب تجاري جديد مُربح، وينتظرون طريقًا ممهَّدة حديثًا تَصل جانبهم من الحدود بالطرق السريعة المؤدية إلى بكين. فما تبقى هو الربط بين هذه الطرق عند الحدود، وسيمْكن أن يبدأ عصر جديد من التجارة في هذا الركن الأسطوري من سقف العالم. أما السؤال الذي يطرحه جيغمي وأهل موستانغ فيتعلق بمدى قدرتهم على صون أوصال هذه المملكة الصغيرة التي منحتها خصوصية منذ قرون. من حولنا، كانت تلك الآلهة المرسومة مبتسمةً مزمجرةً. هنالك جلس جيغمي على مقعد وخفض عينيه. ظننتُ أنه ربما كان يتأمل أو يصلي، ولكن بعد ذلك، وبحركة سريعة، أخرج هاتف "آيفون" الخاص به وراح يتفحص رسائله.
اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab
مملكة موستانغ
ملك موستانغ يطلب حضورك الآن كان الملك مرتديًا سروال جينز رثًّا وسترة خضراء من الصوف وهو يقف في وسط غرفة منخفضة السقف لدى قصره المشيَّد منذ قرون خلت. كان يردد ترنيمة بوذية ويُقلّب حبّات مسبحة بين أصابعه. ومن حوله، زُينت الجدران والأعمدة الخشبية التي تسند السقف المتدلي، بلوحات معقدة مُبهمة للآلهة البوذية. كان بعضها متشحًا بأردية ذهبية وقد اتّخذ متّكأً هنيًا، فيما كانت أخرى تحمل السيوف وقد أحاط بها لهيب النار وهي تنوح بغضب عارم. كان ذلك في منتصف أكتوبر 2019 بهذه السلسلة القاحلة من السفوح الواقعة على الحافة الشمالية لجبال الهيمالايا. هنالك كانت برودة جدران القصر الطينية تعلن قرب حلول فصل الشتاء.
تطل نافذة بالقصر على مدينة "لو مانتانغ" المسوَّرة التي يعود تاريخها إلى 600 عام، وهي العاصمة التاريخية لمنطقة "موستانغ" الأسطورية في نيبال، ولا تبعد سوى 15 كيلومترًا عن الحدود الصينية. امتدت في الأسفل صفوف متراصة من البيوت الطينية المطلية باللون الأبيض، والدخان يتصاعد متموّجًا من أسطحها؛ فيما تلألأت أيكات شجر حور الهيمالايا في نسيم الظهيرة وقد شارفت أوراقها الذهبية اللامعة على أوج رونقها. إلى الجنوب الشرقي، تفرعت جدائل نهر "كالي غانداكي" مثل مروحة عبر الوادي، متدفقةً نحو جدار مهيب من قمم مكسوة بثلوج تتلألأ في السماء الزرقاء الداكنة. في ما مضى كانت هذه الإطلالة محظورة على الأجانب، مثلي. فعلى مرّ زمن طويل من القرن العشرين، كان الوصول إلى موستانغ يخضع لرقابة مشددة من قبل حكومة نيبال. أما اليوم فقد أخذني الملك إلى قصره المتهالك ليُريني أحد التحديات العديدة التي تواجهها مملكته في العصر الحديث.
