سُلطان اللمس

سُلطــان اللمــس
كان أول ما استشعرنا بُعَيدَ ولادتنا.. ملامسة الآخرين لنا بلطف ووداعة. واليوم بات الباحثون يكتشفون مدى أهمية العناق والمصافحة لصحتنا.. ولإنسانيتنا.

ذات ظهيرة من سبتمبر 2018، بعد ستة أعوام على حادثة شغل أتت على ساعده الأيسر بسبب حزام صناعي ناقل، وقف رجل من ولاية كارولينا الشمالية، يُدعى "براندون بريستوود"، أمام زوجته وقد علا وجهَهُ تعبيرٌ شديد التعقيد وحافل بالتوتر والترقب، حتى بدا كأنه حائرٌ أيضحك أم يبكي. ضمن الجَمع الصغير المتحلّق حول آل بريستوود، رفع أحدهم هاتفًا نقّالًا ليوثّق للمشهد العجيب: المرأة الحسناء ذات الشعر الطويل والنظارات، والرجل الملتحي ذو الطرف الصناعي من الكوع إلى الأنامل، والأسلاك المزروعة في كتفه والمتصلة بجهاز كهربائي مثبَّت تحت قميصه. كان ذلك عبر الجلد مباشرة، حتى صار بريستوود -بدنًا، لا طرفًا صناعيًا- تام التوصيل الكهربائي بالمعنى الحرفي للعبارة. إذ كان هذا الرجل قد سمح للجرّاحين لدى "جامعة كيس ويسترن ريزورف" في مدينة كليفلاند الأميركية، بشقّ طرف ذراعه اليسرى وتثبيت موصلات كهربائية دقيقة على الأعصاب والعضلات المبتورة؛ وذلك ضمن جملة تجارب جريئة تنجزها شبكة عالمية من جرّاحي الأعصاب والأطباء وعلماء النفس والمهندسين الحيويين. بعدها، مَدّ هؤلاء الجراحون 48 سلكًا رفيعا داخل نصف ذراع الرجل ومن ثم أخرجوها عبر كتفه. في أعقاب ذلك، كان بريستوود يرى الأسلاك بارزة من جلده كلما نزع الرقعة التي تغطيها. وكان لسان حاله يقول: "يا إلهي! إنها فعلًا أسلاك خارجة من ذراعي". ولقد أَهدرَ زمنًا طويلًا في الاكتئاب بعد الحادثة. لكنه اليوم بات يشعر أن حياته ذات جدوى. وعلى مدى بضعة أشهر ظل ينتقل بانتظام إلى كليفلاند حتى يتمكن الباحثون من مساعدته على تركيب ذراع صناعية تجريبية تنتمي إلى جيل جديد من الأطراف الصناعية التي لها محركات داخلية وأصابع مزوَّدة بأجهزة استشعار. وتحظى هذه الأجهزة باهتمام كبير لدى خبراء إعادة التأهيل، لكن أكثر ما أراد فريق "كيس ويسترن ريزورف" دراستَه لم يكن مجرد التحكم المُحَسَّن الذي تتيحه الأطراف الصناعية؛ بل إن ما أبهر الباحثين حقًّا -مناط استكشافهم في كل مرة يُجلسون بريستوود في المختبر ويَصِلون أسلاكَه بجهاز الحاسوب- هي تجربة اللمس البشري. ذلك أن هذا التفاعل الدقيق بين الجلد والأعصاب والدماغ معقدٌ تعقيدًا مذهلًا؛ فأنّى لهم أن يفهموه ويقيسوه ومن ثم يُعيدون إنشاءَه لدى من فقَده، على نحو يُشعره بأنه استعادَ لمسَه الطبيعي.. الإنساني! ليست هذه طريقة عِلمية جدا للتعبير عن الأمر، لكن براندون بريستوود أنموذج يُجسّد كل ذلك. داخل "مختبر الاستعادة الحسية"، بينما كان باحثو "كيس ويسترن ريزورف" يُجرون عليه الاختبارات، كانت ثمة تطورات مشجعة؛ فعلى سبيل المثال، لمَّا جعل بريستوود يدَه الصناعية قريبة من كتلة رغوية، شعر بضغط على الرغوة. إنه اتصال. وخزٌ بدا نابعًا من أصابع لم يعد يمتلكها.
