مستقبل الغابات

الحر والجفاف يقتلان غاباتنا. لكن بإمكاننا الحد من الضرر.. إذا غيرنا المسار الآن.

أول ما يلاحظُ المرءُ في هذه الغابة المليئة بندوب الحرائق هو اللون. فمنذ زمن ليس ببعيد، كانت هذه القطعة من الأرض، الواقعة جنوب "منتزه يلوستون الوطني" بالولايات المتحدة، امتدادًا وحيد اللون من الرماد وأشجار الصنوبر المحترقة. لكن في صيف عام 2021، أضفت الشتلات ذات السيقان العالية وبراعم الحور "الرجراج" على الأرض لونًا أخضر نضرًا. ونبتت الأعشاب الأرجوانية وتوت "الجاموس" الأحمر القاني حوالي جذوع الأشجار المتفحمة. وتراقصت أزهار "الأرنيكا" الصفراء بفعل النسيم.
فبعد انقضاء خمسة أعوام على اندلاع حريق "بيري" عام 2016 وتدميره 84 كيلومترًا مربعًا من غابات ولاية وايومينغ، كانت هذه القطعة من الأرض المحروقة تتجاوب مع الحريق بالطريقة ذاتها التي ظلت تعتمدها غابات جبال "روكي" منذ آلاف السنين: الدخول في موسم الانبعاث والتجدد. هنالك كانت "مونيكا تورنر" تُنجز تصنيفًا يوثّق لهذا التعافي والتجدد. ففي يوم حار من شهر يوليو، تحركت تورنر، أستاذة علم البيئة لدى "جامعة ويسكنسون-ماديسون"، على طول شريط مَدَّته على الأرض بطول 50 مترًا. كانت بمَعيّة طالبة دراسات عليا تحصيان كل شتلة صنوبر "مُلتفّ" في نطاق متر واحد على كلا الجانبين. كنّا بعيدين بما يكفي عن الطرق المعبّدة، فلم يكن بمقدورنا معرفة مَن يَكمن متربّصًا مِن قاطني الغابة.. أيائل، غزلان، موظ أم ذئاب. كان الجو شديد الحَرّ حتى إني اعتقدت أن علبة رذاذ الدببة المثبَّتة على خصر تورنر قد تنفجر. عجّت المنطقة بكثير من الجذوع التي أبطأت حركة الباحثتين، فاستغرقتا ما يقرب من الساعة لقطع مسافة لا يلزمها في العادة غير ثوان. وفي النهاية أحصيَتا 2286 شجيرة في مساحة تبلغ 100 متر مربع. كان الهكتار الواحد من هذه البقعة ينتج 172 ألف شجرة صنوبر. قالت تورنر: "هذا ما تفعله أشجار الصنوبر المُلتفّ. إنها تعود في أحسن حال". مع ذلك، خلال اليوم السابق، في رقعة مجاورة من الأخشاب المحترقة، وثّقت تورنر لشيء مقلق. فبدلًا من وجود مَدّ منهمر من شتلات صنوبر جديدة، كانت الأرض مزيجًا من الزهور والأعشاب والتربة المتكتلة. كان ثمة حور رجراج، لكن كانت هناك أيضًا حشائش دخيلة وأعشاب حامضة. في مسار طوله 50 مترًا، لم تلاحظ تورنر سوى 16 شتيلة صنوبر، وفي مسار آخر رأت 9 