ترميم الغابات
الحـــــل الاول
قلم: أليخاندرا بوروندا
يمكن أن يمنح نقل الأشجار سبيلًا للغابات المجهَدة كي تتغلب على الحرارة، في ظل ما يشهده العالم من تغيرات مناخية.
تنتشر على الأرض أوراق إبرية الشكل ذهبية اللون، وتتجمع في شعر "غريغ أونيل" كأنها خصلات شعر أشقر لامع، إذ يشق طريقه وسط بستان من أشجار صنوبر طويلة بهية في "وادي أوكاناغان" بكولومبيا البريطانية. قال أونيل: "يا لها من شجرة جميلة! نوع شامخ أَشَمّ. عندما تجد مكان سَعدها، تنمو بوفرة هائلة" .لكن "مكان السعد" بالنسبة إلى العديد من الأشجار، سواء هنا أم في أماكن أخرى، آخذ في التغير مع احترار المناخ في كوكب الأرض. فهذه الأرزيات المزهرة لم تنبت في واقع الأمر من الأشجار الأصلية في هذا الوادي أو حتى في هذا البلد. لقد جُلبَت من مسافة تبعد 457 كيلومترًا جنوبًا، في ولاية أيداهو الأميركية حيث تأقلمت سالفاتها مع الظروف التي صارت سائدة حاليًا في هذا المكان: صيف أسخن، وشتاء أقصر قليلا، وأنماط مختلفة من تساقطات الأمطار. وهي جزء من تجربة مصمَّمة للإجابة عن هذا السؤال الذي ما فتئ يزداد إلحاحًا: ما السبيل إلى مساعدة الغابات على التأقلم مع التغير المناخي الناجم عن الأنشطة البشرية؟ قام أونيل، خبير علم الحِراجة لدى حكومة كولومبيا البريطانية، وزملاؤه، بغرس شتلات من شجر الأرز وأنواع أخرى تم جمعها من البساتين على طول الساحل الغربي في قطع أرض كهذه تمتد من شمال كاليفورنيا إلى حدود يوكون، بغرض اختبار مفهوم "الهجرة بمساعدة بشرية" (Assisted Migration). وهدفهم من ذلك هو معرفة المدى والسرعة التي يمكن للحراجيين أن ينقلوا بهما الأشجار باتجاه الشمال بغرض مسايرة التغيرات المناخية. المشكلة بسيطة في أصلها، كما يقول "كواوتيموك سانز روميرو"، الباحث لدى "جامعة ميتشواكانا دي سان نيكولاس دي هيدالغو" في المكسيك؛ إذ إن "المناخ يتحرك.. فيما الأشجار لا تستطيع المشي". فمنذ أن بدأ البشر في أواخر القرن التاسع عشر بحرق الوقود الأحفوري وإطلاق كميات هائلة من ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ارتفع متوسط الحرارة العالمي بنحو 1.1 درجة مئوية. وبناءً على المسار الحالي للانبعاثات، فمن المرجح أن تزيد على الأقل بالقدر نفسه في العقود المقبلة. ويمكن للغابات أن توسع مداها، في المتوسط العالمي، حتى 900 متر أو نحو ذلك في العام الواحد، إذ غالبًا ما توسع الشجيرات نطاقاتها المفضلة باتجاه القطبين أو المرتفعات. فلمواكبة وتيرة الاحتباس الحراري الحالي، ينبغي أن تسير بوتيرة أسرع ما بين ستة وعشرة أضعاف. أما في كولومبيا البريطانية، فإن التفاوت أكبر من ذلك: فقد أشارت دراسة أجريت في عام 2006 إلى أن المناطق المناخية في هذه المقاطعة ستتوسع شمالا بما يقرب من 10 كيلومترات في السنة. ففي مكان مثل كولومبيا البريطانية، حيث تغطي الغابات زهاء 60 بالمئة من مساحة هذه المقاطعة وتشكل العمود الفقري لاقتصادها وهويتها الثقافية، تمثل الغابة غير المتأقلمة مع المناخ تهديدًا وجوديًا. وتُعد الشجرة غير المتأقلمة -تلك التي تتلاءم مورّثاتها مع واقع مناخي مختلف- أكثر عرضة للكوارث المناخية والأمراض والآفات. وقد جلبت أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كل هذه الأمور. فقد تسببت سلسلة من سنوات الجفاف في إضعاف العديد من الأشجار. وسمح اعتدال فصول الشتاء لخنفساء "الصنوبر الجبلية" المدمرة بالتحرك شمالًا بعد أن كان موسم البرد القارس في المقاطعة يكبح جماحها. ففي كل عام من المدة التي امتدت من 1999 إلى 2015، كانت الأشجار تنفق بعشرات الملايين. وفي عام 2003، اجتاحت حرائق كبرى لم يسبق لها مثيل أكثر من 2600 كيلومتر مربع من غابات كولومبيا البريطانية التي أضحت يابسة بفعل الخنافس والجفاف. وفي عام 2009، باشرت "هيئة الغابات" في مقاطعة كولومبيا البريطانية أكبر تجربة لـِ"الهجرة بمساعدة بشرية" في العالم. فقد غرس أونيل وزملاؤه في 48 موقعًا شبكات مرتبة لشتلات من 15 نوعًا مختلفًا تم جمعها من 47 بستانًا تقع بين أوريغون وبرنس جورج في مقاطعة كولومبيا البريطانية.. حيث بلغ العدد الإجمالي 152376 شجرة. وبعد نحو 10 أعوام، كانت العديد من الأشجار التي أزهرت قد جُلبت من تجمعات الأشجار الموجودة على بعد نحو 500 كيلومتر جنوبًا؛ وهي دليل على مدى تغير المناخ. كانت البيانات المبكرة مقنعة للغاية إلى درجة أنه في عام 2018، اعتمدت "هيئة الغابات" في مقاطعة كولومبيا البريطانية رسميًا سياسة تُلزم الحِراجيين باستخدام بذور من المناطق المناخية الأدفأ من أجل ما يغرسون من أشجار والتي يصل عددها إلى 280 مليون شجرة في كل عام. لقد غيرت هذه التجربة إحدى القواعد الأساسية في مجال الحراجة الحديثة، ألا وهي زرع النباتات المحلية. وتقول "سالي أيتكين"، عالمة وراثة الأشجار لدى "جامعة كولومبيا البريطانية"، إن من شأن إجراء تعديلات وراثية طفيفة على فترات زمنية طويلة أن يساعد أرزية من ولاية أيداهو في التأقلم مع فصول الصيف الأجف، على نحو أفضل من تلك الموجودة في كولومبيا البريطانية؛ أو أن يجعل شجرة صنوبر "ملتوية" من كولومبيا البريطانية تنمو في وقت متأخر من الموسم مقارنةً بنظيرتها في يوكون. على أن عمليات التأقلم المحلية هذه هي ما تحتاج إليه أماكن أخرى في الوقت الحالي. وقد أثير جدال مرير في أوساط العلماء داخل مقاطعة كولومبيا البريطانية وخارجها بشأن أخلاقيات نقل الأنواع إلى خارج نطاقاتها الحالية. ففي النتيجة، كانت عمليات الجلب السابقة تتسبب في بعض الأحيان بحدوث مشكلات مروعة لدى الأنواع الدخيلة. وردّ آخرون بالقول إن البشر قد أقحموا تغييرًا غير مسبوق في النظم البيئية وإن مخاطر التقاعس عن العمل يمكن أن تكون أكبر. وحتى مع وجود الكثير من المساعدة في كولومبيا البريطانية، سيكون لمدى السرعة التي يمكن أن تتأقلم بها الغابات حدود قصوى لا يمكن تجاوزها. لا أحد يدعو إلى قطع الغابة السليمة لإعادة غرسها، لذا لا يمكن للحِراجيين أن يحرزوا تقدمًا إلا من خلال الغرس في الأراضي التي أحرقت غاباتها أو قُطعت. وتبعًا للوتيرة الحالية، لن تستطيع هذه المقاطعة تعويض الغابات المقطوعة بالكامل مدة 80 عامًا. وحتى في ذلك الوقت، لن يكون بإمكان الأشجار الجديدة سوى مواكبة تغير المناخ لا تَجاوزه، لأن من شبه المستحيل غرس أشجار بعيدًا عن نطاقها الحالي لتزهر بعد عدة عقود من الآن: فقساوة الشتاء يمكن أن تعيق نمو شتلات الأشجار التي تتناسب مع الطقس الأدفأ أو أن تقتلها إن هي غُرست بعيدًا عن المكان الذي تزدهر فيه حاليًا. في حديقة أبحاث كثيرة الرذاذ داخل حرم "جامعة كولومبيا البريطانية" في فانكوفر، تلقي طالبة الدكتوراه، "بيث روسكيلي"، نظرة خاطفة إلى أجمة شجيرات جُلِبَت من جميع أنحاء غرب أميركا الشمالية ومزروعة بإحكام داخل حوض مرتفع. فهي تبحث عن تجمعات أشجار تقاوم الحرارة والجفاف وتتحمل البرد. تقول: "إذا كنا سننقل أرزيات باتجاه الشمال، فيجب أن نتيقن من أنها ستظل على قيد الحياة". وفي غضون كل ذلك، ما زالت ضغوط المناخ تزداد باستمرار. فبينما كانت أيتكين تقود سيارتها في يونيو 2021 بالقرب من الحدود الكندية الأميركية خلال موجة حر غير مسبوقة، سيطر عليها الرعب وهي تنظر إلى مقياس الحرارة على لوحة القيادة الذي تخطى 46 درجة مئوية. أما خارج السيارة، فقد تسرب من أشجار "تنوب دوغلاس" راتنج لزج ورائحة التربنتين النفاذة. تقول: "لم يسبق لي أن رأيت أشجارًا مجهَدة إلى هذا الحد". وفي اليوم التالي، اندلعت حرائق مهولة في المنطقة؛ وفي خريف ذلك العام، تسببت الأمطار الغزيرة غير المسبوقة بأسابيع من الانهيارات الأرضية.وعلى كل هذه التهديدات المناخية، فإن أيتكين تكشف عن رؤية واضحة لا يشوبها لبس. إذ تقول: "إن الغابات ليست قضية خاسرة. فنحن نحاول إيجاد طريقة لتأقلمها.
