وداوهـا بالتي كانت هي الـداء..

وداوهـا بالتي كانت هي الـداء..
سكان أستراليا الأصليون يحيون ممارسةَ الحرق المَدروس العريقة، لأجل صون أراضيهم التقليدية وتجديدها.. وللإسهام في دعم مجتمعاتهم.

بزغـت أولى خيوط النهار، في أوائل شهر نوفمبر، على مقربة من "أخدود ديف أدر" على الحافة الغربية لمنطقة "وارديكن المحمية للسكان الأصليين". تلقى "أريجاي نابارلامبارل" لسعات الحرارة الاستوائية التي تسود في شمال أستراليا وهو ينزل من طائرة مروحية ويسارع الخطى نحو حريق. فلقد أتت ألسنة اللهب المنخفضة والمتعرجة على الأراضي الرطبة اليابسة، مُخلفةً وراءها أرضًا محترقة وآثار حروق سوداء على أشجار "البلقاء خماسية العروق". كان أريجاي -ذو الخمسة والعشرين ربيعًا- يمشي خلف حارسين آخرين من حراس الغابات، وكانت سمفونيةُ منافيخ الأوراق تُغالب صوت طقطقة النيران. جاب هذا الثلاثي المنطقةَ المحيطة بالمكان بخطوات منتظمة، وهم ينفثون منافيخهم على الأوراق المشتعلة حتى يعيدوها إلى داخل رقعة الحريق للحيلولة دون انتشاره. يشكل هذا الثلاثي إحدى ثلاث مجموعات لحراس غابات مكونة من السكان الأصليين والتي تعمل في هذا الجيب النائي من منطقة "أرنهيم لاند" الواقعة على بعد نحو 260 كيلومترًا شرق مدينة "داروين". وكانوا يكافحون حريقًا شبَّ في أواخر الموسم الجاف بسبب صاعقة، وطفق ينتشر في اتجاهات شتى حتى وصلت ألسنة اللهب في بعض البقع إلى أعشاب "الأسبنفكس" الطويلة؛ وفي بقع أخرى، تسللت إلى شقوق تكوينات الحجر الرملي. توقف نابارلامبارل لتقييم الجزء الذي عُهد إليه بتطويقه من الحريق. ويعمل هذا الرجل حارسًا للغابة منذ أن أنهى دراسته الثانوية؛ إذ منحته هذه الوظيفة فرصةَ الانتقال من المدينة التي تلقّى فيها تعليمه إلى أرض أجداده. وعلى مَرّ الأعوام الثمانية التي تلت ذلك، سمعَ قصص هذه الحرائق من الناس الذين يَكبرونه سنًّا، وهي قصص جرَت أحداثها على مَرّ زمن استيطان بني جلدته هذه الأرض منذ عشرات الآلاف من السنين. ضرب برِجله اللحاءَ المشتعل في أسفل شجرة ليمنع النار من أن تشب فيها. هنالك قال: "إنها تبدو بحالة جيدة بفضل الحرق المبكر والجدول المائي القريب منها". مسح نابارلامبارل العرق من على جبينه وطفق ينظر من خلال الدخان. فتلك الأرض هي موئل مجموعة من الأنواع المتوطنة والمهددة بالانقراض؛ ومنها كنغر "ولارو الأسود" و"الدصيور" الشمالي وطيور نمنمة "العشب بيضاء الحلق". كما تزخر بشلالات خلابة وتشكيلات صخرية وأنهار وغابات بِكر. وعلى الرغم من أنها كانت تحترق ساعتَها، فإن مَعالم جمالها الأخّاذ لا تُخطئها العين.
وما ذلك الحريق إلا أحد الحرائق الثلاثة والخمسين التي عمل حراس غابات وارديكن على إخمادها في أواخر الموسم الجاف من العام الماضي. فخلال المدة الفاصلة بين أغسطس وديسمبر، تندلع النيران بلا هوادة. وتظل السافانا الاستوائية هي أكثر المشاهد الطبيعية عرضة للحرائق على هذا الكوكب؛ وتشبّ النيران في الثلث تقريبًا من مساحة شمال أستراليا في كل عام. لكن النار ليست المشكلة فحسب؛ بل هي الحل أيضًا في هذا المكان. وسط البرودة التي تَسِم أوائل الموسم الجاف في شمال أستراليا، حيث تظل الرطوبة جاثمة على الأرض، لم يكن نابارلامبارل ورفاقه الحراس يكافحون الحرائق، بل يشعلونها. فخلال الفترة الممتدة من أبريل إلى يوليو من كل عام، يسير الحراس مئات الكيلومترات وهم يحملون مشاعل التنقيط لإضرام النيران في الأرض، ويُجرون من الجو عمليات الحرق الخاضع للسيطرة، حيث يُلقون بكريّات حارقة من المروحيات. فالنباتات الرطبة وبطء سرعة الرياح ودرجات الحرارة المنخفضة في ذلك الوقت من العام، كلها عوامل تجعل الحرائق التي يشعلونها أصغر نطاقًا وأقل كثافة، إذ عادة ما تخبو بين عشية وضحاها. ومن ثم، إنْ أُحرقت الأراضي على نحو متمهل ومتدرج، فإن حرائق الغابات التي لا مناص من نشوبها لاحقًا ستكون أقل تدميرًا. وفضلا عن ذلك، تمنح هذه الطريقة للحراس فرصة لإخماد الحرائق بنجاح. إن حماية البيئة بالحرائق، وضد الحرائق، هو دور يأخذه حراس الغابات من السكان الأصليين على محمل الجد. فهُم أصحاب الأرض، والقائمون على رعايتها، وتربطهم بها علاقة روحية وطيدة. "أحب أن أكون في الريف [الأراضي التقليدية للسكان الأصليين]"، كما يقول نابارلامبارل. فذلك ما دفعه إلى أن يصبح من حراس الغابات. وهو أيضًا ما أعاده إلى دياره. مكافحة الحرائق بالحرائق ليست مفهومًا جديدًا؛ إذ تستخدم الشعوب الأصلية أسلوب تدبير الحرائق في جميع أنحاء العالم، لكنه أخذ زخمًا متجددًا. فمع احترار المناخ وتزايد حدة حرائق الغابات، أصبح خبراء الحِراجة على مستوى العالم يَدعون إلى العودة إلى الممارسات التقليدية. في أرنهيم لاند، كان إشعال الحرائق في أوائل الموسم الجاف نهجًا اعتياديًا وشائعًا على نطاق واسع؛ إذ كانت تُستخدم النار لأغراض الصيد، وتجديد الغطاء النباتي، والاحتفالات. ويقول شيوخ السكان الأصليين إن النار تعيد الحياة إلى الأرض؛ فبعد الحرق، تولد الأرض من جديد. ولا يزال السكان الأصليون إلى الآن يتولون تدبير الحرائق بأنفسهم؛ إذ يحصرون الأراضي التي تحتاج إلى الحرق ثم يعمدون إلى إضرام النار فيها. لقد ظلت النيران أمرًا مألوفًا لدى "تيرا غويمالا" منذ طفولته، مثل العديد من السكان الأصليين الأستراليين. واليوم في سن الـ 56 عامًا، لا يزال يتذكر الدروس التي تلقاها من كبار مجتمعه بشأن استخدام النار: دفعُ الكناغر باتجاه الصيادين؛ وإحداث الدخان لأجل الشعائر، خاصة عند الجنائز؛ وحرق كل نوع من أنواع النباتات في الوقت المناسب من العام. وغويمالا هو أحد كبار مُلّاك "مانمويي" التقليديين، وهي إحدى المحطات الخارجية في منطقة وارديكن التي تبلغ مساحتها نحو 14 ألف كيلومتر مربع، وبالقرب منها. وتُدبَّر هذه المنطقة المحمية التي تمتلكها 36 مجموعة عشائرية، وفق نظام معقد من القانون العرفي. ويقول غويمالا: "كانت هذه الأرض في الأيام الخوالي تعج بالناس، وكانوا يتولون تدبير الحرائق". لكن الأرض الخالية من سكانها -"البلاد الفارغة" كما يسميها- هي السبب الذي جعل حرائق الغابات تبدأ في التهام المشهد الطبيعي.
