نحن هنــــــــا
الفصل الأول
استعادة الأرض
تلا-أو-كي-آهت • كولومبيا البريطانية
كانت شجرة الأرز الأحمر بطول يناهز المترين وارتفاع متر واحد وكذلك عرضها أو يكاد. كان "غوردن ديك" يقطع قمتها المستديرة بمنشار سلسلي فتتناثر نُشارتها. وضع "جو مارتن" على أذنيه كاتم ضجيج وهو يجثو ليرى موضع شفرة المنشار من الجذع. طفق هذا الأخير يُصدر بيده اليمنى إشارات صغيرة: إلى الأعلى قليلا.. إلى الأسفل.. هذا جيد. امتلأ الهواء برائحة خشب الأرز الحادة الشبيهة بعشبة طبية. مارتن فنان من شعب "تلا-أو-كي-آهت" الأصلي، على الساحل الغربي من جزيرة فانكوفر، في مقاطعة كولومبيا البريطانية بكندا. أمّا ديك، وهو أيضا نحّات، فينتمي إلى شعب "تسيشاهت" الأصلي المجاور. كانا بصدد إجراء اللمسات الأولى لتمثال ذئب جاثٍ على وركيه؛ وهو في الواقع عمود طوطمي قصير. غير بعيد، كان ثمة عمودان طوطميان ضخمان شبه كاملين، ارتفاع أحدهما سبعة أمتار والآخر تسعة أمتار. غَصَّ جانب كل منهما بصور رمزية، بعضُها فوق بعض: دببة وشموس وثعابين بحر أسطورية وذئاب كثيرة. خلال هذا الصيف، سيضع مارتن أحد العمودين في بيت عائلته بقرية "أوبيتساهت" على جزيرة "ميرز"، على مقربة من بلدة "توفينو" لدى جزيرة فانكوفر. كان في أوبيتساهت المئاتُ منها إلى حدود عام 1884، حين أجبر قانونٌ كندي الشعوبَ الأصلية على ترك جامعي التحف والمتاحف يأخذونها بحرية.. وهو ما تم بالفعل. إن الأعمدة الطوطمية، شأنها كشأن الزجاج الملون في نوافذ الكاتدرائيات، تمثيلاتٌ بصرية لتعاليم تقليدية. لكن حضورها المهيب يجعلها أكثر من ذلك، كما قال لي مارتن، مستطردًا: "إنها تقول: 'نحن هنا. وهذا مجالنا'". إن جزيرة ميرز جزء من أرض شعب "تلا-أو-كي-آهت"؛ وكذلك "توفينو" وعشرات الجزر في "مضيق كلايوكوت" (كلايوكوت تهجئة قديمة لاسم شعب تلا-أو-كي-آهت). تقول كندا إن هذه الأرض الممتدة على مساحة 1000 كيلومتر مربع مزيج من منتزه وطني ومناطق خشب وأراض خاصة مع بضعة مواقع صغيرة تضم قرى شعوب أصلية. لكن أفراد "تلا-أو-كي-آهت" يقولون إنها أرضهم كلها ولطالما ظلت كانت وما تزال. ولقد أعلنوا كل تلك المساحة منتزهات قبَلية. ويخضع جزء كبير من هذه الأرض لقطع الأشجار طلبًا للأخشاب، على نحو سيء، على أيدي شركات جرّدت البلاد من أشجار أرزها القديمة القيّمة وعاثت فيها تعرية وخرابًا. يقول "سايا ماسو"، مدير قسم الموارد الطبيعية في "تلا-أو-كي-آهت": "لقد جاؤوا ورحلوا. كان ذلك منذ 50 عاما. ولم يستصلحوا الأرض، وسارت كولومبيا البريطانية وكندا على خطاهم. لذا نقوم بذلك نحن الآن".
