إنـقـاذ تاريخ غريق
المـاء على بشرتي فـاتر، والصمت مطلق؛ وبينما أحوم فوق بقايا الحطام، أشعر بالسلام والشُّكران، ويتملّكني إحساس بمعانقة الديار. انزلوا معي تحت الماء -ليس عميقًا جدا، ربما خمسة أمتار فقط أو نحو ذلك- وسترون زُهاء 30 غطّاسًا آخر، في مجموعات تتألف من غطاسين اثنين. وقد طفوا في أماكنهم بلا حراك، رغم التيارات القوية قبالة سواحل "كي لارغو" في فلوريدا، وهـم يــرسمون صورًا للقطع الأثرية المكسوة بالمرجان ويقيسونها. وها أنا ذا معهم لأُسهم، أول مرة في حياتي، بوضع خريطة لبقايا حطام سفينة.
جُلّ الغطاسين أميركيون من أصل إفريقي. نتدرب بصفتنا أنصار علم الآثار الغارقة، لنكتسب المهارات اللازمة للانضمام إلى الحملات الاستكشافية والإسهام في التوثيق لحطام سفن الرقيق التي يُعثَر عليها في أنحاء العالم؛ سفنٌ من قبيل "ساو خوسيه باكيتي دافريكا" في جنوب إفريقيا، و"فريدريكوس كوارتوس" و"كريستيانوس كوينتوس" في كوستاريكا، و"كلوتيلدا" في الولايات المتحدة. فلقد أُجبر ما نحوه 12.5 مليون إفريقي على ركوب سُفن مثل هذه خلال ازدهار تجارة الرقيق عبر الأطلسي بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، حسب تقديرات "نفيس خان"، الأستاذ في كلية التربية لدى "جامعة كليمسون" والمستشار لدى منظمة "قاعدة بيانات تجارة الرقيق عبر الأطلسي". يقول: "لقد استغرق الأمر ما لا يقل عن 36 ألف رحلة". ويُرَجَّح أن ألف سفينة أو نحو ذلك غرقت. ثم جاءت منظمة "الغوص الهادف" (المعروفة اختصارًا باسم DWP) التي تدرب الغواصين للعثور على اللقى الأثرية التاريخية والثقافية الغارقة في الأعماق ومن ثم صونها. فمنذ إنشائها عام 2003، دَرَّبت زُهاء 500 غواص لمساعدة علماء الآثار والمؤرخين في البحث عن أمثال تلك السفن والتوثيق لها. وتبتغي المنظمة مساعدة السُّود خاصة في العثور على تاريخهم وحكي قصصهم الخاصة. يقول الغواص الأسطوري "ألبرت خوسيه جونز"، أحد مؤسسي "الجمعية الوطنية للغواصين السود" وعضو مجلس إدارة "الغوص الهادف": "حين تكون أميركيًا من أصل إفريقي وتغوص نحو سفينة رقيق، فإن الأمر يكون مختلفًا تمامًا عن قيام شخص آخر بذلك. ففي كل مرة تغوص، تُدرك شيئين أساسيين: أحدهما أن أسلافك ربما كانوا على متن السفينة؛ وثانيهما إدراكك أن لديك تاريخًا، وأن تاريخك لم يبدأ على سواحل الولايات المتحدة، ولم يبدأ بالرّق، بل بدأ في إفريقيا منذ فجر الزمن وبداية الحضارة". يَعرض "المتحف الوطني لتاريخ الأميركيين من أصل إفريقي وثقافتهم" في العاصمة واشنطن، أعمال منظمة "الغوص الهادف"، ضمن جزء من "مشروع حطام سفن الرقيق"، وهو شبكة مجموعات تكشف بقايا سفن الرقيق وتوثّق لها، وتسعى لسرد تاريخ تجارة الرقيق على نحو أشمل. يقول "لوني بانتش الثالث"، المدير المؤسس للمتحف وسكرتير "معهد سميثسونيان": "إن أعضاء منظمة الغوص الهادف يوظّفون مهاراتهم في الغوص لمساعدتنا في العثور على القصص المغمورة في الأعماق. من بعض النواحي، نَعلم الكثير عن الرّق. لكن ثمة جوانب كثيرة لا نَعلمها. وأؤكد أن آخر حدود معرفتنا تلك يقبع تحت المياه". تحت المياه. هناك في الأعماق. أشعر بلمسة نسيم المحيط السحرية على بشرتي ورذاد مياه البحر إذ يُسرع المركب عائدًا إلى الديار بعد يوم عمل حافل. إنه ليثلج الصدرَ النظرُ إلى هذه الوجوه المتعَبة من حولي ومعرفةُ أن أصحابها العاديين -معلمين وموظفين حكوميين ومهندسين وطلبة- حضَروا جميعًا رغم انشغالاتهم، وتطوعوا لأنهم يحبون الغوص ويؤمنون بأهمية هذا العمل. في رحلة العودة، قد تسمعون صوت المدرب الرئيس "جاي هيغلر" وثرثرته المميزة؛ وقد ترون الوميض في عينيه وفرحه المُعْدي عندما يقول بهدوء قبل الإيماء: "هذا ما أعيش من أجله". أكاد أجزم أن عدوى حماس هذا الرجل ستصيبكم لا محالة.
