برية تغزو المدن

يتأقلم القيوط والدب والراكون وحيوانات أخرى، بطرق ذكية، مع العيش في الحواضر؛ مدفوعةً بتناقص موائلها الطبيعية.

للوهلة الأولى، يبدو المشهدُ حدثًا يوميًا مألوفًا في مدن أميركا: ساعي بريد أميركي يعتمر قبعة زرقاء، يترجل من شاحنة التوصيل ويمشي عبر الشارع حاملًا رسائل في يده. يظل المشهدُ عاديًا. لكن ساعي البريد هذا إما أنه لم ينتبه، أو أنه يبدو غير مكترث، لوجود دب أميركي (Ursus americanus) ضخم أسود اللون -من المرجح أنه ذكر يافع- يجلس على وركيه على بعد أمتار قليلة منه، ويحك بشدة فروه الشتوي. وغير بعيد على جهة اليسار، كانت الطريق السريعة "240" تهدر بالمركبات خلف سياج متصل بسلسلة، وبدا أن هذه الضوضاء غير ذات شأن للدب، إذ طفق يتبختر بخطواته الواثقة أسفل الرصيف باتجاه هذه الناحية التي تبعد أقل من كيلومتر واحد عن وسط مدينة آشفيل بولاية كارولينا الشمالية. أما على طول الطريق السريعة، فكان فريق من الباحثين التابعين لمشروع بحثي تعاوني يُعنى بدراسة الدببة في الحواضر والضواحي بولاية كارولينا الشمالية، منبهرًا باكتشاف آخر: تجويف عميق داخل شجرة قيقب فضية كثيرة العُقد. فقد دخلت أنثى دب، يسميها الباحثون "N209"، في سبات بذلك التجويف خلال الشتاء، على كل الصخب المتواصل للمركبات المارة على بعد أمتار قليلة. ثُبِّت على عنقها طوقٌ لاسلكي، وهي من بين أكثر من مئة دب يَجري تتبعها في هذه الدراسة.  وصل هذا المشروع الآن إلى عامه الثامن، ومع ذلك "لا تزال هذه الدببة تفاجئني"، تقول "كولين أولفينبوتيل"، عالمة الأحياء المتخصصة في الدببة السوداء وغيرها من الحيوانات ذات الفراء لدى الولاية، وهي ترفع صوتها عاليًا لتُغالب ضجيج حركة المرور. كانت تمسك بسلم ليظل ثابتًا، فيما أحد زملائها يندفع داخل الشجرة ليأخذ مقاسات العرين. إنه أكبر عرين شجرة رأته أولفينبوتيل خلال دراستها الدببة السوداء على مرّ 23 عامًا. تقول عن هذه الحيوانات: "إنها أكثر قدرة على التأقلم مما نظن". وفي الواقع، يَصعب على المرء تصور أن الدببة السوداء يمكن أن تستمرئ العيش في آشفيل. ففي هذه المدينة الآخذة في التقدم، والتي تؤوي زهاء 95 ألف نسمة في حضن جبال "بلو ريدج"، تتنقل الدببة في الأحياء السكنية في وضح النهار وتتسلق على أسطح المنازل والشرفات الأمامية. وقد احتضن بعض سكان آشفيل هؤلاء الجيران الجدد، حتى إن المرءَ لَيَجد على هاتف جل من يتحدث إليهم مقطعَ فيديو لأحدث لقاء لهم مع دب. ظهرت دببة المدن في آشفيل وأماكن أخرى نتيجة مجموعة من الاتجاهات؛ وتشمل التغيرات التي طالت استخدام الأراضي وما يُتاح من أطعمة مُغرية عند العيش على مقربة من التجمعات البشرية. وأدت هذه العوامل إلى زيادة عدد الدببة السوداء في أميركا الشمالية حتى بلغ زُهاء 800 ألف دب. وفي الوقت نفسه، ابتلعت المدن والضواحي مترامية الأطراف مساحات كبيرة من موائل الدببة، تاركةً هذه الحيوانات أمام خيار وحيد هو التأقلم مع العيش مع جيرانها من بني البشر. وتحدث هذه الظاهرة في المناطق الحضرية بمختلف أنحاء الولايات المتحدة وحول العالم، ولا تقتصر على الدببة السوداء