يعكف أفراد شعب "تلا-أو-كي-آهت" على إعادة توجيه الجداول المائية، واستعادة المنظومة البيئية التي كانت قبل قطع الأخشاب، وحماية مناطق تفريخ سمك الرنجة، ووضع حواجز على طرق قاطعي الأخشاب في الأماكن الحساسة التي لا يُسمح للسياح بزيارتها. وفضلًا عن جهود الحِفظ تلك، بدؤوا العملية الحثيثة والحيوية لبناء الأمة: إذ يُعدّون برامج تعليمهم الخاصة، ويستأجرون حراسهم الخاصين (يُعرفون باسم سدنة المنتزهات)، وربما أهم من ذلك.. باتوا يُقنعون الشركات بإضافة شيء شبيه بضريبة مبيعات -نسبة واحد بالمئة تؤدى طوعًا- إلى فواتير زبائنهم وذلك لأجل دعم جهود شعبهم. غالبًا ما يوظِّف السكانُ الأصليون لفظَة "سيادة" كلما تحدثوا عن هذا العمل. والسيادة، في دلالتها المثالية، تعني "حكم الذات". لكن أُناسًا مثل "ماسو" و"مارتن" يعنون أكثر من ذلك حين يستخدمون اللفظة. إنها ترمز لِتَصَوّر المجتمعات الأصلية بوصفها ثقافات مستقلة، وجزءًا من العالم الحديث رغم تجذرها في قيّمها الخاصة العتيقة، تتصرف بصفتها نِدًّا للحكومات غير القبَلية على الأصعدة كافة. يقول "لوروي ليتل بير" من شعب "كايناي" (أو شعب الدم): "أقرب كلمة إنجليزية أعرفها إلى معنى لفظة 'سيادة' هي 'تحقيق الذات'". لعب "ليتل بير"، الأستاذ الفخري للقانون لدى "جامعة ليثبريدج"، دورًا محوريا في تكريس حقوق الشعوب الأصلية في دستور كندا لعام 1982. يقول: "معنى السيادة أن يتحقق الوصول إلى كل ذواتنا".
إن أفراد شعب "تلا-أو-كي-آهت" ليسوا وحدهم أو حتى استثناءً. في كل أنحاء "جزيرة السلحفاة" -وهو اسم يطلقه السكان الأصليون على أميركا الشمالية، بناءً على أساطير مفادها أن العالم موضوع على ظهر سلحفاة- يطالب كل السكان بوضعٍ لم يتخلوا عنه قط، وفي أثناء ذلك يُغيّرون حياتهم وحياة جيرانهم. وربما كان أروع أنهم حازوا بعض الاحترام من العالم غير القبَلي. تتراوح الآثار بين الشرطة القبَلية في مونتانا، التي تدافع بنجاح عن الحق في اعتقال الأشخاص من غير السكان الأصليين المشتبه في ارتكابهم جرائم على تلك الأراضي، ومجالس في كندا تضم ممثلين من السكان الأصليين ومن الحكومة يُشرفون معًا على القضايا البيئية التي تهم نحو 4.4 مليون كيلومتر مربع؛ أي زُهاء 40 بالمئة من مساحة البلد. يظل جل هذا العمل على نطاق صغير، ويكاد لا يظهر، ومن ذلك التعاون بين كل من شعب "ناكودا" وشعب "آنيه" و"الإدارة الأميركية لتدبير الأراضي" من أجل استرجاع البراري في مونتانا. لكن بعضها كان ذا أثر عميق، من قبيل قرار "المحكمة العليا" في الولايات المتحدة الصادر عام 2020 والذي جعل المحاكم الأدنى درجة تؤكد أن نصف أوكلاهوما تقريبا أرض للشعوب الأصلية. وعلى غرار دفاع الأميركيين من أصول إفريقية عن حقوقهم المدنية عبر الاحتجاج والتشريع اللذين تصاعدا تدريجيًا، هبّت الشعوب الأصلية لاسترجاع السيادة منهجيًا: دعوى قضائية، ومفاوضة، وقانون، وبرنامج في كل مرة. وعلى مَرّ عقود، يؤكد أفراد "تلا-أو-كي-آهت" عدم توقيعهم على أي معاهدة مع مقاطعة كولومبيا البريطانية؛ ومعنى ذلك أنهم لم يَتخَلوا قَط عن أي جزء من حقوقهم أو أرضهم. إلى حدود عام 1993، رفضت المقاطعة حتى التفاوض. فكان ينبغي الانتظار إلى أكتوبر من عام 2021، بعد 19 عامًا من المحادثات والعديد من الاتفاقات الجانبية، لتقبل المقاطعة آلية نقاش بعينها. ظلت العملية بطيئة للغاية، لكن التغيير صار ظاهرًا مثل اللافتة الموضوعة على جانب الطريق والتي تُحَيي الزوار الداخلين إلى أرض قبائل هذا الشعب: "هنا موطن تلا-أو-كي-آهت". لا شيء من ذلك مقرَّر مُسبقًا من أجل مواصلة المسير. فأزيد من 42 بالمئة من القبائل المعترف بها رسميا بالولايات المتحدة لا تتوفر على محميات معترف بها على الصعيد الفدرالي أو الولائي، ومحميات القبائل التي تمتلكها تشكل جزءا يسيرا مما كانت تمتلك في الماضي. إن السكان الأصليين من بين الأفقر والأضعف في القارة، وتشهد أوساطهم بعضا من أعلى معدلات الجرعات الزائدة القاتلة من المخدرات مقارنة بالفئات العرقية الأخرى. ونساؤهن تحديدا يواجهن العنف بمعدلات كبيرة جدا. وأكثر ما يقلق النشطاء أن الحكومتين الأميركية والكندية لديهما السلطة لتذويب أي مكسب يحققه السكان الأصليون في أي زمان.