لم تستطع "إيمي بريستوود" قَط الانضمام إلى زوجها خلال تلك الحصص المخبرية في كليفلاند؛ إلى حدود ظهيرة ذلك اليوم من سبتمبر لمّا حضرَت ندوة ماريلاند البحثية حيث كان براندون من بين عارضي التقنية الجديدة، إذ وقفا قريبًا من بعضهما بعضًا وقد ارتدى براندون الطرف الصناعي الموصول بكتفه بالأسلاك.
يحتفظ براندون في هاتفه النقال بمقطع فيديو لِما حدث بعد ذلك. وما زال يفقد رباطة جأشه كلما ذَكر الأمر. لم يقم أحد بتنقيح المقطع ولا تجويده؛ فكل ما يرى المرء هو شخصين يقابل أحدهما الآخر في غرفة فسيحة، غير واثقَين ومُحرَجين كمراهقَين يرقصان رقصتهما الأولى. كان براندون ينظر إلى قدميه، وينظر إلى أصابعه الصناعية، ويبتسم. وبذراعه اليمنى السليمة يشير لإيمي كي تقف لدى يُسراه: تعَالي إلى هنا.

إن الدراسات المتزايدة حول حاسة اللمس لدينا غنية بعلوم جديدة وتكهنات ومقترحات خيالية للمستقبل؛ لكن ثمة أربع ثوان في ذلك المقطع أود وصفها، بالضبط عند اللحظة التي لفّت فيها إيمي أصابعها حول يد براندون الصناعية. هنالك اهتز رأسه، واتسعت عيناه، وفغر فاه من شدة الدهشة. نظرَتْ إليه لكنه حدَّق مباشرة، ومن الواضح أنه لم يكن يرى أي شيء. قال لي معلِّقًا على تلك اللحظات: "لقد كنت أُحس. كنت أتلقى رد فعل حسي أنّي ألمسها. كنت أبكي. وأظن أنها كانت تبكي".
وقد كانت تبكي بالفعل. يومَ أَطلعني على هذا المقطع كنا في خضم الجائحة، جالسين في الهواء الطلق. ظل بريستوود في مختبر كليفلاند ساعات، وخرج لتدخين سيجارة. وقد التقينا شخصيًا أول مرة ذلك الصباح. لا أَذكر كيف تجاوزنا التردد بشأن المصافحة من عدمها؛ ولم يكن التردد راجعًا إلى كون بريستوود له يد واحدة، بل لأن الأمر بدا كما لو أن كل شخص على وجه الأرض ما زال يحاول معرفة كيفية التقرب إلى غيره، وكيفية ردم الهوة على نحو تام، وكيفية.. اللمس.
ولعلكم تَذكرون صور أشخاص أثناء الجائحة وهم يَحضنون بعضهم بعضًا وقد حالت بينهم ستائر الحمّام أو البلاستيك المعلّق على حِبال. نشرت هذه المجلة صورة مؤثرة على نحو خاص: قطعة قماش شفاف معلَّقة على حبل غسيل، وعبر ستارة البلاستيك بينهما، تشبثت امرأة وابنتها ببعضهما بعضًا أول مرة منذ شهور. وإنّي لأعرف صوت تلك اللحظة وإحساسها: فقد ارتجَلت ابنتي شيئًا مماثلا خلال موسم مؤلم وغريب من الزيارات البُعدية عبر الفناء الخلفي.. وما زلت أَذكر فضل ذلك العناق من وراء حجاب.