ربما لو انطلقنا من البداية -أي لحظةَ انطلاق الرحلات من تلك السواحل إلى هذه السواحل، وداخل تلك السفن- سيمكننا العثور على أدلة تاريخ لم ينل حقه من النقاش إلا قليلًا، وحكايات ضاعت في غيابات البحر. يمكننا البدء في تجميع خيوط فُقدت منذ أمد بعيد لتساعدنا على فهم أفضل لالتزامنا تجاه الماضي وتجاه بعضنا بعضًا، وتغيير الطريقة التي نفكر بها حيال من نكون بصفتنا مجتمعًا وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. إننا مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بأولئك الذين عبروا من تلك السواحل إلى هذه. وإننا مرتبطون أيضًا بنحو 1.8 مليون شخص قضوا حتفهم أثناء رحلات العبور تلك. إن الأطلسي مليء بأشخاص مَنسيين، ويموج عبابُه مع أرواح أشخاص قد لا تتسنى لنا معرفة أسمائهم أبدا. أرواح لم يتم قط الاعتراف بها أو الحِداد عليها. حالمون وشعراء وفنانون ومفكرون وعلماء ومزارعون. أكثر من مجرد حمولات أو جثث معبأة في عنبر سفينة. أكثر من مجرد إحصائيات بلا هوية. أكثر من أناس كُتِب عليهم الرق. واليومَ جاء موعد النظر في شأنهم. إذْ حان الوقت كي تنهض قصصهم من الأعماق لتُروى بكل فصولها وعجائبها.. وبكل حب وشرف واحترام. ليُساعد كل ذلك أخيرًا في إبراء جرح طال أمده. هذا هو الحلم. هذا هو الوعد. وهذه إمكانية هذا العمل، هذا البعث المائي الذي انخرطت فيه منظمة "الغوص الهادف". يقول بانتش إن هذه السفن "ستتيح لنا تكريم أولئك الذين لم تُكتب لهم النجاة. إنها تتيح لنا ملامسة مساحات مقدسة ليست مجرد مساحات موت، بل مساحات للذاكرة. وما دمنا نَجد تلك المساحات؛ وما دمنا نغوص بحثًا عن هذه السفن، وما دمنا نتعلم قدر الإمكان.. فلن يضيع هؤلاء الأشخاص الذين لن نعرف أبدًا أسماءهم. بل سيظلون في الذاكرة". لكن ثمة حقيقة، أو عقبة، في الطريق: فمن المعلوم صعوبة العثور على حطام السفن. كانت سفن تلك الحقبة تُصنع من الخشب بالأساس، وقد تحللت مع مرور الوقت وظل البحر يبتلعها. ويستخدم الباحثون اليوم مُعدّات من قبيل أجهزة قياس المجالات المغناطيسية وسونار المسح الجانبي للكشف في المياه العكرة عن مواد غير طبيعية ومصنَّعة. وقد يتطلب الأمر التنقيبَ في ظروف خطرة أو في مواقع تعج بالحياة البحرية التي لا ينبغي تعكير صفوها. تقول "أيانا فليولين"، المؤسسة المشاركة في "جمعية علماء الآثار السود" والمدربة لدى "الغوص الهادف": "ما إن تكدر صفو موقع حتى يتعذر إرجاعه إلى حالته الأولى. لذلك فنحن حريصون كل الحرص على كيفية التوثيق، وننتبه جيدا لما يوجد في المياه حولنا للتأكد من أننا لا نُحدِث اضطرابًا في الحطام أو لمخلوقات المحيط". يغطي قاع المحيط الرملي ويكشف كما يشاء. وما يمكن أن يُرى اليوم قد لا يُرى غدا. وقد تستغرق رحلة استكشافية مُتقَنَة من المؤرخين وعلماء الآثار سنوات. لكن من المهم أن تأخذ الرحلة ما يتطلبه التنقيب والبحث من وقت. تقول "كاليندا لي"، رئيسة البرامج والمعارض لدى "المركز الوطني للحقوق المدنية وحقوق الإنسان" في أتلانتا: "إن هوياتنا مستمَدَّة من الماضي. يوفر الماضي سياقا ضروريا.. وإنه لشيء ينبغي لنا المشاركة فيه إذا نحن أردنا أن نكون صادقين بشأن ما يعنيه العِرق لنا، وما عناه لنا".