فحسب. بالمحصلة، فإن هذه الرقعة كانت تنتج أقل من واحد على خمسين من شجيرات الصنوبر مقارنة بجارتها. لقد كانت بقعتا الغابة متشابهتين تقريبًا. قبل حريق "بيري"، احترقتا معًا خلال حقبة الحرب الأهلية. لكن أمرًا فرّق بينهما. فالموقع الذي كان يحوي عددًا أقل من أشجار الصنوبر احترق مرة أخرى، عام 2000. والأشجار التي نبتت بعد ذلك الحريق لم تنضج لتنتج ما يكفي من البذور قبل أن يُقضى عليها في عام 2016. في هذا المكان، بدلًا من إعادة غرس غابة صنوبر، قام حريق "بيري" بنحت الطبيعة لتشكيل شيء جديد، ربما سيدوم مئات أو آلاف السنين. وما يلوستون سوى جزء من منحى عالمي. فمن الأمازون إلى القطب الشمالي، تزداد حرائق الغابات حجمًا وسخونة وتكرارًا مع تغير المناخ. إذ تسببت حرائق الغابات في أستراليا عامي 2019 و2020 في القضاء على رقعة بمساحة ولاية فلوريدا؛ وهذا دمارٌ لا يُستهان به. ثم إنه عادةً ما يتم تجاهل ما يَحدث بعد نفوق الأشجار في خضم الكارثة؛ وهو أن كثيرًا من تلك الغابات يعاني اليوم من أجل التعافي.  وهذا ليس حكرًا على يلوستون، كما أنه لا ينجم عن الحرائق دائمًا.. بل هو نِتاج تغير المناخ. ففي العديد من الأماكن، لم تعد الغابات تتجدد من تلقاء نفسها. بدلًا من ذلك، فإن بعض أهم غابات العالم يتحول إلى شيء جديد. وبعضها لن يكون أبدًا كما كان من قبل. وبعضها قد لا يعود على الإطلاق.

منذ عام 1990، قمنا على الصعد العالمي بقطع غابات تغطي مساحات تفوق مساحات الغابات الموجودة في الولايات المتحدة.

إنه لَزمنٌ عصيب على لأشجار. إذ فقدَ الكوكب ثلث غاباته على مرّ 10 آلاف سنة الماضية.. ونصف هذه الخسائر حدث منذ عام 1900 فحسب. لقد قطعنا الأشجار طلبا للخشب. وأزلناها إفساحا للمجال أمام المزارع والماشية. وتخلصنا منها لبناء منازل وتعبيد طرق. على الصعيد العالمي، انخفضت نسبة إزالة الغابات مقارنة بالذروة المسجلة في ثمانينيات القرن الماضي، لكن التوجهات تختلف باختلاف المناطق. في إندونيسيا، حيث كانت الغابات تُزال من أجل مزارع نخيل الزيت، انخفضت نسبة خسارة الغابات منذ عام 2016. ومن أغسطس 2020 إلى يوليو 2021، فقدت منطقة الأمازون البرازيلية 13 ألف كيلومتر مربع من الغابات المطرية، أي بزيادة 22 بالمئة مقارنة بالعام السابق. منذ عام 1990، قطعنا من أشجار الغابات على مستوى العالم أكثر من الغابات الموجودة في الولايات المتحدة. 