لمّا سألتُ "سايا ماسو" عمّا يرغب برؤيته في غضون خمسة أعوام أو عشرة، سرد على مسامعي هذه القائمة: تحسن الرعاية الصحية، متحف ومركز ثقافي، مسكن قبَلي عامّ يَحلّ محل الذي دُمِّرَ في القرن التاسع عشر، حراس منتزهات أكثر بأجور أفضل، قنوات صرف صحي أحسن، ونظام مدارس خاصة بشعب "تلا-أو-كي-آهت". إن المفتاح لكل ما ذُكر هو بناء قاعدة اقتصادية قبَلية. يقول ماسو: "إن أساس ذلك كله هو السيادة، من الشعب إلى الشعب".
يقول: "العالم لا يدري أننا متساوون. لكننا نتحسن من حيث إخباره بذلك".
الفصل الثاني
فلتبدأ اللعبة..
تشاهتا • أوكلاهوما
كان أول عهدي باستخدام عصي "إشتابولي" في "مهرجان عيد العمال" لدى "شعب تشوكتو" في أوكلاهوما، وهو أكبر تجمع رسمي لدى "تشاهتا"، كما يسمون أنفسهم. ينظَّم المهرجان في توسكاهوما، عاصمة الشعب، وهو كغيره من المهرجانات من نواح عديدة، ومخالف لها من نواح أخرى. ولعل "إشتابولي" من أكبر الاختلافات.
إنها رياضة جماعية أقدم من أي رياضة لعبها مستعمرو هذا الشعب، وتسمى في الإنجليزية "stickball" أي "كرة العصي". يجعل كل فريق 30 لاعبًا على ميدان شبيه بملعب كرة القدم، على طرفيه عمودان بارتفاع 3.5 متر. لكل لاعب زوج من العصي -غالبا ما تُصنع يدويًا- عودها منحن وفي طرفها حلقة. تحتوي الحلقة على شرائط جلدية تشكل جيبًا يكفي بالكاد للكرة الصغيرة المغطاة بالجلد. يستخدم اللاعبون العصي فقط لحمل الكرة وتمريرها وقذفها؛ إذ لا يُسمح باستخدام الأيدي. يحاول كل طرف إصابة عمود الطرف الآخر بالكرة ومنعه من تحقيق الغاية نفسها. وثمة قواعد قليلة تَحد من كيفية قيام اللاعبين بذلك. لَمَّا حاول بعض أفراد "تشاهتا" في المهرجان تعليمي كيفية التقاط الكرة، استطعت بالكاد فعل ذلك. وفي إحدى المرات القليلة التي نجحت فيها بذلك، هرعوا إلي. رفعتُ بصري لأرى أربعة أشخاص يهجمون علي وهم يحملون عصيهم. هل ذكرتُ أن اللعب يكون بغير واقيات ولا خوذات؟ وأن بعضهم يلعبون حفاة؟ اتجه اللاعبون نحوي. مد أحدهم يده لمساعدتي على القيام، قائلًا بلطف: "لقد صرتَ فردًا من تشاهتا لهذا اليوم". وقال آخر: "لقد صرتَ مستعدا للعب". في الأيام الخوالي، كانت اللعبة تُلعب في الريف، وغالبا ما ضمت مئات اللاعبين في كل جانب. كانت تلتئم مجتمعات برمتها، والمنافسة تحتد إلى درجة أن اللعبة سُمِّيت "أخت الحرب الصغيرة". كانت تُوظَّف أحيانا لتسوية النزاعات. وما زال بعض من ذلك الاندفاع حاضرا. لا يتوقف اللعب إلا فترات قصيرة حين تكون الكرة في الهواء أو عندما يُصاب أحدهم. يصرخ الحشد وتُقرع الطبول بينما يصطدم الناس في الميدان. وحين يلتقط اللاعبون الكرة، يهوي عليهم الخصوم. قلتُ: "لستُ متأكدا من استعدادي للعب". كان موطن "تشاهتا" بأرض المسيسيبي المنخفضة الجميلة. وبعد وصول الأوروبيين، احتال زعماء "تشاهتا" على إسبانيا وفرنسا وإنجلترا وضربوا بعضها ببعض؛ إذ كانوا يتاجرون مع الجميع وينشؤون مزارع غَنّاء مزدهرة. اتسمت العقود الأولى لهذا الشعب مع الولايات المتحدة حديثة العهد بالسلم في أغلبها؛ بل إن "تشاهتا" تحالفوا معها ضد بريطانيا العظمى وحلفائها الأصليين في حرب عام 1812. وعُيِّنَ زعيم "تشاهتا" العظيم، "بوشماتاها"، برتبة عميد. على الرغم من تحالف "تشاهتا"، صار هذا الشعب في عام 1830 الأول من بين أزيد من 40 شعبًا أُجبرت على مغادرة مواطنها والانتقال إلى ما كان يسمى ساعتئذ "إقليم الهنود" (أوكلاهوما اليوم). كانت رحلتهم فاتحة "درب الدموع" سيء السمعة. لقاءَ التنازل عن أراضيهم، طلب تشاهتا أمرًا مهمًّا واحدا: السيادة. التزمت الولايات المتحدة في المعاهدة "ألّا إقليم ولا ولاية سيكون لها حق سَنّ قوانين لحكومة شعب تشوكتو.. وألا قطعة من الأرض الممنوحة لهم ستُضم إلى أي إقليم أو ولاية". لم يتم الوفاء بذلك الالتزام. في غضون العقود القليلة التالية، تَوزَّع جزء كبير من موطن "تشاهتا" على شعوب أصلية أخرى، فيما تم تحويل البقية من أراض مشتركة إلى أراض خاصة وتوزيعها على أفراد القبائل الذين كانوا في الغالب أكثر تسلحًا من أن يُرغَموا على بيعها للمستوطنين. في عام 1907، أُدمِجَ إقليم الهنود في ولاية أوكلاهوما الجديدة. وتكبدت شعوب أصلية خارج أوكلاهوما خسائر مماثلة. ويبلغ متوسط المحمية اليوم 2.6 بالمئة من حجم موطنها الأصلي السابق. لم تكتف الحكومة بانتزاع أراضي القبائل، بل طاردت القبائل نفسها، وحددت تواريخ لوضع "نهاية" لها بوصفها كيانات قانونية. كان "تشاهتا" قاب قوسين أو أدنى من الاختفاء. ولم تكن شعوب أخرى بالحظ نفسه. وإن كانت هناك من بداية وحيدة للتحول في أميركا الأصلية، فلعلّها سَنّ "قانون تقرير مصير الهنود الأصليين" في عام 1975. وبدافع موجة من نضال السكان الأصليين، خلق القانون آليات تُمكّن القبائل من وضع، بل وتوجيه برامجهم الخاصة. وأسفر ذلك، مثلًا، عن إعادة رقصة "تشاهتا" ولغة "تشاهتا" اللتين كانتا تتعرضان للطمس على أيدي المبشرين؛ وكذا عن تنظيم أول مباراة "إشتابولي" علنية منذ عقود؛ إذ كانت اللعبة قد حُظِرَت في مدارس الهنود الأصليين القديمة.
طوال ذلك الوقت، كانت القبائل في سائر أنحاء "جزيرة السلاحف" تكافح للإفلات من قوانين الولاية التي تقيد أنشطتهم، وغالبا ما كانت تَحول دون حصولهم على قاعدة اقتصادية. بعد معركتين قانونيتين وصلتا إلى المحكمة العليا الأميركية، وأثبتتا أن الشعوب الأصلية لا تخضع للعديد من القوانين المحلية أو الولائية، أصدر الكونغرس في عام 1988 قانونًا مهَّد الطريق أمامها لإدارة عمليات الألعاب. يتوفر شعب "تشوكتو" اليوم على سبعة كازينوهات في جنوب شرق أوكلاهوما، وأزيد من 200 ألف عضو منخرط. صار الشعب قوة اقتصادية قوية، مسؤولة عمّا يقارب 100 ألف منصب شغل. وتعيد بناء قاعدتها الأرضية بعد أن اقتنت نحو 24 ألف هكتار. يوظف شعب "تشوكتو" مداخيل الكازينوهات في مشاريع بناء الطرق ودعم المدارس وإنشاء العيادات الطبية وبناء بيوت لكبار السن من ذويهم. وقد نجحوا في إقامة 17 مركزًا اجتماعيًا، بمعدل مركز واحد تقريبا في كل بلدة على أرضهم. حدثتني "سو فولسوم"، مديرة المشروع الثقافي للشعب، فقالت: "السيادة أساس كل ما نقوم به". أشرفت فولسوم على تطوير المركز الثقافي الجديد الذي افتتح في عام 2021. تتناول إحدى أبرز معروضاته التاريخ المثير للجدل لشعب "تشاهتا" والحكومة الأميركية، وتسمى "حماية سيادتنا".