الحـــــل الثاني
قلم: كريــغ ويـلــش
اغرس أشجارًا كثيرة بلا إفراط. وامنح الشتلات المجال الكافي لتزدهر.. وتتمتع بحياة أطول.
تزهو غابتان استوائيتان على رقعة أرض واحدة وسط مزارع متموجة ومراع خضراء تقع على بعد 225 كيلومترًا شمال غرب مدينة ساو باولو بالبرازيل. تتكون الأولى من نوع واحد في شكل صفوف متراصة من أشجار الأوكاليبتوس غير المحلية، وزُرعت في خطوط مستقيمة مثل الجزر. أما الأخرى، فقد زُرعت عشوائيًا بتشكيلة من عشرات الأنواع من الشتلات المحلية. ولا جدال في أن هذه الغابة تبدو بمظهر يبعث على السخرية. فأشجار الأوكاليبتوس تتطاول مثل أصابع ساحرة فوق رقع من أشجار التين القصيرة والأشجار دائمة الخضرة. ومع ذلك، فإن هذه المدرجات المختلطة من الأشجار المحلية التي تمتد على مساحة هكتار واحد والمحاطة بأشجار غير محلية سريعة النمو، تُعد من بين العديد من النماذج الواعدة للجهود الرامية إلى إحياء غابات الأرض. يقول "بيدرو برانكاليون"، المهندس الزراعي لدى "جامعة ساو باولو" الذي صمم هذه التجربة، إن أشجار الأوكاليبتوس تنمو بسرعة كبيرة فيمكن قطعها بعد خمسة أعوام وبيعها لصناعة الورق أو أعمدة التسييج. ويغطي ذلك ما يقرب من نصف تكلفة غرس الأشجار المحلية بطيئة النمو، أو أكثر؛ مما يسمح بعد ذلك بإعادة زراعة الأرض التي يعريها الحصاد زراعةً طبيعية. ولا تعيق هذه العملية التجدد الطبيعي. لا يحتاج المرء إلى البحث بعيدًا في هذه الأيام لإيجاد منظمات تحاول إنقاذ العالم من خلال غرس الأشجار. فمنظمة "تحدي بون" (Bonn Challenge) التي تدعمها الحكومة الألمانية و"الاتحاد الدولي لصون الطبيعة" تستعين بالدول لإعادة تشجير 350 مليون هكتار في أفق عام 2030؛ فيما أطلقت باكستان "برنامج تسونامي عشرة مليارات شجرة". وتقوم حملات كبرى لغرس الأشجار؛ منها مشروع "تريليون شجرة" الذي ترعاه ثلاث منظمات لحماية الحياة البرية، ومبادرة تريليون شجرة لـ "المنتدى الاقتصادي العالمي" بغرس الشتلات مع العمل على إعادة الغابات إلى هيئتها الأصلية أو الحفاظ على الغابات الموجودة، بل إن بعض الشركات تقدم عروض "اشترِ منتجًا، واغرس شجرة" لشراء السلع، بدءًا من زجاجات الشراب إلى مُعدّات ركوب الأمواج. لكن الكثير من حملات التشجير، كما يقول خبراء الغابات، لا تزال تخطئ طريقها. ففي جولة قام بها هذا العالم البرازيلي المختص في الترميم البيئي خلال الخريف الماضي لدى موقع آخر من مواقعه الحرجية الواسعة، رسم على التراب صناديق بحجم الصحيفة لتمثيل قطعه الأرضية التي يجري الغرس فيها. ووجد أنه إذا ترك أجزاء من كل قطعة أرض خالية تمامًا من الأشجار (إذا وضع الشتلات في ما يقارب نصف مساحة الأرض) فإن الغابة تمتلئ من تلقاء نفسها. ومن ثم، سيكون بعد مرور عقود على ذلك قد وفر المال وأنتج غابة برية كثيفة ولم يغرس سوى مساحة أصغر. وتركز مجموعات غرس الأشجار في كثير من الأحيان على نيل المديح على كل شتلة مزروعة، إلى درجة أنها تتجاهل الأمر الأهم، وهو: ما نوع الغابة التي يتم إنشاؤها؟ وما حجم التكلفة؟ والأهم من كل ذلك: كم من الوقت ستصمد؟ يقول برانكاليون إن باستخدام عدد الأشجار بوصفه بديلا سحريًا عن كل شيء "تنفَق الكثير من الأموال مع الحصول على مستويات أقل من المنافع". فبالمعنى الحرفي، يمكن أن تعرقل الأشجار ازدهار الغابة. ويبدو غرس الأشجار طريقة بسيطة وطبيعية لمواجهة فداحة أزمات تغير المناخ وفقدان التنوع الحيوي. فالأشجار توفر موطنًا للحيوانات البرية وتمتص ثاني أوكسيد الكربون من الغلاف الجوي. فلا غرابة إن أُشيد بالأشجار بوصفها السلاح المثالي. وبالتالي، لمَ لا يُلجأ إلى غرس الكثير منها وحل كثير من المشكلات؟ والحال أن إخفاقات ذريعة حدثت في أعقاب كل عملية كبيرة لغرس الأشجار. على سبيل المثال، تسببت عمليات الغرس تلك واسعة النطاق بكل من تركيا وسريلانكا والمكسيك في نفوق ملايين الشتلات، أو دفعت المزارعين إلى اجتثاث مزيد من الغابات السليمة في أماكن أخرى. وتسببت الأشجار التي غُرست في أماكن غير مناسبة في خفض إنتاج المياه للمزارعين، أو إتلاف تربة المراعي شديدة التنوع التي تمتص الكربون، أو انتشار النباتات الدخيلة الغازية. "لا أعتقد أن غرس الأشجار حل بسيط"، تقول "كارين هول"، عالمة الترميم البيئي لدى "جامعة كاليفورنيا" في سانتا كروز، التي تتعاون مع برانكاليون. فلا يمكن أن تكون إعادة تشجير الكوكب بديلا عن خفض انبعاثات الفحم والنفط والغاز الطبيعي. ولا يمكن لغرس الأشجار أن يحل محل الغابات القديمة. فقد استغرق صقل تلك النظم الحيوية المعقدة (وعزل الكربون) مئات أو آلاف السنين، بل إن إنقاذها يكتسي أهمية أكبر من غرس غابات جديدة. وتكمن القيمة الحقيقية للشجرة في طول عمرها؛ مما يعني أنه يجب الحرص على عدم نفوقها. وادّعت إثيوبيا، وسط ضجة كبيرة في عام 2019، أنها غرست 350 مليون شجرة في يوم واحد، لكن هول وطلابها صادفوا شحًا في البيانات لإبراز مدى نجاح تلك العملية. وعندما استعرضت هول مقترحات غرس الأشجار المقدمة للمنتدى الاقتصادي العالمي، وجدت أنه حتى المقترحات المصممة على نحو جيد لم ترصد النتائج إلا مدة 24 شهرًا. فإذا كان الهدف هو تخزين الكربون والتنوع الحيوي، "فلا يمكننا الحكم على ذلك في ظرف عامين"، كما تقول. وبدلًا من الاقتصار على غرس تريليون شجرة، سيكون من الأفضل غرس نصف هذا العدد لكن مع الحرص بعد ذلك على "إبقائها على قيد الحياة خلال العشرين عامًا التالية". ولمكان غرسها وكيفيته أهميتهما أيضًا. فإضافة الأشجار في أقصى الشمال المثلج يفضي إلى تعتيم البيئة الطبيعية، ما يسمح لها بامتصاص مزيد من ضوء الشمس الذي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة احترار المناخ. ويمكن أن يتسبب غرسها في الأراضي العشبية المحلية في إتلاف المناظر الطبيعية التي تحظى بالأهمية نفسها. ففي عام 2019، خطط ما يقرب من نصف الدول المشاركة في "تحدي بون" لغرس مزارع الأشجار وقطعها بانتظام للحصول على الأخشاب أو اللب بدلًا من غرس الغابات البرية. وذلك على الرغم من أن الغابات الطبيعية، في المتوسط، تحتجز الكثير من ثاني أوكسيد الكربون.
إذن، ما العمل؟ لدى برانكاليون، الإجابةُ واضحة: استعادة الغابات الأصلية، لاسيما في المناطق الاستوائية، حيث تنمو الأشجار بسرعة وتكون الأرض أرخص تكلفة. قد يتطلب الأمر غرس الأشجار؛ لكن قد يستدعي أيضًا اجتثاث الحشائش الغازية، أو تجديد التربة، أو تحسين غلة المحاصيل للمزارعين؛ فلا تقل الحاجة إلى الأرض لأغراض الزراعة ويمكن السماح للكثير منها بالعودة إلى حضن الغابات. وقد ركز برانكاليون على الغابة الأطلسية في البرازيل والتي أزيلت 75 في المئة منها لفائدة المدن أو تربية الماشية أو إنتاج الورق أو زراعة قصب السكر وفول الصويا. لكن هذه الأرض لا تُستخدم في غالب الأحيان على نحو جيد. فأراضي قصب السكر الشاسعة لا تدر ربحًا.. بل "تكلف المال"، على حد قول برانكاليون. وتوفر هذه المناطق -التي تقع على المنحدرات الشديدة، بالقرب من رقع الغابات المتبقية- فرصًا مواتية لاستعادتها. فمن شأن تحسين الكفاءة الزراعية إتاحة مزيد من الأراضي. إن الجمع بين محاصيل الأوكاليبتوس والزراعة المحلية ما هو إلا مثال واحد يذكرنا بأن جهود الترميم الناجحة ينبغي أن تجلب قيمة مضافة للمجتمعات المحلية. فمنذ أن أدرك المزارعون في النيجر أنهم أنبتوا الكثير من الحبوب عن طريق الزراعة حول الغابات -بدلا من اجتثاثها- نمت 200 مليون شجرة مجددًا. وغير بعيد عن المكان الذي قابلت فيه برانكاليون، قام السكان بمساعدة منظمة بيئية محلية غير ربحية بغرس شرائط من الأشجار من أجل الحطب والفاكهة وزرعوا الفاصوليا حول الغابات المتدهورة، مما ساعد على إنقاذ قردة "طمارين الأسدية السوداء" من الانقراض. وفي ظل محدودية الموارد وضيق الوقت، يقول برانكاليون، قد يكون الانطلاق السريع في العمليات الطبيعية خير معين. ففي كثير من الحالات، إذا تركنا الطبيعة تقوم بالعمل الشاق، كما يقول، "يمكن للغابة أن تنمو من جديد وبفعالية كبيرة".