رحلت عائلة غويمالا، على غرار كثير من العائلات، عن أرضها باتجاه البعثات والمستوطنات خلال الأعوام التي أعقبت الاستعمار. ثم عادت عائلته إلى موطنها وهو لا يزال طفلًا. وكانت عودتها تندرج في إطار حركة الأوطان الأصلية التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي وقادها أحد زعماء الشعوب الأصلية وفنان السكان الأصليين المشهور عالميًا، "باردايال 'لوفتي' نجاميريك". فقد لاحظ المُلّاك التقليديون مثل نجاميرك أن شكل المناطق التقليدية للسكان الأصليين قد تحول في غيابهم. إذ انتقلت إليها أعشاب غير محلية وحيوانات وحشية كالقطط والجواميس؛ وأضحت بعض الحيوانات الأصلية كالإيمو أندر فأندر؛ وتعرضت مواقع "بيم" (الفن الصخري) العتيقة للتلف بسبب الجواميس والحرائق؛ وبدأت صحة الغابات المطرية الموسمية والسهول الفيضية والسافانا تتدهور. لكن الأمر الأكثر مدعاة للقلق، كان هو المأزق الذي أضحت تواجهه غابات "أنبينيك" التي تكتسي أهمية ثقافية وبيئية. ففي السابق، كانت الأشجار العملاقة المتوطنة -التي يعيش بعضها أكثر من مئة عام- منتشرة على نطاق واسع في المشهد الطبيعي. وكان نُسغها يُستخدَم مطهرًا، وكان يُصنع من خشبها عصي القتال ويُحتمى بظلها من أشعة الشمس. أما في الوقت الحالي، فلم تعد أشجار أنبينيك موجودة سوى في ملاجئ النار الطبيعية كالشعاب، أو في كتل غريبة ومعزولة في السافانا. (قدم "صندوق ديزني لصون الطبيعة" منحة إلى "مؤسسة كاركاد كاندجي" لمساعدة حراس الغابات من السكان الأصليين على حماية أشجار أنبينيك. وشركة "والت ديزني" هي المالكة لغالبية أسهم شركة "ناشيونال جيوغرافيك بارتنرز"). وكان المُلاك التقليديون يرون أن النار هي الخيط المشترك. فأرنهيم لاند كانت تتعرض للدمار بسبب حرائق الغابات الشديدة التي لا يمكن السيطرة عليها والتي امتدت إلى كل شيء. ودَعَوا إلى إحياء عملية الحرق المتحكم بها في أوائل الموسم الجاف. فهي وسيلة لن تمكن من العناية بالأراضي التقليدية للسكان الأصليين فحسب، بل ستمكن أيضًا من إعادة ارتباطهم بجوانب ثقافتهم. فكما يقول غويمالا: "تحتاج الأرض إلى النار".

ولقد أصبحت الممارسة العريقة واقعًا حديثًا من خلال نهج جديد وضعه "البينينج"، كما يطلق السكان الأصليون في غرب أرنهيم لاند على أنفسهم، إلى جانب السكان غير الأصليين المعروفين باسم "بالاندا". فهم يزاوجون بين المعارف التقليدية بشأن كيفية الحرق ووقته ومكانه، وبين الأدوات الحديثة كخرائط الأقمار الصناعية والمروحيات لإجراء الحرق الجوي وإنزال رجال الإطفاء في المناطق النائية. وفي عام 2006، بدأ أول مشروع في العالم لحرق السافانا للحد من تأثير الكربون في غرب أرنهيم لاند، بدعم من منشأة الغاز الطبيعي المسال في داروين والتي كانت مطالبة بتعويض انبعاثاتها. وفي الوقت الحالي، تشارك مجموعات السكان الأصليين -ومنها المجموعات الموجودة في وارديكن- في سوق الكربون الأسترالي، حيث يشتري الملوثون أرصدة تمثل كمية من غازات الاحتباس الحراري التي تُستبقى خارج الغلاف الجوي. وفي بعض الأماكن، تُباع الأرصدة بناءً على كمية الكربون المخزنة في الغابات المحمية. ويظل هذا الأمر مثيرًا للجدل، لعدة أسباب؛ منها احتمال احتراق الغابات عن آخرها. لكن حرق السافانا يتم على نحو مختلف. فالحرائق المتحكم بها في أوائل الموسم الجاف، إلى جانب مكافحة الحرائق في أواخر الموسم ذاته، تحد من الحرائق الكبرى، فتحمي الغابات وتقلل من كمية الدخان الإجمالية. ومن ثم، تُباع الانبعاثات التي تم تجنبها، بوصفها أرصدة. وتشرف مجموعات السكان الأصليين حاليًا على تدبير نحو 80 مشروعًا لحرق السافانا في شمال أستراليا، وتدر عائدات تبلغ قيمتها زهاء 53 مليون دولار سنويًا. وقد أثار هذا النهج اهتمامًا كبيرًا في الخارج؛ إذ يجري الإعداد لمشروع مماثل في بوتسوانا، ويقول علماء بيئة الحرائق إن هذه المنهجية يمكن أن تنجح في جنوب شرق آسيا، وفي أميركا الوسطى والجنوبية. ويقول "شون أنسيل"، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "وارديكن لاند ماناجمينت" المملوكة للسكان الأصليين والمسؤولة عن هذه المنطقة المحمية: "إنه [مشروع] ابتكاري