صقّارات الإمارات.. حارسات التراث الأمينات
تُفرِد الكثبان الصحراوية ستائرها المتموجة فتكشف عن حُبيبات رمالها الذهبية، لتُعانق أشعة الشمس الدافئة؛ فيما تُلملِم "عائشة المنصوري" الحشائش والحطب لإشعال نار وقد جلست ابنتها "عوشة" إلى جانبها. يتوسط هذا المشهدَ صقرٌ يجثم فوق عمود خشبي صلب ثُبِّت على الأرض وفُرِش بطبقة كثيفة من العشب الأخضر الصناعي.
وما عائشة بغريبة عن أجواء الصحراء هذه في ربوع أبوظبي؛ فهي تنتمي لقبيلة ظل أفرادها يمارسون الصقارة منذ زمن بعيد، شأنها كشأن كثير من القبائل الأخرى في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ وكذلك ظل الحال في منطقة شبه الجزيرة العربية ومناطق أخرى من العالم على مرّ أربعة آلاف عام، على وجه التقريب. ولطالما شَكَّلَتَ هذه الممارسة وسيلة أساسية للحصول على القوت اليومي للإنسان البدوي الذي تَوارث أصولها وأتقن أساليبَها جيلًا بعد جيل.
ومع مرور الزمن، تحول استخدام الصقور من مجرد وسيلة للصيد وكسب القوت إلى رياضة تراثية مرموقة تهوي إليها أفئدة أهل الإمارات للترويح عن النفس وتجديد الوصال مع تقليد راسخ يغرس فيهم القيّم النبيلة الأصيلة كالشجاعة والصبر والاحترام.. في عالم ما فتئ يخضع لرياح العولمة الهوجاء. وتساعد الصقور في الحفاظ على هوية الإنسان الخليجي عمومًا وقيّمه، وكذا صون حياته التقليدية وإعادة التواصل مع جذوره الضاربة في عمق الصحراء.
وتُعد عائشة واحدة من الأوصياء على هذه الرياضة؛ فهي وابنتها عوشة، ذات الثماني سنوات، اثنتان من بين عدد قليل من النسوة الإماراتيات البارزات إعلاميًا في هذا المشهد التراثي العريق. ذلك أن الصقارة ظلت في المخيال الشعبي المحلي ممارسةً رياضية ذكورية بامتياز؛ على أن دولة الإمارات قد قطعت أشواطًا طويلة على درب المساواة بين الجنسين في المجالات كافة.
بلغت الصقارة عائشة الأربعين من عمرها في هذا العام، وتَستذكر بداية قصتها مع هذه الرياضة، قائلة: "تعلمت الصقارة من والدي الراحل وأنا في سن الرابعة. أذكر أنه كان لدينا غرفة خاصة لاستراحة الصقور، وكان شقيقي يمسك بأحدها ويحاول إلباسه البرقع [غطاء يوضع على وجه الصقر]، لكنه لم يستطع ذلك بسبب كثرة حركة الصقر ورفرفته المتكررة فوق يده. حينها طلب إلي وضع البرقع على الصقر بسرعة.. لكنني لم أستطع ذلك أيضًا". انتقلت عائشة إلى غرفة مجاورة وانتظرت بضع دقائق هناك. ثم عادت مرة أخرى إلى ذاك الصقر مفرط النشاط، فوجدت أن التعب قد أنهكه؛ وهنالك عمدت إلى وضع البرقع على وجهه. تستطرد قائلةً: "عُدت إلى شقيقي وقد كان والدي إلى جانبه. سألني والدي عن حال الصقر، فأجبته: لقد بَرقعتُه للتو. دُهش والدي، فما كان منه سوى النهوض والإسراع باتجاه غرفة الصقور ليتأكد مما صنعتُ. عندها تفاجأ من حسن صنيعي فأرسل إلي بنظرة فخر وإعجاب".