الحـــــل الثالث
قلم: ســـارة غيـبـنــز
يمكن للعلماء استحداث أشجار أقوى وأكثر صمودًا عن طريق تغيير حمضها النووي. لكن السؤال الكبير هو: أمن المحبذ فعل ذلك؟
عندما وهن العظم من "ريكس مان" البالغ من العمر 77 عامًا فلم يعد يقوى على العمل في غابات "أبالاتشيا"، أضحت تعج بالموتى. "لقد أطلقنا عليها اسم الأشباح الرمادية"، كما يقول هذا الحِراجي المتقاعد عن أشجار الكستناء الأميركية المنتشرة في جميع أنحاء منزله السابق في كارولينا الشمالية والتي لا تزال تعلو سامقة فوق أرضيات الغابة. كانت تلك بقايا هياكل لأشجار مهيبة نمت في الماضي حتى وصل ارتفاعها إلى 30 مترًا وعرضها 3 أمتار. وعلى مرّ القرن العشرين، نفق منها ما يقدر بنحو أربعة مليارات، أي ربع أشجار الأخشاب الصلبة التي تنمو في أبالاتشيا، بسبب فطر آسيوي جُلِبَ بطريقة عرَضية في أواخر القرن التاسع عشر. وتعد تلك إحدى أسوأ الكوارث البيئية التي ضربت أميركا الشمالية.. وأيضًا تمهيدًا لما هو آت. مثقاب شجرة الدردار الزمردية، والنفوق المفاجئ لأشجار البلوط، ومرض الدردار الهولندي، ومرض ذبول البلوط، وقرحة الجوز، والمنة الصوفية لشجر الشوكران.. كلها أوبئة تواجهها الأشجار في عالم سائر في طريق العولمة. أما في الوقت الحالي، فإن تغير المناخ مع ما يرافقه من كوارث الجفاف والفيضانات وموجات الحرارة، يجعل محاربة تلك العوامل المهاجِمَة أمرًا بالغ الصعوبة، بل إن حتى أشجار "جوشوا" التي تُعدّ أيقونات الصحراء الجنوبية الغربية تعاني تزايد درجات الحرارة. لقد شكل كل ذلك دافعًا للعلماء ليطرحوا التساؤل التالي: هل يمكننا استحداث أشجار أفضل، أي أشجار أكثر قدرة على التأقلم؟ ومن الممكن هنا أن تشكل شجرة الكستناء الأميركية سابقة في هذا الباب عمّا قريب؛ لكن هذه المرة على طريق الانبعاث والتجدد. ويقول العلماء إنهم أنشؤوا شجرةً مقاوِمةً للآفات عن طريق تعديل حمضها النووي، إذ ستصبح جاهزة لتحظى بفرصة عيش ثانية. فإذا نجحت هذه العملية مع شجرة الكستناء الأميركية، فلربما تنجح مع أشجار أخرى مصابة بالآفات نفسها. ويقول "ألين نيكولز"، رئيس فرع نيويورك لـ "مؤسسة الكستناء الأميركية": "قد يقول قائل إنك تؤدي دورَ الملائكة. لكن ما أقوله هو: لقد دأبنا على أداء دور الشيطان طوال عقود، لذلك نحن بحاجة إلى البدء بأداء دور الملائكة، وإلا فإننا سنبدأ بفقدان كثير من الأشياء القيمة". آفة أو لفحة الكستناء هو مرض فطري يسببه فطر خبيث يترك تقرحات برتقالية اللون على جذع الشجرة وأطرافها. ومن الممكن أن تمنع هذه النتوءات المبقَّعة الشبيهة بالكدمات تدفق المياه والمواد المغذية في الشجرة. والملاحظ أن هذا الفطر (المُسمَّى علميًا Cryphonectria parasitica) لا يقتل الأشجار اليافعة. لكن لحاء الشجر يبدأ في التشقق مع تقدمه في العمر، ما يسمح للأبواغ الفطرية المجهرية بالدخول إلى الجذع حيث تطلق حمض الأكساليك الذي يقتل نسيج الشجرة. وقد صمدت أشجار الكستناء الأميركية بفعل قدرتها على الاستنساخ من جذور الأشجار النافقة. لكنها تظل مَهمة مستعصية. فالآفة أمر لا مفر منه مع تقدم العمر، وقدرة الشجرة على استنساخ نفسها لا تظل إلى الأبد. وقد قام الحِراجيون، في خضم محاولاتهم لإنقاذ أشجار الكستناء، إلى رش الأشجار بمبيدات الفطريات، وتلقيحها بالفيروسات القاتلة للفطريات، بل وحتى حرق الأشجار المصابة بالكامل. وبدأت جهود تهجين أشجار الكستناء الأميركية بنظيراتها الصينية لإنشاء هجين مقاوم للآفة منذ ثلاثينيات القرن الماضي واتخذت طابعًا جادًّا في خمسينيات القرن الماضي. ولم تبدأ "مؤسسة الكستناء الأميركية" العمل الرسمي على هذا الهجين إلا في ثمانينيات القرن العشرين. ويقول "توم سايلي"، عالم الغابات لدى المؤسسة: "بعد تقدم سريع لأكثر من 30 عامًا من أعمال التحسين، وجدنا أن مقاومة الآفات هي أعقد مما كنا نعتقد". ويعتقد العلماء الآن أن ما يصل إلى تسع مناطق وراثية -تعمل معًا- مسؤولة عن تفعيل مقاومة اللفحة، ما يجعل التهجين أمرًا صعبًا. ويظل السؤال الحقيقي هو: ما توليفة المورّثات المناسبة لتطوير مقاومة اللفحة؟ يتطلب تحسين النباتات أيضًا العديد من الأجيال الجديدة لإحراز تقدم ملحوظ، ويستغرق الحصول على كل جيل أعوامًا عديدة. وتقدم الهندسة الوراثية طريقًا مختصرة ومثيرة للجدل لإنشاء شجرة كستناء أميركية أصلية مقاومة للآفات. ففي تسعينيات القرن الماضي، شرع "تشارلز ماينارد" و"بيل بأول"، من "كلية العلوم البيئية والغابات" التابعة لـ "جامعة ولاية نيويورك" في سيراكيوز بنيويورك، في هذا البحث باستخدام ما كان يُعرف آنذاك بالتقنية الناشئة. ويقول باول إن الأمر كان أشبه بضرورة "بناء قارب قبل أن نذهب للصيد. ومن ثم بدأنا في اختبار المورّثات". وكانت لحظة اكتشافه، عندما علم بوجود إحدى مورّثات القمح التي عززت مقاومة العوامل الممرضة لدى الطماطم؛ إذ تنتج هذه المورّثة "أوكزالات أوكسيداز"، وهو إنزيم يفكك الحمض الناتج عن اللفحة الفطرية، ما يجعله غير ضار. وبحلول عام 2014، نجح ماينارد وباول في إضافة مورّثة القمح هذه إلى مورّثة الكستناء. وأطلقا على الشجرة المعدَّلة اسم "دارلينغ 58"، على اسم "هورب دارلينغ"، وهو مهندس وداعم قوي لعملهما. وأثبتت الأشجار المغروسة في القطع الأرضية التجريبية في سيراكيوز تحملها للآفة. وكان عشاق الكستناء يرغبون بمعرفة التاريخ الذي يمكنهم فيه الحصول على "دارلينغ 58". وبعد ثمانية أعوام، لا يزالوا ينتظرون. وعلى الرغم من أن باول متيقن من سلامة "دارلينغ 58"، فإن الأشجار المعدلة وراثيًا تثير الخوف من المجهول. وتخضع الجهات التي يمكنها زراعة المحاصيل المعدلة وراثيًا ومواضع زراعتها لقوانين صارمة في الولايات المتحدة. فقد طلب باول وزملاؤه إلى "وزارة الزراعة" و"إدارة الأغذية والأدوية" و"وكالة حماية البيئة" إزالة القيود عن "دارلينغ 58" ومنحها وضع الشجرة غير المعدَّلة. وهي المرة الأولى التي تنظر فيها هذه الهيئات في مثل هذا الطلب -أي الترخيص بغرس شجرة معدلة وراثيًا في البرية- وستشكل سابقة لأنواع نباتية أخرى. "ما إن تُزرَع هذه الأشجار في الغابة، فلا سبيل إلى الرجوع عن هذه العملية ولا عكس مسارها"، كما جاء على لسان "آن بترمان"، المديرة التنفيذية لدى "مشروع بيئة العدالة العالمية". ويساور بعض نشطاء السكان الأصليين القلق من أن هذه الأشجار ستنتهك حقهم في إبقاء الكائنات المعدَّلة وراثيًا بعيدًا عن أراضيهم. وعلى الرغم من هذه المخاوف، فإن العلماء يقولون إن الهندسة الوراثية هي أداة فعالة للحفاظ على سلامة النظم البيئية للغابات. ففي "جامعة بيردو"، يعكف باحثون على دراسة طرق لتعديل أشجار الرماد تعديلًا وراثيًا بهدف صد مثقاب شجرة الدردار الزمردية، وهو خنفساء شديدة التدمير. وفي كندا، طور العلماء شجرَ حور معدَّلًا وراثيًا يقاوم دودة براعم التنوب. وفي مختبر باول في سيراكيوز، يبحث العلماء في مورّثات جديدة لزرعها في أشجار الدردار والشهبلوط. أما بالنسبة إلى مُحبي الكستناء الأميركي -مثل مان- الذين سرد آباؤهم قصصًا عن نفوق هذه الشجرة والتي قد يشهد أحفادهم عودتها، فإن استعادة الكستناء ستكون دليلًا على إمكانية تصحيح الأخطاء البيئية. ويعكف مان داخل منزله على ما يسميه "التبشير بالكستناء"؛ إذ يقول إنه سيبشر بقيمة أشجار الكستناء "إلى أن أبلغ أرذل العمر". ويضيف قائلا: "لا يعرف كثير من الناس حتى عن حدوث كل هذا النفوق والدمار في غاباتنا. وأعتقد أنه لا يحق لنا أن نقف مكتوفي الأيدي ونترك كل ذلك عرضة للاندثار".