نحن هنــــــــا
الفصل الأول
استعادة الأرض
تلا-أو-كي-آهت • كولومبيا البريطانية
كانت شجرة الأرز الأحمر بطول يناهز المترين وارتفاع متر واحد وكذلك عرضها أو يكاد. كان "غوردن ديك" يقطع قمتها المستديرة بمنشار سلسلي فتتناثر نُشارتها. وضع "جو مارتن" على أذنيه كاتم ضجيج وهو يجثو ليرى موضع شفرة المنشار من الجذع. طفق هذا الأخير يُصدر بيده اليمنى إشارات صغيرة: إلى الأعلى قليلا.. إلى الأسفل.. هذا جيد. امتلأ الهواء برائحة خشب الأرز الحادة الشبيهة بعشبة طبية. مارتن فنان من شعب "تلا-أو-كي-آهت" الأصلي، على الساحل الغربي من جزيرة فانكوفر، في مقاطعة كولومبيا البريطانية بكندا. أمّا ديك، وهو أيضا نحّات، فينتمي إلى شعب "تسيشاهت" الأصلي المجاور. كانا بصدد إجراء اللمسات الأولى لتمثال ذئب جاثٍ على وركيه؛ وهو في الواقع عمود طوطمي قصير. غير بعيد، كان ثمة عمودان طوطميان ضخمان شبه كاملين، ارتفاع أحدهما سبعة أمتار والآخر تسعة أمتار. غَصَّ جانب كل منهما بصور رمزية، بعضُها فوق بعض: دببة وشموس وثعابين بحر أسطورية وذئاب كثيرة. خلال هذا الصيف، سيضع مارتن أحد العمودين في بيت عائلته بقرية "أوبيتساهت" على جزيرة "ميرز"، على مقربة من بلدة "توفينو" لدى جزيرة فانكوفر. كان في أوبيتساهت المئاتُ منها إلى حدود عام 1884، حين أجبر قانونٌ كندي الشعوبَ الأصلية على ترك جامعي التحف والمتاحف يأخذونها بحرية.. وهو ما تم بالفعل. إن الأعمدة الطوطمية، شأنها كشأن الزجاج الملون في نوافذ الكاتدرائيات، تمثيلاتٌ بصرية لتعاليم تقليدية. لكن حضورها المهيب يجعلها أكثر من ذلك، كما قال لي مارتن، مستطردًا: "إنها تقول: 'نحن هنا. وهذا مجالنا'". إن جزيرة ميرز جزء من أرض شعب "تلا-أو-كي-آهت"؛ وكذلك "توفينو" وعشرات الجزر في "مضيق كلايوكوت" (كلايوكوت تهجئة قديمة لاسم شعب تلا-أو-كي-آهت). تقول كندا إن هذه الأرض الممتدة على مساحة 1000 كيلومتر مربع مزيج من منتزه وطني ومناطق خشب وأراض خاصة مع بضعة مواقع صغيرة تضم قرى شعوب أصلية. لكن أفراد "تلا-أو-كي-آهت" يقولون إنها أرضهم كلها ولطالما ظلت كانت وما تزال. ولقد أعلنوا كل تلك المساحة منتزهات قبَلية. ويخضع جزء كبير من هذه الأرض لقطع الأشجار طلبًا للأخشاب، على نحو سيء، على أيدي شركات جرّدت البلاد من أشجار أرزها القديمة القيّمة وعاثت فيها تعرية وخرابًا. يقول "سايا ماسو"، مدير قسم الموارد الطبيعية في "تلا-أو-كي-آهت": "لقد جاؤوا ورحلوا. كان ذلك منذ 50 عاما. ولم يستصلحوا الأرض، وسارت كولومبيا البريطانية وكندا على خطاهم. لذا نقوم بذلك نحن الآن".