فحسب. فالعديد من الثدييات التي تتغذى على مجموعة متنوعة من الأطعمة تتحرك نحو المدن وتغير أنماط سلوكها إذ تتعلم مهارات البقاء على قيد الحياة بالمناطق الحضرية. وإذ تتسع دائرة العلماء الدارسين لهذه الكائنات التي تتحرك أمام ناظرينا، تبرز رسالة ثابتة مفادها أن العديد من الأنواع ماضية في التأقلم مع الحياة الحضرية بطرق غير مسبوقة. فذئاب القيوط -مثلًا- تنظر يمينًا وشمالًا قبل عبور الشارع. وتَعرف الدببة السوداء اليومَ الذي تُخرَج فيه القمامة. وتستطيع حيوانات الراكون تَبَيُّن كيفية نزع الحبال المطاطية عن صناديق القمامة. وفي عام 2020، أَظهرَ استطلاع لـ 83 دراسة عن الحيوانات البرية في المناطق الحضرية عبر ست قارات أن 93 بالمئة من الثدييات التي تعيش في المدن تتصرف على نحو مختلف عن نظيراتها التي تعيش في البرية. وأضحى جل هذه الحيوانات ينشط ليلًا لتجنب البشر (وتشمل أنواعًا شتى كالأرانب الأوروبية، والخنازير البرية، وقردة المكاك الريسوسي، ودلَق الزان). كما وسّعت نطاق نُظُمها الغذائية الطبيعية ليشمل الأطعمة البشرية وقلصت مجال موائلها ليقتصر على مناطق أصغر بكثير.  ويقول علماء البيئة إنه كلما زاد فهمنا الحيوانات التي تعيش بين ظهرانينا، صار تعايشنا أفضل مع الوافدين الجدد إلى الحواضر.

في منطقة حرجية تقع خلف صف من مطاعم الوجبات السريعة والفنادق في آشفيل، سحبت "جينيفر سترولس" واثنان من زملائها مصيدة دببة (قفص فولاذي على شكل برميل لصيد الدببة السوداء في ظروف رحيمة) على مقربة من موقف سيارات أحد الفنادق. إذ يأملون الإمساك بأنثى دب تعيش في تلك الناحية مع جرائها الثلاثة.
فتحت سترولس، طالبة الدكتوراه في مجال مصائد الأسماك والحيوانات البرية وعلم أحياء الحِفظ لدى "جامعة ولاية كارولينا الشمالية"، صندوقًا يحوي مخبوزات لم يمض سوى يوم واحد على طهيها (وهو طُعم لا يقاوم لحيوان له حاسة شم أَحَدّ من التي لدى كلب الصيد). دهنَ أعضاء الفريق القشدةَ الباردة التي تزين الكعك المُكوَّب على جوانب المصيدة ورموا بداخلها بعض الكعك المحلى المقلي ولفائف كعكة القرفة. فإن وقعت أنثى الدب في المصيدة، سيعمد العلماء إلى تخدير هذه الطريدة التي سبق الإمساك بها مرة من قبل واستبدال طوق التعقب اللاسلكي الخاص بها. وتم جمع بيانات من أكثر من مئة دب مجهَّز بأطواق لاسلكية خلال المرحلة الأولى من دراسة الدببة في الحواضر وضواحيها، بإشراف من لدن عالم الأحياء البرية، "نيكولاس غولد". كشفت الدراسة عن اختلافات مثيرة للاهتمام بين الدببة التي تعيش في المناطق الحضرية وتلك البرية. فقد كانت إناث المدن التي تتراوح أعمارها بين عام واحد و1.5 عام تزن زُهاء ضِعف وزن نظيراتها في البرية. وأنجبت بعض إناث الحواضر البالغة من العمر عامين دياسم (مفردها ديسم، وهو صغير الدب)، فيما لم تنجب أي أنثى برية من العمر نفسه. ومع ذلك، نفق 40 بالمئة من دببة المدينة خلال هذه الدراسة التي استمرت أربعة أعوام، وكان السبب الرئيس في ذلك حوادث دهس بالمركبات. ومن غير الواضح في هذه المرحلة، يقول الباحثون، هل كانت الحياة في المدينة نعمة أو نقمة على دببة آشفيل.