الحـــــل الرابع
قلم: أنــدرو كــاري
خطة جديدة في ألمانيا: ترك الغابات لحالها وإفساح المجال للطبيعة من أجل التداوي الذاتي.
كان الأمير "قسطنطين زو سالم سالم"، وهو لا يزال طفلا في ثمانينيات القرن الماضي، يحب الخروج إلى نزهات رفقة جده وسط الغابتين اللتين تشبهان الكاتدرائية واللتين كانت تمتلكهما العائلة بالقرب من قلعة مملوكة هي الأخرى للعائلة وتقع في وسط ألمانيا. كانت الغابتان تمتدان على مساحة 175 هكتارًا وقد زُرعتا بأشجار التنوب "النرويجي" وتنوب "دوغلاس" قبل عقود من ولادته، وكانتا بمنزلة استثمار.. كان الأمير الشاب يأمل في أن يرثه يومًا ما. لكن كل ذلك تغير في إحدى ليالي فبراير من عام 1990، عندما ضرب المنطقة إعصار يسمى "فِيبكي"، فاقت سرعة الرياح خلاله 200 كيلومتر في الساعة وعصفت بسفوح التلال المكسوة بالأشجار حول بلدة فآلهاوزن. وبعد أن هدأت العاصفة، سار الاثنان عبر الغابتين. كانت المئات من أشجار التنوب الباسقة البالغة من العمر 40 عامًا قد تساقطت. ويتذكر الأمير ذلك قائلًا: "كان يجهش بالبكاء. وكان السؤال الكبير الذي كان على جدي أن يجيب عنه هو، ما الذي سنفعله الآن؟". ويواجه الألمان اليوم لحظة حسم من النوع نفسه، ولكن على نطاق أوسع بكثير. فمنذ عام 2018، شهدت أوروبا الوسطى أربع سنوات متتالية من الجفاف أو درجات الحرارة المرتفعة على نحو غير معهود. وقضى الاجتياح المدمر لخنافس اللحاء على عشرات الآلاف من الهكتارات من تجمعات أشجار التنوب الألماني. وتزامنًا مع ذلك، تسببت حرائق الغابات بانتشار دخان الخشب المحترق في وسط برلين. أما في ألمانيا المُحبّة للغابات، فقد أثار الوضع جدلا وطنيًا حول كيفية التصدي للمشكلة. ويتمثل أحد الخيارات في غرس الأشجار، أي تعويض ما فُقِد من أشجار بعدد أكبر منه، حسب كل نوع. وتمثل التلال المكسوة بالشجر المحيطة ببلدة فآلهاوزن إمكانية أخرى في هذا الاتجاه. فالأمير سالم هو عضو من مجموعة متنامية من مالكي الغابات الألمان الذين صاروا يعتمدون ما يُعرف باسم الحِراجة الشبيهة بالطبيعية. ويتجنب هذا النهج، القائم على عدم التدخل، غرس الأشجار قدر الإمكان ويدعو إلى التمسك إلى حد كبير بالأنواع المحلية. ويبقى الهدف هو إعادة إنشاء النظم البيئية للغابات البرية من خلال التخلي عن الأخشاب النافقة والاكتفاء بجني الأشجار الأكثر نضجًا. وقد دأبت عائلة الأمير سالم على زرع الكروم في المنطقة منذ أكثر من 800 عام. لكن بعد التأثيرات المدمرة لإعصار "فيبكي"، اتخذ أفراد العائلة قرارًا غير عادي. "قلنا إن الطبيعة تعرف جيدًا ما ينبغي أن يكون هنا"، يقول الأمير سالم. وتقع غاباتهم على مسافة ساعة إلى الغرب من فرانكفورت، على المنحدرات المواجهة للشمال والتي لا تساعد على نمو مزارع الكروم. وباستثناء صيد الغزلان والخنازير البرية وجني بعض الأشجار الكبرى في كل عام، فإنهم يتركون الغابات على حالتها إلى حد كبير. في أحد أيام أواخر الخريف قبل زمن ليس ببعيد، توغل الأمير سالم داخل غابته وهو ينتعل حذاء طويلا أخضر من المطاط ويرتدي سترة قصيرة زرقاء اللون. وفي أسفل ظلة أشجار تنوب دوغلاس الطويلة التي صمدت في وجه عاصفة "فيبكي"، كانت أشجار البلوط والزان والكرز اليافعة التي نمت في أعقاب الإعصار تلمع بألوان براقة بآخر ما تبقى من أوراق حمراء وصفراء في ذلك الفصل. "نما كل شيء تراه هنا بطريقة طبيعية. أما الاستثمار الوحيد الذي نقوم به فهو إنشاء الطرق والصيد"، يقول الأمير سالم وقد اختفى كلبه ذو اللونين البني والأبيض داخل كتلة كثيفة من الشتلات والأشجار الملتفة. وإلى حد ما، صارت الحِراجة الألمانية تحيد عن أسسها؛ والحال أن ألمانيا كانت من أوائل البلدان التي تعاملت مع الغابات بوصفها موردًا ينبغي تدبيره. ففي عام 1713، دعا مسؤول إداري يُدعى "هانز كارل فون كارلوفيتز" مُلّاك الأراضي إلى غرس أشجار جديدة لتحل محل الأشجار التي قطعوها لأغراض التعدين وإنتاج المعادن. وكانت تلك بداية مفهوم الاستدامة.. لكن بمعنى أضيق من الكلمة المستخدمة حاليًا. وسيرًا على نهج كارلوفيتز، دأب الحِراجيون الألمان على التعامل مع الأشجار بمنطق النجاعة الصناعية، إذ غرسوا الأنواع سريعة النمو كشجرة التنوب في صفوف متباعدة. وانتشر هذا النهج في أنحاء العالم ولا يزال يُستخدم على نطاق واسع في ألمانيا. وقبل مئة عام، عاكس عالم نبات يُدعى "ألفريد مولر" هذا الاتجاه، قائلًا إن الغابات كائنات معقدة وإنه لا ينبغي أن تُغرس الأشجار مثل سيقان القمح بطيئة النمو، بل ينبغي تدبير الغابات بالطريقة التي يمكن أن تدبَّر بها الطبيعة: أي عن طريق القطع الانتقائي للأشجار مع الحفاظ على استمرارية الغطاء. لكن مولر، الذي توفي في عام 1922، لم يمهله القدر حتى يرى أفكاره على أرض الواقع. فبعد الحرب العالمية الثانية، قُطعت الغابات في سائر أنحاء ألمانيا للمساعدة في إعادة بناء المدن التي دمرتها الحرب في بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي. وقام الحِراجيون بتعويضها من خلال غرس ملايين الأشجار، ومعظمها أشجار تنوب، خلال خمسينيات القرن الماضي. وكانت تلك بداية ازدهار صناعة حرجية شملت حِراجيين كجد الأمير سالم. وقد أصبحت الأخشاب ومنتجاتها اليوم تجارة تدر 150 مليار دولار سنويًا وتشغل أكثر من 700 ألف ألماني. وتغطي الأشجار اليوم ثلث مساحة هذا البلد. ولذلك، كانت سنوات الجفاف واجتياح الآفات بمنزلة صدمة. فلأول مرة، يواجه الألمان احتمال حدوث تناقص مهول في عدد الأشجار في المستقبل؛ إذ يقول "بيير إيبيش"، عالم البيئة لدى "جامعة إيبرسوالد للتنمية المستدامة": "لا نريد تخيل هذا الأمر في ألمانيا التي تعد نفسها بلد غابات. لكننا نواجه هذا الخطر." وعدّت الحكومة الألمانية هذا الوضع أزمة وطنية، إذ منحت مُلّاك الغابات إعانات بقيمة تناهز الملياري دولار من أجل إزالة كتل الأشجار المتساقطة التي تضررت من الخنافس وإعادة غرس الغابات. ويقول بعض مناصري الحِراجة الشبيهة بالطبيعية إن ذلك قد يكون اتجاهًا خاطئًا. فبدلًا من المسارعة إلى غرس عدد أكبر من الأشجار، فإنهم يرون ميزةً في التقليل من ذلك أقل. فترك الأخشاب النافقة وظلل الأشجار لتتحلل ببطء يعيد المواد المغذية إلى التربة، فتتعزز صحة الأشجار الصامدة وتنوعها. "من وجهة نظرنا، من المحبذ بذل مجهود أقل"، كما يقول "كنوت ستيرن"، مدير الغابات في مدينة لوبيك. وينطوي هذا النهج على بعض المحاذير بطبيعة الحال. فقد تكون الغابات الشبيهة بالطبيعية مربحة، ولكنها تستلزم من صناعة الأخشاب والحِراجيين التأقلم مع طريقة مختلفة من التعامل. فمناشر الأخشاب، على سبيل المثال، مصممة لقطع الجذوع الضيقة والمستقيمة لأشجار التنوب، لا أشجار البلوط القديمة الضخمة. ومع تسارع وتيرة تغير المناخ، يحسن أيضا التفكير في غرس عدد أكبر من الأنواع المقاومة للجفاف والمستوردة من أماكن أخرى، كما يقول "ماركوس ليندنر"، العالم لدى "المعهد الأوروبي للغابات". يضيف قائلا: "من الممكن التحول إلى غرس الغابات الشبيهة بالطبيعية، لكن مع جلب مزيد من الأنواع التي تتحمل الجفاف". وبالعودة إلى فآلهاوزن، كان قرص الشمس يميل نحو الغروب وقد طفقت الأضواء تسطع في القرية. قال الأمير سالم وهو ينادي كلبه ليظل بالقرب منه حتى يعودا أدراجهما إلى البيت: "أريد لأبنائي أن يختاروا من بين 10 أنواع مختلفة، لا أن يقتصر الاختيار على تنوب دوغلاس أو التنوب. وعلينا الحرص على عدم تكرار الأخطاء نفسها".