والآن باتت انبعاثات الوقود الأحفوري من محطات الفحم وأنابيب العوادم تعيد ترتيب الغابات بطرق أخرى لا تقل خطورة. نظرا لأن ثاني أوكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى تسخن الكوكب، فإن بعض أنواع الأشجار -المقدَّر عددها بنحو 73 ألف- تتقدم نحو القطب ومنحدرات أخرى، آخذةً معها حياة أخرى. تنتشر نباتات الآلدر والصفصاف والبيرش القزم عبر "الدائرة القطبية"، من الدول الإسكندنافية إلى كندا، موفرةً غطاء وغذاء للأرانب البرية والموظ. تنمو الأشجار بوتيرة أسرع عندما تمتص فائض ثاني أوكسيد الكربون؛ وهو عنصر أساسي في عملية التمثيل الضوئي. إن هذا "الاخضرار" الذي شهده الكوكب حتى الآن أسهم في إبطاء التغير المناخي وحمايتنا ضد أنفسنا. لكن تغير المناخ يقتل الأشجار أيضا. وما يثير قلق علماء الغابات على نحو متزايد هو تسارع الأحداث الشديدة المتطرفة: الحرائق، والعواصف الهوجاء، وتفشي الآفات، وعلى الأخص الحرارة الشديدة والجفاف اللذين يمكنهما أن يؤديا إلى تفاقم كل ما سبق ذكره. يمكن لهذه الحلقات الفريدة وغير المسبوقة أن تُسبب، في كثير من الأحيان، نفوقًا جماعيا سريعا للأشجار، وتحويل الغابات التي عاشت منذ العصر الجليدي الأخير إلى أوضاع جديدة تمامًا. يقول "ويليام أنديريغ"، عالم الأحياء لدى "جامعة يوتاه": "لدينا مجموعة كاملة من الآليات التي تدفع غابات الأرض نحو نمو أكبر وامتصاص مزيد من ثاني أوكسيد الكربون". لكن تلك الآليات "تتعارض بالأساس مع الآليات التي تسحب غابات الأرض نحو الهاوية.. مع مزيد من نفوق الأشجار ومزيد من فقدان الكربون". إن الغابات التي سقطت في تلك الهاوية لا تشكل سوى جزء ضئيل من ثلاثة تريليونات شجرة أو أربعة مليارات هكتار من المساحة الغابوية على سطح الكوكب. وما يزال تغير المناخ يشكل تهديدا أقل للغابات مقارنة بقطع الأشجار وتمهيد الأراضي، لكن التهديد يتزايد بسرعة. وتعليقًا على ذلك، يتساءل "مات هانسن" من "جامعة ماريلاند"، والذي يراقب الغابات باستخدام الأقمار الصناعية، قائلًا: "كيف يصير حجم تلك النسبة مع مرور الوقت، ومتى ستطغى على الجزء الآخر؟". تكمن المشكلة في أننا لا نستطيع حتى الآن تحديد نطاق تأثيرات المناخ على مستوى الكوكب. تُظهر بيانات الأقمار الصناعية أن المساحة المغطاة بالأشجار على الكوكب امتدت بنسبة 7 بالمئة بين عامي 1982 و2016، أي ما يفوق مساحة بلد كالمكسيك. لكن ذلك لا يعني أن الغابات بخير حال: فالبيانات لا تميز بين الغابات الطبيعية ومزارع الأشجار الصناعية من قبيل ملايين أشجار نخيل الزيت والأوكاليبتوس والصنوبر التي تُغرس بوصفها محاصيـل بعد إزالة الغابات المطرية. كما أن البيانات لا تُظهر الغابات المفقودة بسبب المناشير السلسلية أو التي قضت عليها أحداث ذات صلة بالمناخ.  لا يوجد إلى حدود الساعة نموذج حاسوبي يستطيع التنبؤ بالكيفية التي سيغير بها المناخ الغابات على مستوى العالم؛ أو كيف ستتغذى مخازن كربونها على المناخ. يقول "تشارلي كوفن"، عالم المناخ في "مختبر لورانس بيركلي الوطني"،  الذي عمل مع "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ" التابعة لمنظمة "الأمم المتحدة": "لم تقدم نماذج نظام الأرض تاريخيًا عملًا جيدا في التقاط ذلك". فثمة نموذجان فقط، من بين 11 نموذجا، يضمان الحرائق والتحولات الجغرافية في ما يتعلق بالنباتات.  