وتَرسم دراساتٌ أخرى صورة أقل غموضا. فالدببة الحضرية بمدينتَي "دورانغو" و"آسبين" بولاية كولورادو وكذلك في بحيرة "تاهو" بولاية نيفادا، لديها -على غرار دببة آشفيل- وزن أكبر وتلد عددًا أكبر من الدياسم، لكن صغارها نادرًا ما تظل حية؛ مما يتسبب بانخفاض في صافي أعدادها. وقد تعطي رؤية دببة سمينة مع مجموعة من الدياسم الانطباع أن النمو الحضري وامتداد الضواحي يفيدان هذه الحيوانات، لكن الواقع على خلاف ذلك. وليس صحيحًا أيضًا أن البشر والدببة يعيشون دائمًا في وئام، حتى في مدينة آشفيل المتقبِّلة لوجود هذه الحيوانات، حيث قتلت الدببة حيوانات أنيسة وأصابت شخصًا واحدًا على الأقل خلال الأعوام الأخيرة. ففي عام 2020، هاجمت أنثى دب كانت تدافع عن صغارها، كلبَ "فاليري باتنوت"، الذي نفق في وقت لاحق. "نحن نتفهم أن على الجميع أن يتعايش. لكننا لا نريد سوى مسافة أبعد من الدببة"، كما قالت باتنوت ونحن نقف على شرفتها الخلفية المطلة على جبال تلوح من بعيد. فجأة، ظهرت في الأسفل عائلة دببة، كما لو كانت تنتظر لحظة حديثنا عنها. تسلق ديسم شجرة، فيما كان ديسم آخر يمضي مسرعًا بالقرب من أمه الضخمة التي كانت تَرقبنا بحذر. ولمعرفة السبل الكفيلة بضمان التعايش الآمن للأهالي مع جيرانهم الجامحين هؤلاء، تخطط سترولس لإجراء تجربة. وسيكون حَيّان سكنيان محورَ حملة تثقيفية حول "بيروايز" (BearWise)، وهي مبادرة ستشمل قريبًا الولايات المتحدة بأكملها وتشجع الممارسات المراعية للدببة، كإبقاء الحيوانات الأنيسة مقيَّدة، وإحكام إغلاق صناديق القمامة، وإزالة منصات إطعام الطيور، وعدم الاقتراب من هذه الحيوانات أو إطعامها. أمّا حيّان آخران فلن يتلقيا أي مواد تثقيفية بذلك الشأن، وسيؤديان دورَ عناصرَ ثابتة في التجربة. وتأمل سترولس، من خلال تتبع الدببة ذات الأطواق اللاسلكية في الأحياء الأربعة، معرفةَ هل الترويج لأفضل ممارسات "بيروايز" يغير سلوك الأهالي ويقلص عدد التبليغات عن مشكلات الدببة المزعجة. أما في دورانغو، فقد خطا الباحثون خطوة أبعد ووزّعوا أكثر من ألف علبة قمامة مقاوِمة للدببة؛ إذ سجلت المنازل التي استخدمت تلك الحاويات انخفاضًا بنسبة 60 بالمئة في حدوث تلك المشكلات.
لكن بعض الناس يريدون الدببة في أفنية منازلهم.. ولعل أكثرهم في ذلك هي "جانيس هوسيبو"، التي تعدّها جزءًا من عائلتها. فقد ظلت على مرّ 22 عامًا تجتذب الدببة الجائعة إلى أرضية منزلها في قلب مدينة آشفيل، حيث تتلذذ بأطباق طعام الطيور. قالت هوسيبو إذ كنا نتجمع لدى بابها لنشاهد أنثى دب وديسمَيها التوأم يسيرون بتمهل حول الشرفة: "لدي أصدقاء يلقبونني بهامسة الدببة". واستطردت قائلة بصوت يَرِقُّ بما يجيش في نفسها من أحاسيس: "إنها تستلقي هنا وترعى ديسمها بينما أتحدث إليها..".
لكن مسؤولي الحياة البرية يحذرون من أن إطعام الدببة يزيد من حدة النزاعات ومخاطر الإصابة، ما يقلل بدوره من التسامح تجاه هذه الحيوانات؛ وهما سببان جعلا مقاطعة محلية تصدر أمرًا بحظر هذه الممارسة. وتأمل سترولس، التي تعترف بما تحظى به الدببة من محبة في نفوس أهالي آشفيل، أن تقدم أبحاثها إرشادات حول أفضل طريقة للتعايش مع هذه الحيوانات؛ سواء بالنسبة إليها أو لنا. تقول: "الحيوانات البرية ملك للجميع، لكننا نريد أن تظل الدببة [حيوانات] برية".