من وراء حجاب، أجل. حجاب مجعَّد، زلق، من البلاستيك. قد يعتقد المرء أن ذلك ضعف. لكن "حالة التّوق والاحتياج"، كما عبّر عنها عالم الأعصاب "فرنسيس ماك غلون" من "جامعة جون مورز" في ليفربول، كانت أشد من ألاحظ ذلك الحجاب. قال لي ماك غلون: "إن الأمر مثل نقص في فيتامين معيَّن. كنتُ بحاجة إلى إعادة التعبئة مجددا". التعبئة بماذا تحديدًا؟ لو أنّي طرحتُ هذا السؤال على جَدتي، لنظرَت إلي نظرةَ تهكّم وسخرية مستغربَةً إن كان السؤال يستحق الجواب أصلًا. إلا أن علماء الأعصاب وعلماء النفس باتت لديهم الآن علامات حيوية لشرح ما يبدو لكثير مِنَّا بديهيًا؛ وهو أن غالبية الناس يحتاجون إلى الحضور البدني للآخر، واللمسة الوديعة الحنون للآخر، من أجل البقاء في صحة جيدة. إليك هذا النص ذا النبرة الأكاديمية، قبل أن أخبرك أين كُتب بادئ الأمر: إن اللمس مظهر أساسي من مظاهر التفاعل الاجتماعي، وهذا الأخير بدوره حاجة أساسية.. إن اللمسة الاجتماعية تهدئ روع متلقيها في خضم التجارب المجهدة.. قد تقلل النشاط في المناطق المرتبطة بالتهديد في الدماغ.. وقد تؤثر في تنشيط مسار التوتر في الجهاز العصبي، وتقلل مستويات هرمونات التوتر.. اكتُشف أنها تحفز إفراز الأوكسيتوسين، وهو بِبتيد عصبي ينتج في منطقة ما تحت المهاد.. ترتبط المستويات المرتفعة من الأوكسيتوسين بزيادة الثقة، والسلوك التعاوني، والمشاركة مع الغرباء، وقراءة أنجع لعواطف الآخرين، وتسوية النزاعات على نحو بنّاء بقدر أكبر. هذا مقتطف من دعوى قضائية فدرالية ضد الحبس الانفرادي. يستشهد المحامون بهذه الدعوى التي ترجع إلى عقود، دفاعًا عن السجناء في سجن مشدد الحراسة في كاليفورنيا، قائلينَ إن ممارسته لعزل السجناء سنوات -مع نظام أمني متطور يكاد يقضي على الاتصال البدني مع الآخرين، بل مع الحراس أيضا- يرقى إلى قسوة غير دستورية وعقاب غير عادي. ما زالت تفاصيل التسوية محل نزاع في المحكمة، لكن جزءًا من السجل الدائم لدى المحكمة الآن هو تقرير الخبير الذي أَعَدَّه "داتشر كيلتنر"، أستاذ علم النفس لدى "جامعة كاليفورنيا، بيركلي" حيث ظل يُدرِّس ويشرف على الأبحاث في مجال علم اللمس منذ أزيد من 15 عامًا. 
حدثني كيلتنر عن حاسة اللمس فقال: "إنها -بالحجة والبرهان- لغتنا الأبكر والأساسية للتواصل الاجتماعي".
يَقصد الأبكر من الناحية التطورية: إذ يُعتقد أننا نحن البشر استخدمنا "التواصل اللمسي"، كما يرِد في الأوراق العلمية، قبل تعلم الكلام. والأبكر من الناحية الفردية: إذ يُفهم الآن أن اللمس أول إحساس يدركه الجنين. عند الولادة وخلال الأشهر الأولى من الحياة، يكون اللمس أهم حواس الرضيع وأكثرها تطورًا.. الطريقة التي يبدأ بها استكشاف العالم، وتنمية الثقة، وتعلم حدود البدن، وبداية كل شيء آخر.وقد شَكَّل الرُّضعُ موضوعَ إحدى أعظم دراسات علم النفس عن اللمس أثرًا وأكثرها إثارة للجدل؛ على أنهم كانوا في الواقع صغارَ قردة مختبر. ففي أواخر خمسينيات القرن العشرين، أخذ فريق بقيادة عالم النفس "هاري هارلو" من "جامعة ويسكونسن" قرَدة مكاك حديثة الولادة من أمهاتها وعزلها في أقفاص مع اثنتين من الأمهات البديلة على شكل قردة غامضة، إحداهما مصنوعة من الأسلاك المكشوفة والأخرى مغطاة بقطعة قماش ناعمة. في إحدى تجارب هارلو تلك، كانت القرَدة الرضيعة تحصل على الحليب من الأمهات السِّلكية البديلة وحدها؛ إذ عَلَّمت نفسها كيف تشرب منه. لكنها كانت ما إنْ تُنهي الرضاعة -وما إن يزجّ العلماء بوحش ميكانيكي يُخيفها برأسه الهزّاز- حتى تهرع إلى الأمهات الزائفة الناعمة، فتُمسك بأجزاء القماش الوسطى؛ في ما يمكن وصفه باحتضان يائس. 