للغاية،  ويحظى بأهمية عالمية، ويتبوأ فيه السكان الأصليون مركز الصدارة بلا منازع،  ويجلب استثمارات كثيرة إلى المجتمعات النائية حيث تقل فرص الأنشطة الاقتصادية". وفي غرب أرنهيم لاند، ما فتئت النتائج المحقَّقة تُحدث تحولا كبيرًا. ففي عام 2004، أي قبل أن يبدأ أسلوب تدبير الحرائق، احترقت 71 بالمئة من مساحة المنطقة، وكان جلها بسبب حرائق كبرى شديدة في أواخر الموسم الجاف. وفي المقابل، خضعت 32 بالمئة من أراضي المنطقة لحرق متحكم به في عام 2020، أتاح احتواء الحرائق الكبرى بعد شهر أغسطس، فلم تتجاوز نسبتها 2.1 بالمئة؛ مما أبقى على 65.9 بالمئة من الأراضي بمنأى عن النيران، على الرغم من ظروف الحرائق شبه الكارثية التي طبعت ذلك العام. فبدلًا من تحول المنطقة إلى مساحات متفحمة تُقدَّر بآلاف الكيلومترات المربعة، تظل مساحات شاسعة من ظلل الأشجار المورقة بمأمن عن الحرائق. وكما يستفيد النبات، تتحقق الاستفادة أيضًا للوحيش. إذ يتداول أهالي المنطقة أنباء عن عودة العديد من الحيوانات الأصلية، بما في ذلك "الإيمو". وتقول عالمة البيئة، "كارا بينتون" إن نتائج مشروع وارديكن المتعلقة برصد الأنواع ما زالت قيد التجميع، لكن الكاميرات المنصوبة في السافانا لتتبع الثدييات الصغيرة غالبًا ما تلتقط صورًا لأنواع لم يرها زملاؤها من السكان الأصليين منذ أعوام. فقد كانت حيوانات الدصيور الشمالي -وهي جرابيات صغيرة آكلة للحوم ومهددة بالانقراض- اكتشافًا مثيرًا؛ إذ تقول: "لقد كان الناس مسرورين للغاية بوجود الدصيور في هذا المكان".

"نغانابارو!" (وهو الجاموس بلغة كونووك، إحدى لغات السكان الأصليين في أستراليا). أوقفت "تينيشا نارورغا" سيارتها ذات الدفع الرباعي على الفور على الطريق الترابية الحمراء. نزلت هذه الحارسة -ذات الخمسة والعشرين ربيعًا- بمعية امرأتين أخريين من المقعد الأمامي. ثم أمسكت إحداهن البندقية، واختفين ثلاثتهن داخل الأجمة، وهن يسارعن في تعقب آثار حوافر قطيع صغير من الجاموس. فقد كانت "حارسات دالوك" تباشرن عملية مطاردة. كوّنت وارديكن حارسات دالوك (تعني "دالوك" "أنثى" في لغات السكان الأصليين في المنطقة) في عام 2017، وكان لوالدة نارورغا، "سوزانا نابولواد"، دور رئيس في إحداث هذه الفرقة؛ إذ تقول: "كنت أرى أخي والرجال الآخرين يخرجون وفكّرت أن بإمكاننا القيام بالأمر نفسه". فمن شأن العمل أن يمنح النساء الاستقلالية. فساعدَت في تفعيل هذا البرنامج، ثم انضمت ابنتها إلى الفرقة أيضًا عندما أتمّت دراستها الثانوية. كان الهدوء يسود الأجمة، كما لو توقفت في صمت مؤقت في انتظار طلقة نارية لم تخرج من مخزنها. وبينما كان الشفق يرخي ستائره، عاودت نارورغا ورفيقتاها الظهور من بين الأحراج وهن خاليات الوفاض. ذلك أن "نغانابارو" أسرع مما يعتقد المرء. وما برنامج "حارسات دالوك" إلا جزء من مجموعة برامج للحراسة تُديرها شركة "وارديكن لاند ماناجمينت" وتُموَّل من أرصدة الكربون. وتُوظِّف هذه البرامج 240 رجلا وامرأة من السكان الأصليين من خلال ثلاث قواعد حراس في محطات "ماماداوير" و"كابولوارناميو" و"مانمويي" الخارجية. والعمل في حراسة الغابات هو مبعث فخر كبير، خاصة لدى الشابات من أمثال نارورغا، اللائي لولا هذه الوظيفة لكان من المحتمل أن يضطررن لترك أراضيهن التقليدية للعمل في المدن الكبرى والصغرى. وتتيح الأموال المحصَّلة من أرصدة الكربون لحراس الغابات الاضطلاع بمجموعة متنوعة من أنشطة تدبير الأراضي، بما في ذلك إعدام الحيوانات الوحشية كالجواميس التي كانت نارورغا تطاردها. فخلال الفترة الممتدة من يوليو 2020 إلى يونيو 2021، قضى حراس وارديكن على 2336 حيوانًا وحشيًا؛ ومنها 1913 جاموسًا. ويقوم الحراس أيضًا بإزالة الأعشاب الضارة ومراقبة الأحياء البرية وحماية الفن الصخري. ويتولى المُلاك التقليديون اتخاذ جميع القرارات بشأن كيفية تدبير هذه الأرض. وتعليقًا على ذلك، يقول أنسيل: "يضفي استخدام برنامج الحراس قيمة على المعارف التقليدية والارتباط بالأرض والتاريخ المحيط بها. والوجود في الريف والتفاعل مع هذه المعارف التقليدية والارتباط بالأرض، هو ما يحافظ على صلتها بمجتمعنا الحديث".