ترميم الغابات
الحـــــل الاول
قلم: أليخاندرا بوروندا
يمكن أن يمنح نقل الأشجار سبيلًا للغابات المجهَدة كي تتغلب على الحرارة، في ظل ما يشهده العالم من تغيرات مناخية.
تنتشر على الأرض أوراق إبرية الشكل ذهبية اللون، وتتجمع في شعر "غريغ أونيل" كأنها خصلات شعر أشقر لامع، إذ يشق طريقه وسط بستان من أشجار صنوبر طويلة بهية في "وادي أوكاناغان" بكولومبيا البريطانية. قال أونيل: "يا لها من شجرة جميلة! نوع شامخ أَشَمّ. عندما تجد مكان سَعدها، تنمو بوفرة هائلة" .لكن "مكان السعد" بالنسبة إلى العديد من الأشجار، سواء هنا أم في أماكن أخرى، آخذ في التغير مع احترار المناخ في كوكب الأرض. فهذه الأرزيات المزهرة لم تنبت في واقع الأمر من الأشجار الأصلية في هذا الوادي أو حتى في هذا البلد. لقد جُلبَت من مسافة تبعد 457 كيلومترًا جنوبًا، في ولاية أيداهو الأميركية حيث تأقلمت سالفاتها مع الظروف التي صارت سائدة حاليًا في هذا المكان: صيف أسخن، وشتاء أقصر قليلا، وأنماط مختلفة من تساقطات الأمطار. وهي جزء من تجربة مصمَّمة للإجابة عن هذا السؤال الذي ما فتئ يزداد إلحاحًا: ما السبيل إلى مساعدة الغابات على التأقلم مع التغير المناخي الناجم عن الأنشطة البشرية؟ قام أونيل، خبير علم الحِراجة لدى حكومة كولومبيا البريطانية، وزملاؤه، بغرس شتلات من شجر الأرز وأنواع أخرى تم جمعها من البساتين على طول الساحل الغربي في قطع أرض كهذه تمتد من شمال كاليفورنيا إلى حدود يوكون، بغرض اختبار مفهوم "الهجرة بمساعدة بشرية" (Assisted Migration). وهدفهم من ذلك هو معرفة المدى والسرعة التي يمكن للحراجيين أن ينقلوا بهما الأشجار باتجاه الشمال بغرض مسايرة التغيرات المناخية. المشكلة بسيطة في أصلها، كما يقول "كواوتيموك سانز روميرو"، الباحث لدى "جامعة ميتشواكانا دي سان نيكولاس دي هيدالغو" في المكسيك؛ إذ إن "المناخ يتحرك.. فيما الأشجار لا تستطيع المشي". فمنذ أن بدأ البشر في أواخر القرن التاسع عشر بحرق الوقود الأحفوري وإطلاق كميات هائلة من ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ارتفع متوسط الحرارة العالمي بنحو 1.1 درجة مئوية. وبناءً على المسار الحالي للانبعاثات، فمن المرجح أن تزيد على الأقل بالقدر نفسه في العقود المقبلة. ويمكن للغابات أن توسع مداها، في المتوسط العالمي، حتى 900 متر أو نحو ذلك في العام الواحد، إذ غالبًا ما توسع الشجيرات نطاقاتها المفضلة باتجاه القطبين أو المرتفعات. فلمواكبة وتيرة الاحتباس الحراري الحالي، ينبغي أن تسير بوتيرة أسرع ما بين ستة وعشرة أضعاف. أما في كولومبيا البريطانية، فإن التفاوت أكبر من ذلك: فقد أشارت دراسة أجريت في عام 2006 إلى أن المناطق المناخية في هذه المقاطعة ستتوسع شمالا بما يقرب من 10 كيلومترات في السنة. ففي مكان مثل كولومبيا البريطانية، حيث تغطي الغابات زهاء 60 بالمئة من مساحة هذه المقاطعة وتشكل العمود الفقري لاقتصادها وهويتها الثقافية، تمثل الغابة غير المتأقلمة مع المناخ تهديدًا وجوديًا. وتُعد الشجرة غير المتأقلمة -تلك التي تتلاءم مورّثاتها مع واقع مناخي مختلف- أكثر عرضة للكوارث المناخية والأمراض والآفات. وقد جلبت أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كل هذه الأمور. فقد تسببت سلسلة من سنوات الجفاف في إضعاف العديد من الأشجار. وسمح اعتدال فصول الشتاء لخنفساء "الصنوبر الجبلية" المدمرة بالتحرك شمالًا بعد أن كان موسم البرد القارس في المقاطعة يكبح جماحها. ففي كل عام من المدة التي امتدت من 1999 إلى 2015، كانت الأشجار تنفق بعشرات الملايين. وفي عام 2003، اجتاحت حرائق كبرى لم يسبق لها مثيل أكثر من 2600 كيلومتر مربع من غابات كولومبيا البريطانية التي أضحت يابسة بفعل الخنافس والجفاف. وفي عام 2009، باشرت "هيئة الغابات" في مقاطعة كولومبيا البريطانية أكبر تجربة لـِ"الهجرة بمساعدة بشرية" في العالم. فقد غرس أونيل وزملاؤه في 48 موقعًا شبكات مرتبة لشتلات من 15 نوعًا مختلفًا تم جمعها من 47 بستانًا تقع بين أوريغون وبرنس جورج في مقاطعة كولومبيا البريطانية.. حيث بلغ العدد الإجمالي 152376 شجرة. وبعد نحو 10 أعوام، كانت العديد من الأشجار التي أزهرت قد جُلبت من تجمعات الأشجار الموجودة على بعد نحو 500 كيلومتر جنوبًا؛ وهي دليل على مدى تغير المناخ. كانت البيانات المبكرة مقنعة للغاية إلى درجة أنه في عام 2018، اعتمدت "هيئة الغابات" في مقاطعة كولومبيا البريطانية رسميًا سياسة تُلزم الحِراجيين باستخدام بذور من المناطق المناخية الأدفأ من أجل ما يغرسون من أشجار والتي يصل عددها إلى 280 مليون شجرة في كل عام. لقد غيرت هذه التجربة إحدى القواعد الأساسية في مجال الحراجة الحديثة، ألا وهي زرع النباتات المحلية. وتقول "سالي أيتكين"، عالمة وراثة الأشجار لدى "جامعة كولومبيا البريطانية"، إن من شأن إجراء تعديلات وراثية طفيفة على فترات زمنية طويلة أن يساعد أرزية من ولاية أيداهو في التأقلم مع فصول الصيف الأجف، على نحو أفضل من تلك الموجودة في كولومبيا البريطانية؛ أو أن يجعل شجرة صنوبر "ملتوية" من كولومبيا البريطانية تنمو في وقت متأخر من الموسم مقارنةً بنظيرتها في يوكون. على أن عمليات التأقلم المحلية هذه هي ما تحتاج إليه أماكن أخرى في الوقت الحالي. وقد أثير جدال مرير في أوساط العلماء داخل مقاطعة كولومبيا البريطانية وخارجها بشأن أخلاقيات نقل الأنواع إلى خارج نطاقاتها الحالية. ففي النتيجة، كانت عمليات الجلب السابقة تتسبب في بعض الأحيان بحدوث مشكلات مروعة لدى الأنواع الدخيلة. وردّ آخرون بالقول إن البشر قد أقحموا تغييرًا غير مسبوق في النظم البيئية وإن مخاطر التقاعس عن العمل يمكن أن تكون أكبر. وحتى مع وجود الكثير من المساعدة في كولومبيا البريطانية، سيكون لمدى السرعة التي يمكن أن تتأقلم بها الغابات حدود قصوى لا يمكن تجاوزها. لا أحد يدعو إلى قطع الغابة السليمة لإعادة غرسها، لذا لا يمكن للحِراجيين أن يحرزوا تقدمًا إلا من خلال الغرس في الأراضي التي أحرقت غاباتها أو قُطعت. وتبعًا للوتيرة الحالية، لن تستطيع هذه المقاطعة تعويض الغابات المقطوعة بالكامل مدة 80 عامًا. وحتى في ذلك الوقت، لن يكون بإمكان الأشجار الجديدة سوى مواكبة تغير المناخ لا تَجاوزه، لأن من شبه المستحيل غرس أشجار بعيدًا عن نطاقها الحالي لتزهر بعد عدة عقود من الآن: فقساوة الشتاء يمكن أن تعيق نمو شتلات الأشجار التي تتناسب مع الطقس الأدفأ أو أن تقتلها إن هي غُرست بعيدًا عن المكان الذي تزدهر فيه حاليًا. في حديقة أبحاث كثيرة الرذاذ داخل حرم "جامعة كولومبيا البريطانية" في فانكوفر، تلقي طالبة الدكتوراه، "بيث روسكيلي"، نظرة خاطفة إلى أجمة شجيرات جُلِبَت من جميع أنحاء غرب أميركا الشمالية ومزروعة بإحكام داخل حوض مرتفع. فهي تبحث عن تجمعات أشجار تقاوم الحرارة والجفاف وتتحمل البرد. تقول: "إذا كنا سننقل أرزيات باتجاه الشمال، فيجب أن نتيقن من أنها ستظل على قيد الحياة". وفي غضون كل ذلك، ما زالت ضغوط المناخ تزداد باستمرار. فبينما كانت أيتكين تقود سيارتها في يونيو 2021 بالقرب من الحدود الكندية الأميركية خلال موجة حر غير مسبوقة، سيطر عليها الرعب وهي تنظر إلى مقياس الحرارة على لوحة القيادة الذي تخطى 46 درجة مئوية. أما خارج السيارة، فقد تسرب من أشجار "تنوب دوغلاس" راتنج لزج ورائحة التربنتين النفاذة. تقول: "لم يسبق لي أن رأيت أشجارًا مجهَدة إلى هذا الحد". وفي اليوم التالي، اندلعت حرائق مهولة في المنطقة؛ وفي خريف ذلك العام، تسببت الأمطار الغزيرة غير المسبوقة بأسابيع من الانهيارات الأرضية.وعلى كل هذه التهديدات المناخية، فإن أيتكين تكشف عن رؤية واضحة لا يشوبها لبس. إذ تقول: "إن الغابات ليست قضية خاسرة. فنحن نحاول إيجاد طريقة لتأقلمها.