ليس العدد الإجمالي للأشجار الشيء الوحيد المهم. فتغير المناخ يعيد تشكيل الغابات محليًا بين عشية أو ضحاها تقريبا، بل وتحويلها حتى في البلدان التي اعتمدت سياسات لحمايتها. إن الأمر يَحدث بسرعة لا نستطيع معها رؤية العواقب. بينما نفقد أشجارًا من سائر الأنواع والأحجام، فإن الأكبر منها والأقدم هي التي تحتجز جُل الكربون، وهي بذلك مُهمة للتنوع الحيوي، وستكون الأصعب استردادًا. ويقول "نيت ستيفنسون"، العالم الفخري في "هيئة المسح الجيولوجي الأميركية": "الأشجار الكبيرة مهمة على نحو غير متناسب، ولا يمكن تعويضها بسرعة.. إنْ أمكن تعويضها أصلا". إن الأمر سيهمنا جميعا؛ فالبشر مرتبطون بالغابات، وتاريخنا متصل بالأشجار. لقد استعملناها لإضرام النار. وأتاح ظهور الورق -والمطبعة- ازدهار الأدب والعلم. إن الأشجار تغذينا وتؤوينا وتعطينا الدواء. إننا نعتمد عليها بطرق شتى قلّما نُقرّ بها، بوصفها موارد إعجاب وإلهام أو للتخلص من ضغوط عالم صاخب. من أفضل ملاذاتي، "غابة هوه المطرية" في شبه الجزيرة الأولمبية، على بعد أربع ساعات من منزلي في ولاية واشنطن. إنه مكان فيه سراخس متلألئة طويلة بما يكفي لإخفاء قطعان الأيائل، فيما تُحجَب السماء بالراتينجة القديمة وأوراق القيقب الكبيرة المكسوة بالطحالب الزمردية. إن ما يمكنك رؤيته في أمثال هذه الأماكن على قدر كاف من التعقيد، لكن البشر بدؤوا في تقدير مقدار ما يحدث بعيدا عن الأنظار. إن الأشجار في الغابة ليست منعزلة، بل تتشارك العناصر الغذائية والبيانات عبر الأنواع في شبكات فطرية تحت الأرض. إنها تتحدث إلى بعضها بعضا، وتمرر رسائل كيميائية، وتحذر من غزو الآفات وغيرها من الأخطار. إن الغابات القديمة تعاضدية تكافلية، وفق ما أخبرتني "كورينا مافون"، زميلة أبحاث ما بعد الدكتوراه في "جامعة واشنطن"، ونحن نتجول في غابة "هوه" قبل زمن ليس ببعيد. تَشك هذه الباحثة في وجود نسخة مصغرة من هذه الشبكة الفطرية على الأغصان العالية. فلقد وجدت تربة تحت الطحالب تنمو في الأغصان، مع أشجار صغيرة تنبت من الفروع الحية للأشجار الكبيرة القديمة.. "غابة صغيرة داخل الغابة"، على حد تعبيرها. وتشعر مافون بالقلق لكون هذا المكان القديم، الأكثر ثراء من مزرعة أشجار، قد يتغير بسرعة إذا استمرت موجة جفاف حارة فترة أطول. إن ذوبان ثلوج ألاسكا في وقت مبكر يحرم أشجار الأرز الصفراء من غطائها الدافئ، مما يجعل البرد يجمّد جذورها ويقتلها بالآلاف. وتسببت الحرارة والجفاف الناجمان عن تغير المناخ في قتل ما يصل إلى 20 بالمئة من أشجار منطقة الساحل في إفريقيا وجنوب غرب المغرب وغرب الولايات المتحدة منذ عام 1945، وذلك وفقا لأحدث تقرير أصدرته "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ". ومنذ عام 2000، تراجعت على نحو ملحوظ خمسة من بين ثمانية أنواع من الأشجار الأوفر في الغرب الأميركي، ويعزى جل ذلك إلى الحرائق وتفشي الحشرات. وتتصدر أشجار الصنوبر الملتفّ القائمة. يقول "كريغ ألين"، عالم البيئة وأحد المتعاونين مع مونيكا تورنر، بعدما تقاعد عام 2021 من "هيئة المسح الجيولوجي الأميركية": "إن الغابات أضعف في عصر تغير المناخ أكثر مما يعتقد الناس". وما فتئ العالِمُ يحاول تنبيه الناس إلى هذا الخطر منذ عقدين من الزمن.

