أحصنة من عالم آخر

كائنات دقيقة مذهلة لا تبصرها العين إلا نادرًا، تأسر زوار الأعماق المظلمة بأحجامها القزمة وهيأتها الفاتنة.

"إنها صورة أرجو لو أنها لم تكن موجــودة".. قولة لم تبرح ذاكرتي منذ أن قرأتها للمصور الفوتوغرافي "جاستين هوفمان" معلِّقًا على صورته لمشهد مثير غير مألوف في أعماق مياه جزيرة "سومباوا" الإندونيسية: حصان بحر يتمسك بعود بلاستيكي لتنظيف الآذان. أثارت هذه اللقطة الشهيرة، المنشورة في عدد يونيو 2018 من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"، جدلًا في أوساط علماء البيئة البحرية والعاملين في مجال صونها. إذ ألقت الضوء على ضرر النفايات البلاستيكية على البحار وكشفت مدى تأثيرها الواسع على حياة قاطنيها من كائنات لا سبيل لها في مجابهة سلوك الإنسان. فكانت تلك اللقطة مشعل النور الذي أضاء تلك الأعماق الحالكة. 
وتَنفق ملايين الكائنات البحرية من جرّاء البلاستيك في المحيطات سنويًا؛ فمن المعلوم أن نحو 700 نوع -منها ما هو مهدد بخطر الانقراض- قد تضررت بالفعل؛ فيما تضرر بعضها الآخر بصورة بالغة بسبب الوقوع في شباك الصيد المنسية أو حلقات العلب البلاستيكية للمشروبات ومن ثم تنفق اختناقًا.

جعلتني تلك الصورة أصبُّ اهتمامي حول هذه الكائنات الأسطورية التي قد لا نوفيها حقها من الوصف ولا نعي أهمية دورها في النظام البيئي وضمان استدامته. على أن دهشتي بلغت أوجها حينما علمت بوجود حصان البحر "القزم" (Hippocampus bargibanti) الذي اكتُشف أول عام 1969. فقد كان عالم الأحياء البحرية "جورج بارجيبانت" يشتغل في مَهمة بحرية تهدف إلى جمع عينات من شعاب المرجان المروحي في كاليدونيا الجديدة بالمحيط الهادي. آنذاك، لاحظ -على سبيل المصادفة- أن ثمة كائنًا دقيقا خفيا يتوارى بين حقول هذه الشعاب اللينة المتشابكة. ومن الصعب للغاية أن تدركه العين إلا بإمعان النظر والمراقبة الفاحصة المطوّلة.

ففي البقاع السحيقة، يستوطن هذا السمك القزم ويتماهى مع لون المحيط حيث يتشبث بقوة بكل ما يمكنه التشبث به، حتى ليغدو أمر اكتشافه شبه مستحيل. إذ يتميز بحجمه الضئيل للغاية، على خلاف باقي الأنواع الأكبر حجمًا، ويمتلك خطمًا قصيرًا، وعادة ما يتوج رأسَه إكليلٌ دائري الشكل على هيأة مقبض. فيما تتوزع على امتداد جسمه درنات منتفخة، تتنوع ألوانها ما بين الوردي والأحمر والأبيض مثل نوع "دينيس".

ولا يكفّ الباحثون وعلماءُ الأحياء البحرية عن تتبع أنواع حصان البحر القزم ودراسة أنماط سلوكها الفريدة، وكذا التعرف إلى أسرارها من قرب. وقد بلغ عدد أنواعها المكتشفة حتى الآن سبعة، يعيش جُلها في المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا وشرق أستراليا. أما أحدث الأنواع المعروفة فاكتُشف في إفريقيا عام 2020، وسُمي بـ"حصان البحـر القزم سودوانا" (H. nalu). يقارب حجم هذا الكائن الذي يُعد أول أنواع حصان البحر القزم المكتشفة في المياه الإفريقية والمحيط الهندي، حجم حبة أرز، ويتميز بلون بني عسلي يغطيه نمط شبكي أبيض وذيل ملتوٍ مُحمر.