منذئذ.. بدأت رحلة تحليق صقّارتنا عائشة في عوالم الصقور. على أنها لم تكن السبّاقة إلى اقتحام تلك العوالم من بين الإناث في عائلتها؛ إذ تقول: "إن ابنة عمتي الستينية خبيرةٌ في الصقارة، وقد تعلَّمَت أساليبها وأسرارها من خالَيها: عمي ووالدي. وكثيرًا ما اصطحبتني معها في رحلات الصيد". ولكن هذه الأخيرة، على خلاف عائشة، لم ترغب في الظهور الإعلامي. لم تكن عائشة متحمسة لفكرة التوثيق الفوتوغرافي لمسيرتها في بادئ الأمر. إذ ترددت قليلًا عندما تواصلَت معها "فيديا تشاندراموهان"، مصورة وثائقية تقيم في دولة الإمارات، أول مرة 2018 لتصويرها خلال رحلات الصيد. تقول عنها تشاندراموهان إنها "كانت بحاجة إلى بناء الثقة في علاقتها معي وفي الهدف الذي أردت تحقيقه من خلال هذا المشروع الفوتوغرافي. وتمامًا كما يجب على الصقارة أن يكسبوا ثقة الصقر أولًا، كان عليّ أيضًا أن أكسب ثقتها حتى أكون قادرة على السرد المصوَّر لقصتها مع الصقور".
وقد بدأت تشاندراموهان، التي تركز في عملها على إبراز جوانب مختلفة من الحياة اليومية في دولة الإمارات، مَهمتها بالبحث عن النساء الصقارات اللواتي سمعت عنهن من دون أن تراهن. تقول: "قرأت أن النساء يمارسن الصقارة بمدينة العين ومناطق أخرى في البلد. بعدها بحثت عن طريقة للتواصل معهن باللجوء إلى إنستغرام وفيسبوك لعلّي أجد ضالتي". وفي نهاية المطاف وجدَت عائشة، التي تعشق هذه الرياضة التراثية وتقدرها أيما تقدير؛ فكانت هذه الأخيرة بمنزلة الكنز الثمين لتشاندراموهان في رحلة اقتناصها سيرة النساء الصقارات بمنطقة الشرق الأوسط واللواتي تصفهن بأنهن "غائبات عن التوثيق الفوتوغرافي". واظبَت مصورتنا على مواكبة مسيرة عائشة منذ ذلك الحين؛ بل وانخرطت في الآونة الأخيرة في التوثيق لرحلة عوشة التي بدأت تسير على خطى والدتها في مجال الصقارة. وقد أثارت صور الأم وابنتها الفضول لدى الجمهور بعد نشرها في بعض وسائل الإعلام، كما عُرضت حديثًا في "المهرجان الدولي للتصوير" (إكسبوجر) بمدينة الشارقة. وتعليقًا على ذلك، تقول تشاندراموهان: "أقبلت عليّ سيّدات كثيرات وقلن إن جداتهن وخالاتهن وعماتهن كن يمارسن الصقارة. لكن توثيقي لهذه الممارسة باتخاذ المرأة أساسًا كان أمرًا جديدًا وغير مألوف لديهن"؛ على أن الأمر ذاته مع الصقارين الرجال أمر شائع ومن السهل الاشتغال به.
وعبر قرون عديدة، مارست المرأة حقها في الصيد وترويض الصقور في مناطق عديدة، مثل منغوليا وكازاخستان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. ولم تكن المرأة الإماراتية أقل همة وشجاعة بالانخراط في هذا الموروث الأصيل. إذ تقول عائشة: "اعتدت كثيرًا الجلوس مع والدي الذي كان يقص عليّ قصص الصقارة وخاصة حول النساء اللواتي مارسن هذه الرياضة قديمًا".
واليوم، تُكرّس عائشة وقتَها لمواصلة هذا الإرث من خلال تلقينها النساء من مختلف الجنسيات كل ما يتعلق بدروس الصقارة في مقر عملها لدى "نادي أبوظبي للصقارين". فبعد انضمامها للنادي لاحظت كيف تغيرت النظرة العامة تجاه الصقارات. تقول: "منذ أن شرعنا في تقديم هذه الدروس عام 2016، ولحظة ظهور ابنتي إعلاميًا، تغيرت مواقف الناس إزاء مشاركة النساء في هذه الرياضة. فالجميع الآن بات يريد تعليم بناته -قبل أبنائه- الصقارة؛ وأصبح المجتمع أكثر تقبلًا لمشاركة المرأة في هذه الرياضة العريقة". فاليوم، تشارك المرأة في المسابقات والمهرجانات المعنية بالصقارة، مثل "مهرجان الصداقة الدولي للبيزرة" الذي انطلق أول مرة في عام 1976 برعاية وتوجيه خاص من قبل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة.
