طيـف فـي الغابـة

إنها شجرة دائمة الخضرة لكن لونها أبيض. تعيش متطفلة على الغابة وتبدو وسط الأشجار كشبح هائم. تلكم شجرة السيكويا "المهقاء".. أعجوبة وراثية يلفها الغموض.

على طرف وادٍ شديد الانحدار، يلوح طيف في الظلام كشبح في غابة أشجار السيكويا هذه، وسط مكان ما في مقاطعة سانتا كروز بكاليفورنيا. سرنا منحدرين إلى سفح الوادي حيث المجرى المائي، لنجد أنفسنا بين أكوام إسفنجية من الأوراق الإبرية المطروحة، والسراخس، والبلوط السام؛ ثم صعدنا جانب المنحدر الآخر. صاحت بومة "قرناء" كبيرة مرة، ثم مرتين، ثم ثلاث مرات. فلقد بدأ ضوء الفجر للتو في مداعبة قمم الأشجار، ولكن هنا تحت ظلة الغابة، كانت الأجواء لا تزال توحي بشفق بارد.
على بعد أمتار قليلة، لاحت لنا الشجرة البيضاء المذهلة كطيف مخلوق خرافي من عالم آخر، كانت قمتها ترتفع فوق رؤوسنا. إنها شجرة سيكويا مهقاء. وهي لغز يكاد يستحيل وجوده بيولوجيًا.. بل هي كائن لم يكن له أن يخرج إلى حيز الوجود. يقول طالب الدراسات العليا، "زين مور"، الذي يَدرس جينومات أشجار السيكويا في "جامعة كاليفورنيا": "أعتقد أن عمر هذا الشيء قد يصل إلى مئة عام أو أكثر". ويضيف بالقول "إنها واحدة من أطول الأشجار في المقاطعة". وبدلًا من أن تكون شجرة دائمة الخضرة، يصطبغ لونها بالبياض على الدوام، وأوراقها الإبرية ناعمة وشمعية. عادةً ما تعتاش شجرة السيكويا دائمة الخضرة، والتي تعرف باسم (Sequoia sempervirens)، على ضوء الشمس الذي تحوّله إلى غذاء، لكن هذه الشجرة المهقاء تفتقد إلى مكون حاسم في الآلية الخلوية الأساسية التي تحتاج إليها هذه الأشجار لتغذية نفسها. وبديلها الآخر هو التغلغل في نظام جذور الأشجار الأم ذات الصبغة الخضراء لسرقة السكريات والمغذيات. وعلى الرغم من ندرة شجرة السيكويا المهقاء على الأرض، إلا أنها تنمو بصورة طبيعية داخل نطاق غابات السيكويا الساحلية التي يلفها الضباب الكثيف. وهي كذلك لغز علمي، إذ أن هذه الأشجار المتحولة تستطيع، على نحو ما، البقاء على قيد الحياة، حتى عندما تتخلى الأشجار الأم عن البراعم الأخرى التي قد تحظى بفرصة أكبر للنمو. بعض هذه الأشجار المهقاء طويل مثل الشجرة التي نزورها، لكن معظمها أقصر، مع شجيرات أكثر. ونبت البعض الآخر من هذه الأشجار عاليًا في الأشجار الأم. وقد يوجد 50 أو نحو ذلك من الأنسجة الوراثية ذات اللونين الأبيض والأخضر بصورة طبيعية، وهي أنسجة حية تحظى بمجموعتين متميزتين من التعليمات الوراثية. ويحب السكان إحدى هذه الأشجار، التي كانت تنمو بالقرب من طريق مختصر في مقاطعة "سونوما"، إلى درجة أنه عندما هدد عمال بناء السكك الحديدية بقطعها في عام 2014، أصر السكان المحليون على أن تقوم الشركة بالحفر لنقل الشجرة وتحميلها على شاحنة لغرسها في مكان آخر. ظهرت هذه الأشجار أول مرة ضمن منشورات تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأ المستوطنون في ملاحظة أوراق الشجر المبيَضة الغريبة. منذ ذلك الحين، ومع استثناءات قليلة، حظيت مواقع الأشجار المهقاء بحراسة مشددة لحمايتها ضد صائدي الأشجار النادرة الذين يقطعونها للحصول على قطع تزيين يتفاخرون بها، أو مثل أولئك الذين زينوا دار الأوبرا ذات مرة بأغصان هذه الأشجار الثلجية.