وثمة مقطع فيديو قديم لأحد قردة هارلو يروج على الإنترنت، قد يَستقبحه كل مشاهد: هارلو مرتديًا وزرة المختبر، يروي بهدوء لأحد الناظرين، فيما يقبع أحد القرَدة الرضيعة وحيدًا في القفص ملتصقًا بالقماش الناعم. والحال أن عالِم النفس ذاكَ كانت لديه حينئذ فكرة مختلفة عن منطق زمانه. إذ كان خبراء تربية الأطفال الغربيون النافذون في ذلك العصر ينصحون الآباء ألّا يَلمسوا رُضَّعَهم أكثر مما يلزم؛ معللين ذلك بأن حُضن الأطفال وتقبيلَهم شكلٌ قديم من أشكال الدلع المفرط. (وأصرّ هؤلاء على أن الأطفال سيكبرون ضعفاء الشخصية وغير مستقلين إنْ هم حَضَوا بذلك؛ كما أن الأمر غير صحي). نظرَت الأوساط التربوية الحديثة بعين الاشمئزاز إلى تجارب هارلو على القردة من الناحية الأخلاقية؛ لكن نتيجتها أسهمت في معرفتنا اليوم بأن هؤلاء الخبراء القدامى كانوا على خطأ. فلقد احتاجت صغار قردة المكاك تلك إلى ما سمّاه هارلو "سكينة الاتصال" على نحو عميق للغاية، إلى درجة أنها تَخلّت عن مصدر غذاء ثابت ومضمون طلبًا للمسة ناعمة. وجاءت الدراسات التالية لتجارب هارلو بمزيد من البراهين على قوة سكينة الاتصال وسحر اللمس. من ذلك، مثلا، أن العلماء المشتغلين على فئران التجارب اكتشفوا أن معاملتها برفق ولمسها بلطف يعزز قدرتها على التعلم والتحكم في التوتر. كما أن ملامسة الجلد بالجلد على النحو الصحيح تنتج تَحَسنا قابلًا للقياس عند الرضع من بني البشر: ضربات القلب، والوزن، ومقاومة العدوى. لقد صُممت حاضنات الخُدَّج وغيرهم من المواليد ذوي الوزن المنخفض عند الولادة في معازل واقية معقَّمة، لكن بعض المستشفيات صار يتعامل مع هؤلاء وفق إجراء يسمى "رعاية الكنغر الأم"؛ حيث يوضع المولود الحديث على صدر أمه العاري في أقرب وقت ممكن بُعيدَ الولادة، ويبقى على ذلك الوضع عدة ساعات في كل مرة.
يتمتع المواليد "الملتصقون" بأمهاتهم بإمكانية الحصول الفوري على حليب الثدي، ويمكنهم امتصاص العضويات الواقية الدقيقة من أمهاتهم. واكتشفت دراسات المستشفيات أيضا أن الأم حين تكون مريضة أو غير قادرة على حمل الرضيع فترات طويلة، فإن بإمكان امرأة بالغة أخرى أن تحل محلها لممارسة "رعاية الكنغر الأم" مؤقتًا. ليس من الرومانسية الزائدة القول إن الدفء البدني ولمسة الأم -أو الأب أو أي شخص آخر مهتم يدرك مدى الرقة المطلوبة- بمقدورهما إبقاء المولود على قيد الحياة.