لكن الإرث الذي تحرص عائشة على صونه يتجاوز ضمان مشاركة المرأة في هذه الرياضة، إلى الحفاظ على الاستدامة البيئية. إذ تؤمن، كما أجدادها وإخوتها، بالعمل من خلال الانسجام مع عناصر البيئة المختلفة في تأمين الغذاء. تقول: "عندما يدخل المرء عالم الصقارة فإنه يصبح أكثر وعيًا بالبيئة. فالصيد بالصقور مرتبط بالبيئة على نحو مباشر. فمثلًا، عندما نجمع الحطب لنشعل النار فإننا لا نقطع الأشجار الخضراء أبدًا. وعند قيادة السيارة وسط رمال الصحراء، فإننا نحرص على عدم الإضرار بأي شجرة أو نبتة صغيرة؛ لأن ذلك سيؤثر فينا سلبًا بطريقة أو بأخرى في الموسم التالي. والأمر نفسه ينسحب على الصيد؛ فأنا لا آخُذ من الطرائد أكثر من حاجتي".
وتأتي هذه الممارسات البيئية الناجعة استمرارًا لممارسة تاريخية كانت ضرورية على أرض تتصف بمناخها الصحراوي الجاف. وتُعد تربية الصقور ممارسة بيئية مستدامة في دولة الإمارات، حيث تُربى الصقور في الأَسر وتحظى برعاية فائقة. وتحصل عائشة على صقورها من المزارع المعتمدة من الحكومة، وكذلك من مزارع التربية في النمسا. وفي عام 2002، أصبحت دولة الإمارات رائدة في رعاية الصقور من خلال إصدار جوازات السفر الأولى من نوعها لهذه الطيور الجارحة. يحتوي جواز السفر على تفاصيل مهمة حول الصقر، مثل النوع والجنس وبلد المنشأ، وحالة الصقر في البرية. والهدف الرئيس من هذا الجواز هو حماية الصقر من الاتجار غير القانوني. وقد حذت دول عديدة، مثل المملكة العربية السعودية، هذا الحذو بإصدارها جوازات سفر خاصة بالصقور لديها أيضًا.
وتعزيزًا للريادة الإماراتية، تم في عام 1999 افتتاح "مستشفى أبوظبي للصقور". أُنشئ المستشفى في الأصل لرعاية الصقور في إمارة أبوظبي، ورفع مستوى الوعي بين الصقارين حول الظروف المعيشية لهذه الطيور والأمراض التي تصيبها، وكذا تقديم العلاج اللازم لها. ولكن مع مرور الوقت، توسعت الخدمات التي يقدمها المستشفى، وبدأ في استقبال صقور من الإمارات الأخرى وكذلك من دول الخليج العربي المجاورة. وها هو اليوم يصبح أكبر مستشفى للصقور في العالم ومركزًا رائدًا لطب الصقور؛ إذ تم اكتشاف أمراض جديدة تنشأ لدى هذه الجوارح، نُشرت الأبحاث بشأنها في أشهر الدوريات العلمية المتخصصة بالطيور. وينظم المستشفى برامج تدريب خاصة للأطباء البيطريين وطلاب الطب البيطري الذين يفدون من أكثر من 42 دولة. تقول مديرة المستشفى، الدكتورة "مارغيت مولر": "لقد ساعد المستشفى حقًا في وضع أبوظبي على الخريطة في كل ما يتعلق بالصقور والصيد بها. وعندما يتحدث شخص ما عن الصقور والصقارة اليوم، فإنه يتحدث عن أبوظبي.. وهذا أمر عظيم". يستقبل المستشفى أيضًا الطلاب المحليين في زيارات يومية تثقيفية. تقول مولر: "هدفنا أن يتعلم الصغار أولًا هذه الرياضة ويحبونها، فهم سينقلون معارفهم إلى عائلاتهم وأصدقائهم، وعندما يكبرون ستكون لديهم معرفة بشأن الصقور". ويجتذب المستشفى زوارًا على نحو منتظم، بوصفه أيقونة سياحية متفردة. وتُقدَّم لهؤلاء الزوار لمحة عامة عن أنواع الصقور وأهميتها للتوازن البيئي؛ فضلا عن طرق الاعتناء بها وتحقيق رفاهيتها.
