منتزه قرم الجبيل.. رئة أبوظبي الخضراء

منتزه قرم الجبيل.. رئة أبوظبي الخضراء
غابة كثيفة من أشجار المنغروف توفر موئلًا للنبات والحيوان، وملاذًا ترفيهيًا للإنسان.

كان القمر بدرًا ينشر نورَه الوهّاج على أشجار المنغروف (القرم)، منعكسًا على صفحة المياه ليرسم لوحات تجريدية رقراقـة. هنالك كنتُ في "منتزه قرم الجبيل" بأبوظبي، متأمّلًا أُمتّعُ ناظري بمشاهد طبيعية خلّابة وسط أجواء تضجّ بأصوات الجداجد؛ وكأني دُعيت إلى أمسية موسيقية لا يكلّ العازفون فيها ولا يملّون. كان ذلك في شهر أبريل الماضي، إلا أن نسمات الهواء الباردة كانت تلامس وجهي وتنعش الأجواء وتلطفها. فمن المعتاد في هذه الفترة أن تبدأ درجات الحرارة بالارتفاع مصحوبة برطوبة خفيفة، لكن أجواء المنتزه كانت باردة؛ ويُعزى الفضل في ذلك إلى غابة المنغروف الشاسعة هذه التي تملأ أرجاءَه.   قَفلتُ عائدًا إلى بيتي، آملًا بالعودة في زيارة أخرى إلى هذا المنتزه، الذي يُوصف بأنه "الرئة الخضراء" لإمارة أبوظبي، حيث يمتد على مساحة تبلغ نحو ثلاثة ملايين متر مربع في جزيرة "الجبيل". وتُعَد هذه الأخيرة موئلًا مثاليًا لعدد كبير من النبات والوحيش والكائنات البحرية، وتتخذ فيها الطيور المهاجرة محطة استراحة خلال عبورها السنوي. ولذا فهي تؤدي دورًا بيئيًا مهمًا للغاية باحتضانها هذا المنتزه الطبيعي الذي يزخر بزُهاء أربعة ملايين شجرة منغروف.

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، بدأ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، مشروعه الرائد في تشجير إمارة أبوظبي. وقد أولى أشجار المنغروف أهميةً بالغة، إذ كان يعي أثرَها البيئي المستدام، وتحديدًا عند أطراف المدن وشواطئ الجزر. وسيرًا على النهج ذاته، غرست إدارة "منتزه قرم الجبيل"، منذ عام 2020، أكثر من 350 ألف شجرة منغروف، حسب قول "فواز شهاب الدين"، مدير فريق الحراس لدى المنتزه؛ لتُضاف إلى الأشجار القديمة التي يزيد تاريخ غرسها على أربعين عامًا. تُشكل أشجار المنغروف نعمة بيئية تغدق خيراتها على الطبيعة وسكانها. فهي تمتلك قدرة هائلة على تصفية 90 بالمئة من الأملاح الموجودة في المياه قبل أن تمتصها جذور النباتات، فضلًا عن امتصاصها كميات هائلة من ثاني أوكسيد الكربون واختزانه. كما تمثل هذه الأشجار جدار صَدٍّ منيع يقهر العواصف والأمواج العاتية وتحديدًا لدى سواحل المحيطات التي تتأثر باضطرابات المناخ. 

عُدتُ إلى المنتزه مرةً أخرى في وقت لاحق من الشهر ذاته؛ حيث كان الجو مثاليًا للقيام بنزهة في أحضان الطبيعة وتنشّق هواء عليل. وجدت فواز، ينتظرني لدى المدخل المؤدي إلى المسارات الخشبية للمنتزه، حيث وقف إلى جانب مجسَّم عملاق أصفر خُطّ عليه شعار "مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية" بإطارها الشهير. "قبل أن نبدأ مسيرنا، ألا تريد التقاط صورة تذكارية هنا"، سألني فواز بحماس؛ على أنه كان موقنًا بأني سأطلب إليه ذلك، مثلما يفعل جُلّ زوار المنتزه. كيف لا، والمشهد من خلفي لوحة طبيعية تسلب الألباب، تُزينها رقعة خضراء من المنغروف! ما إنْ يصعد المرء فوق المسار الخشبي ليبدأ مسيرته الاستكشافية للمنتزه، حتى يشعر بأنه في رحلة استجمام -بل حتى استشفاء- رائقة. فالمياه الفيروزية والأشجار الوارفة تحفّ المرءَ من بداية الممشى إلى نهايته.