إن شجرة السيكويا المهقاء الشاهقة التي زرنا فجرًا معروفة منذ سبعينيات القرن الماضي، كما يقول مور، وهو الآن أحد الخبراء العالميين في هذه الأشجار. ويعمل مور مع زميل له على حفظ خريطة لأشجار السيكويا المهقاء، وهي دليل متجدد لما يقرب من 630 شجرة سيكويا مهقاء معروفة تنمو بين جنوب ولاية أوريغون ووسط ولاية كاليفورنيا. وظل متحمسون يغرسون بعضًا من هذه الأشجار. أما الأشجار الأخرى، التي قد يصل عددها إلى مئة أو نحو ذلك، فقد عثر عليها مور مصادفة، ومنها شجرة لمحها أثناء تعطله في ازدحام مروري على طريق شاطئي سريع سيء السمعة في كاليفورنيا. غير أنه وكما يقول، يتابع هذه الأشجار في الغالب بناءً على تقارير تاريخية أو إخباريات من السكان المحليين: "إنها كرحلة للبحث عن الكنز"، على حد تعبيره.
في وقت لاحق من ذلك اليوم، رافقني مور لأرى أول شجرة سيكويا مهقاء وجدها على الإطلاق. تعيش هذه الشجرة في "منتزه هنري كويل"، حيث يسمح مسار التنزه الحلقي للزوار بتجربة مشاعر العظمة والهيبة التي تتملكهم عند رؤية هذا الكم من أشجار السيكويا القديمة. 
وتهيمن هذه الأشجار على المناظر الطبيعية وتضفي مشهدًا شبه بدائي على الغابة. وعلى النقيض من ذلك، كانت أول شجرة سيكويا مهقاء عثر عليها مور، هي شجرة بطول البشر تقريبًا تندمج فيها الفروع البنية والبيضاء، وقد اندست في بستان غير مميز بالقرب من خطوط السكك الحديدية في المنتزه. وجدها مور عام 2010 بعد أن شاهد فيلمًا وثائقيًا عن هذه الأشجار المهقاء وقرر الذهاب لرؤيتها بنفسه. يتذكر مور ذلك بقوله: "وفي الوقت ذاته تقريبًا، أدركت أنه يمكنني العمل في علم النبات بصفته مصدر دخل؟ كما تعلمين، أنا أحب النباتات حقًا". كل شيء عن أشجار السيكويا المهقاء مشوب بالغموض. كيف تستطيع هذه الأشجار البقاء على قيد الحياة؟ بل كيف تبدو أحيانًا وكأنها تزدهر وتنمو؟ ماذا عن وظائف أعضائها؟ أو تشريحها؟ أو الطفرات التي تجعل لونها أبيض باهتًا. فحتى الأدبيات العلمية التي تصف هذه الأشجار قليلة. وفي الآونة الأخيرة، سعى العلماء للبحث عن الطفرات المسببة للمهق غير أن هذه المساعي أحبطت بسبب جينوم أشجار السيكويا المهقاء نفسه؛ وهو تجميع ضخم متسلسل مكون من 26.5 مليار زوج قاعدي موزعة على ستة أزواج من 11 كروموسومًا. (لدى البشر -على سبيل المقارنة- لديهم ثلاثة مليارات زوج أساسي و23 زوجًا من الكروموسومات).
يعرف الباحثون فعلًا أنه بالإضافة إلى افتقار هذه الأشجار لآليات التمثيل الضوئي، فإنها لا تتحكم تقريبًا في فقدانها للماء من خلال الفتحات الصغيرة في أوراقها، وهذا الأمر يحدث بسرعة أكبر في درجات الحرارة المرتفعة. بل إن خشب أشجار السيكويا المهقاء أضعف من الأشجار ذات الصبغة الخضراء، وربما يرجع ذلك لعدم قدرتها على إنتاج مركب يسمى "اللجنين" بسهولة، وهو مهم لبناء جدران الخلايا. وتقول عالمة الفسيولوجيا البيئية، "جارميلا بيترمان" من "جامعة كاليفورنيا"، والتي عملت على دراسة فقدان المياه: "إنه عمل شاق مع هذه النباتات طويلة العمر. إنني مفتونة أيضًا بحقيقة وجود الكثير منها هنا" في مقاطعة سانتا كروز.