ويأتي كثيرٌ من هؤلاء الزوار بأفكار مسبقة عن الصقارة، مفادها أنها تنطوي على ممارسات عنيفة؛ لذا تبذل الجهات المعنية جهودًا كبيرة، من خلال البرامج التوعوية، في تصحيح تلك المفاهيم الخاطئة والشائعة حول الصقارة. إذ تقول مولر: "أسمع أن كثيرًا من السياح يعتقدون أن الصقارة رياضة دموية، لأنهم عادةً ما يشاهدون لحظات انقضاض هذه الجوارح على فرائسها من الطيور والثدييات الصغيرة. ولكن هذه الأخيرة عادةً ما تكون ذات بنية ضعيفة مقارنة بالفرائس الأخرى أو تعاني أمراضًا. وهذا يعني إجمالًا أن الصقر يؤدي وظيفة الشرطي البيئي أثناء الصيد". فالصقور إذن تقضي على الفرائس العليلة وغير القوية بما يكفي للبقاء على قيد الحياة في البرية؛ وبذلك تساعد في استدامة بيئتنا.
ولقد خطت دولة الإمارات خطوات جبّارة نحو صون الصقور وإكثار أعدادها، وكذا الحد من الاتجار غير القانوني بها. فباستثناء مناطق محددة، يُعد الصيد محظورًا في الإمارات، وهي من الدول الموقِّعة على "اتفاقية الإتجار الدولي بأنواع الحيوانات والنباتات المهددة بالانقراض"، المعروفة اختصارًا باسم "سايتس". إذ يجب أن يكون لدى الصقار تصريح خاص بالصيد وفي مناطق محددة. تقول مولر: "يُعد 'برنامج الشيخ زايد لإطلاق الصقور' جزءًا من الجهود الإماراتية التي تدعم إعادة تأهيل هذه الجوارح والحفاظ عليها من أجل تحقيق تعداد مستدام لها في البرية". والحال أن حماية الصقور تقتضي تظافر الجهود الدولية، واتخاذ تدابير قانونية تمنع الاتجار بها بصفة غير قانونية، ووضع برامج تعليمية تسهم في تثقيف المجتمعات المحلية بشأن قيمة هذه الطيور ودورها في البيئة. وأَثبتت جهود البلد في سبيل الحفاظ على الصقارة محليًا وإقليميًا أنَّ صون البيئة والاقتصاد يمكن أن يكونا متناغمين. فاليوم، أصبح هذا التقليد المتوارث بمنزلة محرك اقتصادي مربح من خلال مختلف المسابقات التي تُقام في الإمارات، مثل "كأس رئيس الدولة للصيد بالصقور" في أبوظبي، و"بطولة فزاع للصيد بالصقور" في دبي؛ فضلًا عن المهرجانات والمعارض التي تُنظَّم طوال العام، من قبيل "مهرجان الشيخ زايد التراثي" و"معرض الصيد والفروسية". تقول مولر: "إن الإمارات نموذج عالمي يُحتذى في الصقارة، لا سيما من حيث الخبرة في الحفاظ على الصقور وإكثارها وكذا في مجال الطب البيطري الخاص بها".
وإذ تُدرك عائشة التفاعل والتكامل ما بين التراث والاقتصاد، فإنها دائمًا ما تستحضر أهم درس صيد تَعلمَته من والدها: "صقرك هو خويك [أخوك]. إنه أكثر من مجرد طائر صيد، بل كائن يجب تقديره". ونظرًا لأن العالم يبحث عن حلول مستدامة لتوفير الغذاء، فمن المهم التأمل في العلاقة بين الصقار والصقر والبيئة، وكيف تعمل جميعًا ضمن منظومة واحدة.
أشعلت عائشة النار وراحت تُعدّ القهوة العربية، التي ملأت رائحتها الشهية الأجواء. وبعد احتساء فنجانها، قصدت صقرها الشامخ على مجثمه فحملته بيدها لتعطيه الإشارة أن الوقت قد حان لمعانقة الأجواء والانقضاض على أولى الفرائس. راحت عينا عوشة الثاقبتين تراقب كل حركات الأم وسكناتها وهي تتعامل مع صقرها المُطيع. لا تحتاج عائشة إلى استخدام الكلام لتلقين ابنتها أصول هذه "الحرفة" العريقة؛ فهي تجري في دمائها تمامًا كما جرت في دماء أجدادها.. وجدّاتها على مرّ الدهور والعصور.
اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab
صقّارات الإمارات.. حارسات التراث الأمينات
تُفرِد الكثبان الصحراوية ستائرها المتموجة فتكشف عن حُبيبات رمالها الذهبية، لتُعانق أشعة الشمس الدافئة؛ فيما تُلملِم "عائشة المنصوري" الحشائش والحطب لإشعال نار وقد جلست ابنتها "عوشة" إلى جانبها. يتوسط هذا المشهدَ صقرٌ يجثم فوق عمود خشبي صلب ثُبِّت على الأرض وفُرِش بطبقة كثيفة من العشب الأخضر الصناعي.
وما عائشة بغريبة عن أجواء الصحراء هذه في ربوع أبوظبي؛ فهي تنتمي لقبيلة ظل أفرادها يمارسون الصقارة منذ زمن بعيد، شأنها كشأن كثير من القبائل الأخرى في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ وكذلك ظل الحال في منطقة شبه الجزيرة العربية ومناطق أخرى من العالم على مرّ أربعة آلاف عام، على وجه التقريب. ولطالما شَكَّلَتَ هذه الممارسة وسيلة أساسية للحصول على القوت اليومي للإنسان البدوي الذي تَوارث أصولها وأتقن أساليبَها جيلًا بعد جيل.
ومع مرور الزمن، تحول استخدام الصقور من مجرد وسيلة للصيد وكسب القوت إلى رياضة تراثية مرموقة تهوي إليها أفئدة أهل الإمارات للترويح عن النفس وتجديد الوصال مع تقليد راسخ يغرس فيهم القيّم النبيلة الأصيلة كالشجاعة والصبر والاحترام.. في عالم ما فتئ يخضع لرياح العولمة الهوجاء. وتساعد الصقور في الحفاظ على هوية الإنسان الخليجي عمومًا وقيّمه، وكذا صون حياته التقليدية وإعادة التواصل مع جذوره الضاربة في عمق الصحراء.
وتُعد عائشة واحدة من الأوصياء على هذه الرياضة؛ فهي وابنتها عوشة، ذات الثماني سنوات، اثنتان من بين عدد قليل من النسوة الإماراتيات البارزات إعلاميًا في هذا المشهد التراثي العريق. ذلك أن الصقارة ظلت في المخيال الشعبي المحلي ممارسةً رياضية ذكورية بامتياز؛ على أن دولة الإمارات قد قطعت أشواطًا طويلة على درب المساواة بين الجنسين في المجالات كافة.
بلغت الصقارة عائشة الأربعين من عمرها في هذا العام، وتَستذكر بداية قصتها مع هذه الرياضة، قائلة: "تعلمت الصقارة من والدي الراحل وأنا في سن الرابعة. أذكر أنه كان لدينا غرفة خاصة لاستراحة الصقور، وكان شقيقي يمسك بأحدها ويحاول إلباسه البرقع [غطاء يوضع على وجه الصقر]، لكنه لم يستطع ذلك بسبب كثرة حركة الصقر ورفرفته المتكررة فوق يده. حينها طلب إلي وضع البرقع على الصقر بسرعة.. لكنني لم أستطع ذلك أيضًا". انتقلت عائشة إلى غرفة مجاورة وانتظرت بضع دقائق هناك. ثم عادت مرة أخرى إلى ذاك الصقر مفرط النشاط، فوجدت أن التعب قد أنهكه؛ وهنالك عمدت إلى وضع البرقع على وجهه. تستطرد قائلةً: "عُدت إلى شقيقي وقد كان والدي إلى جانبه. سألني والدي عن حال الصقر، فأجبته: لقد بَرقعتُه للتو. دُهش والدي، فما كان منه سوى النهوض والإسراع باتجاه غرفة الصقور ليتأكد مما صنعتُ. عندها تفاجأ من حسن صنيعي فأرسل إلي بنظرة فخر وإعجاب".