جلست مجموعة من تلاميذ المدارس القرفصاء على حصير منسوج ذي لون أزرق لامع تحت ظل نتوء صخري. كانت نظرات الاهتمام بادية على وجوههم المشرئبة إلى الأمام. كان وقت الصباح قد انتصف، وكانوا قد جاءوا على متن سيارة دفع رباعي سلكت بهم طريقًا موحلة من "كابولوارناميو" إلى "كوندجورلومدجورلوم"، حيث تم تخصيص "منطقة وارديكن المحمية للسكان الأصليين" في عام 2009. كانت تجلس قبالتهم على كرسي خفيف متهالك، "ماري كولكيوارا نجاميريك" -البالغة من العمر 89 عامًا- وهي من أصحاب المعارف التقليدية الكبار وزوجة الراحل، "لوفتي نجاميريك". وكانت على الجدران الصخرية صور مرسومة. فهي أحد مواقع الفن الصخري المقدر عددها بنحو 30 ألف موقع في هذه المنطقة المحمية. وعلى الرغم من أن نحو 50 طفلًا كانوا حتى وقت قريب يأتون ويذهبون من كابولوارناميو في كل عام، لم تكن هناك مدرسة في هذه المحطة الخارجية. وكان على الطلاب السفر مسافات طويلة أو العيش مع عوائلهم في مدن كبيرة بعيدة للاستفادة من التعليم. وفي عام 2015، قرر المجتمع المحلي استخدام الأموال من أرصدة الكربون لبناء مدرسته الخاصة. فتم استحداث "أكاديمية ناوارديكن" التي فتحت منذ ذلك الوقت مدارس في محطتين خارجيتين أخريين. وتقدم جميعها برنامجًا ثنائي الثقافة يعطي أهمية متكافئة لمعارف "البينينج" والمنهاج الدراسي الموحد. وبينما كانت الشمس ترتقي إلى عنان السماء، كانت كولكيوارا نجاميريك تتحدث إلى الطلاب بلغة "كونوينيجكو" حول الارتباط بالأراضي التقليدية للسكان الأصليين وأهمية الثقافة. وعندما أنهت حديثها، فردت ذراعيها لتحث الأطفال على النظر إلى الأعمال الفنية القديمة. فانتشروا في المكان وطفقوا يتسلقون الجدران الصخرية ويحنون رؤوسهم بسرعة ليتفادوا الحواف الناتئة. فهذا درس تاريخ في أفضل حالاته. "إننا نُعلّم القراءة والكتابة والحساب بصفة رسمية في الفصل الدراسي، لكننا نحاول أن نستمد كل شيء آخر من الطبيعة"، تقول "جودي فالاك"، كبيرة المدرسين في كابولوارناميو. وتستطرد قائلة إن اعتماد دروسها على الروابط بالأراضي التقليدية للسكان الأصليين يجعل الأطفال أكثر تحمسًا في الفصل الدراسي. فذلك، على حد قولها، "ما يضفي عليه خطابًا قويًا يجعل التعلم جديرًا بالاهتمام". من الصعب التقليل من أهمية هذه المدارس، كما تقول فالاك، وهي تراقب طلابها إذ يستكشفون ماضيهم. فقد أثار تزايد عدد السكان بفعل برامج حراس وارديكن الحاجة إلى المدارس، لكن المدارس هي الآن جزء مما يجتذب الناس للعودة إلى الأراضي التقليدية. ويأمل شيوخ المجتمع المحلي أن يتلقى هذا الجيل المعارف التقليدية والتعليم الحديث لإحداث فرص خاصة بهم في هذا المكان. فالأرض بحاجة لأبنائهم وأحفادهم ليتعهدوها بالرعاية اللازمة.

سَحَب تيرا غويمالا، مرتديًا زيًّا بلون كاكي، كرسيًا على السطح الخلفي لمحطة حراس مانمويي. وبدت نفحة من الدخان وهي تشق طريقها عبر أشجار البلقاء خماسية العروق وأشجار الكاذي لتتعالى في الأجواء. فخلال الأيام التي أعقبت حريق "أخدود ديف أدر"، اندلعت عدة حرائق أخرى في هذا الجانب من المنطقة المحمية للسكان الأصليين. وعلى الرغم من الاحتباس الحراري، فإن غويمالا يدرك أن عمله هنا يكتسي أهمية أكثر من أي وقت مضى؛ إذ يقول إن السكان الأصليين يعاينون تغير المناخ كل يوم. ثم يستفيض في الشرح قائلًا: "اعتدنا منذ الصبا التجولَ في الأنحاء ورؤية حشود كبيرة من الحيوانات، وكانت الأمطار تتساقط بغزارة. وكنا نرى أن كل شيء يحدث في وقته المناسب. لكن في هذه الأيام صار كل شيء في غيرِ حينه. فمن المفترض أن يكون موسم البرقوق الأخضر قد حل الآن، لكن أوان ذلك قد فات. لقد تأثر كل شيء.. أسلوب حياتنا، وموسم أطعمتنا، ومياهنا". هَشَّ غويمالا ذبابة كانت تحوم حوله في تهاد ونظر إلى الأجمة ثم قال: "إن السبب يعود إلى البشر لا إلى الطبيعة. فالطبيعة جميلة وبريئة". وتتوقع دراسات مناخية أن شمال أستراليا في أفق عام 2050 قد يَشهد زيادة سنوية في درجة الحرارة تصل إلى 2.5 درجة مئوية، وزيادة كبيرة في عدد الأيام التي تتجاوز حرارتها 35 درجة مئوية، ومواسم حرائق أطول، مع زيادة بنسبة 40 بالمئة في الأيام المعرضة لمخاطر فائقة لاندلاع الحرائق.
وعلى الرغم من هذه التوقعات القاتمة، فإن غويمالا يظل متفائلا بمستقبل أفضل. فقد أَسهم التاريخ والارتباط الروحي بعودة العديد من السكان الأصليين، ولكن فرص العمل المجدية والعائلة والتعليم هي ما سيحملهم على البقاء في هذا المكان. ويزداد لديه الاقتناع بأن عودتهم إلى أراضيهم التقليدية ستمكنهم من استعادة ما فقدوه. ويؤمن أيضًا بأن الحيوانات المحلية ستعود إلى أيدي "البينينج"، وبأن الجداول الجافة ستمتلئ من جديد، وبأن الفصول ستستأنف أنماطها المعتادة، بل ربما حتى أشجار "أنبينيك" العظيمة ستزهر من جديد. يقول غويمالا: "إذا احترمنا طبيعتنا الأم، فستنصت إلينا، وستعود إلى حالتها الطبيعية. وإنّا لموقنون بتحقق دلك. فكلما تحدثنا إلى الطبيعة، وأنشدنا للطبيعة.. كان ذلك مجديًا وتحقق المُراد".