 

سُلطان اللمس

سُلطــان اللمــس
كان أول ما استشعرنا بُعَيدَ ولادتنا.. ملامسة الآخرين لنا بلطف ووداعة. واليوم بات الباحثون يكتشفون مدى أهمية العناق والمصافحة لصحتنا.. ولإنسانيتنا.

ذات ظهيرة من سبتمبر 2018، بعد ستة أعوام على حادثة شغل أتت على ساعده الأيسر بسبب حزام صناعي ناقل، وقف رجل من ولاية كارولينا الشمالية، يُدعى "براندون بريستوود"، أمام زوجته وقد علا وجهَهُ تعبيرٌ شديد التعقيد وحافل بالتوتر والترقب، حتى بدا كأنه حائرٌ أيضحك أم يبكي. ضمن الجَمع الصغير المتحلّق حول آل بريستوود، رفع أحدهم هاتفًا نقّالًا ليوثّق للمشهد العجيب: المرأة الحسناء ذات الشعر الطويل والنظارات، والرجل الملتحي ذو الطرف الصناعي من الكوع إلى الأنامل، والأسلاك المزروعة في كتفه والمتصلة بجهاز كهربائي مثبَّت تحت قميصه. كان ذلك عبر الجلد مباشرة، حتى صار بريستوود -بدنًا، لا طرفًا صناعيًا- تام التوصيل الكهربائي بالمعنى الحرفي للعبارة. إذ كان هذا الرجل قد سمح للجرّاحين لدى "جامعة كيس ويسترن ريزورف" في مدينة كليفلاند الأميركية، بشقّ طرف ذراعه اليسرى وتثبيت موصلات كهربائية دقيقة على الأعصاب والعضلات المبتورة؛ وذلك ضمن جملة تجارب جريئة تنجزها شبكة عالمية من جرّاحي الأعصاب والأطباء وعلماء النفس والمهندسين الحيويين. بعدها، مَدّ هؤلاء الجراحون 48 سلكًا رفيعا داخل نصف ذراع الرجل ومن ثم أخرجوها عبر كتفه. في أعقاب ذلك، كان بريستوود يرى الأسلاك بارزة من جلده كلما نزع الرقعة التي تغطيها. وكان لسان حاله يقول: "يا إلهي! إنها فعلًا أسلاك خارجة من ذراعي". ولقد أَهدرَ زمنًا طويلًا في الاكتئاب بعد الحادثة. لكنه اليوم بات يشعر أن حياته ذات جدوى. وعلى مدى بضعة أشهر ظل ينتقل بانتظام إلى كليفلاند حتى يتمكن الباحثون من مساعدته على تركيب ذراع صناعية تجريبية تنتمي إلى جيل جديد من الأطراف الصناعية التي لها محركات داخلية وأصابع مزوَّدة بأجهزة استشعار. وتحظى هذه الأجهزة باهتمام كبير لدى خبراء إعادة التأهيل، لكن أكثر ما أراد فريق "كيس ويسترن ريزورف" دراستَه لم يكن مجرد التحكم المُحَسَّن الذي تتيحه الأطراف الصناعية؛ بل إن ما أبهر الباحثين حقًّا -مناط استكشافهم في كل مرة يُجلسون بريستوود في المختبر ويَصِلون أسلاكَه بجهاز الحاسوب- هي تجربة اللمس البشري. ذلك أن هذا التفاعل الدقيق بين الجلد والأعصاب والدماغ معقدٌ تعقيدًا مذهلًا؛ فأنّى لهم أن يفهموه ويقيسوه ومن ثم يُعيدون إنشاءَه لدى من فقَده، على نحو يُشعره بأنه استعادَ لمسَه الطبيعي.. الإنساني! ليست هذه طريقة عِلمية جدا للتعبير عن الأمر، لكن براندون بريستوود أنموذج يُجسّد كل ذلك. داخل "مختبر الاستعادة الحسية"، بينما كان باحثو "كيس ويسترن ريزورف" يُجرون عليه الاختبارات، كانت ثمة تطورات مشجعة؛ فعلى سبيل المثال، لمَّا جعل بريستوود يدَه الصناعية قريبة من كتلة رغوية، شعر بضغط على الرغوة. إنه اتصال. وخزٌ بدا نابعًا من أصابع لم يعد يمتلكها.