منذئذ.. بدأت رحلة تحليق صقّارتنا عائشة في عوالم الصقور. على أنها لم تكن السبّاقة إلى اقتحام تلك العوالم من بين الإناث في عائلتها؛ إذ تقول: "إن ابنة عمتي الستينية خبيرةٌ في الصقارة، وقد تعلَّمَت أساليبها وأسرارها من خالَيها: عمي ووالدي. وكثيرًا ما اصطحبتني معها في رحلات الصيد". ولكن هذه الأخيرة، على خلاف عائشة، لم ترغب في الظهور الإعلامي. لم تكن عائشة متحمسة لفكرة التوثيق الفوتوغرافي لمسيرتها في بادئ الأمر. إذ ترددت قليلًا عندما تواصلَت معها "فيديا تشاندراموهان"، مصورة وثائقية تقيم في دولة الإمارات، أول مرة 2018 لتصويرها خلال رحلات الصيد. تقول عنها تشاندراموهان إنها "كانت بحاجة إلى بناء الثقة في علاقتها معي وفي الهدف الذي أردت تحقيقه من خلال هذا المشروع الفوتوغرافي. وتمامًا كما يجب على الصقارة أن يكسبوا ثقة الصقر أولًا، كان عليّ أيضًا أن أكسب ثقتها حتى أكون قادرة على السرد المصوَّر لقصتها مع الصقور".
وقد بدأت تشاندراموهان، التي تركز في عملها على إبراز جوانب مختلفة من الحياة اليومية في دولة الإمارات، مَهمتها بالبحث عن النساء الصقارات اللواتي سمعت عنهن من دون أن تراهن. تقول: "قرأت أن النساء يمارسن الصقارة بمدينة العين ومناطق أخرى في البلد. بعدها بحثت عن طريقة للتواصل معهن باللجوء إلى إنستغرام وفيسبوك لعلّي أجد ضالتي". وفي نهاية المطاف وجدَت عائشة، التي تعشق هذه الرياضة التراثية وتقدرها أيما تقدير؛ فكانت هذه الأخيرة بمنزلة الكنز الثمين لتشاندراموهان في رحلة اقتناصها سيرة النساء الصقارات بمنطقة الشرق الأوسط واللواتي تصفهن بأنهن "غائبات عن التوثيق الفوتوغرافي". واظبَت مصورتنا على مواكبة مسيرة عائشة منذ ذلك الحين؛ بل وانخرطت في الآونة الأخيرة في التوثيق لرحلة عوشة التي بدأت تسير على خطى والدتها في مجال الصقارة. وقد أثارت صور الأم وابنتها الفضول لدى الجمهور بعد نشرها في بعض وسائل الإعلام، كما عُرضت حديثًا في "المهرجان الدولي للتصوير" (إكسبوجر) بمدينة الشارقة. وتعليقًا على ذلك، تقول تشاندراموهان: "أقبلت عليّ سيّدات كثيرات وقلن إن جداتهن وخالاتهن وعماتهن كن يمارسن الصقارة. لكن توثيقي لهذه الممارسة باتخاذ المرأة أساسًا كان أمرًا جديدًا وغير مألوف لديهن"؛ على أن الأمر ذاته مع الصقارين الرجال أمر شائع ومن السهل الاشتغال به.
وعبر قرون عديدة، مارست المرأة حقها في الصيد وترويض الصقور في مناطق عديدة، مثل منغوليا وكازاخستان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. ولم تكن المرأة الإماراتية أقل همة وشجاعة بالانخراط في هذا الموروث الأصيل. إذ تقول عائشة: "اعتدت كثيرًا الجلوس مع والدي الذي كان يقص عليّ قصص الصقارة وخاصة حول النساء اللواتي مارسن هذه الرياضة قديمًا".
واليوم، تُكرّس عائشة وقتَها لمواصلة هذا الإرث من خلال تلقينها النساء من مختلف الجنسيات كل ما يتعلق بدروس الصقارة في مقر عملها لدى "نادي أبوظبي للصقارين". فبعد انضمامها للنادي لاحظت كيف تغيرت النظرة العامة تجاه الصقارات. تقول: "منذ أن شرعنا في تقديم هذه الدروس عام 2016، ولحظة ظهور ابنتي إعلاميًا، تغيرت مواقف الناس إزاء مشاركة النساء في هذه الرياضة. فالجميع الآن بات يريد تعليم بناته -قبل أبنائه- الصقارة؛ وأصبح المجتمع أكثر تقبلًا لمشاركة المرأة في هذه الرياضة العريقة". فاليوم، تشارك المرأة في المسابقات والمهرجانات المعنية بالصقارة، مثل "مهرجان الصداقة الدولي للبيزرة" الذي انطلق أول مرة في عام 1976 برعاية وتوجيه خاص من قبل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة.