 

برية تغزو المدن

يتأقلم القيوط والدب والراكون وحيوانات أخرى، بطرق ذكية، مع العيش في الحواضر؛ مدفوعةً بتناقص موائلها الطبيعية.

للوهلة الأولى، يبدو المشهدُ حدثًا يوميًا مألوفًا في مدن أميركا: ساعي بريد أميركي يعتمر قبعة زرقاء، يترجل من شاحنة التوصيل ويمشي عبر الشارع حاملًا رسائل في يده. يظل المشهدُ عاديًا. لكن ساعي البريد هذا إما أنه لم ينتبه، أو أنه يبدو غير مكترث، لوجود دب أميركي (Ursus americanus) ضخم أسود اللون -من المرجح أنه ذكر يافع- يجلس على وركيه على بعد أمتار قليلة منه، ويحك بشدة فروه الشتوي. وغير بعيد على جهة اليسار، كانت الطريق السريعة "240" تهدر بالمركبات خلف سياج متصل بسلسلة، وبدا أن هذه الضوضاء غير ذات شأن للدب، إذ طفق يتبختر بخطواته الواثقة أسفل الرصيف باتجاه هذه الناحية التي تبعد أقل من كيلومتر واحد عن وسط مدينة آشفيل بولاية كارولينا الشمالية. أما على طول الطريق السريعة، فكان فريق من الباحثين التابعين لمشروع بحثي تعاوني يُعنى بدراسة الدببة في الحواضر والضواحي بولاية كارولينا الشمالية، منبهرًا باكتشاف آخر: تجويف عميق داخل شجرة قيقب فضية كثيرة العُقد. فقد دخلت أنثى دب، يسميها الباحثون "N209"، في سبات بذلك التجويف خلال الشتاء، على كل الصخب المتواصل للمركبات المارة على بعد أمتار قليلة. ثُبِّت على عنقها طوقٌ لاسلكي، وهي من بين أكثر من مئة دب يَجري تتبعها في هذه الدراسة.  وصل هذا المشروع الآن إلى عامه الثامن، ومع ذلك "لا تزال هذه الدببة تفاجئني"، تقول "كولين أولفينبوتيل"، عالمة الأحياء المتخصصة في الدببة السوداء وغيرها من الحيوانات ذات الفراء لدى الولاية، وهي ترفع صوتها عاليًا لتُغالب ضجيج حركة المرور. كانت تمسك بسلم ليظل ثابتًا، فيما أحد زملائها يندفع داخل الشجرة ليأخذ مقاسات العرين. إنه أكبر عرين شجرة رأته أولفينبوتيل خلال دراستها الدببة السوداء على مرّ 23 عامًا. تقول عن هذه الحيوانات: "إنها أكثر قدرة على التأقلم مما نظن". وفي الواقع، يَصعب على المرء تصور أن الدببة السوداء يمكن أن تستمرئ العيش في آشفيل. ففي هذه المدينة الآخذة في التقدم، والتي تؤوي زهاء 95 ألف نسمة في حضن جبال "بلو ريدج"، تتنقل الدببة في الأحياء السكنية في وضح النهار وتتسلق على أسطح المنازل والشرفات الأمامية. وقد احتضن بعض سكان آشفيل هؤلاء الجيران الجدد، حتى إن المرءَ لَيَجد على هاتف جل من يتحدث إليهم مقطعَ فيديو لأحدث لقاء لهم مع دب. ظهرت دببة المدن في آشفيل وأماكن أخرى نتيجة مجموعة من الاتجاهات؛ وتشمل التغيرات التي طالت استخدام الأراضي وما يُتاح من أطعمة مُغرية عند العيش على مقربة من التجمعات البشرية. وأدت هذه العوامل إلى زيادة عدد الدببة السوداء في أميركا الشمالية حتى بلغ زُهاء 800 ألف دب. وفي الوقت نفسه، ابتلعت المدن والضواحي مترامية الأطراف مساحات كبيرة من موائل الدببة، تاركةً هذه الحيوانات أمام خيار وحيد هو التأقلم مع العيش مع جيرانها من بني البشر. وتحدث هذه الظاهرة في المناطق الحضرية بمختلف أنحاء الولايات المتحدة وحول العالم، ولا تقتصر على الدببة السوداء