لم تستطع "إيمي بريستوود" قَط الانضمام إلى زوجها خلال تلك الحصص المخبرية في كليفلاند؛ إلى حدود ظهيرة ذلك اليوم من سبتمبر لمّا حضرَت ندوة ماريلاند البحثية حيث كان براندون من بين عارضي التقنية الجديدة، إذ وقفا قريبًا من بعضهما بعضًا وقد ارتدى براندون الطرف الصناعي الموصول بكتفه بالأسلاك.
يحتفظ براندون في هاتفه النقال بمقطع فيديو لِما حدث بعد ذلك. وما زال يفقد رباطة جأشه كلما ذَكر الأمر. لم يقم أحد بتنقيح المقطع ولا تجويده؛ فكل ما يرى المرء هو شخصين يقابل أحدهما الآخر في غرفة فسيحة، غير واثقَين ومُحرَجين كمراهقَين يرقصان رقصتهما الأولى. كان براندون ينظر إلى قدميه، وينظر إلى أصابعه الصناعية، ويبتسم. وبذراعه اليمنى السليمة يشير لإيمي كي تقف لدى يُسراه: تعَالي إلى هنا.

إن الدراسات المتزايدة حول حاسة اللمس لدينا غنية بعلوم جديدة وتكهنات ومقترحات خيالية للمستقبل؛ لكن ثمة أربع ثوان في ذلك المقطع أود وصفها، بالضبط عند اللحظة التي لفّت فيها إيمي أصابعها حول يد براندون الصناعية. هنالك اهتز رأسه، واتسعت عيناه، وفغر فاه من شدة الدهشة. نظرَتْ إليه لكنه حدَّق مباشرة، ومن الواضح أنه لم يكن يرى أي شيء. قال لي معلِّقًا على تلك اللحظات: "لقد كنت أُحس. كنت أتلقى رد فعل حسي أنّي ألمسها. كنت أبكي. وأظن أنها كانت تبكي".
وقد كانت تبكي بالفعل. يومَ أَطلعني على هذا المقطع كنا في خضم الجائحة، جالسين في الهواء الطلق. ظل بريستوود في مختبر كليفلاند ساعات، وخرج لتدخين سيجارة. وقد التقينا شخصيًا أول مرة ذلك الصباح. لا أَذكر كيف تجاوزنا التردد بشأن المصافحة من عدمها؛ ولم يكن التردد راجعًا إلى كون بريستوود له يد واحدة، بل لأن الأمر بدا كما لو أن كل شخص على وجه الأرض ما زال يحاول معرفة كيفية التقرب إلى غيره، وكيفية ردم الهوة على نحو تام، وكيفية.. اللمس.
ولعلكم تَذكرون صور أشخاص أثناء الجائحة وهم يَحضنون بعضهم بعضًا وقد حالت بينهم ستائر الحمّام أو البلاستيك المعلّق على حِبال. نشرت هذه المجلة صورة مؤثرة على نحو خاص: قطعة قماش شفاف معلَّقة على حبل غسيل، وعبر ستارة البلاستيك بينهما، تشبثت امرأة وابنتها ببعضهما بعضًا أول مرة منذ شهور. وإنّي لأعرف صوت تلك اللحظة وإحساسها: فقد ارتجَلت ابنتي شيئًا مماثلا خلال موسم مؤلم وغريب من الزيارات البُعدية عبر الفناء الخلفي.. وما زلت أَذكر فضل ذلك العناق من وراء حجاب.