لكن الإرث الذي تحرص عائشة على صونه يتجاوز ضمان مشاركة المرأة في هذه الرياضة، إلى الحفاظ على الاستدامة البيئية. إذ تؤمن، كما أجدادها وإخوتها، بالعمل من خلال الانسجام مع عناصر البيئة المختلفة في تأمين الغذاء. تقول: "عندما يدخل المرء عالم الصقارة فإنه يصبح أكثر وعيًا بالبيئة. فالصيد بالصقور مرتبط بالبيئة على نحو مباشر. فمثلًا، عندما نجمع الحطب لنشعل النار فإننا لا نقطع الأشجار الخضراء أبدًا. وعند قيادة السيارة وسط رمال الصحراء، فإننا نحرص على عدم الإضرار بأي شجرة أو نبتة صغيرة؛ لأن ذلك سيؤثر فينا سلبًا بطريقة أو بأخرى في الموسم التالي. والأمر نفسه ينسحب على الصيد؛ فأنا لا آخُذ من الطرائد أكثر من حاجتي".
وتأتي هذه الممارسات البيئية الناجعة استمرارًا لممارسة تاريخية كانت ضرورية على أرض تتصف بمناخها الصحراوي الجاف. وتُعد تربية الصقور ممارسة بيئية مستدامة في دولة الإمارات، حيث تُربى الصقور في الأَسر وتحظى برعاية فائقة. وتحصل عائشة على صقورها من المزارع المعتمدة من الحكومة، وكذلك من مزارع التربية في النمسا. وفي عام 2002، أصبحت دولة الإمارات رائدة في رعاية الصقور من خلال إصدار جوازات السفر الأولى من نوعها لهذه الطيور الجارحة. يحتوي جواز السفر على تفاصيل مهمة حول الصقر، مثل النوع والجنس وبلد المنشأ، وحالة الصقر في البرية. والهدف الرئيس من هذا الجواز هو حماية الصقر من الاتجار غير القانوني. وقد حذت دول عديدة، مثل المملكة العربية السعودية، هذا الحذو بإصدارها جوازات سفر خاصة بالصقور لديها أيضًا.
وتعزيزًا للريادة الإماراتية، تم في عام 1999 افتتاح "مستشفى أبوظبي للصقور". أُنشئ المستشفى في الأصل لرعاية الصقور في إمارة أبوظبي، ورفع مستوى الوعي بين الصقارين حول الظروف المعيشية لهذه الطيور والأمراض التي تصيبها، وكذا تقديم العلاج اللازم لها. ولكن مع مرور الوقت، توسعت الخدمات التي يقدمها المستشفى، وبدأ في استقبال صقور من الإمارات الأخرى وكذلك من دول الخليج العربي المجاورة. وها هو اليوم يصبح أكبر مستشفى للصقور في العالم ومركزًا رائدًا لطب الصقور؛ إذ تم اكتشاف أمراض جديدة تنشأ لدى هذه الجوارح، نُشرت الأبحاث بشأنها في أشهر الدوريات العلمية المتخصصة بالطيور. وينظم المستشفى برامج تدريب خاصة للأطباء البيطريين وطلاب الطب البيطري الذين يفدون من أكثر من 42 دولة. تقول مديرة المستشفى، الدكتورة "مارغيت مولر": "لقد ساعد المستشفى حقًا في وضع أبوظبي على الخريطة في كل ما يتعلق بالصقور والصيد بها. وعندما يتحدث شخص ما عن الصقور والصقارة اليوم، فإنه يتحدث عن أبوظبي.. وهذا أمر عظيم". يستقبل المستشفى أيضًا الطلاب المحليين في زيارات يومية تثقيفية. تقول مولر: "هدفنا أن يتعلم الصغار أولًا هذه الرياضة ويحبونها، فهم سينقلون معارفهم إلى عائلاتهم وأصدقائهم، وعندما يكبرون ستكون لديهم معرفة بشأن الصقور". ويجتذب المستشفى زوارًا على نحو منتظم، بوصفه أيقونة سياحية متفردة. وتُقدَّم لهؤلاء الزوار لمحة عامة عن أنواع الصقور وأهميتها للتوازن البيئي؛ فضلا عن طرق الاعتناء بها وتحقيق رفاهيتها.