مستقبل الغابات

الحر والجفاف يقتلان غاباتنا. لكن بإمكاننا الحد من الضرر.. إذا غيرنا المسار الآن.

أول ما يلاحظُ المرءُ في هذه الغابة المليئة بندوب الحرائق هو اللون. فمنذ زمن ليس ببعيد، كانت هذه القطعة من الأرض، الواقعة جنوب "منتزه يلوستون الوطني" بالولايات المتحدة، امتدادًا وحيد اللون من الرماد وأشجار الصنوبر المحترقة. لكن في صيف عام 2021، أضفت الشتلات ذات السيقان العالية وبراعم الحور "الرجراج" على الأرض لونًا أخضر نضرًا. ونبتت الأعشاب الأرجوانية وتوت "الجاموس" الأحمر القاني حوالي جذوع الأشجار المتفحمة. وتراقصت أزهار "الأرنيكا" الصفراء بفعل النسيم.
فبعد انقضاء خمسة أعوام على اندلاع حريق "بيري" عام 2016 وتدميره 84 كيلومترًا مربعًا من غابات ولاية وايومينغ، كانت هذه القطعة من الأرض المحروقة تتجاوب مع الحريق بالطريقة ذاتها التي ظلت تعتمدها غابات جبال "روكي" منذ آلاف السنين: الدخول في موسم الانبعاث والتجدد. هنالك كانت "مونيكا تورنر" تُنجز تصنيفًا يوثّق لهذا التعافي والتجدد. ففي يوم حار من شهر يوليو، تحركت تورنر، أستاذة علم البيئة لدى "جامعة ويسكنسون-ماديسون"، على طول شريط مَدَّته على الأرض بطول 50 مترًا. كانت بمَعيّة طالبة دراسات عليا تحصيان كل شتلة صنوبر "مُلتفّ" في نطاق متر واحد على كلا الجانبين. كنّا بعيدين بما يكفي عن الطرق المعبّدة، فلم يكن بمقدورنا معرفة مَن يَكمن متربّصًا مِن قاطني الغابة.. أيائل، غزلان، موظ أم ذئاب. كان الجو شديد الحَرّ حتى إني اعتقدت أن علبة رذاذ الدببة المثبَّتة على خصر تورنر قد تنفجر. عجّت المنطقة بكثير من الجذوع التي أبطأت حركة الباحثتين، فاستغرقتا ما يقرب من الساعة لقطع مسافة لا يلزمها في العادة غير ثوان. وفي النهاية أحصيَتا 2286 شجيرة في مساحة تبلغ 100 متر مربع. كان الهكتار الواحد من هذه البقعة ينتج 172 ألف شجرة صنوبر. قالت تورنر: "هذا ما تفعله أشجار الصنوبر المُلتفّ. إنها تعود في أحسن حال". مع ذلك، خلال اليوم السابق، في رقعة مجاورة من الأخشاب المحترقة، وثّقت تورنر لشيء مقلق. فبدلًا من وجود مَدّ منهمر من شتلات صنوبر جديدة، كانت الأرض مزيجًا من الزهور والأعشاب والتربة المتكتلة. كان ثمة حور رجراج، لكن كانت هناك أيضًا حشائش دخيلة وأعشاب حامضة. في مسار طوله 50 مترًا، لم تلاحظ تورنر سوى 16 شتيلة صنوبر، وفي مسار آخر رأت 9 