من وراء حجاب، أجل. حجاب مجعَّد، زلق، من البلاستيك. قد يعتقد المرء أن ذلك ضعف. لكن "حالة التّوق والاحتياج"، كما عبّر عنها عالم الأعصاب "فرنسيس ماك غلون" من "جامعة جون مورز" في ليفربول، كانت أشد من ألاحظ ذلك الحجاب. قال لي ماك غلون: "إن الأمر مثل نقص في فيتامين معيَّن. كنتُ بحاجة إلى إعادة التعبئة مجددا". التعبئة بماذا تحديدًا؟ لو أنّي طرحتُ هذا السؤال على جَدتي، لنظرَت إلي نظرةَ تهكّم وسخرية مستغربَةً إن كان السؤال يستحق الجواب أصلًا. إلا أن علماء الأعصاب وعلماء النفس باتت لديهم الآن علامات حيوية لشرح ما يبدو لكثير مِنَّا بديهيًا؛ وهو أن غالبية الناس يحتاجون إلى الحضور البدني للآخر، واللمسة الوديعة الحنون للآخر، من أجل البقاء في صحة جيدة. إليك هذا النص ذا النبرة الأكاديمية، قبل أن أخبرك أين كُتب بادئ الأمر: إن اللمس مظهر أساسي من مظاهر التفاعل الاجتماعي، وهذا الأخير بدوره حاجة أساسية.. إن اللمسة الاجتماعية تهدئ روع متلقيها في خضم التجارب المجهدة.. قد تقلل النشاط في المناطق المرتبطة بالتهديد في الدماغ.. وقد تؤثر في تنشيط مسار التوتر في الجهاز العصبي، وتقلل مستويات هرمونات التوتر.. اكتُشف أنها تحفز إفراز الأوكسيتوسين، وهو بِبتيد عصبي ينتج في منطقة ما تحت المهاد.. ترتبط المستويات المرتفعة من الأوكسيتوسين بزيادة الثقة، والسلوك التعاوني، والمشاركة مع الغرباء، وقراءة أنجع لعواطف الآخرين، وتسوية النزاعات على نحو بنّاء بقدر أكبر. هذا مقتطف من دعوى قضائية فدرالية ضد الحبس الانفرادي. يستشهد المحامون بهذه الدعوى التي ترجع إلى عقود، دفاعًا عن السجناء في سجن مشدد الحراسة في كاليفورنيا، قائلينَ إن ممارسته لعزل السجناء سنوات -مع نظام أمني متطور يكاد يقضي على الاتصال البدني مع الآخرين، بل مع الحراس أيضا- يرقى إلى قسوة غير دستورية وعقاب غير عادي. ما زالت تفاصيل التسوية محل نزاع في المحكمة، لكن جزءًا من السجل الدائم لدى المحكمة الآن هو تقرير الخبير الذي أَعَدَّه "داتشر كيلتنر"، أستاذ علم النفس لدى "جامعة كاليفورنيا، بيركلي" حيث ظل يُدرِّس ويشرف على الأبحاث في مجال علم اللمس منذ أزيد من 15 عامًا. 
حدثني كيلتنر عن حاسة اللمس فقال: "إنها -بالحجة والبرهان- لغتنا الأبكر والأساسية للتواصل الاجتماعي".
يَقصد الأبكر من الناحية التطورية: إذ يُعتقد أننا نحن البشر استخدمنا "التواصل اللمسي"، كما يرِد في الأوراق العلمية، قبل تعلم الكلام. والأبكر من الناحية الفردية: إذ يُفهم الآن أن اللمس أول إحساس يدركه الجنين. عند الولادة وخلال الأشهر الأولى من الحياة، يكون اللمس أهم حواس الرضيع وأكثرها تطورًا.. الطريقة التي يبدأ بها استكشاف العالم، وتنمية الثقة، وتعلم حدود البدن، وبداية كل شيء آخر.وقد شَكَّل الرُّضعُ موضوعَ إحدى أعظم دراسات علم النفس عن اللمس أثرًا وأكثرها إثارة للجدل؛ على أنهم كانوا في الواقع صغارَ قردة مختبر. ففي أواخر خمسينيات القرن العشرين، أخذ فريق بقيادة عالم النفس "هاري هارلو" من "جامعة ويسكونسن" قرَدة مكاك حديثة الولادة من أمهاتها وعزلها في أقفاص مع اثنتين من الأمهات البديلة على شكل قردة غامضة، إحداهما مصنوعة من الأسلاك المكشوفة والأخرى مغطاة بقطعة قماش ناعمة. في إحدى تجارب هارلو تلك، كانت القرَدة الرضيعة تحصل على الحليب من الأمهات السِّلكية البديلة وحدها؛ إذ عَلَّمت نفسها كيف تشرب منه. لكنها كانت ما إنْ تُنهي الرضاعة -وما إن يزجّ العلماء بوحش ميكانيكي يُخيفها برأسه الهزّاز- حتى تهرع إلى الأمهات الزائفة الناعمة، فتُمسك بأجزاء القماش الوسطى؛ في ما يمكن وصفه باحتضان يائس. 