ويأتي كثيرٌ من هؤلاء الزوار بأفكار مسبقة عن الصقارة، مفادها أنها تنطوي على ممارسات عنيفة؛ لذا تبذل الجهات المعنية جهودًا كبيرة، من خلال البرامج التوعوية، في تصحيح تلك المفاهيم الخاطئة والشائعة حول الصقارة. إذ تقول مولر: "أسمع أن كثيرًا من السياح يعتقدون أن الصقارة رياضة دموية، لأنهم عادةً ما يشاهدون لحظات انقضاض هذه الجوارح على فرائسها من الطيور والثدييات الصغيرة. ولكن هذه الأخيرة عادةً ما تكون ذات بنية ضعيفة مقارنة بالفرائس الأخرى أو تعاني أمراضًا. وهذا يعني إجمالًا أن الصقر يؤدي وظيفة الشرطي البيئي أثناء الصيد". فالصقور إذن تقضي على الفرائس العليلة وغير القوية بما يكفي للبقاء على قيد الحياة في البرية؛ وبذلك تساعد في استدامة بيئتنا.
ولقد خطت دولة الإمارات خطوات جبّارة نحو صون الصقور وإكثار أعدادها، وكذا الحد من الاتجار غير القانوني بها. فباستثناء مناطق محددة، يُعد الصيد محظورًا في الإمارات، وهي من الدول الموقِّعة على "اتفاقية الإتجار الدولي بأنواع الحيوانات والنباتات المهددة بالانقراض"، المعروفة اختصارًا باسم "سايتس". إذ يجب أن يكون لدى الصقار تصريح خاص بالصيد وفي مناطق محددة. تقول مولر: "يُعد 'برنامج الشيخ زايد لإطلاق الصقور' جزءًا من الجهود الإماراتية التي تدعم إعادة تأهيل هذه الجوارح والحفاظ عليها من أجل تحقيق تعداد مستدام لها في البرية". والحال أن حماية الصقور تقتضي تظافر الجهود الدولية، واتخاذ تدابير قانونية تمنع الاتجار بها بصفة غير قانونية، ووضع برامج تعليمية تسهم في تثقيف المجتمعات المحلية بشأن قيمة هذه الطيور ودورها في البيئة. وأَثبتت جهود البلد في سبيل الحفاظ على الصقارة محليًا وإقليميًا أنَّ صون البيئة والاقتصاد يمكن أن يكونا متناغمين. فاليوم، أصبح هذا التقليد المتوارث بمنزلة محرك اقتصادي مربح من خلال مختلف المسابقات التي تُقام في الإمارات، مثل "كأس رئيس الدولة للصيد بالصقور" في أبوظبي، و"بطولة فزاع للصيد بالصقور" في دبي؛ فضلًا عن المهرجانات والمعارض التي تُنظَّم طوال العام، من قبيل "مهرجان الشيخ زايد التراثي" و"معرض الصيد والفروسية". تقول مولر: "إن الإمارات نموذج عالمي يُحتذى في الصقارة، لا سيما من حيث الخبرة في الحفاظ على الصقور وإكثارها وكذا في مجال الطب البيطري الخاص بها".
وإذ تُدرك عائشة التفاعل والتكامل ما بين التراث والاقتصاد، فإنها دائمًا ما تستحضر أهم درس صيد تَعلمَته من والدها: "صقرك هو خويك [أخوك]. إنه أكثر من مجرد طائر صيد، بل كائن يجب تقديره". ونظرًا لأن العالم يبحث عن حلول مستدامة لتوفير الغذاء، فمن المهم التأمل في العلاقة بين الصقار والصقر والبيئة، وكيف تعمل جميعًا ضمن منظومة واحدة.
أشعلت عائشة النار وراحت تُعدّ القهوة العربية، التي ملأت رائحتها الشهية الأجواء. وبعد احتساء فنجانها، قصدت صقرها الشامخ على مجثمه فحملته بيدها لتعطيه الإشارة أن الوقت قد حان لمعانقة الأجواء والانقضاض على أولى الفرائس. راحت عينا عوشة الثاقبتين تراقب كل حركات الأم وسكناتها وهي تتعامل مع صقرها المُطيع. لا تحتاج عائشة إلى استخدام الكلام لتلقين ابنتها أصول هذه "الحرفة" العريقة؛ فهي تجري في دمائها تمامًا كما جرت في دماء أجدادها.. وجدّاتها على مرّ الدهور والعصور.