وداوهـا بالتي كانت هي الـداء..

وداوهـا بالتي كانت هي الـداء..
سكان أستراليا الأصليون يحيون ممارسةَ الحرق المَدروس العريقة، لأجل صون أراضيهم التقليدية وتجديدها.. وللإسهام في دعم مجتمعاتهم.

بزغـت أولى خيوط النهار، في أوائل شهر نوفمبر، على مقربة من "أخدود ديف أدر" على الحافة الغربية لمنطقة "وارديكن المحمية للسكان الأصليين". تلقى "أريجاي نابارلامبارل" لسعات الحرارة الاستوائية التي تسود في شمال أستراليا وهو ينزل من طائرة مروحية ويسارع الخطى نحو حريق. فلقد أتت ألسنة اللهب المنخفضة والمتعرجة على الأراضي الرطبة اليابسة، مُخلفةً وراءها أرضًا محترقة وآثار حروق سوداء على أشجار "البلقاء خماسية العروق". كان أريجاي -ذو الخمسة والعشرين ربيعًا- يمشي خلف حارسين آخرين من حراس الغابات، وكانت سمفونيةُ منافيخ الأوراق تُغالب صوت طقطقة النيران. جاب هذا الثلاثي المنطقةَ المحيطة بالمكان بخطوات منتظمة، وهم ينفثون منافيخهم على الأوراق المشتعلة حتى يعيدوها إلى داخل رقعة الحريق للحيلولة دون انتشاره. يشكل هذا الثلاثي إحدى ثلاث مجموعات لحراس غابات مكونة من السكان الأصليين والتي تعمل في هذا الجيب النائي من منطقة "أرنهيم لاند" الواقعة على بعد نحو 260 كيلومترًا شرق مدينة "داروين". وكانوا يكافحون حريقًا شبَّ في أواخر الموسم الجاف بسبب صاعقة، وطفق ينتشر في اتجاهات شتى حتى وصلت ألسنة اللهب في بعض البقع إلى أعشاب "الأسبنفكس" الطويلة؛ وفي بقع أخرى، تسللت إلى شقوق تكوينات الحجر الرملي. توقف نابارلامبارل لتقييم الجزء الذي عُهد إليه بتطويقه من الحريق. ويعمل هذا الرجل حارسًا للغابة منذ أن أنهى دراسته الثانوية؛ إذ منحته هذه الوظيفة فرصةَ الانتقال من المدينة التي تلقّى فيها تعليمه إلى أرض أجداده. وعلى مَرّ الأعوام الثمانية التي تلت ذلك، سمعَ قصص هذه الحرائق من الناس الذين يَكبرونه سنًّا، وهي قصص جرَت أحداثها على مَرّ زمن استيطان بني جلدته هذه الأرض منذ عشرات الآلاف من السنين. ضرب برِجله اللحاءَ المشتعل في أسفل شجرة ليمنع النار من أن تشب فيها. هنالك قال: "إنها تبدو بحالة جيدة بفضل الحرق المبكر والجدول المائي القريب منها". مسح نابارلامبارل العرق من على جبينه وطفق ينظر من خلال الدخان. فتلك الأرض هي موئل مجموعة من الأنواع المتوطنة والمهددة بالانقراض؛ ومنها كنغر "ولارو الأسود" و"الدصيور" الشمالي وطيور نمنمة "العشب بيضاء الحلق". كما تزخر بشلالات خلابة وتشكيلات صخرية وأنهار وغابات بِكر. وعلى الرغم من أنها كانت تحترق ساعتَها، فإن مَعالم جمالها الأخّاذ لا تُخطئها العين.
وما ذلك الحريق إلا أحد الحرائق الثلاثة والخمسين التي عمل حراس غابات وارديكن على إخمادها في أواخر الموسم الجاف من العام الماضي. فخلال المدة الفاصلة بين أغسطس وديسمبر، تندلع النيران بلا هوادة. وتظل السافانا الاستوائية هي أكثر المشاهد الطبيعية عرضة للحرائق على هذا الكوكب؛ وتشبّ النيران في الثلث تقريبًا من مساحة شمال أستراليا في كل عام. لكن النار ليست المشكلة فحسب؛ بل هي الحل أيضًا في هذا المكان. وسط البرودة التي تَسِم أوائل الموسم الجاف في شمال أستراليا، حيث تظل الرطوبة جاثمة على الأرض، لم يكن نابارلامبارل ورفاقه الحراس يكافحون الحرائق، بل يشعلونها. فخلال الفترة الممتدة من أبريل إلى يوليو من كل عام، يسير الحراس مئات الكيلومترات وهم يحملون مشاعل التنقيط لإضرام النيران في الأرض، ويُجرون من الجو عمليات الحرق الخاضع للسيطرة، حيث يُلقون بكريّات حارقة من المروحيات. فالنباتات الرطبة وبطء سرعة الرياح ودرجات الحرارة المنخفضة في ذلك الوقت من العام، كلها عوامل تجعل الحرائق التي يشعلونها أصغر نطاقًا وأقل كثافة، إذ عادة ما تخبو بين عشية وضحاها. ومن ثم، إنْ أُحرقت الأراضي على نحو متمهل ومتدرج، فإن حرائق الغابات التي لا مناص من نشوبها لاحقًا ستكون أقل تدميرًا. وفضلا عن ذلك، تمنح هذه الطريقة للحراس فرصة لإخماد الحرائق بنجاح. إن حماية البيئة بالحرائق، وضد الحرائق، هو دور يأخذه حراس الغابات من السكان الأصليين على محمل الجد. فهُم أصحاب الأرض، والقائمون على رعايتها، وتربطهم بها علاقة روحية وطيدة. "أحب أن أكون في الريف [الأراضي التقليدية للسكان الأصليين]"، كما يقول نابارلامبارل. فذلك ما دفعه إلى أن يصبح من حراس الغابات. وهو أيضًا ما أعاده إلى دياره. مكافحة الحرائق بالحرائق ليست مفهومًا جديدًا؛ إذ تستخدم الشعوب الأصلية أسلوب تدبير الحرائق في جميع أنحاء العالم، لكنه أخذ زخمًا متجددًا. فمع احترار المناخ وتزايد حدة حرائق الغابات، أصبح خبراء الحِراجة على مستوى العالم يَدعون إلى العودة إلى الممارسات التقليدية. في أرنهيم لاند، كان إشعال الحرائق في أوائل الموسم الجاف نهجًا اعتياديًا وشائعًا على نطاق واسع؛ إذ كانت تُستخدم النار لأغراض الصيد، وتجديد الغطاء النباتي، والاحتفالات. ويقول شيوخ السكان الأصليين إن النار تعيد الحياة إلى الأرض؛ فبعد الحرق، تولد الأرض من جديد. ولا يزال السكان الأصليون إلى الآن يتولون تدبير الحرائق بأنفسهم؛ إذ يحصرون الأراضي التي تحتاج إلى الحرق ثم يعمدون إلى إضرام النار فيها. لقد ظلت النيران أمرًا مألوفًا لدى "تيرا غويمالا" منذ طفولته، مثل العديد من السكان الأصليين الأستراليين. واليوم في سن الـ 56 عامًا، لا يزال يتذكر الدروس التي تلقاها من كبار مجتمعه بشأن استخدام النار: دفعُ الكناغر باتجاه الصيادين؛ وإحداث الدخان لأجل الشعائر، خاصة عند الجنائز؛ وحرق كل نوع من أنواع النباتات في الوقت المناسب من العام. وغويمالا هو أحد كبار مُلّاك "مانمويي" التقليديين، وهي إحدى المحطات الخارجية في منطقة وارديكن التي تبلغ مساحتها نحو 14 ألف كيلومتر مربع، وبالقرب منها. وتُدبَّر هذه المنطقة المحمية التي تمتلكها 36 مجموعة عشائرية، وفق نظام معقد من القانون العرفي. ويقول غويمالا: "كانت هذه الأرض في الأيام الخوالي تعج بالناس، وكانوا يتولون تدبير الحرائق". لكن الأرض الخالية من سكانها -"البلاد الفارغة" كما يسميها- هي السبب الذي جعل حرائق الغابات تبدأ في التهام المشهد الطبيعي.