فحسب. بالمحصلة، فإن هذه الرقعة كانت تنتج أقل من واحد على خمسين من شجيرات الصنوبر مقارنة بجارتها. لقد كانت بقعتا الغابة متشابهتين تقريبًا. قبل حريق "بيري"، احترقتا معًا خلال حقبة الحرب الأهلية. لكن أمرًا فرّق بينهما. فالموقع الذي كان يحوي عددًا أقل من أشجار الصنوبر احترق مرة أخرى، عام 2000. والأشجار التي نبتت بعد ذلك الحريق لم تنضج لتنتج ما يكفي من البذور قبل أن يُقضى عليها في عام 2016. في هذا المكان، بدلًا من إعادة غرس غابة صنوبر، قام حريق "بيري" بنحت الطبيعة لتشكيل شيء جديد، ربما سيدوم مئات أو آلاف السنين. وما يلوستون سوى جزء من منحى عالمي. فمن الأمازون إلى القطب الشمالي، تزداد حرائق الغابات حجمًا وسخونة وتكرارًا مع تغير المناخ. إذ تسببت حرائق الغابات في أستراليا عامي 2019 و2020 في القضاء على رقعة بمساحة ولاية فلوريدا؛ وهذا دمارٌ لا يُستهان به. ثم إنه عادةً ما يتم تجاهل ما يَحدث بعد نفوق الأشجار في خضم الكارثة؛ وهو أن كثيرًا من تلك الغابات يعاني اليوم من أجل التعافي.  وهذا ليس حكرًا على يلوستون، كما أنه لا ينجم عن الحرائق دائمًا.. بل هو نِتاج تغير المناخ. ففي العديد من الأماكن، لم تعد الغابات تتجدد من تلقاء نفسها. بدلًا من ذلك، فإن بعض أهم غابات العالم يتحول إلى شيء جديد. وبعضها لن يكون أبدًا كما كان من قبل. وبعضها قد لا يعود على الإطلاق.

منذ عام 1990، قمنا على الصعد العالمي بقطع غابات تغطي مساحات تفوق مساحات الغابات الموجودة في الولايات المتحدة.

إنه لَزمنٌ عصيب على لأشجار. إذ فقدَ الكوكب ثلث غاباته على مرّ 10 آلاف سنة الماضية.. ونصف هذه الخسائر حدث منذ عام 1900 فحسب. لقد قطعنا الأشجار طلبا للخشب. وأزلناها إفساحا للمجال أمام المزارع والماشية. وتخلصنا منها لبناء منازل وتعبيد طرق. على الصعيد العالمي، انخفضت نسبة إزالة الغابات مقارنة بالذروة المسجلة في ثمانينيات القرن الماضي، لكن التوجهات تختلف باختلاف المناطق. في إندونيسيا، حيث كانت الغابات تُزال من أجل مزارع نخيل الزيت، انخفضت نسبة خسارة الغابات منذ عام 2016. ومن أغسطس 2020 إلى يوليو 2021، فقدت منطقة الأمازون البرازيلية 13 ألف كيلومتر مربع من الغابات المطرية، أي بزيادة 22 بالمئة مقارنة بالعام السابق. منذ عام 1990، قطعنا من أشجار الغابات على مستوى العالم أكثر من الغابات الموجودة في الولايات المتحدة. 