علمتُ بأمر "الغوص الهادف" بفضل صورة غطّاسات سوداوات رأيتها في "المتحف الوطني لتاريخ الأميركيين من أصل إفريقي وثقافتهم". وظهر في الصورة أيضا "كين ستيوارت"، المستبصر الذي أطلق الفكرة منذ نحو عشرين سنة مضت. كان قد لقي عالمة الآثار الوحيدة لدى "منتزه بيسكين الوطني" في فلوريدا، "بريندا لانزندورف"، التي كانت بحاجة إلى غواصين لمساعدتها في العثور على سفينة الرقيق الإسبانية "غيريرو"، التي تحطمت عام 1827. وبصفة ستيوارت الممثلَ الإقليمي الجنوبي لـ "الجمعية الوطنية للغواصين السود"، فقد كانت لديه إمكانية الوصول إلى كثير من الغواصين. جمع عددا قليلا منهم. تعلموا كيف يضعون خرائط لحطام السفن. فأعلن ستيوارت أن الوقت قد حان لتغوص المجموعة بهدف. منذئذ، ساعدت منظمة "الغوص الهادف" في التوثيق لحطام 18 سفينة وأنجزت أزيد من 18 ألف ساعة عمل في ستة بلدان. يخطو ستيوارت خطوات سريعة على شاكلة وتيرة أهل الشطر الشمالي من مدينة نيويورك. يعتني بنفسه بدقة، ولحيته مهذبة بعناية فائقة، وله صوت جميل يرتفع وينخفض كإيقاع أغنية عاطفية. إنه طائري المغرد الذي يناديني ويواصل تشجيعي في هذه الرحلة.
أذكر أني شعرت بقلبي ينتفض وأنا أعرب له عن موافقتي لمّا دعاني للانضمام إليهم. كانت موافقة أطلقت موجة متدحرجة وقوية على نحو سيقلب حياتي رأسا على عقب في نهاية المطاف. إذ استقلت من وظيفة مديرة تواصل، وتخليت عن شقتي في العاصمة واشنطن، وسحبت مدخراتي القليلة في المصرف للسفر وإجراء عدد الغطسات المطلوب لأشارك في برنامج تدريب "الغوص الهادف". انضممت إلى "الغوص الهادف"، من ناحية، لأني رغبت في خوض هذه المغامرة. والغوص في مواقع مختلفة عبر العالم. وتحدي نفسي على المستوى البدني. لكن أيضا لأني أحسست بالضياع خلال السنوات الماضية. كما لو أني معدومة الانتماء. أنا عازبة، وليس لدي أطفال، ومن بين أصدقائي المقربين كنت الوحيدة التي لديها عشرة عناوين مختلفة في ثمان مدن، وثلاثة بلدان، وثلاث قارات.. خلال السنوات الـ 15 المنصرمة. وبصفتي راوية قصص تسافر عبر ربوع العالم وتنجز المواد الصحافية لمجلات ومواقع إخبارية، شعرت كأنني مواطنة عالمية لكن أيضا كورقة في مهب الريح.. غير ذات جذور.. غير راسخة.