يُعدّ "منتزه قرم الجبيل" الوجهةَ التعليمية والطبيعية والترفيهية الأولى من نوعها في أبوظبي، وينقسم إلى ست محطات رئيسة وأربع مناطق مخصصة لاستراحة زواره. وخلال رحلة المشي هذه، توقفت أولًا لدى "المنصة العائمة"، حيث الشبكة المربعة التي تتيح فرصة الاستلقاء فوقها ومشاهدة أسراب الأسماك الصغيرة والروبيان وهي تسبح جيئة وذهابًا. فيما تُبرز المحطة الثانية، واسمها "قوة البحر"، حركة مياه البحر عند المد والجزر، وكيف تُسهم أشجار المنغروف في حماية شواطئنا ومدننا الساحلية. وبينما كنا نشق طريقنا إلى محطتنا الثالثة، أشار دليلي فواز إلى سمكة "برعم" صغيرة تسبح بانسيابية في هذه المياه الشفافة؛ فما كان مني إلا أن سارعت إلى تتبع حركتها السريعة ومسارها. شرح لي فواز بإسهاب التكوين الفريد لجذور المنغروف المتشابكة وكيف يدعم بعضها بعضا مثل الأوردة، وكيف تستطيع هذه الشجرة "العتيدة" مقاومة التغيرات البيئية. بعد ذلك صعدنا إلى قمة "برج المراقبة"، وهو المحطة الرابعة، حيث بدا المشهد كصورة بانورامية رائعة، أتاحت لنا مشاهدة منظر عام للغابة الخضراء. ظللت أرقب من الأعلى، عند ارتفاع نحو 11 مترًا؛ ومن بعيد لاحت لي معالم جزيرة أبوظبي، والسعديات، والريم بأبراجها الشاهقة. ثم عرّجنا على منطقة "جامعو الملح"، حيث توجد أربع برك تتفاوت في مواضعها من حيث الارتفاع، تغمرها المياه أو تشح فيها حسب حالة المد. وتُقدم هذه البرك نموذجًا حقيقيًا بشأن كيفية استخلاص الملح البحري تبعًا للطرق التقليدية لدى بعض المجتمعات. أما في المحطة السادسة والأخيرة، "منصة الشاطئ"، فكان لابد من الجلوس لمواجهة مياه البحر وأشجار المنغروف الكثيفة في لحظة خلوة مع الطبيعة تتيح للمرء تصفية ذهنه وتعبئة رصيده من "الطاقة الإيجابية".

ودَّعتُ دليلي فواز وقفلت راجعًا إلى "برج المراقبة" مرة أخرى، كي لا أفوتّ لحظات الغروب ومشاهدة قرص الشمس بأشعته الحمراء والبرتقالية، وهي تنسل من وراء تلك الأبراج البعيدة. بُعيدَ ذلك طفق الليل يرخي سدوله معلنًا موعد مغادرتي المنتزهَ لأفسح المجال لكائناته الليلية كي تبدأ سمفونيتها المعهودة.

منتزه قرم الجبيل.. رئة أبوظبي الخضراء

منتزه قرم الجبيل.. رئة أبوظبي الخضراء
غابة كثيفة من أشجار المنغروف توفر موئلًا للنبات والحيوان، وملاذًا ترفيهيًا للإنسان.

كان القمر بدرًا ينشر نورَه الوهّاج على أشجار المنغروف (القرم)، منعكسًا على صفحة المياه ليرسم لوحات تجريدية رقراقـة. هنالك كنتُ في "منتزه قرم الجبيل" بأبوظبي، متأمّلًا أُمتّعُ ناظري بمشاهد طبيعية خلّابة وسط أجواء تضجّ بأصوات الجداجد؛ وكأني دُعيت إلى أمسية موسيقية لا يكلّ العازفون فيها ولا يملّون. كان ذلك في شهر أبريل الماضي، إلا أن نسمات الهواء الباردة كانت تلامس وجهي وتنعش الأجواء وتلطفها. فمن المعتاد في هذه الفترة أن تبدأ درجات الحرارة بالارتفاع مصحوبة برطوبة خفيفة، لكن أجواء المنتزه كانت باردة؛ ويُعزى الفضل في ذلك إلى غابة المنغروف الشاسعة هذه التي تملأ أرجاءَه.   قَفلتُ عائدًا إلى بيتي، آملًا بالعودة في زيارة أخرى إلى هذا المنتزه، الذي يُوصف بأنه "الرئة الخضراء" لإمارة أبوظبي، حيث يمتد على مساحة تبلغ نحو ثلاثة ملايين متر مربع في جزيرة "الجبيل". وتُعَد هذه الأخيرة موئلًا مثاليًا لعدد كبير من النبات والوحيش والكائنات البحرية، وتتخذ فيها الطيور المهاجرة محطة استراحة خلال عبورها السنوي. ولذا فهي تؤدي دورًا بيئيًا مهمًا للغاية باحتضانها هذا المنتزه الطبيعي الذي يزخر بزُهاء أربعة ملايين شجرة منغروف.