يعكف أفراد شعب "تلا-أو-كي-آهت" على إعادة توجيه الجداول المائية، واستعادة المنظومة البيئية التي كانت قبل قطع الأخشاب، وحماية مناطق تفريخ سمك الرنجة، ووضع حواجز على طرق قاطعي الأخشاب في الأماكن الحساسة التي لا يُسمح للسياح بزيارتها. وفضلًا عن جهود الحِفظ تلك، بدؤوا العملية الحثيثة والحيوية لبناء الأمة: إذ يُعدّون برامج تعليمهم الخاصة، ويستأجرون حراسهم الخاصين (يُعرفون باسم سدنة المنتزهات)، وربما أهم من ذلك.. باتوا يُقنعون الشركات بإضافة شيء شبيه بضريبة مبيعات -نسبة واحد بالمئة تؤدى طوعًا- إلى فواتير زبائنهم وذلك لأجل دعم جهود شعبهم. غالبًا ما يوظِّف السكانُ الأصليون لفظَة "سيادة" كلما تحدثوا عن هذا العمل. والسيادة، في دلالتها المثالية، تعني "حكم الذات". لكن أُناسًا مثل "ماسو" و"مارتن" يعنون أكثر من ذلك حين يستخدمون اللفظة. إنها ترمز لِتَصَوّر المجتمعات الأصلية بوصفها ثقافات مستقلة، وجزءًا من العالم الحديث رغم تجذرها في قيّمها الخاصة العتيقة، تتصرف بصفتها نِدًّا للحكومات غير القبَلية على الأصعدة كافة. يقول "لوروي ليتل بير" من شعب "كايناي" (أو شعب الدم): "أقرب كلمة إنجليزية أعرفها إلى معنى لفظة 'سيادة' هي 'تحقيق الذات'". لعب "ليتل بير"، الأستاذ الفخري للقانون لدى "جامعة ليثبريدج"، دورًا محوريا في تكريس حقوق الشعوب الأصلية في دستور كندا لعام 1982. يقول: "معنى السيادة أن يتحقق الوصول إلى كل ذواتنا".
إن أفراد شعب "تلا-أو-كي-آهت" ليسوا وحدهم أو حتى استثناءً. في كل أنحاء "جزيرة السلحفاة" -وهو اسم يطلقه السكان الأصليون على أميركا الشمالية، بناءً على أساطير مفادها أن العالم موضوع على ظهر سلحفاة- يطالب كل السكان بوضعٍ لم يتخلوا عنه قط، وفي أثناء ذلك يُغيّرون حياتهم وحياة جيرانهم. وربما كان أروع أنهم حازوا بعض الاحترام من العالم غير القبَلي. تتراوح الآثار بين الشرطة القبَلية في مونتانا، التي تدافع بنجاح عن الحق في اعتقال الأشخاص من غير السكان الأصليين المشتبه في ارتكابهم جرائم على تلك الأراضي، ومجالس في كندا تضم ممثلين من السكان الأصليين ومن الحكومة يُشرفون معًا على القضايا البيئية التي تهم نحو 4.4 مليون كيلومتر مربع؛ أي زُهاء 40 بالمئة من مساحة البلد. يظل جل هذا العمل على نطاق صغير، ويكاد لا يظهر، ومن ذلك التعاون بين كل من شعب "ناكودا" وشعب "آنيه" و"الإدارة الأميركية لتدبير الأراضي" من أجل استرجاع البراري في مونتانا. لكن بعضها كان ذا أثر عميق، من قبيل قرار "المحكمة العليا" في الولايات المتحدة الصادر عام 2020 والذي جعل المحاكم الأدنى درجة تؤكد أن نصف أوكلاهوما تقريبا أرض للشعوب الأصلية. وعلى غرار دفاع الأميركيين من أصول إفريقية عن حقوقهم المدنية عبر الاحتجاج والتشريع اللذين تصاعدا تدريجيًا، هبّت الشعوب الأصلية لاسترجاع السيادة منهجيًا: دعوى قضائية، ومفاوضة، وقانون، وبرنامج في كل مرة. وعلى مَرّ عقود، يؤكد أفراد "تلا-أو-كي-آهت" عدم توقيعهم على أي معاهدة مع مقاطعة كولومبيا البريطانية؛ ومعنى ذلك أنهم لم يَتخَلوا قَط عن أي جزء من حقوقهم أو أرضهم. إلى حدود عام 1993، رفضت المقاطعة حتى التفاوض. فكان ينبغي الانتظار إلى أكتوبر من عام 2021، بعد 19 عامًا من المحادثات والعديد من الاتفاقات الجانبية، لتقبل المقاطعة آلية نقاش بعينها. ظلت العملية بطيئة للغاية، لكن التغيير صار ظاهرًا مثل اللافتة الموضوعة على جانب الطريق والتي تُحَيي الزوار الداخلين إلى أرض قبائل هذا الشعب: "هنا موطن تلا-أو-كي-آهت". لا شيء من ذلك مقرَّر مُسبقًا من أجل مواصلة المسير. فأزيد من 42 بالمئة من القبائل المعترف بها رسميا بالولايات المتحدة لا تتوفر على محميات معترف بها على الصعيد الفدرالي أو الولائي، ومحميات القبائل التي تمتلكها تشكل جزءا يسيرا مما كانت تمتلك في الماضي. إن السكان الأصليين من بين الأفقر والأضعف في القارة، وتشهد أوساطهم بعضا من أعلى معدلات الجرعات الزائدة القاتلة من المخدرات مقارنة بالفئات العرقية الأخرى. ونساؤهن تحديدا يواجهن العنف بمعدلات كبيرة جدا. وأكثر ما يقلق النشطاء أن الحكومتين الأميركية والكندية لديهما السلطة لتذويب أي مكسب يحققه السكان الأصليون في أي زمان.