رحلت عائلة غويمالا، على غرار كثير من العائلات، عن أرضها باتجاه البعثات والمستوطنات خلال الأعوام التي أعقبت الاستعمار. ثم عادت عائلته إلى موطنها وهو لا يزال طفلًا. وكانت عودتها تندرج في إطار حركة الأوطان الأصلية التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي وقادها أحد زعماء الشعوب الأصلية وفنان السكان الأصليين المشهور عالميًا، "باردايال 'لوفتي' نجاميريك". فقد لاحظ المُلّاك التقليديون مثل نجاميرك أن شكل المناطق التقليدية للسكان الأصليين قد تحول في غيابهم. إذ انتقلت إليها أعشاب غير محلية وحيوانات وحشية كالقطط والجواميس؛ وأضحت بعض الحيوانات الأصلية كالإيمو أندر فأندر؛ وتعرضت مواقع "بيم" (الفن الصخري) العتيقة للتلف بسبب الجواميس والحرائق؛ وبدأت صحة الغابات المطرية الموسمية والسهول الفيضية والسافانا تتدهور. لكن الأمر الأكثر مدعاة للقلق، كان هو المأزق الذي أضحت تواجهه غابات "أنبينيك" التي تكتسي أهمية ثقافية وبيئية. ففي السابق، كانت الأشجار العملاقة المتوطنة -التي يعيش بعضها أكثر من مئة عام- منتشرة على نطاق واسع في المشهد الطبيعي. وكان نُسغها يُستخدَم مطهرًا، وكان يُصنع من خشبها عصي القتال ويُحتمى بظلها من أشعة الشمس. أما في الوقت الحالي، فلم تعد أشجار أنبينيك موجودة سوى في ملاجئ النار الطبيعية كالشعاب، أو في كتل غريبة ومعزولة في السافانا. (قدم "صندوق ديزني لصون الطبيعة" منحة إلى "مؤسسة كاركاد كاندجي" لمساعدة حراس الغابات من السكان الأصليين على حماية أشجار أنبينيك. وشركة "والت ديزني" هي المالكة لغالبية أسهم شركة "ناشيونال جيوغرافيك بارتنرز"). وكان المُلاك التقليديون يرون أن النار هي الخيط المشترك. فأرنهيم لاند كانت تتعرض للدمار بسبب حرائق الغابات الشديدة التي لا يمكن السيطرة عليها والتي امتدت إلى كل شيء. ودَعَوا إلى إحياء عملية الحرق المتحكم بها في أوائل الموسم الجاف. فهي وسيلة لن تمكن من العناية بالأراضي التقليدية للسكان الأصليين فحسب، بل ستمكن أيضًا من إعادة ارتباطهم بجوانب ثقافتهم. فكما يقول غويمالا: "تحتاج الأرض إلى النار".

ولقد أصبحت الممارسة العريقة واقعًا حديثًا من خلال نهج جديد وضعه "البينينج"، كما يطلق السكان الأصليون في غرب أرنهيم لاند على أنفسهم، إلى جانب السكان غير الأصليين المعروفين باسم "بالاندا". فهم يزاوجون بين المعارف التقليدية بشأن كيفية الحرق ووقته ومكانه، وبين الأدوات الحديثة كخرائط الأقمار الصناعية والمروحيات لإجراء الحرق الجوي وإنزال رجال الإطفاء في المناطق النائية. وفي عام 2006، بدأ أول مشروع في العالم لحرق السافانا للحد من تأثير الكربون في غرب أرنهيم لاند، بدعم من منشأة الغاز الطبيعي المسال في داروين والتي كانت مطالبة بتعويض انبعاثاتها. وفي الوقت الحالي، تشارك مجموعات السكان الأصليين -ومنها المجموعات الموجودة في وارديكن- في سوق الكربون الأسترالي، حيث يشتري الملوثون أرصدة تمثل كمية من غازات الاحتباس الحراري التي تُستبقى خارج الغلاف الجوي. وفي بعض الأماكن، تُباع الأرصدة بناءً على كمية الكربون المخزنة في الغابات المحمية. ويظل هذا الأمر مثيرًا للجدل، لعدة أسباب؛ منها احتمال احتراق الغابات عن آخرها. لكن حرق السافانا يتم على نحو مختلف. فالحرائق المتحكم بها في أوائل الموسم الجاف، إلى جانب مكافحة الحرائق في أواخر الموسم ذاته، تحد من الحرائق الكبرى، فتحمي الغابات وتقلل من كمية الدخان الإجمالية. ومن ثم، تُباع الانبعاثات التي تم تجنبها، بوصفها أرصدة. وتشرف مجموعات السكان الأصليين حاليًا على تدبير نحو 80 مشروعًا لحرق السافانا في شمال أستراليا، وتدر عائدات تبلغ قيمتها زهاء 53 مليون دولار سنويًا. وقد أثار هذا النهج اهتمامًا كبيرًا في الخارج؛ إذ يجري الإعداد لمشروع مماثل في بوتسوانا، ويقول علماء بيئة الحرائق إن هذه المنهجية يمكن أن تنجح في جنوب شرق آسيا، وفي أميركا الوسطى والجنوبية. ويقول "شون أنسيل"، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "وارديكن لاند ماناجمينت" المملوكة للسكان الأصليين والمسؤولة عن هذه المنطقة المحمية: "إنه [مشروع] ابتكاري