فحسب. فالعديد من الثدييات التي تتغذى على مجموعة متنوعة من الأطعمة تتحرك نحو المدن وتغير أنماط سلوكها إذ تتعلم مهارات البقاء على قيد الحياة بالمناطق الحضرية. وإذ تتسع دائرة العلماء الدارسين لهذه الكائنات التي تتحرك أمام ناظرينا، تبرز رسالة ثابتة مفادها أن العديد من الأنواع ماضية في التأقلم مع الحياة الحضرية بطرق غير مسبوقة. فذئاب القيوط -مثلًا- تنظر يمينًا وشمالًا قبل عبور الشارع. وتَعرف الدببة السوداء اليومَ الذي تُخرَج فيه القمامة. وتستطيع حيوانات الراكون تَبَيُّن كيفية نزع الحبال المطاطية عن صناديق القمامة. وفي عام 2020، أَظهرَ استطلاع لـ 83 دراسة عن الحيوانات البرية في المناطق الحضرية عبر ست قارات أن 93 بالمئة من الثدييات التي تعيش في المدن تتصرف على نحو مختلف عن نظيراتها التي تعيش في البرية. وأضحى جل هذه الحيوانات ينشط ليلًا لتجنب البشر (وتشمل أنواعًا شتى كالأرانب الأوروبية، والخنازير البرية، وقردة المكاك الريسوسي، ودلَق الزان). كما وسّعت نطاق نُظُمها الغذائية الطبيعية ليشمل الأطعمة البشرية وقلصت مجال موائلها ليقتصر على مناطق أصغر بكثير.  ويقول علماء البيئة إنه كلما زاد فهمنا الحيوانات التي تعيش بين ظهرانينا، صار تعايشنا أفضل مع الوافدين الجدد إلى الحواضر.

في منطقة حرجية تقع خلف صف من مطاعم الوجبات السريعة والفنادق في آشفيل، سحبت "جينيفر سترولس" واثنان من زملائها مصيدة دببة (قفص فولاذي على شكل برميل لصيد الدببة السوداء في ظروف رحيمة) على مقربة من موقف سيارات أحد الفنادق. إذ يأملون الإمساك بأنثى دب تعيش في تلك الناحية مع جرائها الثلاثة.
فتحت سترولس، طالبة الدكتوراه في مجال مصائد الأسماك والحيوانات البرية وعلم أحياء الحِفظ لدى "جامعة ولاية كارولينا الشمالية"، صندوقًا يحوي مخبوزات لم يمض سوى يوم واحد على طهيها (وهو طُعم لا يقاوم لحيوان له حاسة شم أَحَدّ من التي لدى كلب الصيد). دهنَ أعضاء الفريق القشدةَ الباردة التي تزين الكعك المُكوَّب على جوانب المصيدة ورموا بداخلها بعض الكعك المحلى المقلي ولفائف كعكة القرفة. فإن وقعت أنثى الدب في المصيدة، سيعمد العلماء إلى تخدير هذه الطريدة التي سبق الإمساك بها مرة من قبل واستبدال طوق التعقب اللاسلكي الخاص بها. وتم جمع بيانات من أكثر من مئة دب مجهَّز بأطواق لاسلكية خلال المرحلة الأولى من دراسة الدببة في الحواضر وضواحيها، بإشراف من لدن عالم الأحياء البرية، "نيكولاس غولد". كشفت الدراسة عن اختلافات مثيرة للاهتمام بين الدببة التي تعيش في المناطق الحضرية وتلك البرية. فقد كانت إناث المدن التي تتراوح أعمارها بين عام واحد و1.5 عام تزن زُهاء ضِعف وزن نظيراتها في البرية. وأنجبت بعض إناث الحواضر البالغة من العمر عامين دياسم (مفردها ديسم، وهو صغير الدب)، فيما لم تنجب أي أنثى برية من العمر نفسه. ومع ذلك، نفق 40 بالمئة من دببة المدينة خلال هذه الدراسة التي استمرت أربعة أعوام، وكان السبب الرئيس في ذلك حوادث دهس بالمركبات. ومن غير الواضح في هذه المرحلة، يقول الباحثون، هل كانت الحياة في المدينة نعمة أو نقمة على دببة آشفيل.