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، بدأ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، مشروعه الرائد في تشجير إمارة أبوظبي. وقد أولى أشجار المنغروف أهميةً بالغة، إذ كان يعي أثرَها البيئي المستدام، وتحديدًا عند أطراف المدن وشواطئ الجزر. وسيرًا على النهج ذاته، غرست إدارة "منتزه قرم الجبيل"، منذ عام 2020، أكثر من 350 ألف شجرة منغروف، حسب قول "فواز شهاب الدين"، مدير فريق الحراس لدى المنتزه؛ لتُضاف إلى الأشجار القديمة التي يزيد تاريخ غرسها على أربعين عامًا. تُشكل أشجار المنغروف نعمة بيئية تغدق خيراتها على الطبيعة وسكانها. فهي تمتلك قدرة هائلة على تصفية 90 بالمئة من الأملاح الموجودة في المياه قبل أن تمتصها جذور النباتات، فضلًا عن امتصاصها كميات هائلة من ثاني أوكسيد الكربون واختزانه. كما تمثل هذه الأشجار جدار صَدٍّ منيع يقهر العواصف والأمواج العاتية وتحديدًا لدى سواحل المحيطات التي تتأثر باضطرابات المناخ. 

عُدتُ إلى المنتزه مرةً أخرى في وقت لاحق من الشهر ذاته؛ حيث كان الجو مثاليًا للقيام بنزهة في أحضان الطبيعة وتنشّق هواء عليل. وجدت فواز، ينتظرني لدى المدخل المؤدي إلى المسارات الخشبية للمنتزه، حيث وقف إلى جانب مجسَّم عملاق أصفر خُطّ عليه شعار "مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية" بإطارها الشهير. "قبل أن نبدأ مسيرنا، ألا تريد التقاط صورة تذكارية هنا"، سألني فواز بحماس؛ على أنه كان موقنًا بأني سأطلب إليه ذلك، مثلما يفعل جُلّ زوار المنتزه. كيف لا، والمشهد من خلفي لوحة طبيعية تسلب الألباب، تُزينها رقعة خضراء من المنغروف! ما إنْ يصعد المرء فوق المسار الخشبي ليبدأ مسيرته الاستكشافية للمنتزه، حتى يشعر بأنه في رحلة استجمام -بل حتى استشفاء- رائقة. فالمياه الفيروزية والأشجار الوارفة تحفّ المرءَ من بداية الممشى إلى نهايته.

يُعدّ "منتزه قرم الجبيل" الوجهةَ التعليمية والطبيعية والترفيهية الأولى من نوعها في أبوظبي، وينقسم إلى ست محطات رئيسة وأربع مناطق مخصصة لاستراحة زواره. وخلال رحلة المشي هذه، توقفت أولًا لدى "المنصة العائمة"، حيث الشبكة المربعة التي تتيح فرصة الاستلقاء فوقها ومشاهدة أسراب الأسماك الصغيرة والروبيان وهي تسبح جيئة وذهابًا. فيما تُبرز المحطة الثانية، واسمها "قوة البحر"، حركة مياه البحر عند المد والجزر، وكيف تُسهم أشجار المنغروف في حماية شواطئنا ومدننا الساحلية. وبينما كنا نشق طريقنا إلى محطتنا الثالثة، أشار دليلي فواز إلى سمكة "برعم" صغيرة تسبح بانسيابية في هذه المياه الشفافة؛ فما كان مني إلا أن سارعت إلى تتبع حركتها السريعة ومسارها. شرح لي فواز بإسهاب التكوين الفريد لجذور المنغروف المتشابكة وكيف يدعم بعضها بعضا مثل الأوردة، وكيف تستطيع هذه الشجرة "العتيدة" مقاومة التغيرات البيئية. بعد ذلك صعدنا إلى قمة "برج المراقبة"، وهو المحطة الرابعة، حيث بدا المشهد كصورة بانورامية رائعة، أتاحت لنا مشاهدة منظر عام للغابة الخضراء. ظللت أرقب من الأعلى، عند ارتفاع نحو 11 مترًا؛ ومن بعيد لاحت لي معالم جزيرة أبوظبي، والسعديات، والريم بأبراجها الشاهقة. ثم عرّجنا على منطقة "جامعو الملح"، حيث توجد أربع برك تتفاوت في مواضعها من حيث الارتفاع، تغمرها المياه أو تشح فيها حسب حالة المد. وتُقدم هذه البرك نموذجًا حقيقيًا بشأن كيفية استخلاص الملح البحري تبعًا للطرق التقليدية لدى بعض المجتمعات. أما في المحطة السادسة والأخيرة، "منصة الشاطئ"، فكان لابد من الجلوس لمواجهة مياه البحر وأشجار المنغروف الكثيفة في لحظة خلوة مع الطبيعة تتيح للمرء تصفية ذهنه وتعبئة رصيده من "الطاقة الإيجابية".

ودَّعتُ دليلي فواز وقفلت راجعًا إلى "برج المراقبة" مرة أخرى، كي لا أفوتّ لحظات الغروب ومشاهدة قرص الشمس بأشعته الحمراء والبرتقالية، وهي تنسل من وراء تلك الأبراج البعيدة. بُعيدَ ذلك طفق الليل يرخي سدوله معلنًا موعد مغادرتي المنتزهَ لأفسح المجال لكائناته الليلية كي تبدأ سمفونيتها المعهودة.