لمّا سألتُ "سايا ماسو" عمّا يرغب برؤيته في غضون خمسة أعوام أو عشرة، سرد على مسامعي هذه القائمة: تحسن الرعاية الصحية، متحف ومركز ثقافي، مسكن قبَلي عامّ يَحلّ محل الذي دُمِّرَ في القرن التاسع عشر، حراس منتزهات أكثر بأجور أفضل، قنوات صرف صحي أحسن، ونظام مدارس خاصة بشعب "تلا-أو-كي-آهت". إن المفتاح لكل ما ذُكر هو بناء قاعدة اقتصادية قبَلية. يقول ماسو: "إن أساس ذلك كله هو السيادة، من الشعب إلى الشعب".
يقول: "العالم لا يدري أننا متساوون. لكننا نتحسن من حيث إخباره بذلك".
الفصل الثاني
فلتبدأ اللعبة..
تشاهتا • أوكلاهوما
كان أول عهدي باستخدام عصي "إشتابولي" في "مهرجان عيد العمال" لدى "شعب تشوكتو" في أوكلاهوما، وهو أكبر تجمع رسمي لدى "تشاهتا"، كما يسمون أنفسهم. ينظَّم المهرجان في توسكاهوما، عاصمة الشعب، وهو كغيره من المهرجانات من نواح عديدة، ومخالف لها من نواح أخرى. ولعل "إشتابولي" من أكبر الاختلافات.
إنها رياضة جماعية أقدم من أي رياضة لعبها مستعمرو هذا الشعب، وتسمى في الإنجليزية "stickball" أي "كرة العصي". يجعل كل فريق 30 لاعبًا على ميدان شبيه بملعب كرة القدم، على طرفيه عمودان بارتفاع 3.5 متر. لكل لاعب زوج من العصي -غالبا ما تُصنع يدويًا- عودها منحن وفي طرفها حلقة. تحتوي الحلقة على شرائط جلدية تشكل جيبًا يكفي بالكاد للكرة الصغيرة المغطاة بالجلد. يستخدم اللاعبون العصي فقط لحمل الكرة وتمريرها وقذفها؛ إذ لا يُسمح باستخدام الأيدي. يحاول كل طرف إصابة عمود الطرف الآخر بالكرة ومنعه من تحقيق الغاية نفسها. وثمة قواعد قليلة تَحد من كيفية قيام اللاعبين بذلك. لَمَّا حاول بعض أفراد "تشاهتا" في المهرجان تعليمي كيفية التقاط الكرة، استطعت بالكاد فعل ذلك. وفي إحدى المرات القليلة التي نجحت فيها بذلك، هرعوا إلي. رفعتُ بصري لأرى أربعة أشخاص يهجمون علي وهم يحملون عصيهم. هل ذكرتُ أن اللعب يكون بغير واقيات ولا خوذات؟ وأن بعضهم يلعبون حفاة؟ اتجه اللاعبون نحوي. مد أحدهم يده لمساعدتي على القيام، قائلًا بلطف: "لقد صرتَ فردًا من تشاهتا لهذا اليوم". وقال آخر: "لقد صرتَ مستعدا للعب". في الأيام الخوالي، كانت اللعبة تُلعب في الريف، وغالبا ما ضمت مئات اللاعبين في كل جانب. كانت تلتئم مجتمعات برمتها، والمنافسة تحتد إلى درجة أن اللعبة سُمِّيت "أخت الحرب الصغيرة". كانت تُوظَّف أحيانا لتسوية النزاعات. وما زال بعض من ذلك الاندفاع حاضرا. لا يتوقف اللعب إلا فترات قصيرة حين تكون الكرة في الهواء أو عندما يُصاب أحدهم. يصرخ الحشد وتُقرع الطبول بينما يصطدم الناس في الميدان. وحين يلتقط اللاعبون الكرة، يهوي عليهم الخصوم. قلتُ: "لستُ متأكدا من استعدادي للعب". كان موطن "تشاهتا" بأرض المسيسيبي المنخفضة الجميلة. وبعد وصول الأوروبيين، احتال زعماء "تشاهتا" على إسبانيا وفرنسا وإنجلترا وضربوا بعضها ببعض؛ إذ كانوا يتاجرون مع الجميع وينشؤون مزارع غَنّاء مزدهرة. اتسمت العقود الأولى لهذا الشعب مع الولايات المتحدة حديثة العهد بالسلم في أغلبها؛ بل إن "تشاهتا" تحالفوا معها ضد بريطانيا العظمى وحلفائها الأصليين في حرب عام 1812. وعُيِّنَ زعيم "تشاهتا" العظيم، "بوشماتاها"، برتبة عميد. على الرغم من تحالف "تشاهتا"، صار هذا الشعب في عام 1830 الأول من بين أزيد من 40 شعبًا أُجبرت على مغادرة مواطنها والانتقال إلى ما كان يسمى ساعتئذ "إقليم الهنود" (أوكلاهوما اليوم). كانت رحلتهم فاتحة "درب الدموع" سيء السمعة. لقاءَ التنازل عن أراضيهم، طلب تشاهتا أمرًا مهمًّا واحدا: السيادة. التزمت الولايات المتحدة في المعاهدة "ألّا إقليم ولا ولاية سيكون لها حق سَنّ قوانين لحكومة شعب تشوكتو.. وألا قطعة من الأرض الممنوحة لهم ستُضم إلى أي إقليم أو ولاية". لم يتم الوفاء بذلك الالتزام. في غضون العقود القليلة التالية، تَوزَّع جزء كبير من موطن "تشاهتا" على شعوب أصلية أخرى، فيما تم تحويل البقية من أراض مشتركة إلى أراض خاصة وتوزيعها على أفراد القبائل الذين كانوا في الغالب أكثر تسلحًا من أن يُرغَموا على بيعها للمستوطنين. في عام 1907، أُدمِجَ إقليم الهنود في ولاية أوكلاهوما الجديدة. وتكبدت شعوب أصلية خارج أوكلاهوما خسائر مماثلة. ويبلغ متوسط المحمية اليوم 2.6 بالمئة من حجم موطنها الأصلي السابق. لم تكتف الحكومة بانتزاع أراضي القبائل، بل طاردت القبائل نفسها، وحددت تواريخ لوضع "نهاية" لها بوصفها كيانات قانونية. كان "تشاهتا" قاب قوسين أو أدنى من الاختفاء. ولم تكن شعوب أخرى بالحظ نفسه. وإن كانت هناك من بداية وحيدة للتحول في أميركا الأصلية، فلعلّها سَنّ "قانون تقرير مصير الهنود الأصليين" في عام 1975. وبدافع موجة من نضال السكان الأصليين، خلق القانون آليات تُمكّن القبائل من وضع، بل وتوجيه برامجهم الخاصة. وأسفر ذلك، مثلًا، عن إعادة رقصة "تشاهتا" ولغة "تشاهتا" اللتين كانتا تتعرضان للطمس على أيدي المبشرين؛ وكذا عن تنظيم أول مباراة "إشتابولي" علنية منذ عقود؛ إذ كانت اللعبة قد حُظِرَت في مدارس الهنود الأصليين القديمة.
طوال ذلك الوقت، كانت القبائل في سائر أنحاء "جزيرة السلاحف" تكافح للإفلات من قوانين الولاية التي تقيد أنشطتهم، وغالبا ما كانت تَحول دون حصولهم على قاعدة اقتصادية. بعد معركتين قانونيتين وصلتا إلى المحكمة العليا الأميركية، وأثبتتا أن الشعوب الأصلية لا تخضع للعديد من القوانين المحلية أو الولائية، أصدر الكونغرس في عام 1988 قانونًا مهَّد الطريق أمامها لإدارة عمليات الألعاب. يتوفر شعب "تشوكتو" اليوم على سبعة كازينوهات في جنوب شرق أوكلاهوما، وأزيد من 200 ألف عضو منخرط. صار الشعب قوة اقتصادية قوية، مسؤولة عمّا يقارب 100 ألف منصب شغل. وتعيد بناء قاعدتها الأرضية بعد أن اقتنت نحو 24 ألف هكتار. يوظف شعب "تشوكتو" مداخيل الكازينوهات في مشاريع بناء الطرق ودعم المدارس وإنشاء العيادات الطبية وبناء بيوت لكبار السن من ذويهم. وقد نجحوا في إقامة 17 مركزًا اجتماعيًا، بمعدل مركز واحد تقريبا في كل بلدة على أرضهم. حدثتني "سو فولسوم"، مديرة المشروع الثقافي للشعب، فقالت: "السيادة أساس كل ما نقوم به". أشرفت فولسوم على تطوير المركز الثقافي الجديد الذي افتتح في عام 2021. تتناول إحدى أبرز معروضاته التاريخ المثير للجدل لشعب "تشاهتا" والحكومة الأميركية، وتسمى "حماية سيادتنا".