وثمة مقطع فيديو قديم لأحد قردة هارلو يروج على الإنترنت، قد يَستقبحه كل مشاهد: هارلو مرتديًا وزرة المختبر، يروي بهدوء لأحد الناظرين، فيما يقبع أحد القرَدة الرضيعة وحيدًا في القفص ملتصقًا بالقماش الناعم. والحال أن عالِم النفس ذاكَ كانت لديه حينئذ فكرة مختلفة عن منطق زمانه. إذ كان خبراء تربية الأطفال الغربيون النافذون في ذلك العصر ينصحون الآباء ألّا يَلمسوا رُضَّعَهم أكثر مما يلزم؛ معللين ذلك بأن حُضن الأطفال وتقبيلَهم شكلٌ قديم من أشكال الدلع المفرط. (وأصرّ هؤلاء على أن الأطفال سيكبرون ضعفاء الشخصية وغير مستقلين إنْ هم حَضَوا بذلك؛ كما أن الأمر غير صحي). نظرَت الأوساط التربوية الحديثة بعين الاشمئزاز إلى تجارب هارلو على القردة من الناحية الأخلاقية؛ لكن نتيجتها أسهمت في معرفتنا اليوم بأن هؤلاء الخبراء القدامى كانوا على خطأ. فلقد احتاجت صغار قردة المكاك تلك إلى ما سمّاه هارلو "سكينة الاتصال" على نحو عميق للغاية، إلى درجة أنها تَخلّت عن مصدر غذاء ثابت ومضمون طلبًا للمسة ناعمة. وجاءت الدراسات التالية لتجارب هارلو بمزيد من البراهين على قوة سكينة الاتصال وسحر اللمس. من ذلك، مثلا، أن العلماء المشتغلين على فئران التجارب اكتشفوا أن معاملتها برفق ولمسها بلطف يعزز قدرتها على التعلم والتحكم في التوتر. كما أن ملامسة الجلد بالجلد على النحو الصحيح تنتج تَحَسنا قابلًا للقياس عند الرضع من بني البشر: ضربات القلب، والوزن، ومقاومة العدوى. لقد صُممت حاضنات الخُدَّج وغيرهم من المواليد ذوي الوزن المنخفض عند الولادة في معازل واقية معقَّمة، لكن بعض المستشفيات صار يتعامل مع هؤلاء وفق إجراء يسمى "رعاية الكنغر الأم"؛ حيث يوضع المولود الحديث على صدر أمه العاري في أقرب وقت ممكن بُعيدَ الولادة، ويبقى على ذلك الوضع عدة ساعات في كل مرة.
يتمتع المواليد "الملتصقون" بأمهاتهم بإمكانية الحصول الفوري على حليب الثدي، ويمكنهم امتصاص العضويات الواقية الدقيقة من أمهاتهم. واكتشفت دراسات المستشفيات أيضا أن الأم حين تكون مريضة أو غير قادرة على حمل الرضيع فترات طويلة، فإن بإمكان امرأة بالغة أخرى أن تحل محلها لممارسة "رعاية الكنغر الأم" مؤقتًا. ليس من الرومانسية الزائدة القول إن الدفء البدني ولمسة الأم -أو الأب أو أي شخص آخر مهتم يدرك مدى الرقة المطلوبة- بمقدورهما إبقاء المولود على قيد الحياة.