وتَرسم دراساتٌ أخرى صورة أقل غموضا. فالدببة الحضرية بمدينتَي "دورانغو" و"آسبين" بولاية كولورادو وكذلك في بحيرة "تاهو" بولاية نيفادا، لديها -على غرار دببة آشفيل- وزن أكبر وتلد عددًا أكبر من الدياسم، لكن صغارها نادرًا ما تظل حية؛ مما يتسبب بانخفاض في صافي أعدادها. وقد تعطي رؤية دببة سمينة مع مجموعة من الدياسم الانطباع أن النمو الحضري وامتداد الضواحي يفيدان هذه الحيوانات، لكن الواقع على خلاف ذلك. وليس صحيحًا أيضًا أن البشر والدببة يعيشون دائمًا في وئام، حتى في مدينة آشفيل المتقبِّلة لوجود هذه الحيوانات، حيث قتلت الدببة حيوانات أنيسة وأصابت شخصًا واحدًا على الأقل خلال الأعوام الأخيرة. ففي عام 2020، هاجمت أنثى دب كانت تدافع عن صغارها، كلبَ "فاليري باتنوت"، الذي نفق في وقت لاحق. "نحن نتفهم أن على الجميع أن يتعايش. لكننا لا نريد سوى مسافة أبعد من الدببة"، كما قالت باتنوت ونحن نقف على شرفتها الخلفية المطلة على جبال تلوح من بعيد. فجأة، ظهرت في الأسفل عائلة دببة، كما لو كانت تنتظر لحظة حديثنا عنها. تسلق ديسم شجرة، فيما كان ديسم آخر يمضي مسرعًا بالقرب من أمه الضخمة التي كانت تَرقبنا بحذر. ولمعرفة السبل الكفيلة بضمان التعايش الآمن للأهالي مع جيرانهم الجامحين هؤلاء، تخطط سترولس لإجراء تجربة. وسيكون حَيّان سكنيان محورَ حملة تثقيفية حول "بيروايز" (BearWise)، وهي مبادرة ستشمل قريبًا الولايات المتحدة بأكملها وتشجع الممارسات المراعية للدببة، كإبقاء الحيوانات الأنيسة مقيَّدة، وإحكام إغلاق صناديق القمامة، وإزالة منصات إطعام الطيور، وعدم الاقتراب من هذه الحيوانات أو إطعامها. أمّا حيّان آخران فلن يتلقيا أي مواد تثقيفية بذلك الشأن، وسيؤديان دورَ عناصرَ ثابتة في التجربة. وتأمل سترولس، من خلال تتبع الدببة ذات الأطواق اللاسلكية في الأحياء الأربعة، معرفةَ هل الترويج لأفضل ممارسات "بيروايز" يغير سلوك الأهالي ويقلص عدد التبليغات عن مشكلات الدببة المزعجة. أما في دورانغو، فقد خطا الباحثون خطوة أبعد ووزّعوا أكثر من ألف علبة قمامة مقاوِمة للدببة؛ إذ سجلت المنازل التي استخدمت تلك الحاويات انخفاضًا بنسبة 60 بالمئة في حدوث تلك المشكلات.
لكن بعض الناس يريدون الدببة في أفنية منازلهم.. ولعل أكثرهم في ذلك هي "جانيس هوسيبو"، التي تعدّها جزءًا من عائلتها. فقد ظلت على مرّ 22 عامًا تجتذب الدببة الجائعة إلى أرضية منزلها في قلب مدينة آشفيل، حيث تتلذذ بأطباق طعام الطيور. قالت هوسيبو إذ كنا نتجمع لدى بابها لنشاهد أنثى دب وديسمَيها التوأم يسيرون بتمهل حول الشرفة: "لدي أصدقاء يلقبونني بهامسة الدببة". واستطردت قائلة بصوت يَرِقُّ بما يجيش في نفسها من أحاسيس: "إنها تستلقي هنا وترعى ديسمها بينما أتحدث إليها..".
لكن مسؤولي الحياة البرية يحذرون من أن إطعام الدببة يزيد من حدة النزاعات ومخاطر الإصابة، ما يقلل بدوره من التسامح تجاه هذه الحيوانات؛ وهما سببان جعلا مقاطعة محلية تصدر أمرًا بحظر هذه الممارسة. وتأمل سترولس، التي تعترف بما تحظى به الدببة من محبة في نفوس أهالي آشفيل، أن تقدم أبحاثها إرشادات حول أفضل طريقة للتعايش مع هذه الحيوانات؛ سواء بالنسبة إليها أو لنا. تقول: "الحيوانات البرية ملك للجميع، لكننا نريد أن تظل الدببة [حيوانات] برية".