والآن باتت انبعاثات الوقود الأحفوري من محطات الفحم وأنابيب العوادم تعيد ترتيب الغابات بطرق أخرى لا تقل خطورة. نظرا لأن ثاني أوكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى تسخن الكوكب، فإن بعض أنواع الأشجار -المقدَّر عددها بنحو 73 ألف- تتقدم نحو القطب ومنحدرات أخرى، آخذةً معها حياة أخرى. تنتشر نباتات الآلدر والصفصاف والبيرش القزم عبر "الدائرة القطبية"، من الدول الإسكندنافية إلى كندا، موفرةً غطاء وغذاء للأرانب البرية والموظ. تنمو الأشجار بوتيرة أسرع عندما تمتص فائض ثاني أوكسيد الكربون؛ وهو عنصر أساسي في عملية التمثيل الضوئي. إن هذا "الاخضرار" الذي شهده الكوكب حتى الآن أسهم في إبطاء التغير المناخي وحمايتنا ضد أنفسنا. لكن تغير المناخ يقتل الأشجار أيضا. وما يثير قلق علماء الغابات على نحو متزايد هو تسارع الأحداث الشديدة المتطرفة: الحرائق، والعواصف الهوجاء، وتفشي الآفات، وعلى الأخص الحرارة الشديدة والجفاف اللذين يمكنهما أن يؤديا إلى تفاقم كل ما سبق ذكره. يمكن لهذه الحلقات الفريدة وغير المسبوقة أن تُسبب، في كثير من الأحيان، نفوقًا جماعيا سريعا للأشجار، وتحويل الغابات التي عاشت منذ العصر الجليدي الأخير إلى أوضاع جديدة تمامًا. يقول "ويليام أنديريغ"، عالم الأحياء لدى "جامعة يوتاه": "لدينا مجموعة كاملة من الآليات التي تدفع غابات الأرض نحو نمو أكبر وامتصاص مزيد من ثاني أوكسيد الكربون". لكن تلك الآليات "تتعارض بالأساس مع الآليات التي تسحب غابات الأرض نحو الهاوية.. مع مزيد من نفوق الأشجار ومزيد من فقدان الكربون". إن الغابات التي سقطت في تلك الهاوية لا تشكل سوى جزء ضئيل من ثلاثة تريليونات شجرة أو أربعة مليارات هكتار من المساحة الغابوية على سطح الكوكب. وما يزال تغير المناخ يشكل تهديدا أقل للغابات مقارنة بقطع الأشجار وتمهيد الأراضي، لكن التهديد يتزايد بسرعة. وتعليقًا على ذلك، يتساءل "مات هانسن" من "جامعة ماريلاند"، والذي يراقب الغابات باستخدام الأقمار الصناعية، قائلًا: "كيف يصير حجم تلك النسبة مع مرور الوقت، ومتى ستطغى على الجزء الآخر؟". تكمن المشكلة في أننا لا نستطيع حتى الآن تحديد نطاق تأثيرات المناخ على مستوى الكوكب. تُظهر بيانات الأقمار الصناعية أن المساحة المغطاة بالأشجار على الكوكب امتدت بنسبة 7 بالمئة بين عامي 1982 و2016، أي ما يفوق مساحة بلد كالمكسيك. لكن ذلك لا يعني أن الغابات بخير حال: فالبيانات لا تميز بين الغابات الطبيعية ومزارع الأشجار الصناعية من قبيل ملايين أشجار نخيل الزيت والأوكاليبتوس والصنوبر التي تُغرس بوصفها محاصيـل بعد إزالة الغابات المطرية. كما أن البيانات لا تُظهر الغابات المفقودة بسبب المناشير السلسلية أو التي قضت عليها أحداث ذات صلة بالمناخ.  لا يوجد إلى حدود الساعة نموذج حاسوبي يستطيع التنبؤ بالكيفية التي سيغير بها المناخ الغابات على مستوى العالم؛ أو كيف ستتغذى مخازن كربونها على المناخ. يقول "تشارلي كوفن"، عالم المناخ في "مختبر لورانس بيركلي الوطني"،  الذي عمل مع "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ" التابعة لمنظمة "الأمم المتحدة": "لم تقدم نماذج نظام الأرض تاريخيًا عملًا جيدا في التقاط ذلك". فثمة نموذجان فقط، من بين 11 نموذجا، يضمان الحرائق والتحولات الجغرافية في ما يتعلق بالنباتات.  