في عام 2016، اكتشف مور أن بعض أشجار السيكويا المهقاء تحتوي على مستويات أعلى بكثير من الكادميوم والنيكل والنحاس، مقارنة بالأشجار الأم الخضراء؛ وتصل هذه المستويات إلى 11 ضعف الكمية اللازمة لإتلاف النبات. وتساءل مور عما إذا كانت هذه الأشجار المهقاء تعزل تلك المعادن الثقيلة لتستفيد الأشجار الأم بطريقة ما؛ ويشتبه الباحثون أن هذا الأمر من ناحية أخرى قد يوقف الإمداد الغذائي للأشجار المهقاء. وحتى الآن، لا يوجد إجماع بين العلماء حول ما يحدث. وفي تطور حديث الآن، بات الباحثون في "جامعة برينستون" الذين يدرسون كيفية انتقال ذرات الكربون والهيدروجين عبر المسارات الأيضية للأشجار، يستخدمون السيكويا المهقاء ربما لإعادة بناء الظروف البيئية القديمة على نحو أفضل. غالبًا ما يقول الناس إن أشجار السيكويا المهقاء لا تدوم طويلًا.. كأشباح تتجسد وتختفي، أو أطياف تختبئ على مرأى من الجميع. ولكن في عالم غابات السيكويا في كاليفورنيا، فإن البشر هم الأطياف العابرة سريعًا. في "منتزه هنري كويل بارك"، ظهر جذع معروض بشكل احتفالي من شجرة نبتت في غابة كاليفورنيا قبل قرنين من ولادة المسيحية. وأقدم شجرة في المنتزه تمتص ضوء الشمس منذ أكثر من ألف عام.
ومع ذلك، حتى أشجار السيكويا المهقاء التي يفترض أنها ضعيفة تعيش مدة أطول من البشر. أراني مور إحدى هذه الأشجار التي تنمو بالقرب من مسارات السكك الحديدية في المنتزه والتي ظهرت أيضًا في صورة فوتوغرافية تعود إلى عام 1877: شجيرة لامعة تنبت بلا مبالاة إلى جوار قضيب السكة المعقوف. وقد أخبرني أنه على بعد كيلومترات قليلة، توجد شجرة ضخمة تم وصفها أول مرة في عام 1912. يقول عنها مور: "تم قطعها بالكامل في السبعينيات، لكنها لا تزال تنمو مرة أخرى". واستطرد قائلًا: "هل تريدين رؤية شجرة مهقاء مذهلة؟ هذه هي. تغطي مساحتها زهاء 68 مترًا مربعًا، ويبلغ طولها نحو أربعة أمتار ونصف المتر، وربما ستة أمتار في المتوسط، هذه الكتلة الكبيرة من اللون الأبيض فحسب. إنها حقًا شيء مختلف". وبالطبع ذهبنا لرؤيتها. تنمو هذه الشجرة بشكل عرضي بين منزلين، وهي تجمع هائج من الفروع اللبنية التي تتشعب في كل اتجاه -غابة كبيرة لدرجة قد تضيع فيها- نمت مجددًا في غضون 50 عامًا فقط. الآن، كل تهديد لأشجار السيكويا يمثل أيضًا تهديدًا لأشجار السيكويا المهقاء، كما تقول بيترمان، لأن "نشاطها يتأثر بصحة الشجرة الأم". لكن إعادة نمو هذه الشجرة التي سويت بالأرض هي الظاهرة نفسها التي لوحظت بعد حرائق الغابات، حيث تكون البراعم البيضاء غالبًا من بين الأسرع نموًا وسط الطبيعة التي تضررت من ألسنة الحرائق. إذ تقول بيترمان: "إنه لأمر مدهش، أليس كذلك؟".

نشأتُ في أحضان بستان من أشجار السيكويا القديمة، وهو مكان أشعر أنه يزداد قيمة كل يوم. ومع ذلك، فقد استغرقني الأمر ما يقرب من 25 عامًا لاكتشاف مجموعة كثيفة من براعم أشجار السيكويا المهقاء، إذ كنت أتجول في طريق كنت أسلكه في طفولتي: اتخذت هيأة سحابة من الأوراق الشوكية البيضاء بحجم شاحنة صغيرة. وعلى غرار معظم الناس، كنت أتخلف عنها عدة مرات، غافلةً عن ألوانها المذهلة أو ربما كنت أتجاهلها بوصفها خدعة بصرية من ضوء الشمس. حتى يومنا هذا، تزدهر هذه الشجرة التي تعد تجسيدًا لكل ما هو غريب ومتفرد وغير محتمل الحدوث.. على أنني لن أستطيع أن أقول أين يحدث ذلك الازدهار تحديدًا.