الحـــــل الثاني
قلم: كريــغ ويـلــش
اغرس أشجارًا كثيرة بلا إفراط. وامنح الشتلات المجال الكافي لتزدهر.. وتتمتع بحياة أطول.
تزهو غابتان استوائيتان على رقعة أرض واحدة وسط مزارع متموجة ومراع خضراء تقع على بعد 225 كيلومترًا شمال غرب مدينة ساو باولو بالبرازيل. تتكون الأولى من نوع واحد في شكل صفوف متراصة من أشجار الأوكاليبتوس غير المحلية، وزُرعت في خطوط مستقيمة مثل الجزر. أما الأخرى، فقد زُرعت عشوائيًا بتشكيلة من عشرات الأنواع من الشتلات المحلية. ولا جدال في أن هذه الغابة تبدو بمظهر يبعث على السخرية. فأشجار الأوكاليبتوس تتطاول مثل أصابع ساحرة فوق رقع من أشجار التين القصيرة والأشجار دائمة الخضرة. ومع ذلك، فإن هذه المدرجات المختلطة من الأشجار المحلية التي تمتد على مساحة هكتار واحد والمحاطة بأشجار غير محلية سريعة النمو، تُعد من بين العديد من النماذج الواعدة للجهود الرامية إلى إحياء غابات الأرض. يقول "بيدرو برانكاليون"، المهندس الزراعي لدى "جامعة ساو باولو" الذي صمم هذه التجربة، إن أشجار الأوكاليبتوس تنمو بسرعة كبيرة فيمكن قطعها بعد خمسة أعوام وبيعها لصناعة الورق أو أعمدة التسييج. ويغطي ذلك ما يقرب من نصف تكلفة غرس الأشجار المحلية بطيئة النمو، أو أكثر؛ مما يسمح بعد ذلك بإعادة زراعة الأرض التي يعريها الحصاد زراعةً طبيعية. ولا تعيق هذه العملية التجدد الطبيعي. لا يحتاج المرء إلى البحث بعيدًا في هذه الأيام لإيجاد منظمات تحاول إنقاذ العالم من خلال غرس الأشجار. فمنظمة "تحدي بون" (Bonn Challenge) التي تدعمها الحكومة الألمانية و"الاتحاد الدولي لصون الطبيعة" تستعين بالدول لإعادة تشجير 350 مليون هكتار في أفق عام 2030؛ فيما أطلقت باكستان "برنامج تسونامي عشرة مليارات شجرة". وتقوم حملات كبرى لغرس الأشجار؛ منها مشروع "تريليون شجرة" الذي ترعاه ثلاث منظمات لحماية الحياة البرية، ومبادرة تريليون شجرة لـ "المنتدى الاقتصادي العالمي" بغرس الشتلات مع العمل على إعادة الغابات إلى هيئتها الأصلية أو الحفاظ على الغابات الموجودة، بل إن بعض الشركات تقدم عروض "اشترِ منتجًا، واغرس شجرة" لشراء السلع، بدءًا من زجاجات الشراب إلى مُعدّات ركوب الأمواج. لكن الكثير من حملات التشجير، كما يقول خبراء الغابات، لا تزال تخطئ طريقها. ففي جولة قام بها هذا العالم البرازيلي المختص في الترميم البيئي خلال الخريف الماضي لدى موقع آخر من مواقعه الحرجية الواسعة، رسم على التراب صناديق بحجم الصحيفة لتمثيل قطعه الأرضية التي يجري الغرس فيها. ووجد أنه إذا ترك أجزاء من كل قطعة أرض خالية تمامًا من الأشجار (إذا وضع الشتلات في ما يقارب نصف مساحة الأرض) فإن الغابة تمتلئ من تلقاء نفسها. ومن ثم، سيكون بعد مرور عقود على ذلك قد وفر المال وأنتج غابة برية كثيفة ولم يغرس سوى مساحة أصغر. وتركز مجموعات غرس الأشجار في كثير من الأحيان على نيل المديح على كل شتلة مزروعة، إلى درجة أنها تتجاهل الأمر الأهم، وهو: ما نوع الغابة التي يتم إنشاؤها؟ وما حجم التكلفة؟ والأهم من كل ذلك: كم من الوقت ستصمد؟ يقول برانكاليون إن باستخدام عدد الأشجار بوصفه بديلا سحريًا عن كل شيء "تنفَق الكثير من الأموال مع الحصول على مستويات أقل من المنافع". فبالمعنى الحرفي، يمكن أن تعرقل الأشجار ازدهار الغابة. ويبدو غرس الأشجار طريقة بسيطة وطبيعية لمواجهة فداحة أزمات تغير المناخ وفقدان التنوع الحيوي. فالأشجار توفر موطنًا للحيوانات البرية وتمتص ثاني أوكسيد الكربون من الغلاف الجوي. فلا غرابة إن أُشيد بالأشجار بوصفها السلاح المثالي. وبالتالي، لمَ لا يُلجأ إلى غرس الكثير منها وحل كثير من المشكلات؟ والحال أن إخفاقات ذريعة حدثت في أعقاب كل عملية كبيرة لغرس الأشجار. على سبيل المثال، تسببت عمليات الغرس تلك واسعة النطاق بكل من تركيا وسريلانكا والمكسيك في نفوق ملايين الشتلات، أو دفعت المزارعين إلى اجتثاث مزيد من الغابات السليمة في أماكن أخرى. وتسببت الأشجار التي غُرست في أماكن غير مناسبة في خفض إنتاج المياه للمزارعين، أو إتلاف تربة المراعي شديدة التنوع التي تمتص الكربون، أو انتشار النباتات الدخيلة الغازية. "لا أعتقد أن غرس الأشجار حل بسيط"، تقول "كارين هول"، عالمة الترميم البيئي لدى "جامعة كاليفورنيا" في سانتا كروز، التي تتعاون مع برانكاليون. فلا يمكن أن تكون إعادة تشجير الكوكب بديلا عن خفض انبعاثات الفحم والنفط والغاز الطبيعي. ولا يمكن لغرس الأشجار أن يحل محل الغابات القديمة. فقد استغرق صقل تلك النظم الحيوية المعقدة (وعزل الكربون) مئات أو آلاف السنين، بل إن إنقاذها يكتسي أهمية أكبر من غرس غابات جديدة. وتكمن القيمة الحقيقية للشجرة في طول عمرها؛ مما يعني أنه يجب الحرص على عدم نفوقها. وادّعت إثيوبيا، وسط ضجة كبيرة في عام 2019، أنها غرست 350 مليون شجرة في يوم واحد، لكن هول وطلابها صادفوا شحًا في البيانات لإبراز مدى نجاح تلك العملية. وعندما استعرضت هول مقترحات غرس الأشجار المقدمة للمنتدى الاقتصادي العالمي، وجدت أنه حتى المقترحات المصممة على نحو جيد لم ترصد النتائج إلا مدة 24 شهرًا. فإذا كان الهدف هو تخزين الكربون والتنوع الحيوي، "فلا يمكننا الحكم على ذلك في ظرف عامين"، كما تقول. وبدلًا من الاقتصار على غرس تريليون شجرة، سيكون من الأفضل غرس نصف هذا العدد لكن مع الحرص بعد ذلك على "إبقائها على قيد الحياة خلال العشرين عامًا التالية". ولمكان غرسها وكيفيته أهميتهما أيضًا. فإضافة الأشجار في أقصى الشمال المثلج يفضي إلى تعتيم البيئة الطبيعية، ما يسمح لها بامتصاص مزيد من ضوء الشمس الذي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة احترار المناخ. ويمكن أن يتسبب غرسها في الأراضي العشبية المحلية في إتلاف المناظر الطبيعية التي تحظى بالأهمية نفسها. ففي عام 2019، خطط ما يقرب من نصف الدول المشاركة في "تحدي بون" لغرس مزارع الأشجار وقطعها بانتظام للحصول على الأخشاب أو اللب بدلًا من غرس الغابات البرية. وذلك على الرغم من أن الغابات الطبيعية، في المتوسط، تحتجز الكثير من ثاني أوكسيد الكربون.
إذن، ما العمل؟ لدى برانكاليون، الإجابةُ واضحة: استعادة الغابات الأصلية، لاسيما في المناطق الاستوائية، حيث تنمو الأشجار بسرعة وتكون الأرض أرخص تكلفة. قد يتطلب الأمر غرس الأشجار؛ لكن قد يستدعي أيضًا اجتثاث الحشائش الغازية، أو تجديد التربة، أو تحسين غلة المحاصيل للمزارعين؛ فلا تقل الحاجة إلى الأرض لأغراض الزراعة ويمكن السماح للكثير منها بالعودة إلى حضن الغابات. وقد ركز برانكاليون على الغابة الأطلسية في البرازيل والتي أزيلت 75 في المئة منها لفائدة المدن أو تربية الماشية أو إنتاج الورق أو زراعة قصب السكر وفول الصويا. لكن هذه الأرض لا تُستخدم في غالب الأحيان على نحو جيد. فأراضي قصب السكر الشاسعة لا تدر ربحًا.. بل "تكلف المال"، على حد قول برانكاليون. وتوفر هذه المناطق -التي تقع على المنحدرات الشديدة، بالقرب من رقع الغابات المتبقية- فرصًا مواتية لاستعادتها. فمن شأن تحسين الكفاءة الزراعية إتاحة مزيد من الأراضي. إن الجمع بين محاصيل الأوكاليبتوس والزراعة المحلية ما هو إلا مثال واحد يذكرنا بأن جهود الترميم الناجحة ينبغي أن تجلب قيمة مضافة للمجتمعات المحلية. فمنذ أن أدرك المزارعون في النيجر أنهم أنبتوا الكثير من الحبوب عن طريق الزراعة حول الغابات -بدلا من اجتثاثها- نمت 200 مليون شجرة مجددًا. وغير بعيد عن المكان الذي قابلت فيه برانكاليون، قام السكان بمساعدة منظمة بيئية محلية غير ربحية بغرس شرائط من الأشجار من أجل الحطب والفاكهة وزرعوا الفاصوليا حول الغابات المتدهورة، مما ساعد على إنقاذ قردة "طمارين الأسدية السوداء" من الانقراض. وفي ظل محدودية الموارد وضيق الوقت، يقول برانكاليون، قد يكون الانطلاق السريع في العمليات الطبيعية خير معين. ففي كثير من الحالات، إذا تركنا الطبيعة تقوم بالعمل الشاق، كما يقول، "يمكن للغابة أن تنمو من جديد وبفعالية كبيرة".