للغاية،  ويحظى بأهمية عالمية، ويتبوأ فيه السكان الأصليون مركز الصدارة بلا منازع،  ويجلب استثمارات كثيرة إلى المجتمعات النائية حيث تقل فرص الأنشطة الاقتصادية". وفي غرب أرنهيم لاند، ما فتئت النتائج المحقَّقة تُحدث تحولا كبيرًا. ففي عام 2004، أي قبل أن يبدأ أسلوب تدبير الحرائق، احترقت 71 بالمئة من مساحة المنطقة، وكان جلها بسبب حرائق كبرى شديدة في أواخر الموسم الجاف. وفي المقابل، خضعت 32 بالمئة من أراضي المنطقة لحرق متحكم به في عام 2020، أتاح احتواء الحرائق الكبرى بعد شهر أغسطس، فلم تتجاوز نسبتها 2.1 بالمئة؛ مما أبقى على 65.9 بالمئة من الأراضي بمنأى عن النيران، على الرغم من ظروف الحرائق شبه الكارثية التي طبعت ذلك العام. فبدلًا من تحول المنطقة إلى مساحات متفحمة تُقدَّر بآلاف الكيلومترات المربعة، تظل مساحات شاسعة من ظلل الأشجار المورقة بمأمن عن الحرائق. وكما يستفيد النبات، تتحقق الاستفادة أيضًا للوحيش. إذ يتداول أهالي المنطقة أنباء عن عودة العديد من الحيوانات الأصلية، بما في ذلك "الإيمو". وتقول عالمة البيئة، "كارا بينتون" إن نتائج مشروع وارديكن المتعلقة برصد الأنواع ما زالت قيد التجميع، لكن الكاميرات المنصوبة في السافانا لتتبع الثدييات الصغيرة غالبًا ما تلتقط صورًا لأنواع لم يرها زملاؤها من السكان الأصليين منذ أعوام. فقد كانت حيوانات الدصيور الشمالي -وهي جرابيات صغيرة آكلة للحوم ومهددة بالانقراض- اكتشافًا مثيرًا؛ إذ تقول: "لقد كان الناس مسرورين للغاية بوجود الدصيور في هذا المكان".

"نغانابارو!" (وهو الجاموس بلغة كونووك، إحدى لغات السكان الأصليين في أستراليا). أوقفت "تينيشا نارورغا" سيارتها ذات الدفع الرباعي على الفور على الطريق الترابية الحمراء. نزلت هذه الحارسة -ذات الخمسة والعشرين ربيعًا- بمعية امرأتين أخريين من المقعد الأمامي. ثم أمسكت إحداهن البندقية، واختفين ثلاثتهن داخل الأجمة، وهن يسارعن في تعقب آثار حوافر قطيع صغير من الجاموس. فقد كانت "حارسات دالوك" تباشرن عملية مطاردة. كوّنت وارديكن حارسات دالوك (تعني "دالوك" "أنثى" في لغات السكان الأصليين في المنطقة) في عام 2017، وكان لوالدة نارورغا، "سوزانا نابولواد"، دور رئيس في إحداث هذه الفرقة؛ إذ تقول: "كنت أرى أخي والرجال الآخرين يخرجون وفكّرت أن بإمكاننا القيام بالأمر نفسه". فمن شأن العمل أن يمنح النساء الاستقلالية. فساعدَت في تفعيل هذا البرنامج، ثم انضمت ابنتها إلى الفرقة أيضًا عندما أتمّت دراستها الثانوية. كان الهدوء يسود الأجمة، كما لو توقفت في صمت مؤقت في انتظار طلقة نارية لم تخرج من مخزنها. وبينما كان الشفق يرخي ستائره، عاودت نارورغا ورفيقتاها الظهور من بين الأحراج وهن خاليات الوفاض. ذلك أن "نغانابارو" أسرع مما يعتقد المرء. وما برنامج "حارسات دالوك" إلا جزء من مجموعة برامج للحراسة تُديرها شركة "وارديكن لاند ماناجمينت" وتُموَّل من أرصدة الكربون. وتُوظِّف هذه البرامج 240 رجلا وامرأة من السكان الأصليين من خلال ثلاث قواعد حراس في محطات "ماماداوير" و"كابولوارناميو" و"مانمويي" الخارجية. والعمل في حراسة الغابات هو مبعث فخر كبير، خاصة لدى الشابات من أمثال نارورغا، اللائي لولا هذه الوظيفة لكان من المحتمل أن يضطررن لترك أراضيهن التقليدية للعمل في المدن الكبرى والصغرى. وتتيح الأموال المحصَّلة من أرصدة الكربون لحراس الغابات الاضطلاع بمجموعة متنوعة من أنشطة تدبير الأراضي، بما في ذلك إعدام الحيوانات الوحشية كالجواميس التي كانت نارورغا تطاردها. فخلال الفترة الممتدة من يوليو 2020 إلى يونيو 2021، قضى حراس وارديكن على 2336 حيوانًا وحشيًا؛ ومنها 1913 جاموسًا. ويقوم الحراس أيضًا بإزالة الأعشاب الضارة ومراقبة الأحياء البرية وحماية الفن الصخري. ويتولى المُلاك التقليديون اتخاذ جميع القرارات بشأن كيفية تدبير هذه الأرض. وتعليقًا على ذلك، يقول أنسيل: "يضفي استخدام برنامج الحراس قيمة على المعارف التقليدية والارتباط بالأرض والتاريخ المحيط بها. والوجود في الريف والتفاعل مع هذه المعارف التقليدية والارتباط بالأرض، هو ما يحافظ على صلتها بمجتمعنا الحديث".