طيـف فـي الغابـة

إنها شجرة دائمة الخضرة لكن لونها أبيض. تعيش متطفلة على الغابة وتبدو وسط الأشجار كشبح هائم. تلكم شجرة السيكويا "المهقاء".. أعجوبة وراثية يلفها الغموض.

على طرف وادٍ شديد الانحدار، يلوح طيف في الظلام كشبح في غابة أشجار السيكويا هذه، وسط مكان ما في مقاطعة سانتا كروز بكاليفورنيا. سرنا منحدرين إلى سفح الوادي حيث المجرى المائي، لنجد أنفسنا بين أكوام إسفنجية من الأوراق الإبرية المطروحة، والسراخس، والبلوط السام؛ ثم صعدنا جانب المنحدر الآخر. صاحت بومة "قرناء" كبيرة مرة، ثم مرتين، ثم ثلاث مرات. فلقد بدأ ضوء الفجر للتو في مداعبة قمم الأشجار، ولكن هنا تحت ظلة الغابة، كانت الأجواء لا تزال توحي بشفق بارد.
على بعد أمتار قليلة، لاحت لنا الشجرة البيضاء المذهلة كطيف مخلوق خرافي من عالم آخر، كانت قمتها ترتفع فوق رؤوسنا. إنها شجرة سيكويا مهقاء. وهي لغز يكاد يستحيل وجوده بيولوجيًا.. بل هي كائن لم يكن له أن يخرج إلى حيز الوجود. يقول طالب الدراسات العليا، "زين مور"، الذي يَدرس جينومات أشجار السيكويا في "جامعة كاليفورنيا": "أعتقد أن عمر هذا الشيء قد يصل إلى مئة عام أو أكثر". ويضيف بالقول "إنها واحدة من أطول الأشجار في المقاطعة". وبدلًا من أن تكون شجرة دائمة الخضرة، يصطبغ لونها بالبياض على الدوام، وأوراقها الإبرية ناعمة وشمعية. عادةً ما تعتاش شجرة السيكويا دائمة الخضرة، والتي تعرف باسم (Sequoia sempervirens)، على ضوء الشمس الذي تحوّله إلى غذاء، لكن هذه الشجرة المهقاء تفتقد إلى مكون حاسم في الآلية الخلوية الأساسية التي تحتاج إليها هذه الأشجار لتغذية نفسها. وبديلها الآخر هو التغلغل في نظام جذور الأشجار الأم ذات الصبغة الخضراء لسرقة السكريات والمغذيات. وعلى الرغم من ندرة شجرة السيكويا المهقاء على الأرض، إلا أنها تنمو بصورة طبيعية داخل نطاق غابات السيكويا الساحلية التي يلفها الضباب الكثيف. وهي كذلك لغز علمي، إذ أن هذه الأشجار المتحولة تستطيع، على نحو ما، البقاء على قيد الحياة، حتى عندما تتخلى الأشجار الأم عن البراعم الأخرى التي قد تحظى بفرصة أكبر للنمو. بعض هذه الأشجار المهقاء طويل مثل الشجرة التي نزورها، لكن معظمها أقصر، مع شجيرات أكثر. ونبت البعض الآخر من هذه الأشجار عاليًا في الأشجار الأم. وقد يوجد 50 أو نحو ذلك من الأنسجة الوراثية ذات اللونين الأبيض والأخضر بصورة طبيعية، وهي أنسجة حية تحظى بمجموعتين متميزتين من التعليمات الوراثية. ويحب السكان إحدى هذه الأشجار، التي كانت تنمو بالقرب من طريق مختصر في مقاطعة "سونوما"، إلى درجة أنه عندما هدد عمال بناء السكك الحديدية بقطعها في عام 2014، أصر السكان المحليون على أن تقوم الشركة بالحفر لنقل الشجرة وتحميلها على شاحنة لغرسها في مكان آخر. ظهرت هذه الأشجار أول مرة ضمن منشورات تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأ المستوطنون في ملاحظة أوراق الشجر المبيَضة الغريبة. منذ ذلك الحين، ومع استثناءات قليلة، حظيت مواقع الأشجار المهقاء بحراسة مشددة لحمايتها ضد صائدي الأشجار النادرة الذين يقطعونها للحصول على قطع تزيين يتفاخرون بها، أو مثل أولئك الذين زينوا دار الأوبرا ذات مرة بأغصان هذه الأشجار الثلجية.

إن شجرة السيكويا المهقاء الشاهقة التي زرنا فجرًا معروفة منذ سبعينيات القرن الماضي، كما يقول مور، وهو الآن أحد الخبراء العالميين في هذه الأشجار. ويعمل مور مع زميل له على حفظ خريطة لأشجار السيكويا المهقاء، وهي دليل متجدد لما يقرب من 630 شجرة سيكويا مهقاء معروفة تنمو بين جنوب ولاية أوريغون ووسط ولاية كاليفورنيا. وظل متحمسون يغرسون بعضًا من هذه الأشجار. أما الأشجار الأخرى، التي قد يصل عددها إلى مئة أو نحو ذلك، فقد عثر عليها مور مصادفة، ومنها شجرة لمحها أثناء تعطله في ازدحام مروري على طريق شاطئي سريع سيء السمعة في كاليفورنيا. غير أنه وكما يقول، يتابع هذه الأشجار في الغالب بناءً على تقارير تاريخية أو إخباريات من السكان المحليين: "إنها كرحلة للبحث عن الكنز"، على حد تعبيره.
في وقت لاحق من ذلك اليوم، رافقني مور لأرى أول شجرة سيكويا مهقاء وجدها على الإطلاق. تعيش هذه الشجرة في "منتزه هنري كويل"، حيث يسمح مسار التنزه الحلقي للزوار بتجربة مشاعر العظمة والهيبة التي تتملكهم عند رؤية هذا الكم من أشجار السيكويا القديمة. 
وتهيمن هذه الأشجار على المناظر الطبيعية وتضفي مشهدًا شبه بدائي على الغابة. وعلى النقيض من ذلك، كانت أول شجرة سيكويا مهقاء عثر عليها مور، هي شجرة بطول البشر تقريبًا تندمج فيها الفروع البنية والبيضاء، وقد اندست في بستان غير مميز بالقرب من خطوط السكك الحديدية في المنتزه. وجدها مور عام 2010 بعد أن شاهد فيلمًا وثائقيًا عن هذه الأشجار المهقاء وقرر الذهاب لرؤيتها بنفسه. يتذكر مور ذلك بقوله: "وفي الوقت ذاته تقريبًا، أدركت أنه يمكنني العمل في علم النبات بصفته مصدر دخل؟ كما تعلمين، أنا أحب النباتات حقًا". كل شيء عن أشجار السيكويا المهقاء مشوب بالغموض. كيف تستطيع هذه الأشجار البقاء على قيد الحياة؟ بل كيف تبدو أحيانًا وكأنها تزدهر وتنمو؟ ماذا عن وظائف أعضائها؟ أو تشريحها؟ أو الطفرات التي تجعل لونها أبيض باهتًا. فحتى الأدبيات العلمية التي تصف هذه الأشجار قليلة. وفي الآونة الأخيرة، سعى العلماء للبحث عن الطفرات المسببة للمهق غير أن هذه المساعي أحبطت بسبب جينوم أشجار السيكويا المهقاء نفسه؛ وهو تجميع ضخم متسلسل مكون من 26.5 مليار زوج قاعدي موزعة على ستة أزواج من 11 كروموسومًا. (لدى البشر -على سبيل المقارنة- لديهم ثلاثة مليارات زوج أساسي و23 زوجًا من الكروموسومات).
يعرف الباحثون فعلًا أنه بالإضافة إلى افتقار هذه الأشجار لآليات التمثيل الضوئي، فإنها لا تتحكم تقريبًا في فقدانها للماء من خلال الفتحات الصغيرة في أوراقها، وهذا الأمر يحدث بسرعة أكبر في درجات الحرارة المرتفعة. بل إن خشب أشجار السيكويا المهقاء أضعف من الأشجار ذات الصبغة الخضراء، وربما يرجع ذلك لعدم قدرتها على إنتاج مركب يسمى "اللجنين" بسهولة، وهو مهم لبناء جدران الخلايا. وتقول عالمة الفسيولوجيا البيئية، "جارميلا بيترمان" من "جامعة كاليفورنيا"، والتي عملت على دراسة فقدان المياه: "إنه عمل شاق مع هذه النباتات طويلة العمر. إنني مفتونة أيضًا بحقيقة وجود الكثير منها هنا" في مقاطعة سانتا كروز.
في عام 2016، اكتشف مور أن بعض أشجار السيكويا المهقاء تحتوي على مستويات أعلى بكثير من الكادميوم والنيكل والنحاس، مقارنة بالأشجار الأم الخضراء؛ وتصل هذه المستويات إلى 11 ضعف الكمية اللازمة لإتلاف النبات. وتساءل مور عما إذا كانت هذه الأشجار المهقاء تعزل تلك المعادن الثقيلة لتستفيد الأشجار الأم بطريقة ما؛ ويشتبه الباحثون أن هذا الأمر من ناحية أخرى قد يوقف الإمداد الغذائي للأشجار المهقاء. وحتى الآن، لا يوجد إجماع بين العلماء حول ما يحدث. وفي تطور حديث الآن، بات الباحثون في "جامعة برينستون" الذين يدرسون كيفية انتقال ذرات الكربون والهيدروجين عبر المسارات الأيضية للأشجار، يستخدمون السيكويا المهقاء ربما لإعادة بناء الظروف البيئية القديمة على نحو أفضل. غالبًا ما يقول الناس إن أشجار السيكويا المهقاء لا تدوم طويلًا.. كأشباح تتجسد وتختفي، أو أطياف تختبئ على مرأى من الجميع. ولكن في عالم غابات السيكويا في كاليفورنيا، فإن البشر هم الأطياف العابرة سريعًا. في "منتزه هنري كويل بارك"، ظهر جذع معروض بشكل احتفالي من شجرة نبتت في غابة كاليفورنيا قبل قرنين من ولادة المسيحية. وأقدم شجرة في المنتزه تمتص ضوء الشمس منذ أكثر من ألف عام.
ومع ذلك، حتى أشجار السيكويا المهقاء التي يفترض أنها ضعيفة تعيش مدة أطول من البشر. أراني مور إحدى هذه الأشجار التي تنمو بالقرب من مسارات السكك الحديدية في المنتزه والتي ظهرت أيضًا في صورة فوتوغرافية تعود إلى عام 1877: شجيرة لامعة تنبت بلا مبالاة إلى جوار قضيب السكة المعقوف. وقد أخبرني أنه على بعد كيلومترات قليلة، توجد شجرة ضخمة تم وصفها أول مرة في عام 1912. يقول عنها مور: "تم قطعها بالكامل في السبعينيات، لكنها لا تزال تنمو مرة أخرى". واستطرد قائلًا: "هل تريدين رؤية شجرة مهقاء مذهلة؟ هذه هي. تغطي مساحتها زهاء 68 مترًا مربعًا، ويبلغ طولها نحو أربعة أمتار ونصف المتر، وربما ستة أمتار في المتوسط، هذه الكتلة الكبيرة من اللون الأبيض فحسب. إنها حقًا شيء مختلف". وبالطبع ذهبنا لرؤيتها. تنمو هذه الشجرة بشكل عرضي بين منزلين، وهي تجمع هائج من الفروع اللبنية التي تتشعب في كل اتجاه -غابة كبيرة لدرجة قد تضيع فيها- نمت مجددًا في غضون 50 عامًا فقط. الآن، كل تهديد لأشجار السيكويا يمثل أيضًا تهديدًا لأشجار السيكويا المهقاء، كما تقول بيترمان، لأن "نشاطها يتأثر بصحة الشجرة الأم". لكن إعادة نمو هذه الشجرة التي سويت بالأرض هي الظاهرة نفسها التي لوحظت بعد حرائق الغابات، حيث تكون البراعم البيضاء غالبًا من بين الأسرع نموًا وسط الطبيعة التي تضررت من ألسنة الحرائق. إذ تقول بيترمان: "إنه لأمر مدهش، أليس كذلك؟".

نشأتُ في أحضان بستان من أشجار السيكويا القديمة، وهو مكان أشعر أنه يزداد قيمة كل يوم. ومع ذلك، فقد استغرقني الأمر ما يقرب من 25 عامًا لاكتشاف مجموعة كثيفة من براعم أشجار السيكويا المهقاء، إذ كنت أتجول في طريق كنت أسلكه في طفولتي: اتخذت هيأة سحابة من الأوراق الشوكية البيضاء بحجم شاحنة صغيرة. وعلى غرار معظم الناس، كنت أتخلف عنها عدة مرات، غافلةً عن ألوانها المذهلة أو ربما كنت أتجاهلها بوصفها خدعة بصرية من ضوء الشمس. حتى يومنا هذا، تزدهر هذه الشجرة التي تعد تجسيدًا لكل ما هو غريب ومتفرد وغير محتمل الحدوث.. على أنني لن أستطيع أن أقول أين يحدث ذلك الازدهار تحديدًا.