وفي رحلة تتبع هذه الكائنات الدقيقة، لم تدّخر عدسات المصورين الفوتوغرافيين جهدًا في السفر إلى تلك المناطق القصية؛ ففي كل مرة يهبط فيها مصورٌ غواص إلى أعماق البحار، يضع على عاتقه مسؤولية مضاعفة. لا تتمثل مَهمته المفعمة بالحماس في التقاط روائع تلك المناطق فحسب، بل يتجلى دوره في ملاحظة أي نوع جديد من هذه الأحصنة البحرية. ويصف المصور الفوتوغرافي الإماراتي، "علي بن ثالث"، هذا الدور بأنه "فني توعوي من شأنه أن يُثري العلوم البحرية ويدعمها. وذلك عبر رفد الدراسات والأبحاث بصور فائقة لكائنات دقيقة نادرة الظهور، وقد يتعذر في أحيان كثيرة الوصول إليها نظرًا للمخاطر التي تكتنف طريق تلك الرحلة المظلمة".

على أن وجود البشر -ومنهم المصورين- وسط موائل الأحصنة البحرية يجب أن يتصف بالوعي الكبير والإدراك بكل خطوة وحركة، "حتى لا يكون هناك أي تأثير -وإن كان طفيفًا- في تلك البيئية"، كما يقول بن ثالث، الذي يشتهر بصفته أحد الغواصين المتمرسين على المستوى العربي والعالمي. إذ أنجز أكثر من 3000 جولة غوص في سبيل استكشاف كنوز البحر حول العالم منذ بدايته الأولى في عام 2008. 
تنقُلنا هذه الروائع الفوتوغرافية إلى بقاع جغرافية معتمة مليئة بالحياة البصرية الملونة، لا أمل للإنسان أن يبصرها بعينه المجردة من دون عُدة تُنير له تلك الطريق المعتمة.. وقبلها سحر يثير في داخله حماسًا يطوف به قيعان البحار المنيرة بجمالها.

أحصنة من عالم آخر

كائنات دقيقة مذهلة لا تبصرها العين إلا نادرًا، تأسر زوار الأعماق المظلمة بأحجامها القزمة وهيأتها الفاتنة.

"إنها صورة أرجو لو أنها لم تكن موجــودة".. قولة لم تبرح ذاكرتي منذ أن قرأتها للمصور الفوتوغرافي "جاستين هوفمان" معلِّقًا على صورته لمشهد مثير غير مألوف في أعماق مياه جزيرة "سومباوا" الإندونيسية: حصان بحر يتمسك بعود بلاستيكي لتنظيف الآذان. أثارت هذه اللقطة الشهيرة، المنشورة في عدد يونيو 2018 من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"، جدلًا في أوساط علماء البيئة البحرية والعاملين في مجال صونها. إذ ألقت الضوء على ضرر النفايات البلاستيكية على البحار وكشفت مدى تأثيرها الواسع على حياة قاطنيها من كائنات لا سبيل لها في مجابهة سلوك الإنسان. فكانت تلك اللقطة مشعل النور الذي أضاء تلك الأعماق الحالكة. 
وتَنفق ملايين الكائنات البحرية من جرّاء البلاستيك في المحيطات سنويًا؛ فمن المعلوم أن نحو 700 نوع -منها ما هو مهدد بخطر الانقراض- قد تضررت بالفعل؛ فيما تضرر بعضها الآخر بصورة بالغة بسبب الوقوع في شباك الصيد المنسية أو حلقات العلب البلاستيكية للمشروبات ومن ثم تنفق اختناقًا.