تهيأتُ لخوض رحلة عقدتُ عليها الأمل لتساعدني في الإجابة عن سؤال جوهري واحد: كيف يمكن أن يساعدني العثور على التاريخ المفقود لتجارة الرقيق وسرده، بوصفي امرأة أميركية سوداء، على معرفة موطن انتمائي.. وإلى من أنتمي؟
إنـقـاذ تاريخ غريق
المـاء على بشرتي فـاتر، والصمت مطلق؛ وبينما أحوم فوق بقايا الحطام، أشعر بالسلام والشُّكران، ويتملّكني إحساس بمعانقة الديار. انزلوا معي تحت الماء -ليس عميقًا جدا، ربما خمسة أمتار فقط أو نحو ذلك- وسترون زُهاء 30 غطّاسًا آخر، في مجموعات تتألف من غطاسين اثنين. وقد طفوا في أماكنهم بلا حراك، رغم التيارات القوية قبالة سواحل "كي لارغو" في فلوريدا، وهـم يــرسمون صورًا للقطع الأثرية المكسوة بالمرجان ويقيسونها. وها أنا ذا معهم لأُسهم، أول مرة في حياتي، بوضع خريطة لبقايا حطام سفينة.
جُلّ الغطاسين أميركيون من أصل إفريقي. نتدرب بصفتنا أنصار علم الآثار الغارقة، لنكتسب المهارات اللازمة للانضمام إلى الحملات الاستكشافية والإسهام في التوثيق لحطام سفن الرقيق التي يُعثَر عليها في أنحاء العالم؛ سفنٌ من قبيل "ساو خوسيه باكيتي دافريكا" في جنوب إفريقيا، و"فريدريكوس كوارتوس" و"كريستيانوس كوينتوس" في كوستاريكا، و"كلوتيلدا" في الولايات المتحدة. فلقد أُجبر ما نحوه 12.5 مليون إفريقي على ركوب سُفن مثل هذه خلال ازدهار تجارة الرقيق عبر الأطلسي بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، حسب تقديرات "نفيس خان"، الأستاذ في كلية التربية لدى "جامعة كليمسون" والمستشار لدى منظمة "قاعدة بيانات تجارة الرقيق عبر الأطلسي". يقول: "لقد استغرق الأمر ما لا يقل عن 36 ألف رحلة". ويُرَجَّح أن ألف سفينة أو نحو ذلك غرقت. ثم جاءت منظمة "الغوص الهادف" (المعروفة اختصارًا باسم DWP) التي تدرب الغواصين للعثور على اللقى الأثرية التاريخية والثقافية الغارقة في الأعماق ومن ثم صونها. فمنذ إنشائها عام 2003، دَرَّبت زُهاء 500 غواص لمساعدة علماء الآثار والمؤرخين في البحث عن أمثال تلك السفن والتوثيق لها. وتبتغي المنظمة مساعدة السُّود خاصة في العثور على تاريخهم وحكي قصصهم الخاصة. يقول الغواص الأسطوري "ألبرت خوسيه جونز"، أحد مؤسسي "الجمعية الوطنية للغواصين السود" وعضو مجلس إدارة "الغوص الهادف": "حين تكون أميركيًا من أصل إفريقي وتغوص نحو سفينة رقيق، فإن الأمر يكون مختلفًا تمامًا عن قيام شخص آخر بذلك. ففي كل مرة تغوص، تُدرك شيئين أساسيين: أحدهما أن أسلافك ربما كانوا على متن السفينة؛ وثانيهما إدراكك أن لديك تاريخًا، وأن تاريخك لم يبدأ على سواحل الولايات المتحدة، ولم يبدأ بالرّق، بل بدأ في إفريقيا منذ فجر الزمن وبداية الحضارة". يَعرض "المتحف الوطني لتاريخ الأميركيين من أصل إفريقي وثقافتهم" في العاصمة واشنطن، أعمال منظمة "الغوص الهادف"، ضمن جزء من "مشروع حطام سفن الرقيق"، وهو شبكة مجموعات تكشف بقايا سفن الرقيق وتوثّق لها، وتسعى لسرد تاريخ تجارة الرقيق على نحو أشمل. يقول "لوني بانتش الثالث"، المدير المؤسس للمتحف وسكرتير "معهد سميثسونيان": "إن أعضاء منظمة الغوص الهادف يوظّفون مهاراتهم في الغوص لمساعدتنا في العثور على القصص المغمورة في الأعماق. من بعض النواحي، نَعلم الكثير عن الرّق. لكن ثمة جوانب كثيرة لا نَعلمها. وأؤكد أن آخر حدود معرفتنا تلك يقبع تحت المياه". تحت المياه. هناك في الأعماق. أشعر بلمسة نسيم المحيط السحرية على بشرتي ورذاد مياه البحر إذ يُسرع المركب عائدًا إلى الديار بعد يوم عمل حافل. إنه ليثلج الصدرَ النظرُ إلى هذه الوجوه المتعَبة من حولي ومعرفةُ أن أصحابها العاديين -معلمين وموظفين حكوميين ومهندسين وطلبة- حضَروا جميعًا رغم انشغالاتهم، وتطوعوا لأنهم يحبون الغوص ويؤمنون بأهمية هذا العمل. في رحلة العودة، قد تسمعون صوت المدرب الرئيس "جاي هيغلر" وثرثرته المميزة؛ وقد ترون الوميض في عينيه وفرحه المُعْدي عندما يقول بهدوء قبل الإيماء: "هذا ما أعيش من أجله". أكاد أجزم أن عدوى حماس هذا الرجل ستصيبكم لا محالة.