ليس العدد الإجمالي للأشجار الشيء الوحيد المهم. فتغير المناخ يعيد تشكيل الغابات محليًا بين عشية أو ضحاها تقريبا، بل وتحويلها حتى في البلدان التي اعتمدت سياسات لحمايتها. إن الأمر يَحدث بسرعة لا نستطيع معها رؤية العواقب. بينما نفقد أشجارًا من سائر الأنواع والأحجام، فإن الأكبر منها والأقدم هي التي تحتجز جُل الكربون، وهي بذلك مُهمة للتنوع الحيوي، وستكون الأصعب استردادًا. ويقول "نيت ستيفنسون"، العالم الفخري في "هيئة المسح الجيولوجي الأميركية": "الأشجار الكبيرة مهمة على نحو غير متناسب، ولا يمكن تعويضها بسرعة.. إنْ أمكن تعويضها أصلا". إن الأمر سيهمنا جميعا؛ فالبشر مرتبطون بالغابات، وتاريخنا متصل بالأشجار. لقد استعملناها لإضرام النار. وأتاح ظهور الورق -والمطبعة- ازدهار الأدب والعلم. إن الأشجار تغذينا وتؤوينا وتعطينا الدواء. إننا نعتمد عليها بطرق شتى قلّما نُقرّ بها، بوصفها موارد إعجاب وإلهام أو للتخلص من ضغوط عالم صاخب. من أفضل ملاذاتي، "غابة هوه المطرية" في شبه الجزيرة الأولمبية، على بعد أربع ساعات من منزلي في ولاية واشنطن. إنه مكان فيه سراخس متلألئة طويلة بما يكفي لإخفاء قطعان الأيائل، فيما تُحجَب السماء بالراتينجة القديمة وأوراق القيقب الكبيرة المكسوة بالطحالب الزمردية. إن ما يمكنك رؤيته في أمثال هذه الأماكن على قدر كاف من التعقيد، لكن البشر بدؤوا في تقدير مقدار ما يحدث بعيدا عن الأنظار. إن الأشجار في الغابة ليست منعزلة، بل تتشارك العناصر الغذائية والبيانات عبر الأنواع في شبكات فطرية تحت الأرض. إنها تتحدث إلى بعضها بعضا، وتمرر رسائل كيميائية، وتحذر من غزو الآفات وغيرها من الأخطار. إن الغابات القديمة تعاضدية تكافلية، وفق ما أخبرتني "كورينا مافون"، زميلة أبحاث ما بعد الدكتوراه في "جامعة واشنطن"، ونحن نتجول في غابة "هوه" قبل زمن ليس ببعيد. تَشك هذه الباحثة في وجود نسخة مصغرة من هذه الشبكة الفطرية على الأغصان العالية. فلقد وجدت تربة تحت الطحالب تنمو في الأغصان، مع أشجار صغيرة تنبت من الفروع الحية للأشجار الكبيرة القديمة.. "غابة صغيرة داخل الغابة"، على حد تعبيرها. وتشعر مافون بالقلق لكون هذا المكان القديم، الأكثر ثراء من مزرعة أشجار، قد يتغير بسرعة إذا استمرت موجة جفاف حارة فترة أطول. إن ذوبان ثلوج ألاسكا في وقت مبكر يحرم أشجار الأرز الصفراء من غطائها الدافئ، مما يجعل البرد يجمّد جذورها ويقتلها بالآلاف. وتسببت الحرارة والجفاف الناجمان عن تغير المناخ في قتل ما يصل إلى 20 بالمئة من أشجار منطقة الساحل في إفريقيا وجنوب غرب المغرب وغرب الولايات المتحدة منذ عام 1945، وذلك وفقا لأحدث تقرير أصدرته "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ". ومنذ عام 2000، تراجعت على نحو ملحوظ خمسة من بين ثمانية أنواع من الأشجار الأوفر في الغرب الأميركي، ويعزى جل ذلك إلى الحرائق وتفشي الحشرات. وتتصدر أشجار الصنوبر الملتفّ القائمة. يقول "كريغ ألين"، عالم البيئة وأحد المتعاونين مع مونيكا تورنر، بعدما تقاعد عام 2021 من "هيئة المسح الجيولوجي الأميركية": "إن الغابات أضعف في عصر تغير المناخ أكثر مما يعتقد الناس". وما فتئ العالِمُ يحاول تنبيه الناس إلى هذا الخطر منذ عقدين من الزمن.