جلست مجموعة من تلاميذ المدارس القرفصاء على حصير منسوج ذي لون أزرق لامع تحت ظل نتوء صخري. كانت نظرات الاهتمام بادية على وجوههم المشرئبة إلى الأمام. كان وقت الصباح قد انتصف، وكانوا قد جاءوا على متن سيارة دفع رباعي سلكت بهم طريقًا موحلة من "كابولوارناميو" إلى "كوندجورلومدجورلوم"، حيث تم تخصيص "منطقة وارديكن المحمية للسكان الأصليين" في عام 2009. كانت تجلس قبالتهم على كرسي خفيف متهالك، "ماري كولكيوارا نجاميريك" -البالغة من العمر 89 عامًا- وهي من أصحاب المعارف التقليدية الكبار وزوجة الراحل، "لوفتي نجاميريك". وكانت على الجدران الصخرية صور مرسومة. فهي أحد مواقع الفن الصخري المقدر عددها بنحو 30 ألف موقع في هذه المنطقة المحمية. وعلى الرغم من أن نحو 50 طفلًا كانوا حتى وقت قريب يأتون ويذهبون من كابولوارناميو في كل عام، لم تكن هناك مدرسة في هذه المحطة الخارجية. وكان على الطلاب السفر مسافات طويلة أو العيش مع عوائلهم في مدن كبيرة بعيدة للاستفادة من التعليم. وفي عام 2015، قرر المجتمع المحلي استخدام الأموال من أرصدة الكربون لبناء مدرسته الخاصة. فتم استحداث "أكاديمية ناوارديكن" التي فتحت منذ ذلك الوقت مدارس في محطتين خارجيتين أخريين. وتقدم جميعها برنامجًا ثنائي الثقافة يعطي أهمية متكافئة لمعارف "البينينج" والمنهاج الدراسي الموحد. وبينما كانت الشمس ترتقي إلى عنان السماء، كانت كولكيوارا نجاميريك تتحدث إلى الطلاب بلغة "كونوينيجكو" حول الارتباط بالأراضي التقليدية للسكان الأصليين وأهمية الثقافة. وعندما أنهت حديثها، فردت ذراعيها لتحث الأطفال على النظر إلى الأعمال الفنية القديمة. فانتشروا في المكان وطفقوا يتسلقون الجدران الصخرية ويحنون رؤوسهم بسرعة ليتفادوا الحواف الناتئة. فهذا درس تاريخ في أفضل حالاته. "إننا نُعلّم القراءة والكتابة والحساب بصفة رسمية في الفصل الدراسي، لكننا نحاول أن نستمد كل شيء آخر من الطبيعة"، تقول "جودي فالاك"، كبيرة المدرسين في كابولوارناميو. وتستطرد قائلة إن اعتماد دروسها على الروابط بالأراضي التقليدية للسكان الأصليين يجعل الأطفال أكثر تحمسًا في الفصل الدراسي. فذلك، على حد قولها، "ما يضفي عليه خطابًا قويًا يجعل التعلم جديرًا بالاهتمام". من الصعب التقليل من أهمية هذه المدارس، كما تقول فالاك، وهي تراقب طلابها إذ يستكشفون ماضيهم. فقد أثار تزايد عدد السكان بفعل برامج حراس وارديكن الحاجة إلى المدارس، لكن المدارس هي الآن جزء مما يجتذب الناس للعودة إلى الأراضي التقليدية. ويأمل شيوخ المجتمع المحلي أن يتلقى هذا الجيل المعارف التقليدية والتعليم الحديث لإحداث فرص خاصة بهم في هذا المكان. فالأرض بحاجة لأبنائهم وأحفادهم ليتعهدوها بالرعاية اللازمة.

سَحَب تيرا غويمالا، مرتديًا زيًّا بلون كاكي، كرسيًا على السطح الخلفي لمحطة حراس مانمويي. وبدت نفحة من الدخان وهي تشق طريقها عبر أشجار البلقاء خماسية العروق وأشجار الكاذي لتتعالى في الأجواء. فخلال الأيام التي أعقبت حريق "أخدود ديف أدر"، اندلعت عدة حرائق أخرى في هذا الجانب من المنطقة المحمية للسكان الأصليين. وعلى الرغم من الاحتباس الحراري، فإن غويمالا يدرك أن عمله هنا يكتسي أهمية أكثر من أي وقت مضى؛ إذ يقول إن السكان الأصليين يعاينون تغير المناخ كل يوم. ثم يستفيض في الشرح قائلًا: "اعتدنا منذ الصبا التجولَ في الأنحاء ورؤية حشود كبيرة من الحيوانات، وكانت الأمطار تتساقط بغزارة. وكنا نرى أن كل شيء يحدث في وقته المناسب. لكن في هذه الأيام صار كل شيء في غيرِ حينه. فمن المفترض أن يكون موسم البرقوق الأخضر قد حل الآن، لكن أوان ذلك قد فات. لقد تأثر كل شيء.. أسلوب حياتنا، وموسم أطعمتنا، ومياهنا". هَشَّ غويمالا ذبابة كانت تحوم حوله في تهاد ونظر إلى الأجمة ثم قال: "إن السبب يعود إلى البشر لا إلى الطبيعة. فالطبيعة جميلة وبريئة". وتتوقع دراسات مناخية أن شمال أستراليا في أفق عام 2050 قد يَشهد زيادة سنوية في درجة الحرارة تصل إلى 2.5 درجة مئوية، وزيادة كبيرة في عدد الأيام التي تتجاوز حرارتها 35 درجة مئوية، ومواسم حرائق أطول، مع زيادة بنسبة 40 بالمئة في الأيام المعرضة لمخاطر فائقة لاندلاع الحرائق.
وعلى الرغم من هذه التوقعات القاتمة، فإن غويمالا يظل متفائلا بمستقبل أفضل. فقد أَسهم التاريخ والارتباط الروحي بعودة العديد من السكان الأصليين، ولكن فرص العمل المجدية والعائلة والتعليم هي ما سيحملهم على البقاء في هذا المكان. ويزداد لديه الاقتناع بأن عودتهم إلى أراضيهم التقليدية ستمكنهم من استعادة ما فقدوه. ويؤمن أيضًا بأن الحيوانات المحلية ستعود إلى أيدي "البينينج"، وبأن الجداول الجافة ستمتلئ من جديد، وبأن الفصول ستستأنف أنماطها المعتادة، بل ربما حتى أشجار "أنبينيك" العظيمة ستزهر من جديد. يقول غويمالا: "إذا احترمنا طبيعتنا الأم، فستنصت إلينا، وستعود إلى حالتها الطبيعية. وإنّا لموقنون بتحقق دلك. فكلما تحدثنا إلى الطبيعة، وأنشدنا للطبيعة.. كان ذلك مجديًا وتحقق المُراد".