ربما لو انطلقنا من البداية -أي لحظةَ انطلاق الرحلات من تلك السواحل إلى هذه السواحل، وداخل تلك السفن- سيمكننا العثور على أدلة تاريخ لم ينل حقه من النقاش إلا قليلًا، وحكايات ضاعت في غيابات البحر. يمكننا البدء في تجميع خيوط فُقدت منذ أمد بعيد لتساعدنا على فهم أفضل لالتزامنا تجاه الماضي وتجاه بعضنا بعضًا، وتغيير الطريقة التي نفكر بها حيال من نكون بصفتنا مجتمعًا وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. إننا مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بأولئك الذين عبروا من تلك السواحل إلى هذه. وإننا مرتبطون أيضًا بنحو 1.8 مليون شخص قضوا حتفهم أثناء رحلات العبور تلك. إن الأطلسي مليء بأشخاص مَنسيين، ويموج عبابُه مع أرواح أشخاص قد لا تتسنى لنا معرفة أسمائهم أبدا. أرواح لم يتم قط الاعتراف بها أو الحِداد عليها. حالمون وشعراء وفنانون ومفكرون وعلماء ومزارعون. أكثر من مجرد حمولات أو جثث معبأة في عنبر سفينة. أكثر من مجرد إحصائيات بلا هوية. أكثر من أناس كُتِب عليهم الرق. واليومَ جاء موعد النظر في شأنهم. إذْ حان الوقت كي تنهض قصصهم من الأعماق لتُروى بكل فصولها وعجائبها.. وبكل حب وشرف واحترام. ليُساعد كل ذلك أخيرًا في إبراء جرح طال أمده. هذا هو الحلم. هذا هو الوعد. وهذه إمكانية هذا العمل، هذا البعث المائي الذي انخرطت فيه منظمة "الغوص الهادف". يقول بانتش إن هذه السفن "ستتيح لنا تكريم أولئك الذين لم تُكتب لهم النجاة. إنها تتيح لنا ملامسة مساحات مقدسة ليست مجرد مساحات موت، بل مساحات للذاكرة. وما دمنا نَجد تلك المساحات؛ وما دمنا نغوص بحثًا عن هذه السفن، وما دمنا نتعلم قدر الإمكان.. فلن يضيع هؤلاء الأشخاص الذين لن نعرف أبدًا أسماءهم. بل سيظلون في الذاكرة". لكن ثمة حقيقة، أو عقبة، في الطريق: فمن المعلوم صعوبة العثور على حطام السفن. كانت سفن تلك الحقبة تُصنع من الخشب بالأساس، وقد تحللت مع مرور الوقت وظل البحر يبتلعها. ويستخدم الباحثون اليوم مُعدّات من قبيل أجهزة قياس المجالات المغناطيسية وسونار المسح الجانبي للكشف في المياه العكرة عن مواد غير طبيعية ومصنَّعة. وقد يتطلب الأمر التنقيبَ في ظروف خطرة أو في مواقع تعج بالحياة البحرية التي لا ينبغي تعكير صفوها. تقول "أيانا فليولين"، المؤسسة المشاركة في "جمعية علماء الآثار السود" والمدربة لدى "الغوص الهادف": "ما إن تكدر صفو موقع حتى يتعذر إرجاعه إلى حالته الأولى. لذلك فنحن حريصون كل الحرص على كيفية التوثيق، وننتبه جيدا لما يوجد في المياه حولنا للتأكد من أننا لا نُحدِث اضطرابًا في الحطام أو لمخلوقات المحيط". يغطي قاع المحيط الرملي ويكشف كما يشاء. وما يمكن أن يُرى اليوم قد لا يُرى غدا. وقد تستغرق رحلة استكشافية مُتقَنَة من المؤرخين وعلماء الآثار سنوات. لكن من المهم أن تأخذ الرحلة ما يتطلبه التنقيب والبحث من وقت. تقول "كاليندا لي"، رئيسة البرامج والمعارض لدى "المركز الوطني للحقوق المدنية وحقوق الإنسان" في أتلانتا: "إن هوياتنا مستمَدَّة من الماضي. يوفر الماضي سياقا ضروريا.. وإنه لشيء ينبغي لنا المشاركة فيه إذا نحن أردنا أن نكون صادقين بشأن ما يعنيه العِرق لنا، وما عناه لنا".
علمتُ بأمر "الغوص الهادف" بفضل صورة غطّاسات سوداوات رأيتها في "المتحف الوطني لتاريخ الأميركيين من أصل إفريقي وثقافتهم". وظهر في الصورة أيضا "كين ستيوارت"، المستبصر الذي أطلق الفكرة منذ نحو عشرين سنة مضت. كان قد لقي عالمة الآثار الوحيدة لدى "منتزه بيسكين الوطني" في فلوريدا، "بريندا لانزندورف"، التي كانت بحاجة إلى غواصين لمساعدتها في العثور على سفينة الرقيق الإسبانية "غيريرو"، التي تحطمت عام 1827. وبصفة ستيوارت الممثلَ الإقليمي الجنوبي لـ "الجمعية الوطنية للغواصين السود"، فقد كانت لديه إمكانية الوصول إلى كثير من الغواصين. جمع عددا قليلا منهم. تعلموا كيف يضعون خرائط لحطام السفن. فأعلن ستيوارت أن الوقت قد حان لتغوص المجموعة بهدف. منذئذ، ساعدت منظمة "الغوص الهادف" في التوثيق لحطام 18 سفينة وأنجزت أزيد من 18 ألف ساعة عمل في ستة بلدان. يخطو ستيوارت خطوات سريعة على شاكلة وتيرة أهل الشطر الشمالي من مدينة نيويورك. يعتني بنفسه بدقة، ولحيته مهذبة بعناية فائقة، وله صوت جميل يرتفع وينخفض كإيقاع أغنية عاطفية. إنه طائري المغرد الذي يناديني ويواصل تشجيعي في هذه الرحلة.
أذكر أني شعرت بقلبي ينتفض وأنا أعرب له عن موافقتي لمّا دعاني للانضمام إليهم. كانت موافقة أطلقت موجة متدحرجة وقوية على نحو سيقلب حياتي رأسا على عقب في نهاية المطاف. إذ استقلت من وظيفة مديرة تواصل، وتخليت عن شقتي في العاصمة واشنطن، وسحبت مدخراتي القليلة في المصرف للسفر وإجراء عدد الغطسات المطلوب لأشارك في برنامج تدريب "الغوص الهادف". انضممت إلى "الغوص الهادف"، من ناحية، لأني رغبت في خوض هذه المغامرة. والغوص في مواقع مختلفة عبر العالم. وتحدي نفسي على المستوى البدني. لكن أيضا لأني أحسست بالضياع خلال السنوات الماضية. كما لو أني معدومة الانتماء. أنا عازبة، وليس لدي أطفال، ومن بين أصدقائي المقربين كنت الوحيدة التي لديها عشرة عناوين مختلفة في ثمان مدن، وثلاثة بلدان، وثلاث قارات.. خلال السنوات الـ 15 المنصرمة. وبصفتي راوية قصص تسافر عبر ربوع العالم وتنجز المواد الصحافية لمجلات ومواقع إخبارية، شعرت كأنني مواطنة عالمية لكن أيضا كورقة في مهب الريح.. غير ذات جذور.. غير راسخة.
تهيأتُ لخوض رحلة عقدتُ عليها الأمل لتساعدني في الإجابة عن سؤال جوهري واحد: كيف يمكن أن يساعدني العثور على التاريخ المفقود لتجارة الرقيق وسرده، بوصفي امرأة أميركية سوداء، على معرفة موطن انتمائي.. وإلى من أنتمي؟