الحـــــل الثالث
قلم: ســـارة غيـبـنــز
يمكن للعلماء استحداث أشجار أقوى وأكثر صمودًا عن طريق تغيير حمضها النووي. لكن السؤال الكبير هو: أمن المحبذ فعل ذلك؟
عندما وهن العظم من "ريكس مان" البالغ من العمر 77 عامًا فلم يعد يقوى على العمل في غابات "أبالاتشيا"، أضحت تعج بالموتى. "لقد أطلقنا عليها اسم الأشباح الرمادية"، كما يقول هذا الحِراجي المتقاعد عن أشجار الكستناء الأميركية المنتشرة في جميع أنحاء منزله السابق في كارولينا الشمالية والتي لا تزال تعلو سامقة فوق أرضيات الغابة. كانت تلك بقايا هياكل لأشجار مهيبة نمت في الماضي حتى وصل ارتفاعها إلى 30 مترًا وعرضها 3 أمتار. وعلى مرّ القرن العشرين، نفق منها ما يقدر بنحو أربعة مليارات، أي ربع أشجار الأخشاب الصلبة التي تنمو في أبالاتشيا، بسبب فطر آسيوي جُلِبَ بطريقة عرَضية في أواخر القرن التاسع عشر. وتعد تلك إحدى أسوأ الكوارث البيئية التي ضربت أميركا الشمالية.. وأيضًا تمهيدًا لما هو آت. مثقاب شجرة الدردار الزمردية، والنفوق المفاجئ لأشجار البلوط، ومرض الدردار الهولندي، ومرض ذبول البلوط، وقرحة الجوز، والمنة الصوفية لشجر الشوكران.. كلها أوبئة تواجهها الأشجار في عالم سائر في طريق العولمة. أما في الوقت الحالي، فإن تغير المناخ مع ما يرافقه من كوارث الجفاف والفيضانات وموجات الحرارة، يجعل محاربة تلك العوامل المهاجِمَة أمرًا بالغ الصعوبة، بل إن حتى أشجار "جوشوا" التي تُعدّ أيقونات الصحراء الجنوبية الغربية تعاني تزايد درجات الحرارة. لقد شكل كل ذلك دافعًا للعلماء ليطرحوا التساؤل التالي: هل يمكننا استحداث أشجار أفضل، أي أشجار أكثر قدرة على التأقلم؟ ومن الممكن هنا أن تشكل شجرة الكستناء الأميركية سابقة في هذا الباب عمّا قريب؛ لكن هذه المرة على طريق الانبعاث والتجدد. ويقول العلماء إنهم أنشؤوا شجرةً مقاوِمةً للآفات عن طريق تعديل حمضها النووي، إذ ستصبح جاهزة لتحظى بفرصة عيش ثانية. فإذا نجحت هذه العملية مع شجرة الكستناء الأميركية، فلربما تنجح مع أشجار أخرى مصابة بالآفات نفسها. ويقول "ألين نيكولز"، رئيس فرع نيويورك لـ "مؤسسة الكستناء الأميركية": "قد يقول قائل إنك تؤدي دورَ الملائكة. لكن ما أقوله هو: لقد دأبنا على أداء دور الشيطان طوال عقود، لذلك نحن بحاجة إلى البدء بأداء دور الملائكة، وإلا فإننا سنبدأ بفقدان كثير من الأشياء القيمة". آفة أو لفحة الكستناء هو مرض فطري يسببه فطر خبيث يترك تقرحات برتقالية اللون على جذع الشجرة وأطرافها. ومن الممكن أن تمنع هذه النتوءات المبقَّعة الشبيهة بالكدمات تدفق المياه والمواد المغذية في الشجرة. والملاحظ أن هذا الفطر (المُسمَّى علميًا Cryphonectria parasitica) لا يقتل الأشجار اليافعة. لكن لحاء الشجر يبدأ في التشقق مع تقدمه في العمر، ما يسمح للأبواغ الفطرية المجهرية بالدخول إلى الجذع حيث تطلق حمض الأكساليك الذي يقتل نسيج الشجرة. وقد صمدت أشجار الكستناء الأميركية بفعل قدرتها على الاستنساخ من جذور الأشجار النافقة. لكنها تظل مَهمة مستعصية. فالآفة أمر لا مفر منه مع تقدم العمر، وقدرة الشجرة على استنساخ نفسها لا تظل إلى الأبد. وقد قام الحِراجيون، في خضم محاولاتهم لإنقاذ أشجار الكستناء، إلى رش الأشجار بمبيدات الفطريات، وتلقيحها بالفيروسات القاتلة للفطريات، بل وحتى حرق الأشجار المصابة بالكامل. وبدأت جهود تهجين أشجار الكستناء الأميركية بنظيراتها الصينية لإنشاء هجين مقاوم للآفة منذ ثلاثينيات القرن الماضي واتخذت طابعًا جادًّا في خمسينيات القرن الماضي. ولم تبدأ "مؤسسة الكستناء الأميركية" العمل الرسمي على هذا الهجين إلا في ثمانينيات القرن العشرين. ويقول "توم سايلي"، عالم الغابات لدى المؤسسة: "بعد تقدم سريع لأكثر من 30 عامًا من أعمال التحسين، وجدنا أن مقاومة الآفات هي أعقد مما كنا نعتقد". ويعتقد العلماء الآن أن ما يصل إلى تسع مناطق وراثية -تعمل معًا- مسؤولة عن تفعيل مقاومة اللفحة، ما يجعل التهجين أمرًا صعبًا. ويظل السؤال الحقيقي هو: ما توليفة المورّثات المناسبة لتطوير مقاومة اللفحة؟ يتطلب تحسين النباتات أيضًا العديد من الأجيال الجديدة لإحراز تقدم ملحوظ، ويستغرق الحصول على كل جيل أعوامًا عديدة. وتقدم الهندسة الوراثية طريقًا مختصرة ومثيرة للجدل لإنشاء شجرة كستناء أميركية أصلية مقاومة للآفات. ففي تسعينيات القرن الماضي، شرع "تشارلز ماينارد" و"بيل بأول"، من "كلية العلوم البيئية والغابات" التابعة لـ "جامعة ولاية نيويورك" في سيراكيوز بنيويورك، في هذا البحث باستخدام ما كان يُعرف آنذاك بالتقنية الناشئة. ويقول باول إن الأمر كان أشبه بضرورة "بناء قارب قبل أن نذهب للصيد. ومن ثم بدأنا في اختبار المورّثات". وكانت لحظة اكتشافه، عندما علم بوجود إحدى مورّثات القمح التي عززت مقاومة العوامل الممرضة لدى الطماطم؛ إذ تنتج هذه المورّثة "أوكزالات أوكسيداز"، وهو إنزيم يفكك الحمض الناتج عن اللفحة الفطرية، ما يجعله غير ضار. وبحلول عام 2014، نجح ماينارد وباول في إضافة مورّثة القمح هذه إلى مورّثة الكستناء. وأطلقا على الشجرة المعدَّلة اسم "دارلينغ 58"، على اسم "هورب دارلينغ"، وهو مهندس وداعم قوي لعملهما. وأثبتت الأشجار المغروسة في القطع الأرضية التجريبية في سيراكيوز تحملها للآفة. وكان عشاق الكستناء يرغبون بمعرفة التاريخ الذي يمكنهم فيه الحصول على "دارلينغ 58". وبعد ثمانية أعوام، لا يزالوا ينتظرون. وعلى الرغم من أن باول متيقن من سلامة "دارلينغ 58"، فإن الأشجار المعدلة وراثيًا تثير الخوف من المجهول. وتخضع الجهات التي يمكنها زراعة المحاصيل المعدلة وراثيًا ومواضع زراعتها لقوانين صارمة في الولايات المتحدة. فقد طلب باول وزملاؤه إلى "وزارة الزراعة" و"إدارة الأغذية والأدوية" و"وكالة حماية البيئة" إزالة القيود عن "دارلينغ 58" ومنحها وضع الشجرة غير المعدَّلة. وهي المرة الأولى التي تنظر فيها هذه الهيئات في مثل هذا الطلب -أي الترخيص بغرس شجرة معدلة وراثيًا في البرية- وستشكل سابقة لأنواع نباتية أخرى. "ما إن تُزرَع هذه الأشجار في الغابة، فلا سبيل إلى الرجوع عن هذه العملية ولا عكس مسارها"، كما جاء على لسان "آن بترمان"، المديرة التنفيذية لدى "مشروع بيئة العدالة العالمية". ويساور بعض نشطاء السكان الأصليين القلق من أن هذه الأشجار ستنتهك حقهم في إبقاء الكائنات المعدَّلة وراثيًا بعيدًا عن أراضيهم. وعلى الرغم من هذه المخاوف، فإن العلماء يقولون إن الهندسة الوراثية هي أداة فعالة للحفاظ على سلامة النظم البيئية للغابات. ففي "جامعة بيردو"، يعكف باحثون على دراسة طرق لتعديل أشجار الرماد تعديلًا وراثيًا بهدف صد مثقاب شجرة الدردار الزمردية، وهو خنفساء شديدة التدمير. وفي كندا، طور العلماء شجرَ حور معدَّلًا وراثيًا يقاوم دودة براعم التنوب. وفي مختبر باول في سيراكيوز، يبحث العلماء في مورّثات جديدة لزرعها في أشجار الدردار والشهبلوط. أما بالنسبة إلى مُحبي الكستناء الأميركي -مثل مان- الذين سرد آباؤهم قصصًا عن نفوق هذه الشجرة والتي قد يشهد أحفادهم عودتها، فإن استعادة الكستناء ستكون دليلًا على إمكانية تصحيح الأخطاء البيئية. ويعكف مان داخل منزله على ما يسميه "التبشير بالكستناء"؛ إذ يقول إنه سيبشر بقيمة أشجار الكستناء "إلى أن أبلغ أرذل العمر". ويضيف قائلا: "لا يعرف كثير من الناس حتى عن حدوث كل هذا النفوق والدمار في غاباتنا. وأعتقد أنه لا يحق لنا أن نقف مكتوفي الأيدي ونترك كل ذلك عرضة للاندثار".