الاسم الكامل لهذا الملك هو "جيغمي سينغي بالبار بيستا"، لكنه كان قد عرَّف نفسه إليَ ببساطة باسم "جيغمي". إنه رجل نحيف ذو شعر رمادي خفيف، وتبدو عليه حيوية لا تفصح عن عقوده الستة. كان قد قادني برشاقة إلى مسار ذي عقبات مضاء بشكل خافت عبر القصر، والذي اضطرت عائلته لمغادرته بعد تعرضه لأضرار جسيمة خلال زلزال عام 2015. تسلقنا سلالم خشبية مرتجّة، وتفادينا حفرًا واسعة في الأرضية، ومررنا بمحاذاة جدران متداعية زُيِّنت بجداريات مخططة بالطين. على رغم الحالة المتدهورة للقصر، بدت الغرفة حيث كنّا نقف ساعتَها محفوظةً على نحو جيد للغاية. لاحظ جيغمي أنّني أنظر إلى صورة لرجل وامرأة يرتديان أزياء التبت التقليدية، فقال: "إنهما والِدَاي. فقد كانت هذه غرفة الصلاة لدى والدِي. كان آخر ملوك موستانغ، والملك الخامس والعشرين في سلالتنا. وأنا السادس والعشرون". إلى يساري، امتدت من الأرض إلى السقف خزانةٌ من خشب الصندل مكسوة بورق الذهب. داخل الخزانة، حدّقت مجموعة من التماثيل البرونزية لآلهة بوذية من خلال الأبواب الزجاجية. ونَشرَ تجمّعٌ من المصابيح النُّذرية، المُنارة بوقود من زبدة بقر "الياك"، رائحةً دخانية مميزة بنكهة الحامض، والتي تُشبع المعابد البوذية عبر جبال الهيمالايا. أوضح جيغمي أن التماثيل أكثر من مجرد أعمال فنية، بل هي أرواح حية حرست عائلته منذ العصور القديمة. قال لي إنه قبل وضع كل تمثال على المذبح، كان راهبٌ رفيع المستوى يؤدي طقوسًا يبعث من خلالها استنارتَه في التمثال، جسدًا وكلامًا وعقلًا.
أما الآن فإن جيغمي هو الذي يحرس هذه الآلهة، على الأقل في شكلها المادي. ففي عالم البشر، يمكن لتاجر آثار في السوق السوداء بيع هذه المجموعة الصغيرة لقاء ثروة كبيرة. على مرّ قرون، لم تكن فكرة سرقتها من طرف شخصٍ ما تثير تخوفًا كبيرًا هنا في هذه المدينة البوذية المنعزلة الورعة. لكن العالم الخارجي قد صعد أخيرًا إلى عتبة موستانغ، وكانت سرقة التحف الفنية مبعث قلق واحد فحسب من بين العديد من المخاوف الجديدة التي أضحت تؤرّق بال الملك. لمّا كنتُ وجيغمي نتشارك لحظة الهدوء تلك في غرفة صلاته، كنت بالكاد أميز صوت الضجيج المنخفض لمُعدّات الحَفر وتهيئة الأرض العاملة على تحسين الطريق التي تصل إلى المدينة من الناحية الجنوبية. فلقد أصبح الآن بالإمكان إتمام رحلة الـ 450 كيلومترًا تقريبًا من العاصمة النيبالية كاتماندو في غضون ثلاثة أيام فقط بالسيارة، بعد أن كانت تستغرق أسابيع من السير على القدمين أو على صهوة حصان أو ثور.. لمن استطاع إلى ذلك سبيلًا. تَعبر المَركبات، ويُفضَّل أن تكون رباعية الدفع، بسلسلة مذهلة من المنعرجات على مسار وعر ضيق شُقَّ على طول الأجراف المصطفّة في "مضيق كالي غانداكي". خلال رحلتي إلى هنا، تأخرت بسبب الانهيارات الأرضية التي أغلقت الطريق ساعات، تاركةً طابورًا متعرجًا من السيارات العالقة عبر واجهة الجرف. ومع ذلك، فإن هذه الطريق تمثل تحولًا إيجابيًا عميقًا في حياة سكان موستانغ، بإتاحتها تدفق البضائع الرخيصة وسهولة الوصول إلى المرافق الطبية الحديثة، ومنافع أخرى كثيرة.
وقريبًا قد يصبح تدفق السلع والأشخاص هذا نهرًا مندفعًا من التجارة. وفي شمال لو مانتانغ، خطط الصينيون لدرب تجاري جديد مُربح، وينتظرون طريقًا ممهَّدة حديثًا تَصل جانبهم من الحدود بالطرق السريعة المؤدية إلى بكين. فما تبقى هو الربط بين هذه الطرق عند الحدود، وسيمْكن أن يبدأ عصر جديد من التجارة في هذا الركن الأسطوري من سقف العالم. أما السؤال الذي يطرحه جيغمي وأهل موستانغ فيتعلق بمدى قدرتهم على صون أوصال هذه المملكة الصغيرة التي منحتها خصوصية منذ قرون. من حولنا، كانت تلك الآلهة المرسومة مبتسمةً مزمجرةً. هنالك جلس جيغمي على مقعد وخفض عينيه. ظننتُ أنه ربما كان يتأمل أو يصلي، ولكن بعد ذلك، وبحركة سريعة، أخرج هاتف "آيفون" الخاص به وراح يتفحص رسائله.
اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab