نوتردام تنبعث مـن رمـادهـا
سلِمت الكاتدرائية نفسها من حريق شبَّ عام 1831. اعتلى المشاغبون السطحَ وألقوا صليبا حديديا عملاقًا. حطموا الزجاج المُلَوَّنَ، وانهالوا بالفؤوس على تمثال للسيد المسيح، ودمّروا آخرَ للسيدة مريم العذراء. لكن هدفهم الحقيقي كان البحث عن رئيس أساقفة باريس، الذي لم يكن هناك؛ ولذا نهبوا قصره الواقع جنوب الكنيسة، قبالة نهر "السين". ثم ما لبثوا أن أضرموا النار فيه، فصار القصر أثرًا بعد عين؛ واليوم تنتصب مكانه رافعةُ بِناء ارتفاعها 75 مترًا.
ثمة رسم يُوثّق لمشهد تلك الليلة -14 فبراير 1831- يُرى من رصيف "كي دو مونتيبيلو" على الضفة الأخرى من نهر السين. أنجز الرسمَ "يوجين-إيمانويل فيولي-لو-ديك" الذي قام، 13 عامًا بعد ذلك، بأشغال ترميم الكاتدرائية على مَرّ 20 عامًا. كان "فيولي-لو-ديك" في الـ 17 من عمره لمّا شهد هجوم الغوغاء. وأظهر في لوحته، المنجَزة بقلم رصاص على عَجَل، وجوهًا غاضبة تقتحم القصر وتلقي أثاثَه وأشياءَ أخرى ثمينة في النهر عبر النوافذ؛ وخلْف ذلك كله، تقف "نوتردام"، التي مضى على تشييدها ساعتئذ ستة قرون.
في عام 1980، زار "فيليب فيلنوف" (وكان أيضا في ربيعه الـ17) مَعرضًا لأعمال "فيولي-لو-ديك" في "غراند بالي" (القصر الكبير). كان يُدركُ أنّه عازمٌ على أن يُصبح مهندسًا معماريًا -إذ كان فِعلًا يَعكف على إنشاء نموذج مفصَّل لنوتردام- لكنه لم يَعلم بإمكانية التخصص في المباني التاريخية تحديدًا. وها هو اليوم قد أصبح واحدًا من 35 "مهندسا معماريًا متخصصًا في المعالم التاريخية" بفرنسا؛ تلكم المهنة التي اكتسبت شهرتَها بفضل "فيولي-لو-ديك". وأشرف "فيلنوف" على أشغال ترميم نوتردام منذ عام 2013، وعَجّل وتيرة عمله منذ ربيع عام 2019 لمّا شبَّ حريق أتى على الجزء العلوي من الكاتدرائية. وقد ثُبِّتَ المبنى في نهاية المطاف، وأوشكت إعادة إعماره على البدء. إن فيلنوف يَدين في مَهمته الحالية إذ يخوض أم معاركه المهنية -من أوجه عِدة- إلى سلفه العبقري "فيولي-لو-ديك".
يقول عنه فيلنوف: "لقد ابتكر ترميم المآثر التاريخية. لم يحدث ذلك من قبل؛ إذ كان الناس يرممون الآثار وفقًا لأساليب عصورهم". أو لم يكونوا يرممونها البتة، بل يهدمونها.
في فرنسا القرن التاسع عشر، أنشأت الحكومة أول مرة مؤسسات تعاطت على نحو منهجي مع سؤال يهمنا جميعًا: أي جزء من الماضي جدير بالصيانة والنقل إلى الأجيال القادمة؟ ما الواجب الذي ندين به لإبداعات أسلافنا، وماذا نستمد من حضورهم من قوة واستقرار؛ ثم -على خلاف ذلك- متى يصبحون حِملًا زائدًا يَحول دون إبراز أنفسنا في المستقبل وخلق عالمنا الخاص؟ كلٌّ منا يواجه السؤال في عالم مصغَّر، في العمل وفي الحياة. وفي ذهن كلٍّ منا "مصلحة آثار تاريخية" تقاوم لتُقرّر ما يجدر الاحتفاظ به وما يمكن التخلي عنه، فضلا عن تمييز التغيير الذي ينبغي مقاومته من التغيير الذي يجب اعتماده؛ وفي كثير من الأحيان لا نعي ذلك تمام الوعي.
وغالبا ما لا نكون واعين بنصيبنا في قرارات الحِفظ التي تتخذها الحكومات أو بكيفية تأثير المباني القديمة فينا.. إلى أن تحيق بها التهديدات.
كانت نوتردام في أيامها ثورة معمارية. بُنِيت في أواخر القرن 12 والقرن 13، يومَ كانت فرنسا في طور التشكل بصفتها أمةً عاصمتها باريس، أكبر حواضر أوروبا. شكّلت نوتردام باكورة تُحف عمارة فرنسية جديدة؛ أتاحت أقواسها المدببة ودعاماتها الشاهقة ارتفاعَ الجدران ودقتها، وضخامة النوافذ، وتدفق الضوء من خلالها. سَمّاها الإيطاليون -بدافع الغيرة- "قوطية"، وكانوا يقصدون بذلك "متوحشة"؛ إلا أن هذا الأسلوب الفرنسي اكتسح أوروبا. كان الناس يشعرون بحضور الرب في عظمة البناء وإضاءته.
لكن بحلول مطلع القرن التاسع عشر، كانت نوتردام في مأزق؛ إذ تداعت على نحو خطير نتيجة عقود من الهجوم والإهمال، بدأت حتى قبل اندلاع ثورة 1789. هنالك استشاط "فكتور هوغو" غضبًا، فألَّف رواية كاملة عن الكاتدرائية، مثيرًا الجدل بشأن سوء استخدام التاريخ في قصة كاهن مكبوت ورجل أحدب يدق الناقوس، وفتاة رغب بها الاثنان. نُشرت رواية "نوتردام باريس" عام 1831، في الشهر التالي لحادث إحراق قصر رئيس الأساقفة. في كل أنحاء فرنسا، نُهبت الكنائس القديمة التي تم الاستيلاء عليها إبّان الثورة، سعيًا للحصول على الحجارة. وأسهم هوغو في تأسيس حركة تقول "كفى"، فما لبث "فيولي-لو-ديك" أن انخرط فيها بكل حماس وهِمّة.
ولقد أنقذ هذا الأخير نوتردام. إذ أعاد بناء الدعامات والزجاج الملون، واستبدل التماثيل التي حطمها الثوار، وأضاف مزيدا منها: فالتماثيل المهيبة التي تؤويها الكاتدرائية هي من إبداعه. ولمّا بنى برجًا خشبيًا مُدَّببًا جديدا -يفوق الأصلي ارتفاعًا بخمسة عشر مترا- أضاف عند قاعدته تماثيل نحاسية أكبر من الحجم الطبيعي، وترمز إلى حِواريي المسيح الاثني عشر، وينظر أحد عشر منهم إلى الخارج كأنهم يراقبون المدينة، أما الثاني عشر فكان القديس "توما"، الحواري المُشكِّك؛ وقد أعارَه "فيولي-لو-ديك" ملامحَ وجهه وجعله يُحدّق في البرج الذي أبدع. لقد كان "فيولي-لو-ديك" مُلحدًا أنقذَ "ملِكة" كاتدرائيات فرنسا.
واليوم، يجري تارة أخرى إنقاذ هذه الكنيسة التي ظلت دارَ عبادة منذ أزيد من 800 عام. ويجري إنقاذها بعد نصف قرن شهد تراجع الكاثوليكية كثيرًا في فرنسا، فيما ازداد عدد السياح. في مقر عمل "فيلنوف" خلف الكاتدرائية، يوجد مكتبه قبالة نسخة من رسم أنجزه "فيولي-لو-ديك" عام 1843 للواجهة الغربية لنوتردام. في زاوية من الإطار الذي يحمل الرسم، انحشرت قُطيرة رصاص متجمد كانت قد انهمرت من السقف المصهور بفعل حريق عام 2019. منذ ليلة الحريق، عقد "فيلنوف" العزم على إعادة بناء الكنيسة تمامًا كما تركها "فيولي-لو-ديك"، بما في ذلك السقف المصنوع من الرصاص و"غابة" أعمدة خشب البلوط الضخمة التي تدعمه.
يقول: "إننا نُرَمِّم ما رمَّمَه المُرَمِّم". قُبيل الساعة السابعة من مساء يوم 15 أبريل 2019، بينما كان فيلنوف يسابق الزمن من بيته على الساحل الأطلسي ليستقل آخر قطار فائق السرعة نحو باريس، كنتُ على متن سيارة أجرة أَعبر نهر السين. كانت حركة المرور بطيئة. نظرَتْ زوجتي عبر النافذة، وتساءلت: "هل تحترق نوتردام؟". كانت بقعة اللهيب البرتقالية على السطح غير ذات شأن؛ لذلك همستُ قائلًا: أنا متأكد أنهم سيُخمدونها عاجلًا. لكن بعد لحظات، رأينا ألسنة اللهب تتصاعد عبر البرج الخشبي وتبتلعه.
يَذكر كل شخص في فرنسا مكان وجوده لمّا احترقت نوتردام تلك الليلة من شهر أبريل -فكانت الفاجعة بذلك أشبه بأحداث "الحادي عشر من سبتمبر" بأميركا؛ وإن لم تُسفر عن خسائر في الأرواح. حينَها كان "برنارد هيرمان"، المصور المتقاعد، في بيته الكائن لدى "ساحة بوتي بون"، قبالة الكاتدرائية. كان قد نشر كتابًا عنوانه "Paris, km 00" (باريس، النقطة الكيلومترية صفر) -إذ تُقاس المسافات على الخرائط الفرنسية انطلاقًا من نقطة صفر محدَّدة أمام نوتردام- يحوي صورًا التقطها عبر نوافذه. يقول هيرمان: "كانت مأساة نوتردام في نظري نهاية العالم. صُعِقتُ، وأسدلتُ الستائر". أمّا "جون-ميشيل لونيو"، مؤرخ عَمارة، فكان في حفل لدى "قصر فيرساي". هرع عائدًا إلى باريس وشاهد المأساة. يقول: "كان الناس يبكون. كانت ألسنتهم تلهج بالدعاء. كانوا يجثون على رُكبهم في الشوارع". على بعد عشرة كيلومترات إلى الغرب، كان "فيصل أيت سعيد"، الذي يُشَغّل اليوم الرافعة التي تعلو الكاتدرائية الجريحة، ينهي مناوبته في رافعة أطول لبناء برج مكاتب جديد. كان وحيدا في الهواء على ارتفاع 130 مترًا، ورأى عمود الدخان الضخم في الأفق وقد بدأ ينجرف جهة الغرب. بحلول الوقت الذي تجاوزت فيه "ماري-هيلين ديديي"، محافِظة وزارة الثقافة المسؤولة عن نوتردام، الطوق الذي ضربه رجال الإطفاء، كانت القطع الثمينة قد أُخرجت ووُضعت في الفناء. تقول: "بدا المشهد كسوق كبيرة للأغراض العتيقة". وفي وقت متأخر من تلك الليلة، أشرفَت "ديديي" على نقل بعض تلك الكنوز في شاحنة بلدية نحو قبو في "القصر البلدي". على متن الشاحنة، وضَعت المحافِظةُ على حِجرها سترة الكتان للقديس "لويس"، الملك الصليبي الذي عاش في القرن الـ 13، فيما حمل رئيسُها تاجَ الأشواك.
وأما الرئيس "إيمانويل ماكرون" فكان في "قصر الإليزيه"، وقد انتهى للتو من تسجيل خطاب وطني كان سيُبَث ذلك المساء عبر شاشات التلفزيون ردًّا على "السترات الصفراء"، الحركة الاحتجاجية المناهضة لحكومته. ألغى بث الخطاب، وأسرع صوب الكاتدرائية. قال مُحدِّثًا وسائل الإعلام إن نوتردام "تاريخنا، وأدبنا، وخيالنا.. إنها محور حياتنا. سنعيد بناء هذه الكاتدرائية. جميعنا سنفعل". أما "دوروثي شاوي-ديريو"، وهي محافِظة تُشرف على عمليات التنقيب الأثري في باريس، فاطّلعت على الخبر على "تويتر" بينما كانت تُحضّر طعام العشاء لأطفالها الثلاثة. لم يسبق لها قَطّ أن أخذتهم إلى نوتردام. ولم يخطر ببالها أنها ستُمضي كل يوم تقريبًا على مدار العامين التاليين في الكاتدرائية الفارغة، بحثًا في الأنقاض -ما تُسميه بقايا- وأنّ نوتردام نفسها ستصير موقعا أثريا.
نقلَت شبكات التلفزيون مُجريات الأحداث والكنيسة لا تزال تحترق. قال "فيليب غورمان"، خبير الغابات: "من الغباء أني بقيتُ أمام شاشة التلفزيون، على أنني أعيش في باريس وكان ينبغي لي الذهاب لمشاهدة الحدث". استمعَ بغضب إلى الخبراء وهم يقولون إن الهيكل الخشبي لبرج نوتردام لا يمكن أبدًا تشييده من جديد.. وأن فرنسا تفتقر إلى أشجار البلوط والمعرفة العملية. يُدير غورمان مجال الغابات في سائر أنحاء البلد. بحلول الساعة 11 مساء، اتَّصل هاتفيا بصديق له في "المكتب الوطني للغابات"، لوضع خطة تهدف إلى جمع ما يلزم من الخشب عبر التبرعات. في ذلك الوقت تقريبًا، وصل فيلنوف إلى "بارفيس"، الساحة المقابلة للكاتدرائية؛ وقد كان على متن القطار غير موصول بشبكة الإنترنت حين انهار برج "فيولي-لو-ديك". في اليوم التالي، صعد إلى البرج الشمالي لتفقّد الأضرار، فعثر على الديك النحاسي الذي كان يعتلي البرج. كان الديك قد سقط فوقع على سطح جانبي. أظهرت صورةٌ نشرَتها صحيفة "لوباريزيان" هذا المهندسَ المعماري وقد ضم إلى صدره الديك المبعَّج.
حدثني قائلًا: "عندما وصلتُ إلى بارفيس كنت ميتًا؛ أما الآن فأنا في غيبوبة. بإعادة بناء الكاتدرائية، سأعيد بناء نفسي. سأكون أفضل حالًا عندما ينتهي الأمر". ومع دنو انطلاق إعادة البناء في شهر سبتمبر، وشم "فيلنوف" البرجَ على ذراعه اليسرى، من الكوع إلى الرسغ.
فـي صــــيف عـــام 1998، اصطحبني مؤرخ فن من "جامعة كولومبيا"، يدعى "ستيفن موراي"، إلى علية نوتردام. كانت قاتمة حتى في وضح النهار. بينما كنا نسير عبر شبكة من عوارض البلوط المنخورة تقريبا، انتشرت القمم المنحنية لأقبية الكنيسة الجيرية المرتفعة مثل ظهور أفيال رمادية تحت أقدامنا.
تجمّع الغبار في التجاويف. من الأسفل، داخل الكنيسة، لم أتخيل قط هذا العالم وراء الكواليس.. عالم بُناة الكاتدرائية. عند عبور الجناح وصحن الكنيسة، نظرت إلى الأعلى متأملًا الهيكل الخشبي المعقد للبرج.
وفي صيف عام 2021، وقفت مجددا في المكان نفسه؛ لكني كنت على سقّالة هذه المرة، أنظر نحو الأسفل إلى الحفرة العملاقة التي أحدثها البرج لمّا انهار مصطدمًا بالأقبية الحجرية. أحدث الجزء العلوي منه ثقبًا آخر في الصحن، وتَشكل ثالثٌ في الطرف الشمالي من الجناح. لمّا شبّت النيران في "الغابة"، سقطت دعامات مثلثة من خشب البلوط، يناهز ارتفاعها العشرة أمتار -مثل الدومينو على الأقبية- وسقط الحطام خلال الثقوب. عند المَعبر، تَكدس الخشب والحجارة المتفحمان بارتفاع يزيد على المتر على أرضية الكاتدرائية. في غضون أيام الحريق، حتى عندما كان "ماكرون" يَعد بإعادة افتتاح نوتردام في الوقت المناسب لدورة الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس عام 2024، قررت "شاوي-ديريو" وزملاؤها أن الحطام لا يمكن التخلص منه ببساطة. فلقد كان مادةً تراثية مَحمية بحكم القانون، ينبغي فرزها على أيدي محترفين. سرعان ما هبّوا بالعشرات إلى الكنيسة. وأخبرني "تيري زيمر"، نائب مدير "مختبر البحث في المآثر التاريخية" أنه أرسل الجزء الأكبر من طاقمه المؤلف من 34 عضوًا.
ولمّا كانت الأقبية المتضررة ما تزال عرضة للانهيار، استخدم العلماء روبوتات يُتحكم فيها من بُعد لجمع الحطام. ارتَدوا أجهزة تنفس لصدّ غبار الرصاص، وقاموا بفرز المواد في ممر جانبي، وجمعوا أي شيء قد يكون مفيدا في إعادة البناء أو ذي أهمية تاريخية. من ذلك مثلا، أن حلقات الأشجار في القِطع الكبرى من الخشب تُشكل أدلة على التسلسل التفصيلي لتشييد الكنيسة.
قال زيمر: "كل تلك الأشياء التي لم نَطّلع عليها من قبل صارت، للأسف، بين أيدينا الآن"؛ ما سيشكل ومضة معرفة إضافية عن الكاتدرائية وعن الفترة التي شُيّدت فيها.
استغرق الأمر عامين اثنين لفرز كل الحطام ونقله إلى مستودع بالقرب من "مطار شارل ديغول". وُضعت تلك المواد على مساحة تفوق 2500 متر مربع، على رفوف بارتفاع ستة أمتار. وتألّفت من قطع خشب صغيرة إلى حدّ لا يسمح بدراستها، وقطع رفيعة من الحجر والغبار والرماد، (وحتى هذه الأشياء تم حفظها، في الوقت الراهن، في مئات أكياس التخزين. كان عملًا شاقًا، على حد تعبير "شاوي-ديريو". لكنه كان مبهجًا و"مغامرة إنسانية" لا تتوقع هذه المرأةُ خوضَها مرة أخرى.
أثناء تنظيف أرضية نوتردام، كان لزامًا تأمين الجدران والأقبية ضد الانهيار. وكانت دراسة هندسية قد كشفت أن غياب السقف الرصاصي والأخشاب التي تثقل الجدران وتحافظ على تماسكها سيجعلها عرضة للانهيار على نحو مريع، إذ يمكن لعاصفة لا تتجاوز سرعتها 90 كيلومترًا في الساعة أن تُسقطها. من عام 2019 إلى صيف 2021، عزز النجّارون بعض الدعامات العلوية والأقبية، ووضعوا دعامات خشبية تزن أطنانا تحت كل واحدة منها. في غضون ذلك، فكك فَنِّيو الحبال السقالات القديمة أنبوبًا أنبوبًا. (وقد كان "فيلنوف" على وشك الشروع في تجديد البرج، لمّا اندلع الحريق). كانت حالة السقالة القديمة مزرية وتهدد بالانهيار وإلحاق مزيد من الضرر بالكنيسة. في ربيع عام 2020، تسببت جائحة "كوفيد19-" في إغلاق موقع أشغال الترميم مدة شهرين. وكان غبار الرصاص المنتشر قد أغلقه بالفعل طيلة ستة أسابيع من عام 2019، بعدما قرر مفتشو أماكن العمل أن إجراءات السلامة الأولية لم تكن ملائمة. منذئذ، قَسم صفٌّ من الحمّامات في حاوية تبديل الملابس الموقعَ إلى مجالين، أحدهما متسخ والآخر نظيف. جاهد العمال كل يوم للحفاظ على تلك الحدود، فكانوا ينزعون ملابسهم ويرتدون بذلات واقية للعمل، ثم يعكسون الفعل -ويستحمون ويغسلون شعرهم- كلما غادروا، وإن تعلق الأمر بالذهاب لتناول وجبة الغذاء. واتبع الزوار الإجراء نفسه. وتم توفير ملابس داخلية وملابس عمل ذات استعمال واحد.
أذعن "إيمانويل ماكرون" نفسُه لتلك الإجراءات. إذ علمتُ من مصدر موثوق به، وهو جنرال رفيع المستوى يُدعى "جون-لوي جورجولان" استدعاه الرئيس الفرنسي بعد تقاعده في اليوم التالي للحريق، طالِبًا إليه إدارة إعادة بناء الكاتدرائية.
تَدرّج "جورجولان" في جيش المشاة إلى أن بلغ رتبة جنرال؛ وتَقلّد منصب كبير المستشارين العسكريين لأحد الرؤساء الفرنسيين، ورئيس هيئة الأركان المشتركة في ولاية رئيس آخر. عهد إليه "ماكرون" بنوتردام لسببين اثنين، وفق ما قال "جورجولان": فالجنرال كاثوليكي ملتزم، يعرف المزامير باللاتينية -وقد تلا أحدَها علَي- وفي جعبته المعرفة السياسية والسلطة لإعادة فتح الكاتدرائية في أفق عام 2024. سيتطلب ذلك التعاملَ مع البيروقراطية الفرنسية. يترأس "جورجولان" مؤسسة عامة أُنشئت خصيصًا لترميم كاتدرائية نوتردام استنادًا إلى تبرعات بقيمة 840 ميلون يورو، منها 30 ميلونا من متبرعين من الولايات المتحدة.
عادةً ما تشرف وزارة الثقافة على مشروعات الترميم. ويعدّ بعض الأشخاص من ذلك الوسط أن إشراك الجنرال غريب وأن أجل 2024 غير واقعي. سألتُ "جورجولان" عن الأمر، فتجاهل السؤال بمرح.
قال: "أرى، يا سيدي، أنك أُصِبْتَ بعدوى الذين يعتقدون أن رئيس الجمهورية لا ينبغي أن يتدخل في إعادة بناء كاتدرائية نوتردام. لقد أصبتَ بعدوى حزب البُطء". يتمتع "جورجولان" بحس دعابة وشخصية قوية، يحدثك بصوت استعراضي ويهزك بسخريته، ويفعل كل ذلك بابتسامة واعية.
يقول "جورجولان" إن الكنيسة تكبّدت أضرارا جسيمة لكن تم احتواؤها. ولقد اندهشتُ لذلك؛ إذ يبدو جزءٌ كبيرٌ منها غير متأثر، حين ينظر المرءُ إلى ما وراء السقالات التي تملأ جل المكان. تفاجأَتْ "ماري-هيلين ديديي" أيضا لمَّا دخلت في اليوم التالي للحريق، ومرَّرتْ إصبعها على الجدران للتحقق من السخام. قالت متعجّبةً: "لم يُدمَّر شيء!". وكانت تقصد الكنوز والتحف الفنية. تحطم المذبح الحديث عند المعبر، لكن تمثال "عذراء باريس" الحجري -ويعود إلى القرن الرابع عشر- ظل واقفًا على بعد متر تقريبا سالمًا من كل أذى وإنْ علاه الغبار وسقط الركام عند قدميه. في مختبر الآثار، أخبرتني "كلودين لوازيل"، خبيرة الزجاج الملون، أن بضع قطع من الزجاج على ثلاثة ألواح صغيرة فقط حطمها رأس البرج. أما البقية فلم يمسسها سوء.
وإجمالًا، فقدت الكنيسة برجَها وسقفها وعوارضها، وبعض أقبيتها الحجرية. قال "جورجولان" إن ذلك كثير؛ لكن ليس أكثر من أن يُرَمَّمَ في أفق عام 2024.
على خلاف كثيرٍ ممّن تحدثتُ إليهم، كان "جورجولان" بين الفينة والأخرى يَحضر القدّاس في نوتردام قبل الحريق. في ذلك المساء المروع، كان الجنرال في بيته الباريسي يشاهد التلفزيون ويبكي "كغيره من الناس". سمع أشخاصا يقولون إنهم لن يعيشوا ليشهدوا ترميم كاتدرائية نوتردام. يقول "جورجولان" إن ذلك هو ما حدا بالرئيس إلى تقديم وعد للأمة الفرنسية؛ ولو لم يحدد "ماكرون" الأجل في خمسة أعوام، لكان المهندسون المعماريون وخبراء فنيون آخرون مددوه إلى 15 عامًا. نظر الجنرال إلى السقف وأصدر صفيرا، دلالة على ما تعنيه إضاعة الوقت في التفكير بما لا يُجدي نفعًا.
وقال الجنرال، في حديثه عن "فيليب فيلنوف" أمام لجنة في "الجمعية الوطنية الفرنسية" في نوفمبر 2019: "أمّا عن كبير معماريي المآثر التاريخية.. فقد شرحت له مرات عديدة من قبل، وسأخبره مرة أخرى.. أنه ينبغي له إغلاق فمه". ربما كان محكومًا على الرجلين بالمواجهة. فقد اعتاد "جورجولان" عدم المزاح أثناء إنجاز مهامه، فيما أَلِف "فيلنوف"، المهندس المعماري الرئيس، قدرا أكبر من المرونة. ويرتدي "جورجولان" بدلات وسترات مزدوجة الصدر. أمّا "فيلنوف" فمثقف يرتدي سراويل الجينز وسترات مجعدة ونظارات شبيهة بتلك التي ترتديها النساء المُسنّات. إنه رجل عاطفي يضفي طابعًا شخصيا على الأزمة ويتفوه بما في قلبه، بكل ما في الكلمة من معنى. ومن ثم كان لديه سبب وجيه ليستشعر بقدر كبير الوضع في كاتدرائية نوتردام. لم تكن هذه أول مواجهة له مع كارثة من هذا الحجم؛ إذ قال لي: "لقد اتسمت مسيرتي المهنية بالحرائق". يوم ترقية "فيلنوف" إلى منصب مهندس رئيس للمآثر التاريخية، عام 1998، عَلِم أن برقًا تسبب بحريق في كنيسة عتيقة في منطقته، "شارانت-ماريتيم". كان ذلك أول تكليف له. ويوم شبَّ الحريق في كاتدرائية نوتردام، كان يعمل على مشروعه الرئيس الآخر، مبنى "بلدية لاروشيل" الذي يعود إلى القرن 15 وقد تعرض للدمار في وقت سابق بسبب الحريق، وكان "فيلنوف" ساعتئذ يرممه. حدث ذلك في عام 2013، قُبيل اختياره لإنجاز المَهمة في كاتدرائية نوتردام. لم يظهر أي دليل يربط بين أي من الحريقين وأشغال الترميم. لم تنشر شرطة باريس نتائج تحقيقها بشأن نوتردام، ويُشتبه أساسًا في تماسٍّ كهربائي. إلا أن "فيلنوف" ما زال يشعر بعبء الاضطرار لتصحيح ما خلّفته المأساة. يقول "جاك مولان"، المهندس الرئيس الذي يتولى ترميم "كنيسة سان دوني" القريبة: "لقد كان فيلنوف في مستوى المناسبة. استطاع تجاوز نفسه، وتلك قدرة نادرة". لكنها وضعته في مواجهة أهداف الرئيس. غداة الحريق، شجع "ماكرون" علنًا شيئًا جديدا من الناحية المعمارية في نوتردام.. "لفتة معاصرة"، على حد تعبيره. إذ قال: "ينبغي لنا الوثوق في بُناة اليوم، وعلينا الوثوق بأنفسنا". استجاب البُناة ببهجة: إذ تدفقت من كل أرجاء العالم مقترحاتُ بإنشاء أسقف زجاجية وأبراج بلورية من الضوء. واقترح أحد المكاتب المعمارية دفيئة على السطح. فيما اقترح آخر استبدال السقف بحوض سباحة في الهواء الطلق. على أن "فيلنوف" أراد وأدَ كل تلك المقترحات في المهد؛ إذ قال إنه لن يشارك في بناء برج عصري. عندئذ حاول "جورجولان"، بشيء من الخرَق، إسكاته. لكن المقترحات السخيفة أسهمت في دعم موقف "فيلنوف"؛ إذ يُجمع الكل على عدم تحويل الكاتدرائية إلى حوض سباحة. وبحلول صيف عام 2020، أقر كل من الرئيس والجنرال و"لجنة التراث الوطني" خطة "فيلنوف". سيُعاد تشييد كاتدرائية نوتردام كما كانت، وفق "آخر حالة معروفة"؛ أي الحالة التي تركها عليها "فيولي-لو-ديك". شكَّل الأمر انتصارا للتيار التقليدي: فإعادة البناء هو ما يفعله المرممون الفرنسيون عادة. وينص "ميثاق البندقية" -المعتمَد عام 1964 في مؤتمر دولي للخبراء- على هذا النهج؛ إذ لا تكون غاية الترميم التاريخي هي الحصول على أجمل مبنى بقدر ما تكون بلوغ بناء أكثر "أصالة"، أي أنه يحافظ على جميع طبقاته التاريخية. قد يبدو الدافع أكاديميا، لكنه عاطفي أيضا؛ ذلك أن إعادة بناء صروح مماثلة -لا سيما بعد كارثة- تُعدّ بمنزلة "عمل رمزي قوي؛ عمل ذي بعد تنفيسي"، على حد تعبير المؤرخ "لونيو"؛ إذ يستطرد قائلًا: "إنه الطريقة الوحيدة للحزن، ومن المهم جدا أن نحزن". المفارقة أن "فيولي-لو-ديك" الذي شاهد نوتردام تتعرض للهجوم لم يُظهر أي ضبط للنفس (لا سيما بعد وفاة شريكه "جون-باتيست لاسي"، وبقائه المسؤول الوحيد). لم تكن غايته إعادة بناء كاتدرائية نوتردام كما كانت تمامًا، ولكن بناء كاتدرائية مثالية. جدد بالكامل بعض الجدران حول المَعبر لأن الطريقة التي غُيرت بها في القرن 13 لم تَرُقه. وهدم الخزانة العائدة إلى القرن 18 واستبدلها بأخرى قوطية جديدة. فلقد احتفى بالمعماريين القوطيين وحاول التشبه بهم؛ أما بشأن البرج، فقد نشأ إجماع على أنه أبدعَ فيه حتى تفوَّق على نفسه.. لكن ليس كثيرًا في مناح أخرى.
على مَرّ قرن كامل من وفاة "فيولي-لو-ديك"، شَوَّهت سمعتُه مؤسسةَ الآثار التي كان قد أسهم في إنشائها. يقول "مولان": "لمّا كنتُ طالبًا جديدا في مدرسة الهندسة، كانت كل عملية ترميم من إنجاز "فيولي-لو-ديك" مرادفة للفوضى العارمة". في كاتدرائية نوتردام، رسم "فيولي-لو-ديك" جداريات زخرفية في المصليات الجانبية الـ 24. وفي سبعينيات القرن الماضي، تمَّ كشط 12 مصلى في صحن الكنيسة وإعادتها إلى جدران حجرية صرفة. لكن بحلول ذلك الوقت، كانت سمعة الرجل العظيم على وشك العودة إلى ألقها؛ وشكَّل المعرض الذي شاهده الشاب ذو الـ 17 ربيعًا في عام 1980 منعطفًا. يقول "مولان": "انتقلنا مرة واحدة من فيولي-لو-ديك الشيطان إلى فيولي-لو-ديك الذي كاد يصير قديسا".
اليوم، لن يفكر معظم المُرمّمين الفرنسيين في التراجع عن أي شيء كان "فيولي-لو-ديك" قد فعله. ويعتقد مولان أن ذلك من العار. إنه أيضا يؤمن بصون التاريخ؛ إلا أن محاولة تثبيت مبنى مرة واحدة وإلى الأبد وفق "آخر وضع معروف"، حسب تعبيره، يعني التصريح بانتهاء التاريخ بالنسبة إلى ذلك المبنى. "إنه تعريف الموت". وقد لا يكون ذلك أفضل سبيل للحفظ. ويرى "مولان" أن من غير المنطقي إعادة بناء العوارض من الخشب إذا كان سقف الكاتدرائية قد تعرض للتو لحريق.
سُمِعَت هذه الحجة -ورُفِضت- في نوتردام. سيبنى البرج والعوارض بالخشب، مع مزيد من المواد المقاوِمة للحرائق ورذاذات إخمادها. إن التفاصيل ما زالت قيد الإعداد.
في عام 2019، ارتفعت حرارة الحريق الذي شب في أخشـــــــــاب البلوط -حتى تجاوزت 760 درجة مئوية- وأتت على جدران الحجر الجيري المجاورة وقمم بعض الأقبية. قام اثنان من متخصصي الأحجار في "مختبر الآثار"، عالمة الجيولوجيا "ليز كادو-لورو"، وعالم صون الطبيعة "جون-ديديي ميرتز"، بتعلم تقنيات الحبال حتى يتمكنا من فحص الأضرار. أراني "ميرتز" بعض النوى التي يبلغ طولها 30 سنتيمترًا استخرجوها من حجارة سُمكها 60 سنتيمترًا. تحول سطح بعض الحجارة إلى مسحوق، وتشكلت داخلها شقوق؛ ما تسبب في تقشر ما يصل إلى 12 سنتيمترًا. لكن جل الكتل ظلت سميكة بما يكفي لأداء مَهمتها، على حد تعبير "ميرتز". طوّر هذا العالم، بمعية زملائه، تقنية لسد الشقوق عن طريق حقن ملاط كلسي. وبالنسبة إلى الحجارة التي تحتاج إلى استبدال، يبحث العلماء عن مثيلات جيدة في شمال باريس؛ فلقد توسعت المدينة فوق المحاجر التي تعود إلى العصور الوسطى، والتي كانت تشكل حينئذ ضواحيها.
انصهر جُلّ الـ 460 طنًّا من الرصاص في السقف والبرج وتساقط داخل الكنيسة، لكن الحرارة كانت شديدة بما يكفي لتحويل جزيئات الرصاص إلى دخان. قال "جيروم لانغراند"، الطبيب وخبير السموم الذي يدير "مركز السموم في باريس"، إن خطر استنشاق الرصاص في تلك الليلة كان "ضئيلا" ما لم يكن المرء واقفا إلى جوار النار مباشرة. يتمثل الخطر الحقيقي للرصاص في ابتلاعه عَرَضًا مع مرور الوقت، لا سيما من قبل الأطفال، عبر الأوساخ الملوثة في المنتزهات أو الملاعب أو الغبار الذي يستقر داخل البيوت. تجول "ألكسندر فان جين"، العالم لدى "جامعة كولومبيا"، في أنحاء باريس وهو يجمع عيّنات أوساخ في أكياس ورقية، وقدَّر أن نحو طن من الرصاص تساقط على بعد كيلومتر من الكنيسة.
مع ذلك، يقول "لانغراند" إنه لا وجود لدليل على أن الرصاص تسبب في تسمم كبير. وقد حلل بمعيّة زملائه دماء 1200 طفل في المنطقة المتضررة، فوجدوا تركيزات أعلى من "المستوى المقلق" في أقل من واحد بالمئة؛ أي النسبة نفسها تقريبًا لدى سكان فرنسا قاطبة. فضلًا عن ذلك، كشف التحقيق في كل حالة أن الأطفال كانوا يتعرضون على نحو روتيني لمصادر رصاص أخرى. من ذلك، مثلا، أن العديد من شرفات باريس تحتوي على أرضيات رصاصية.
مع ذلك، لا تُعد أي كمية من الرصاص في الدم آمنة، كما أن أسقف الرصاص تُلوث البيئة كلما تم الاشتغال عليها أو هطلت عليها الأمطار. في فبراير 2021، أوصى مجلس استشاري علمي لوزارة الصحة الفرنسية، كان "لانغراند" عضوا فيه، أن تَحظر فرنسا الرصاص في الأسقف الجديدة وأن تجد بدائل له في ترميم المباني التاريخية. حينذاك كان مجلس مدينة باريس قد صوت للمطالبة بعدم استعمال الرصاص في ترميم كاتدرائية نوتردام.
لم تفتر عزيمة "فيلنوف" لأي من تلك الذرائع، وأصر هو و"جورجولان" أن سقفًا رصاصيا في نوتردام لن يشكل خطرا على الأطفال إلّا إنْ صعدوا إليه ولعقوه.
قال "فيلنوف": "الرصاص عنصر أساسي للغاية في البناء". إن سقف "كاتدرائية شارتر" نحاسي بالتأكيد، لكن النحاس يتحول إلى اللون الأخضر، وسقوف باريس رمادية. جلها من الزنك، لكن الرصاص وحده قادر على إعادة إنتاج البرج والزخارف المنحوتة في سقف نوتردام. يقول "فيلنوف" إن الرصاص يغطي بالفعل سقوف كل من "البانثيون" و"ليزانفاليد" ومآثر أخرى، فلِمَ تكون الكاتدرائية هي الضحية الوحيدة لهذا "الجنون الذي مس المغالين في مناهضة الرصاص؟". كما أن مياه الأمطار المتدفقة من السقف الجديد ستُلتقط وتُصفّى.
فضلًا عن ذلك، يخطط "فيلنوف" لإعادة بناء الهيكل الخشبي على شاكلته السابقة تمامًا. فقد كان مُشكَّلًا من جزأين متميزين. لمّا أعاد "فيولي-لو-ديك" بناء البرج كان قد استبدل هيكل الجناح على خلاف طريقة العصور الوسطى؛ إذ تم قطع العوارض في المناشر الصناعية. وسيفعل "فيلنوف" الشيء نفسه. في شتاء عام 2021، نسق غورمان عملية تبرع بأشجار بلوط بلغ عددها 1200 من سائر أنحاء فرنسا. زُرع أكبرها وأقدمها قبيل الثورة الفرنسية على أيدي حراس الغابة الملكيين الذين كانوا يؤمّنون حاجات البحرية من صواري السفن. ستشكل تلك الأشجار قاعدة البرج.
كانت الأخشاب العلوية في الصحن وزاوية الجوقة مختلفة: كانت في الغالب أصلية يعود تاريخها إلى القرن الـ 13. في سبتمبر 2020، أعادت منظمة تدعى "نجّارون بلا حدود" بناء أحد الجلمونات المثلثة أمام الكاتدرائية لإثبات جدوى إعادة بناء الهيكل وفق طريقة العصور الوسطى. اصطحبني "فرانسوا كالام"، وهو عالم أعراق ونجّار أسّس المنظمة، لمشاهدة هذا الجملون حيث يُعرَض الآن، خارج قلعة من القرون الوسطى في نورماندي، تسمى "شاتو دو كريفكور". يتألف من اثنتي عشرة دعامة، حُفر كل منها باليد من شجرة بلوط واحدة، ولا يزيد عرضه على 30 سنتيمترًا.
كان نجّارو العصور الوسطى يشتغلون على الأخشاب الطرية، وكذلك يفعل منتسبو "نجارون بلا حدود". كانوا يتبعون اللحاء ويُبقون على النوى في المركز. أضفَت تلك الطريقة على بعض الدعامات انحناءات طفيفة، لكنها جعلتها أقوى. لقد ظلت دعامات كاتدرائية نوتردام صامدة أزيد من 800 عام قبل أن ينفد حظها. أخرج "كالام" من صندوق سيارته الأداة المفضلة: فأس عريض يتوهج رأسه مثل بوق. وجّه بضع ضربات حاذقة إلى جذع شجرة، ودعاني إلى المحاولة. حذّرني أن الفأس حاد بما يكفي لإحداث إصابة خطيرة إن أُسيءَ تصويبه؛ ما بدا احتمالا معقولا. كانت ضرباتي الأولى غير دقيقة، ثم ما لبثتُ أن أصَبتُ فيما بعدُ. تطايرتْ في الهواء أسافينُ صغيرة من الخشب الطازج.
يرى "كالام" أن الترميم التاريخي يهم أيضا استعادة المهارات المفقودة إلى جانب ترميم المباني المتضررة؛ وليس ذلك فقط لمصلحة النجارين. ويَعتقد أن السبب وراء تأثير "غابة" كاتدرائية نوتردام على قلوب من رأوها كامن في أن الرسالة كانت تُمرر عبر القرون من الحرفيين المهرة الذين أبدعوها.
يقول "كالام": "كان عمر الهيكل 800 عام. لقد صار أثرًا بعد عين. لكني أعتقد أنه إذا قمنا بإعادة العمل وفق الطريقة التي تم بها بادئ الأمر -أي بالطريقة نفسها والمواد عينها- فيمكن نقل الرسالة. سيكون المرء قادرا على الشعور بها". أُعجب "فيلنوف" بالإثبات الذي قدّمته "نجارون بلا حدود". وتوفيرًا للوقت، قال إن مناشر الخشب ستقطع الجذوع المخصَّصة للصحن وزاوية الجوقة، لكن العوارض ستُشذَّب يدويًا باستعمال الفؤوس. ومع ذلك، سيأتي إنشاء البرج في المقام الأول. اضطر "فيولي-لو-ديك" لإحداث حفرة في الأقبية حتى يتسنى له بناء برجه انطلاقًا من الداخل. أما "فيلنوف" فبدأ من الأعلى: فالحفرة موجودة بالفعل.
كان "موريس دو سويي"، أسقف باريس الذي أمر ببناء كاتدرائية نوتردام عام 1163، ابنَ فلاحين. إن توجه البرج صوب السماء لا يعني خلو نفس "سويي" من تطلعات دنيوية أيضا: فلقد تباهى بقوته أمام خصومه وأمام الملك. بدا البرج في قصر رئيس الأساقفة كحصن. وكانت الواجهة الغربية للكاتدرائية أضخم.
"في مدينة العصور الوسطى، كان المبنى طاغيا"، يقول "بيرنار فونكورني"، الذي عمل -بوصفه كبير المهندسين- على ترميم الواجهة في تسعينيات القرن الماضي وإزالة تراكمات عقود من عوادم السيارات وفضلات الحمَام. كنتُ أعيش حينذاك في فرنسا، وأَذكر تلك الولادة الجديدة.. حين توهجت الجدران عندما أزيلت السقالات.
يقول "داني ساندرون"، مؤرخ الفن لدى "جامعة السوربون"، إن بناء الكاتدرائية تم في معظمه بأموال تبرع بها عامة الناس. لم تكن تجربتهم مع الكنيسة كتجربة كاثوليك اليوم ممن يرتادون القداس. حين يذرعون الصحن الخالي من المقاعد لا يرون -وبالكاد يسمعون- قداسات رجال الدين المقيمين، ثماني مرات في اليوم، خلف جدار في زاوية الجوقة. وفي الجنبات يهمس القساوسة نحو 120 قُدَّاسًا في اليوم، لكنها أيضا لم تكن موجهة للأحياء، بل للموتى الأثرياء الذين موّلوا القداسات إلى الأبد، على أمل انتشال أرواحهم من المَطهر. مع ذلك، توافد عامة الناس إلى كاتدرائية نوتردام. كانوا ينامون أحيانا على الأرض قبالة المذبح، يحلمون بعلاجات خارقة لأمراض مؤلمة. لقد كان الإيمان الكاثوليكي حينئذ حيويا لمعظم الفرنسيين، على خلاف ما هو عليه اليوم.
أكد "باتريك شوفي"، عميد الكاتدرائية، أن "نوتردام ليست متحفا". قبل الحريق، كان نحو 3000 شخص يحضرون القداس أيام الآحاد؛ لكن 10 ملايين إلى 12 مليونا من السياح يزورنها كل عام. ومعرفة كثير منهم بالمسيحية ضئيلة. تساءل "شوفي" قائلا: "أنّى لهم أن تمسهم نعمة هذا المكان؟ وأنّى لجماله أن يتيح لهم مساءلة ذواتهم عن معاني حياتهم؟".
وقال إن الخطة تكمن في إعادة تنسيق الزيارة، وعند إعادة افتتاح الكنيسة، سيتم توجيه الزوار إلى حلقة جديدة تمر بالمصليات الجانبية. وفي طريقهم من الشمال إلى الجنوب -من الظلمة إلى النور- سيلاقون بداية "العهد القديم" ومن ثم "العهد الجديد"، من أجل "الخوض تدريجيًا في الأسرار الربانية"، على حد تعبير "شوفي".
هل سينجح الأمر؟ بفضل ميزانية الترميم الضخمة، ينبغي أن تكون الكاتدرائية في أبهى حلة. والعمل الذي يستغرق بطبيعته عقودا، قد خُطط له أن يُنجز في غضون الأعوام الثلاثة المقبلة. سيتم تنظيف كل أجزاء الكنيسة من الداخل، بما في ذلك المصليات واللوحات وجل الزجاج الملون.. إنها ولادة جديدة متألقة. وإذا كان، كما يعتقد "جورجولان"، "جمال المعمار القوطي أحد أفضل البراهين على وجود الرب"، فسيكون الرب قد قام ليقاتل يومًا آخر في فرنسا. لن يكون الحريق قد شب هباءً.
مساء ذلك اليوم من شهر أبريل، كنتُ أنا وزوجتي مع أصدقاء قدامى جاؤوا في أول رحلة لهم إلى باريس. بعد العشاء على الضفة اليمنى، قررنا المشي في طريق العودة إلى حيث نعيش على الضفة اليسرى. كانت ضفاف نهر السين مكتظة بالناس وهم يشاهدون كاتدرائية نوتردام تحترق. عند عبور جزيرة "سانت لويس"، تخطينا خرطوما وضعه رجال الإطفاء لضخ المياه من النهر. وعلى "قنطرة لاتورنيل" توقفنا بالقرب من جوقة مرتجلة ترتل بلطف ترانيم للسيدة العذراء. أُعجبت بذلك المنظر، على طول نهر السين باتجاه حنية نوتردام، عشرات المرات. لم أستطع تصور ما قد يكون عليه الحال إن اندثرت الكاتدرائية إلى الأبد.
قال "لونيو": "لقد كان ذلك جميلا.. على المرء أن يؤكد على جمال النار. كان الأمر رائعا، لكن الروعة تتلوها البشاعة. لا يوجد سوى الخراب. في البدء كان السواد والظلام والموت".. إلى أن عادت إلى الحياة، كما يجب.
نوتردام تنبعث مـن رمـادهـا
سلِمت الكاتدرائية نفسها من حريق شبَّ عام 1831. اعتلى المشاغبون السطحَ وألقوا صليبا حديديا عملاقًا. حطموا الزجاج المُلَوَّنَ، وانهالوا بالفؤوس على تمثال للسيد المسيح، ودمّروا آخرَ للسيدة مريم العذراء. لكن هدفهم الحقيقي كان البحث عن رئيس أساقفة باريس، الذي لم يكن هناك؛ ولذا نهبوا قصره الواقع جنوب الكنيسة، قبالة نهر "السين". ثم ما لبثوا أن أضرموا النار فيه، فصار القصر أثرًا بعد عين؛ واليوم تنتصب مكانه رافعةُ بِناء ارتفاعها 75 مترًا.
ثمة رسم يُوثّق لمشهد تلك الليلة -14 فبراير 1831- يُرى من رصيف "كي دو مونتيبيلو" على الضفة الأخرى من نهر السين. أنجز الرسمَ "يوجين-إيمانويل فيولي-لو-ديك" الذي قام، 13 عامًا بعد ذلك، بأشغال ترميم الكاتدرائية على مَرّ 20 عامًا. كان "فيولي-لو-ديك" في الـ 17 من عمره لمّا شهد هجوم الغوغاء. وأظهر في لوحته، المنجَزة بقلم رصاص على عَجَل، وجوهًا غاضبة تقتحم القصر وتلقي أثاثَه وأشياءَ أخرى ثمينة في النهر عبر النوافذ؛ وخلْف ذلك كله، تقف "نوتردام"، التي مضى على تشييدها ساعتئذ ستة قرون.
في عام 1980، زار "فيليب فيلنوف" (وكان أيضا في ربيعه الـ17) مَعرضًا لأعمال "فيولي-لو-ديك" في "غراند بالي" (القصر الكبير). كان يُدركُ أنّه عازمٌ على أن يُصبح مهندسًا معماريًا -إذ كان فِعلًا يَعكف على إنشاء نموذج مفصَّل لنوتردام- لكنه لم يَعلم بإمكانية التخصص في المباني التاريخية تحديدًا. وها هو اليوم قد أصبح واحدًا من 35 "مهندسا معماريًا متخصصًا في المعالم التاريخية" بفرنسا؛ تلكم المهنة التي اكتسبت شهرتَها بفضل "فيولي-لو-ديك". وأشرف "فيلنوف" على أشغال ترميم نوتردام منذ عام 2013، وعَجّل وتيرة عمله منذ ربيع عام 2019 لمّا شبَّ حريق أتى على الجزء العلوي من الكاتدرائية. وقد ثُبِّتَ المبنى في نهاية المطاف، وأوشكت إعادة إعماره على البدء. إن فيلنوف يَدين في مَهمته الحالية إذ يخوض أم معاركه المهنية -من أوجه عِدة- إلى سلفه العبقري "فيولي-لو-ديك".
يقول عنه فيلنوف: "لقد ابتكر ترميم المآثر التاريخية. لم يحدث ذلك من قبل؛ إذ كان الناس يرممون الآثار وفقًا لأساليب عصورهم". أو لم يكونوا يرممونها البتة، بل يهدمونها.
في فرنسا القرن التاسع عشر، أنشأت الحكومة أول مرة مؤسسات تعاطت على نحو منهجي مع سؤال يهمنا جميعًا: أي جزء من الماضي جدير بالصيانة والنقل إلى الأجيال القادمة؟ ما الواجب الذي ندين به لإبداعات أسلافنا، وماذا نستمد من حضورهم من قوة واستقرار؛ ثم -على خلاف ذلك- متى يصبحون حِملًا زائدًا يَحول دون إبراز أنفسنا في المستقبل وخلق عالمنا الخاص؟ كلٌّ منا يواجه السؤال في عالم مصغَّر، في العمل وفي الحياة. وفي ذهن كلٍّ منا "مصلحة آثار تاريخية" تقاوم لتُقرّر ما يجدر الاحتفاظ به وما يمكن التخلي عنه، فضلا عن تمييز التغيير الذي ينبغي مقاومته من التغيير الذي يجب اعتماده؛ وفي كثير من الأحيان لا نعي ذلك تمام الوعي.
وغالبا ما لا نكون واعين بنصيبنا في قرارات الحِفظ التي تتخذها الحكومات أو بكيفية تأثير المباني القديمة فينا.. إلى أن تحيق بها التهديدات.
كانت نوتردام في أيامها ثورة معمارية. بُنِيت في أواخر القرن 12 والقرن 13، يومَ كانت فرنسا في طور التشكل بصفتها أمةً عاصمتها باريس، أكبر حواضر أوروبا. شكّلت نوتردام باكورة تُحف عمارة فرنسية جديدة؛ أتاحت أقواسها المدببة ودعاماتها الشاهقة ارتفاعَ الجدران ودقتها، وضخامة النوافذ، وتدفق الضوء من خلالها. سَمّاها الإيطاليون -بدافع الغيرة- "قوطية"، وكانوا يقصدون بذلك "متوحشة"؛ إلا أن هذا الأسلوب الفرنسي اكتسح أوروبا. كان الناس يشعرون بحضور الرب في عظمة البناء وإضاءته.
لكن بحلول مطلع القرن التاسع عشر، كانت نوتردام في مأزق؛ إذ تداعت على نحو خطير نتيجة عقود من الهجوم والإهمال، بدأت حتى قبل اندلاع ثورة 1789. هنالك استشاط "فكتور هوغو" غضبًا، فألَّف رواية كاملة عن الكاتدرائية، مثيرًا الجدل بشأن سوء استخدام التاريخ في قصة كاهن مكبوت ورجل أحدب يدق الناقوس، وفتاة رغب بها الاثنان. نُشرت رواية "نوتردام باريس" عام 1831، في الشهر التالي لحادث إحراق قصر رئيس الأساقفة. في كل أنحاء فرنسا، نُهبت الكنائس القديمة التي تم الاستيلاء عليها إبّان الثورة، سعيًا للحصول على الحجارة. وأسهم هوغو في تأسيس حركة تقول "كفى"، فما لبث "فيولي-لو-ديك" أن انخرط فيها بكل حماس وهِمّة.
ولقد أنقذ هذا الأخير نوتردام. إذ أعاد بناء الدعامات والزجاج الملون، واستبدل التماثيل التي حطمها الثوار، وأضاف مزيدا منها: فالتماثيل المهيبة التي تؤويها الكاتدرائية هي من إبداعه. ولمّا بنى برجًا خشبيًا مُدَّببًا جديدا -يفوق الأصلي ارتفاعًا بخمسة عشر مترا- أضاف عند قاعدته تماثيل نحاسية أكبر من الحجم الطبيعي، وترمز إلى حِواريي المسيح الاثني عشر، وينظر أحد عشر منهم إلى الخارج كأنهم يراقبون المدينة، أما الثاني عشر فكان القديس "توما"، الحواري المُشكِّك؛ وقد أعارَه "فيولي-لو-ديك" ملامحَ وجهه وجعله يُحدّق في البرج الذي أبدع. لقد كان "فيولي-لو-ديك" مُلحدًا أنقذَ "ملِكة" كاتدرائيات فرنسا.
واليوم، يجري تارة أخرى إنقاذ هذه الكنيسة التي ظلت دارَ عبادة منذ أزيد من 800 عام. ويجري إنقاذها بعد نصف قرن شهد تراجع الكاثوليكية كثيرًا في فرنسا، فيما ازداد عدد السياح. في مقر عمل "فيلنوف" خلف الكاتدرائية، يوجد مكتبه قبالة نسخة من رسم أنجزه "فيولي-لو-ديك" عام 1843 للواجهة الغربية لنوتردام. في زاوية من الإطار الذي يحمل الرسم، انحشرت قُطيرة رصاص متجمد كانت قد انهمرت من السقف المصهور بفعل حريق عام 2019. منذ ليلة الحريق، عقد "فيلنوف" العزم على إعادة بناء الكنيسة تمامًا كما تركها "فيولي-لو-ديك"، بما في ذلك السقف المصنوع من الرصاص و"غابة" أعمدة خشب البلوط الضخمة التي تدعمه.
يقول: "إننا نُرَمِّم ما رمَّمَه المُرَمِّم". قُبيل الساعة السابعة من مساء يوم 15 أبريل 2019، بينما كان فيلنوف يسابق الزمن من بيته على الساحل الأطلسي ليستقل آخر قطار فائق السرعة نحو باريس، كنتُ على متن سيارة أجرة أَعبر نهر السين. كانت حركة المرور بطيئة. نظرَتْ زوجتي عبر النافذة، وتساءلت: "هل تحترق نوتردام؟". كانت بقعة اللهيب البرتقالية على السطح غير ذات شأن؛ لذلك همستُ قائلًا: أنا متأكد أنهم سيُخمدونها عاجلًا. لكن بعد لحظات، رأينا ألسنة اللهب تتصاعد عبر البرج الخشبي وتبتلعه.
يَذكر كل شخص في فرنسا مكان وجوده لمّا احترقت نوتردام تلك الليلة من شهر أبريل -فكانت الفاجعة بذلك أشبه بأحداث "الحادي عشر من سبتمبر" بأميركا؛ وإن لم تُسفر عن خسائر في الأرواح. حينَها كان "برنارد هيرمان"، المصور المتقاعد، في بيته الكائن لدى "ساحة بوتي بون"، قبالة الكاتدرائية. كان قد نشر كتابًا عنوانه "Paris, km 00" (باريس، النقطة الكيلومترية صفر) -إذ تُقاس المسافات على الخرائط الفرنسية انطلاقًا من نقطة صفر محدَّدة أمام نوتردام- يحوي صورًا التقطها عبر نوافذه. يقول هيرمان: "كانت مأساة نوتردام في نظري نهاية العالم. صُعِقتُ، وأسدلتُ الستائر". أمّا "جون-ميشيل لونيو"، مؤرخ عَمارة، فكان في حفل لدى "قصر فيرساي". هرع عائدًا إلى باريس وشاهد المأساة. يقول: "كان الناس يبكون. كانت ألسنتهم تلهج بالدعاء. كانوا يجثون على رُكبهم في الشوارع". على بعد عشرة كيلومترات إلى الغرب، كان "فيصل أيت سعيد"، الذي يُشَغّل اليوم الرافعة التي تعلو الكاتدرائية الجريحة، ينهي مناوبته في رافعة أطول لبناء برج مكاتب جديد. كان وحيدا في الهواء على ارتفاع 130 مترًا، ورأى عمود الدخان الضخم في الأفق وقد بدأ ينجرف جهة الغرب. بحلول الوقت الذي تجاوزت فيه "ماري-هيلين ديديي"، محافِظة وزارة الثقافة المسؤولة عن نوتردام، الطوق الذي ضربه رجال الإطفاء، كانت القطع الثمينة قد أُخرجت ووُضعت في الفناء. تقول: "بدا المشهد كسوق كبيرة للأغراض العتيقة". وفي وقت متأخر من تلك الليلة، أشرفَت "ديديي" على نقل بعض تلك الكنوز في شاحنة بلدية نحو قبو في "القصر البلدي". على متن الشاحنة، وضَعت المحافِظةُ على حِجرها سترة الكتان للقديس "لويس"، الملك الصليبي الذي عاش في القرن الـ 13، فيما حمل رئيسُها تاجَ الأشواك.
وأما الرئيس "إيمانويل ماكرون" فكان في "قصر الإليزيه"، وقد انتهى للتو من تسجيل خطاب وطني كان سيُبَث ذلك المساء عبر شاشات التلفزيون ردًّا على "السترات الصفراء"، الحركة الاحتجاجية المناهضة لحكومته. ألغى بث الخطاب، وأسرع صوب الكاتدرائية. قال مُحدِّثًا وسائل الإعلام إن نوتردام "تاريخنا، وأدبنا، وخيالنا.. إنها محور حياتنا. سنعيد بناء هذه الكاتدرائية. جميعنا سنفعل". أما "دوروثي شاوي-ديريو"، وهي محافِظة تُشرف على عمليات التنقيب الأثري في باريس، فاطّلعت على الخبر على "تويتر" بينما كانت تُحضّر طعام العشاء لأطفالها الثلاثة. لم يسبق لها قَطّ أن أخذتهم إلى نوتردام. ولم يخطر ببالها أنها ستُمضي كل يوم تقريبًا على مدار العامين التاليين في الكاتدرائية الفارغة، بحثًا في الأنقاض -ما تُسميه بقايا- وأنّ نوتردام نفسها ستصير موقعا أثريا.
نقلَت شبكات التلفزيون مُجريات الأحداث والكنيسة لا تزال تحترق. قال "فيليب غورمان"، خبير الغابات: "من الغباء أني بقيتُ أمام شاشة التلفزيون، على أنني أعيش في باريس وكان ينبغي لي الذهاب لمشاهدة الحدث". استمعَ بغضب إلى الخبراء وهم يقولون إن الهيكل الخشبي لبرج نوتردام لا يمكن أبدًا تشييده من جديد.. وأن فرنسا تفتقر إلى أشجار البلوط والمعرفة العملية. يُدير غورمان مجال الغابات في سائر أنحاء البلد. بحلول الساعة 11 مساء، اتَّصل هاتفيا بصديق له في "المكتب الوطني للغابات"، لوضع خطة تهدف إلى جمع ما يلزم من الخشب عبر التبرعات. في ذلك الوقت تقريبًا، وصل فيلنوف إلى "بارفيس"، الساحة المقابلة للكاتدرائية؛ وقد كان على متن القطار غير موصول بشبكة الإنترنت حين انهار برج "فيولي-لو-ديك". في اليوم التالي، صعد إلى البرج الشمالي لتفقّد الأضرار، فعثر على الديك النحاسي الذي كان يعتلي البرج. كان الديك قد سقط فوقع على سطح جانبي. أظهرت صورةٌ نشرَتها صحيفة "لوباريزيان" هذا المهندسَ المعماري وقد ضم إلى صدره الديك المبعَّج.
حدثني قائلًا: "عندما وصلتُ إلى بارفيس كنت ميتًا؛ أما الآن فأنا في غيبوبة. بإعادة بناء الكاتدرائية، سأعيد بناء نفسي. سأكون أفضل حالًا عندما ينتهي الأمر". ومع دنو انطلاق إعادة البناء في شهر سبتمبر، وشم "فيلنوف" البرجَ على ذراعه اليسرى، من الكوع إلى الرسغ.
فـي صــــيف عـــام 1998، اصطحبني مؤرخ فن من "جامعة كولومبيا"، يدعى "ستيفن موراي"، إلى علية نوتردام. كانت قاتمة حتى في وضح النهار. بينما كنا نسير عبر شبكة من عوارض البلوط المنخورة تقريبا، انتشرت القمم المنحنية لأقبية الكنيسة الجيرية المرتفعة مثل ظهور أفيال رمادية تحت أقدامنا.
تجمّع الغبار في التجاويف. من الأسفل، داخل الكنيسة، لم أتخيل قط هذا العالم وراء الكواليس.. عالم بُناة الكاتدرائية. عند عبور الجناح وصحن الكنيسة، نظرت إلى الأعلى متأملًا الهيكل الخشبي المعقد للبرج.
وفي صيف عام 2021، وقفت مجددا في المكان نفسه؛ لكني كنت على سقّالة هذه المرة، أنظر نحو الأسفل إلى الحفرة العملاقة التي أحدثها البرج لمّا انهار مصطدمًا بالأقبية الحجرية. أحدث الجزء العلوي منه ثقبًا آخر في الصحن، وتَشكل ثالثٌ في الطرف الشمالي من الجناح. لمّا شبّت النيران في "الغابة"، سقطت دعامات مثلثة من خشب البلوط، يناهز ارتفاعها العشرة أمتار -مثل الدومينو على الأقبية- وسقط الحطام خلال الثقوب. عند المَعبر، تَكدس الخشب والحجارة المتفحمان بارتفاع يزيد على المتر على أرضية الكاتدرائية. في غضون أيام الحريق، حتى عندما كان "ماكرون" يَعد بإعادة افتتاح نوتردام في الوقت المناسب لدورة الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس عام 2024، قررت "شاوي-ديريو" وزملاؤها أن الحطام لا يمكن التخلص منه ببساطة. فلقد كان مادةً تراثية مَحمية بحكم القانون، ينبغي فرزها على أيدي محترفين. سرعان ما هبّوا بالعشرات إلى الكنيسة. وأخبرني "تيري زيمر"، نائب مدير "مختبر البحث في المآثر التاريخية" أنه أرسل الجزء الأكبر من طاقمه المؤلف من 34 عضوًا.
ولمّا كانت الأقبية المتضررة ما تزال عرضة للانهيار، استخدم العلماء روبوتات يُتحكم فيها من بُعد لجمع الحطام. ارتَدوا أجهزة تنفس لصدّ غبار الرصاص، وقاموا بفرز المواد في ممر جانبي، وجمعوا أي شيء قد يكون مفيدا في إعادة البناء أو ذي أهمية تاريخية. من ذلك مثلا، أن حلقات الأشجار في القِطع الكبرى من الخشب تُشكل أدلة على التسلسل التفصيلي لتشييد الكنيسة.
قال زيمر: "كل تلك الأشياء التي لم نَطّلع عليها من قبل صارت، للأسف، بين أيدينا الآن"؛ ما سيشكل ومضة معرفة إضافية عن الكاتدرائية وعن الفترة التي شُيّدت فيها.
استغرق الأمر عامين اثنين لفرز كل الحطام ونقله إلى مستودع بالقرب من "مطار شارل ديغول". وُضعت تلك المواد على مساحة تفوق 2500 متر مربع، على رفوف بارتفاع ستة أمتار. وتألّفت من قطع خشب صغيرة إلى حدّ لا يسمح بدراستها، وقطع رفيعة من الحجر والغبار والرماد، (وحتى هذه الأشياء تم حفظها، في الوقت الراهن، في مئات أكياس التخزين. كان عملًا شاقًا، على حد تعبير "شاوي-ديريو". لكنه كان مبهجًا و"مغامرة إنسانية" لا تتوقع هذه المرأةُ خوضَها مرة أخرى.
أثناء تنظيف أرضية نوتردام، كان لزامًا تأمين الجدران والأقبية ضد الانهيار. وكانت دراسة هندسية قد كشفت أن غياب السقف الرصاصي والأخشاب التي تثقل الجدران وتحافظ على تماسكها سيجعلها عرضة للانهيار على نحو مريع، إذ يمكن لعاصفة لا تتجاوز سرعتها 90 كيلومترًا في الساعة أن تُسقطها. من عام 2019 إلى صيف 2021، عزز النجّارون بعض الدعامات العلوية والأقبية، ووضعوا دعامات خشبية تزن أطنانا تحت كل واحدة منها. في غضون ذلك، فكك فَنِّيو الحبال السقالات القديمة أنبوبًا أنبوبًا. (وقد كان "فيلنوف" على وشك الشروع في تجديد البرج، لمّا اندلع الحريق). كانت حالة السقالة القديمة مزرية وتهدد بالانهيار وإلحاق مزيد من الضرر بالكنيسة. في ربيع عام 2020، تسببت جائحة "كوفيد19-" في إغلاق موقع أشغال الترميم مدة شهرين. وكان غبار الرصاص المنتشر قد أغلقه بالفعل طيلة ستة أسابيع من عام 2019، بعدما قرر مفتشو أماكن العمل أن إجراءات السلامة الأولية لم تكن ملائمة. منذئذ، قَسم صفٌّ من الحمّامات في حاوية تبديل الملابس الموقعَ إلى مجالين، أحدهما متسخ والآخر نظيف. جاهد العمال كل يوم للحفاظ على تلك الحدود، فكانوا ينزعون ملابسهم ويرتدون بذلات واقية للعمل، ثم يعكسون الفعل -ويستحمون ويغسلون شعرهم- كلما غادروا، وإن تعلق الأمر بالذهاب لتناول وجبة الغذاء. واتبع الزوار الإجراء نفسه. وتم توفير ملابس داخلية وملابس عمل ذات استعمال واحد.
أذعن "إيمانويل ماكرون" نفسُه لتلك الإجراءات. إذ علمتُ من مصدر موثوق به، وهو جنرال رفيع المستوى يُدعى "جون-لوي جورجولان" استدعاه الرئيس الفرنسي بعد تقاعده في اليوم التالي للحريق، طالِبًا إليه إدارة إعادة بناء الكاتدرائية.
تَدرّج "جورجولان" في جيش المشاة إلى أن بلغ رتبة جنرال؛ وتَقلّد منصب كبير المستشارين العسكريين لأحد الرؤساء الفرنسيين، ورئيس هيئة الأركان المشتركة في ولاية رئيس آخر. عهد إليه "ماكرون" بنوتردام لسببين اثنين، وفق ما قال "جورجولان": فالجنرال كاثوليكي ملتزم، يعرف المزامير باللاتينية -وقد تلا أحدَها علَي- وفي جعبته المعرفة السياسية والسلطة لإعادة فتح الكاتدرائية في أفق عام 2024. سيتطلب ذلك التعاملَ مع البيروقراطية الفرنسية. يترأس "جورجولان" مؤسسة عامة أُنشئت خصيصًا لترميم كاتدرائية نوتردام استنادًا إلى تبرعات بقيمة 840 ميلون يورو، منها 30 ميلونا من متبرعين من الولايات المتحدة.
عادةً ما تشرف وزارة الثقافة على مشروعات الترميم. ويعدّ بعض الأشخاص من ذلك الوسط أن إشراك الجنرال غريب وأن أجل 2024 غير واقعي. سألتُ "جورجولان" عن الأمر، فتجاهل السؤال بمرح.
قال: "أرى، يا سيدي، أنك أُصِبْتَ بعدوى الذين يعتقدون أن رئيس الجمهورية لا ينبغي أن يتدخل في إعادة بناء كاتدرائية نوتردام. لقد أصبتَ بعدوى حزب البُطء". يتمتع "جورجولان" بحس دعابة وشخصية قوية، يحدثك بصوت استعراضي ويهزك بسخريته، ويفعل كل ذلك بابتسامة واعية.