جعلتني تلك الصورة أصبُّ اهتمامي حول هذه الكائنات الأسطورية التي قد لا نوفيها حقها من الوصف ولا نعي أهمية دورها في النظام البيئي وضمان استدامته. على أن دهشتي بلغت أوجها حينما علمت بوجود حصان البحر "القزم" (Hippocampus bargibanti) الذي اكتُشف أول عام 1969. فقد كان عالم الأحياء البحرية "جورج بارجيبانت" يشتغل في مَهمة بحرية تهدف إلى جمع عينات من شعاب المرجان المروحي في كاليدونيا الجديدة بالمحيط الهادي. آنذاك، لاحظ -على سبيل المصادفة- أن ثمة كائنًا دقيقا خفيا يتوارى بين حقول هذه الشعاب اللينة المتشابكة. ومن الصعب للغاية أن تدركه العين إلا بإمعان النظر والمراقبة الفاحصة المطوّلة.

ففي البقاع السحيقة، يستوطن هذا السمك القزم ويتماهى مع لون المحيط حيث يتشبث بقوة بكل ما يمكنه التشبث به، حتى ليغدو أمر اكتشافه شبه مستحيل. إذ يتميز بحجمه الضئيل للغاية، على خلاف باقي الأنواع الأكبر حجمًا، ويمتلك خطمًا قصيرًا، وعادة ما يتوج رأسَه إكليلٌ دائري الشكل على هيأة مقبض. فيما تتوزع على امتداد جسمه درنات منتفخة، تتنوع ألوانها ما بين الوردي والأحمر والأبيض مثل نوع "دينيس".

ولا يكفّ الباحثون وعلماءُ الأحياء البحرية عن تتبع أنواع حصان البحر القزم ودراسة أنماط سلوكها الفريدة، وكذا التعرف إلى أسرارها من قرب. وقد بلغ عدد أنواعها المكتشفة حتى الآن سبعة، يعيش جُلها في المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا وشرق أستراليا. أما أحدث الأنواع المعروفة فاكتُشف في إفريقيا عام 2020، وسُمي بـ"حصان البحـر القزم سودوانا" (H. nalu). يقارب حجم هذا الكائن الذي يُعد أول أنواع حصان البحر القزم المكتشفة في المياه الإفريقية والمحيط الهندي، حجم حبة أرز، ويتميز بلون بني عسلي يغطيه نمط شبكي أبيض وذيل ملتوٍ مُحمر.

وفي رحلة تتبع هذه الكائنات الدقيقة، لم تدّخر عدسات المصورين الفوتوغرافيين جهدًا في السفر إلى تلك المناطق القصية؛ ففي كل مرة يهبط فيها مصورٌ غواص إلى أعماق البحار، يضع على عاتقه مسؤولية مضاعفة. لا تتمثل مَهمته المفعمة بالحماس في التقاط روائع تلك المناطق فحسب، بل يتجلى دوره في ملاحظة أي نوع جديد من هذه الأحصنة البحرية. ويصف المصور الفوتوغرافي الإماراتي، "علي بن ثالث"، هذا الدور بأنه "فني توعوي من شأنه أن يُثري العلوم البحرية ويدعمها. وذلك عبر رفد الدراسات والأبحاث بصور فائقة لكائنات دقيقة نادرة الظهور، وقد يتعذر في أحيان كثيرة الوصول إليها نظرًا للمخاطر التي تكتنف طريق تلك الرحلة المظلمة".

على أن وجود البشر -ومنهم المصورين- وسط موائل الأحصنة البحرية يجب أن يتصف بالوعي الكبير والإدراك بكل خطوة وحركة، "حتى لا يكون هناك أي تأثير -وإن كان طفيفًا- في تلك البيئية"، كما يقول بن ثالث، الذي يشتهر بصفته أحد الغواصين المتمرسين على المستوى العربي والعالمي. إذ أنجز أكثر من 3000 جولة غوص في سبيل استكشاف كنوز البحر حول العالم منذ بدايته الأولى في عام 2008. 
تنقُلنا هذه الروائع الفوتوغرافية إلى بقاع جغرافية معتمة مليئة بالحياة البصرية الملونة، لا أمل للإنسان أن يبصرها بعينه المجردة من دون عُدة تُنير له تلك الطريق المعتمة.. وقبلها سحر يثير في داخله حماسًا يطوف به قيعان البحار المنيرة بجمالها.