الحـــــل الرابع
قلم: أنــدرو كــاري
خطة جديدة في ألمانيا: ترك الغابات لحالها وإفساح المجال للطبيعة من أجل التداوي الذاتي.
كان الأمير "قسطنطين زو سالم سالم"، وهو لا يزال طفلا في ثمانينيات القرن الماضي، يحب الخروج إلى نزهات رفقة جده وسط الغابتين اللتين تشبهان الكاتدرائية واللتين كانت تمتلكهما العائلة بالقرب من قلعة مملوكة هي الأخرى للعائلة وتقع في وسط ألمانيا. كانت الغابتان تمتدان على مساحة 175 هكتارًا وقد زُرعتا بأشجار التنوب "النرويجي" وتنوب "دوغلاس" قبل عقود من ولادته، وكانتا بمنزلة استثمار.. كان الأمير الشاب يأمل في أن يرثه يومًا ما. لكن كل ذلك تغير في إحدى ليالي فبراير من عام 1990، عندما ضرب المنطقة إعصار يسمى "فِيبكي"، فاقت سرعة الرياح خلاله 200 كيلومتر في الساعة وعصفت بسفوح التلال المكسوة بالأشجار حول بلدة فآلهاوزن. وبعد أن هدأت العاصفة، سار الاثنان عبر الغابتين. كانت المئات من أشجار التنوب الباسقة البالغة من العمر 40 عامًا قد تساقطت. ويتذكر الأمير ذلك قائلًا: "كان يجهش بالبكاء. وكان السؤال الكبير الذي كان على جدي أن يجيب عنه هو، ما الذي سنفعله الآن؟". ويواجه الألمان اليوم لحظة حسم من النوع نفسه، ولكن على نطاق أوسع بكثير. فمنذ عام 2018، شهدت أوروبا الوسطى أربع سنوات متتالية من الجفاف أو درجات الحرارة المرتفعة على نحو غير معهود. وقضى الاجتياح المدمر لخنافس اللحاء على عشرات الآلاف من الهكتارات من تجمعات أشجار التنوب الألماني. وتزامنًا مع ذلك، تسببت حرائق الغابات بانتشار دخان الخشب المحترق في وسط برلين. أما في ألمانيا المُحبّة للغابات، فقد أثار الوضع جدلا وطنيًا حول كيفية التصدي للمشكلة. ويتمثل أحد الخيارات في غرس الأشجار، أي تعويض ما فُقِد من أشجار بعدد أكبر منه، حسب كل نوع. وتمثل التلال المكسوة بالشجر المحيطة ببلدة فآلهاوزن إمكانية أخرى في هذا الاتجاه. فالأمير سالم هو عضو من مجموعة متنامية من مالكي الغابات الألمان الذين صاروا يعتمدون ما يُعرف باسم الحِراجة الشبيهة بالطبيعية. ويتجنب هذا النهج، القائم على عدم التدخل، غرس الأشجار قدر الإمكان ويدعو إلى التمسك إلى حد كبير بالأنواع المحلية. ويبقى الهدف هو إعادة إنشاء النظم البيئية للغابات البرية من خلال التخلي عن الأخشاب النافقة والاكتفاء بجني الأشجار الأكثر نضجًا. وقد دأبت عائلة الأمير سالم على زرع الكروم في المنطقة منذ أكثر من 800 عام. لكن بعد التأثيرات المدمرة لإعصار "فيبكي"، اتخذ أفراد العائلة قرارًا غير عادي. "قلنا إن الطبيعة تعرف جيدًا ما ينبغي أن يكون هنا"، يقول الأمير سالم. وتقع غاباتهم على مسافة ساعة إلى الغرب من فرانكفورت، على المنحدرات المواجهة للشمال والتي لا تساعد على نمو مزارع الكروم. وباستثناء صيد الغزلان والخنازير البرية وجني بعض الأشجار الكبرى في كل عام، فإنهم يتركون الغابات على حالتها إلى حد كبير. في أحد أيام أواخر الخريف قبل زمن ليس ببعيد، توغل الأمير سالم داخل غابته وهو ينتعل حذاء طويلا أخضر من المطاط ويرتدي سترة قصيرة زرقاء اللون. وفي أسفل ظلة أشجار تنوب دوغلاس الطويلة التي صمدت في وجه عاصفة "فيبكي"، كانت أشجار البلوط والزان والكرز اليافعة التي نمت في أعقاب الإعصار تلمع بألوان براقة بآخر ما تبقى من أوراق حمراء وصفراء في ذلك الفصل. "نما كل شيء تراه هنا بطريقة طبيعية. أما الاستثمار الوحيد الذي نقوم به فهو إنشاء الطرق والصيد"، يقول الأمير سالم وقد اختفى كلبه ذو اللونين البني والأبيض داخل كتلة كثيفة من الشتلات والأشجار الملتفة. وإلى حد ما، صارت الحِراجة الألمانية تحيد عن أسسها؛ والحال أن ألمانيا كانت من أوائل البلدان التي تعاملت مع الغابات بوصفها موردًا ينبغي تدبيره. ففي عام 1713، دعا مسؤول إداري يُدعى "هانز كارل فون كارلوفيتز" مُلّاك الأراضي إلى غرس أشجار جديدة لتحل محل الأشجار التي قطعوها لأغراض التعدين وإنتاج المعادن. وكانت تلك بداية مفهوم الاستدامة.. لكن بمعنى أضيق من الكلمة المستخدمة حاليًا. وسيرًا على نهج كارلوفيتز، دأب الحِراجيون الألمان على التعامل مع الأشجار بمنطق النجاعة الصناعية، إذ غرسوا الأنواع سريعة النمو كشجرة التنوب في صفوف متباعدة. وانتشر هذا النهج في أنحاء العالم ولا يزال يُستخدم على نطاق واسع في ألمانيا. وقبل مئة عام، عاكس عالم نبات يُدعى "ألفريد مولر" هذا الاتجاه، قائلًا إن الغابات كائنات معقدة وإنه لا ينبغي أن تُغرس الأشجار مثل سيقان القمح بطيئة النمو، بل ينبغي تدبير الغابات بالطريقة التي يمكن أن تدبَّر بها الطبيعة: أي عن طريق القطع الانتقائي للأشجار مع الحفاظ على استمرارية الغطاء. لكن مولر، الذي توفي في عام 1922، لم يمهله القدر حتى يرى أفكاره على أرض الواقع. فبعد الحرب العالمية الثانية، قُطعت الغابات في سائر أنحاء ألمانيا للمساعدة في إعادة بناء المدن التي دمرتها الحرب في بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي. وقام الحِراجيون بتعويضها من خلال غرس ملايين الأشجار، ومعظمها أشجار تنوب، خلال خمسينيات القرن الماضي. وكانت تلك بداية ازدهار صناعة حرجية شملت حِراجيين كجد الأمير سالم. وقد أصبحت الأخشاب ومنتجاتها اليوم تجارة تدر 150 مليار دولار سنويًا وتشغل أكثر من 700 ألف ألماني. وتغطي الأشجار اليوم ثلث مساحة هذا البلد. ولذلك، كانت سنوات الجفاف واجتياح الآفات بمنزلة صدمة. فلأول مرة، يواجه الألمان احتمال حدوث تناقص مهول في عدد الأشجار في المستقبل؛ إذ يقول "بيير إيبيش"، عالم البيئة لدى "جامعة إيبرسوالد للتنمية المستدامة": "لا نريد تخيل هذا الأمر في ألمانيا التي تعد نفسها بلد غابات. لكننا نواجه هذا الخطر." وعدّت الحكومة الألمانية هذا الوضع أزمة وطنية، إذ منحت مُلّاك الغابات إعانات بقيمة تناهز الملياري دولار من أجل إزالة كتل الأشجار المتساقطة التي تضررت من الخنافس وإعادة غرس الغابات. ويقول بعض مناصري الحِراجة الشبيهة بالطبيعية إن ذلك قد يكون اتجاهًا خاطئًا. فبدلًا من المسارعة إلى غرس عدد أكبر من الأشجار، فإنهم يرون ميزةً في التقليل من ذلك أقل. فترك الأخشاب النافقة وظلل الأشجار لتتحلل ببطء يعيد المواد المغذية إلى التربة، فتتعزز صحة الأشجار الصامدة وتنوعها. "من وجهة نظرنا، من المحبذ بذل مجهود أقل"، كما يقول "كنوت ستيرن"، مدير الغابات في مدينة لوبيك. وينطوي هذا النهج على بعض المحاذير بطبيعة الحال. فقد تكون الغابات الشبيهة بالطبيعية مربحة، ولكنها تستلزم من صناعة الأخشاب والحِراجيين التأقلم مع طريقة مختلفة من التعامل. فمناشر الأخشاب، على سبيل المثال، مصممة لقطع الجذوع الضيقة والمستقيمة لأشجار التنوب، لا أشجار البلوط القديمة الضخمة. ومع تسارع وتيرة تغير المناخ، يحسن أيضا التفكير في غرس عدد أكبر من الأنواع المقاومة للجفاف والمستوردة من أماكن أخرى، كما يقول "ماركوس ليندنر"، العالم لدى "المعهد الأوروبي للغابات". يضيف قائلا: "من الممكن التحول إلى غرس الغابات الشبيهة بالطبيعية، لكن مع جلب مزيد من الأنواع التي تتحمل الجفاف". وبالعودة إلى فآلهاوزن، كان قرص الشمس يميل نحو الغروب وقد طفقت الأضواء تسطع في القرية. قال الأمير سالم وهو ينادي كلبه ليظل بالقرب منه حتى يعودا أدراجهما إلى البيت: "أريد لأبنائي أن يختاروا من بين 10 أنواع مختلفة، لا أن يقتصر الاختيار على تنوب دوغلاس أو التنوب. وعلينا الحرص على عدم تكرار الأخطاء نفسها".