يقول "جورجولان" إن الكنيسة تكبّدت أضرارا جسيمة لكن تم احتواؤها. ولقد اندهشتُ لذلك؛ إذ يبدو جزءٌ كبيرٌ منها غير متأثر، حين ينظر المرءُ إلى ما وراء السقالات التي تملأ جل المكان. تفاجأَتْ "ماري-هيلين ديديي" أيضا لمَّا دخلت في اليوم التالي للحريق، ومرَّرتْ إصبعها على الجدران للتحقق من السخام. قالت متعجّبةً: "لم يُدمَّر شيء!". وكانت تقصد الكنوز والتحف الفنية. تحطم المذبح الحديث عند المعبر، لكن تمثال "عذراء باريس" الحجري -ويعود إلى القرن الرابع عشر- ظل واقفًا على بعد متر تقريبا سالمًا من كل أذى وإنْ علاه الغبار وسقط الركام عند قدميه. في مختبر الآثار، أخبرتني "كلودين لوازيل"، خبيرة الزجاج الملون، أن بضع قطع من الزجاج على ثلاثة ألواح صغيرة فقط حطمها رأس البرج. أما البقية فلم يمسسها سوء.
وإجمالًا، فقدت الكنيسة برجَها وسقفها وعوارضها، وبعض أقبيتها الحجرية. قال "جورجولان" إن ذلك كثير؛ لكن ليس أكثر من أن يُرَمَّمَ في أفق عام 2024.
على خلاف كثيرٍ ممّن تحدثتُ إليهم، كان "جورجولان" بين الفينة والأخرى يَحضر القدّاس في نوتردام قبل الحريق. في ذلك المساء المروع، كان الجنرال في بيته الباريسي يشاهد التلفزيون ويبكي "كغيره من الناس". سمع أشخاصا يقولون إنهم لن يعيشوا ليشهدوا ترميم كاتدرائية نوتردام. يقول "جورجولان" إن ذلك هو ما حدا بالرئيس إلى تقديم وعد للأمة الفرنسية؛ ولو لم يحدد "ماكرون" الأجل في خمسة أعوام، لكان المهندسون المعماريون وخبراء فنيون آخرون مددوه إلى 15 عامًا. نظر الجنرال إلى السقف وأصدر صفيرا، دلالة على ما تعنيه إضاعة الوقت في التفكير بما لا يُجدي نفعًا.
وقال الجنرال، في حديثه عن "فيليب فيلنوف" أمام لجنة في "الجمعية الوطنية الفرنسية" في نوفمبر 2019: "أمّا عن كبير معماريي المآثر التاريخية.. فقد شرحت له مرات عديدة من قبل، وسأخبره مرة أخرى.. أنه ينبغي له إغلاق فمه". ربما كان محكومًا على الرجلين بالمواجهة. فقد اعتاد "جورجولان" عدم المزاح أثناء إنجاز مهامه، فيما أَلِف "فيلنوف"، المهندس المعماري الرئيس، قدرا أكبر من المرونة. ويرتدي "جورجولان" بدلات وسترات مزدوجة الصدر. أمّا "فيلنوف" فمثقف يرتدي سراويل الجينز وسترات مجعدة ونظارات شبيهة بتلك التي ترتديها النساء المُسنّات. إنه رجل عاطفي يضفي طابعًا شخصيا على الأزمة ويتفوه بما في قلبه، بكل ما في الكلمة من معنى. ومن ثم كان لديه سبب وجيه ليستشعر بقدر كبير الوضع في كاتدرائية نوتردام. لم تكن هذه أول مواجهة له مع كارثة من هذا الحجم؛ إذ قال لي: "لقد اتسمت مسيرتي المهنية بالحرائق". يوم ترقية "فيلنوف" إلى منصب مهندس رئيس للمآثر التاريخية، عام 1998، عَلِم أن برقًا تسبب بحريق في كنيسة عتيقة في منطقته، "شارانت-ماريتيم". كان ذلك أول تكليف له. ويوم شبَّ الحريق في كاتدرائية نوتردام، كان يعمل على مشروعه الرئيس الآخر، مبنى "بلدية لاروشيل" الذي يعود إلى القرن 15 وقد تعرض للدمار في وقت سابق بسبب الحريق، وكان "فيلنوف" ساعتئذ يرممه. حدث ذلك في عام 2013، قُبيل اختياره لإنجاز المَهمة في كاتدرائية نوتردام. لم يظهر أي دليل يربط بين أي من الحريقين وأشغال الترميم. لم تنشر شرطة باريس نتائج تحقيقها بشأن نوتردام، ويُشتبه أساسًا في تماسٍّ كهربائي. إلا أن "فيلنوف" ما زال يشعر بعبء الاضطرار لتصحيح ما خلّفته المأساة. يقول "جاك مولان"، المهندس الرئيس الذي يتولى ترميم "كنيسة سان دوني" القريبة: "لقد كان فيلنوف في مستوى المناسبة. استطاع تجاوز نفسه، وتلك قدرة نادرة". لكنها وضعته في مواجهة أهداف الرئيس. غداة الحريق، شجع "ماكرون" علنًا شيئًا جديدا من الناحية المعمارية في نوتردام.. "لفتة معاصرة"، على حد تعبيره. إذ قال: "ينبغي لنا الوثوق في بُناة اليوم، وعلينا الوثوق بأنفسنا". استجاب البُناة ببهجة: إذ تدفقت من كل أرجاء العالم مقترحاتُ بإنشاء أسقف زجاجية وأبراج بلورية من الضوء. واقترح أحد المكاتب المعمارية دفيئة على السطح. فيما اقترح آخر استبدال السقف بحوض سباحة في الهواء الطلق. على أن "فيلنوف" أراد وأدَ كل تلك المقترحات في المهد؛ إذ قال إنه لن يشارك في بناء برج عصري. عندئذ حاول "جورجولان"، بشيء من الخرَق، إسكاته. لكن المقترحات السخيفة أسهمت في دعم موقف "فيلنوف"؛ إذ يُجمع الكل على عدم تحويل الكاتدرائية إلى حوض سباحة. وبحلول صيف عام 2020، أقر كل من الرئيس والجنرال و"لجنة التراث الوطني" خطة "فيلنوف". سيُعاد تشييد كاتدرائية نوتردام كما كانت، وفق "آخر حالة معروفة"؛ أي الحالة التي تركها عليها "فيولي-لو-ديك". شكَّل الأمر انتصارا للتيار التقليدي: فإعادة البناء هو ما يفعله المرممون الفرنسيون عادة. وينص "ميثاق البندقية" -المعتمَد عام 1964 في مؤتمر دولي للخبراء- على هذا النهج؛ إذ لا تكون غاية الترميم التاريخي هي الحصول على أجمل مبنى بقدر ما تكون بلوغ بناء أكثر "أصالة"، أي أنه يحافظ على جميع طبقاته التاريخية. قد يبدو الدافع أكاديميا، لكنه عاطفي أيضا؛ ذلك أن إعادة بناء صروح مماثلة -لا سيما بعد كارثة- تُعدّ بمنزلة "عمل رمزي قوي؛ عمل ذي بعد تنفيسي"، على حد تعبير المؤرخ "لونيو"؛ إذ يستطرد قائلًا: "إنه الطريقة الوحيدة للحزن، ومن المهم جدا أن نحزن". المفارقة أن "فيولي-لو-ديك" الذي شاهد نوتردام تتعرض للهجوم لم يُظهر أي ضبط للنفس (لا سيما بعد وفاة شريكه "جون-باتيست لاسي"، وبقائه المسؤول الوحيد). لم تكن غايته إعادة بناء كاتدرائية نوتردام كما كانت تمامًا، ولكن بناء كاتدرائية مثالية. جدد بالكامل بعض الجدران حول المَعبر لأن الطريقة التي غُيرت بها في القرن 13 لم تَرُقه. وهدم الخزانة العائدة إلى القرن 18 واستبدلها بأخرى قوطية جديدة. فلقد احتفى بالمعماريين القوطيين وحاول التشبه بهم؛ أما بشأن البرج، فقد نشأ إجماع على أنه أبدعَ فيه حتى تفوَّق على نفسه.. لكن ليس كثيرًا في مناح أخرى.
على مَرّ قرن كامل من وفاة "فيولي-لو-ديك"، شَوَّهت سمعتُه مؤسسةَ الآثار التي كان قد أسهم في إنشائها. يقول "مولان": "لمّا كنتُ طالبًا جديدا في مدرسة الهندسة، كانت كل عملية ترميم من إنجاز "فيولي-لو-ديك" مرادفة للفوضى العارمة". في كاتدرائية نوتردام، رسم "فيولي-لو-ديك" جداريات زخرفية في المصليات الجانبية الـ 24. وفي سبعينيات القرن الماضي، تمَّ كشط 12 مصلى في صحن الكنيسة وإعادتها إلى جدران حجرية صرفة. لكن بحلول ذلك الوقت، كانت سمعة الرجل العظيم على وشك العودة إلى ألقها؛ وشكَّل المعرض الذي شاهده الشاب ذو الـ 17 ربيعًا في عام 1980 منعطفًا. يقول "مولان": "انتقلنا مرة واحدة من فيولي-لو-ديك الشيطان إلى فيولي-لو-ديك الذي كاد يصير قديسا".
اليوم، لن يفكر معظم المُرمّمين الفرنسيين في التراجع عن أي شيء كان "فيولي-لو-ديك" قد فعله. ويعتقد مولان أن ذلك من العار. إنه أيضا يؤمن بصون التاريخ؛ إلا أن محاولة تثبيت مبنى مرة واحدة وإلى الأبد وفق "آخر وضع معروف"، حسب تعبيره، يعني التصريح بانتهاء التاريخ بالنسبة إلى ذلك المبنى. "إنه تعريف الموت". وقد لا يكون ذلك أفضل سبيل للحفظ. ويرى "مولان" أن من غير المنطقي إعادة بناء العوارض من الخشب إذا كان سقف الكاتدرائية قد تعرض للتو لحريق.
سُمِعَت هذه الحجة -ورُفِضت- في نوتردام. سيبنى البرج والعوارض بالخشب، مع مزيد من المواد المقاوِمة للحرائق ورذاذات إخمادها. إن التفاصيل ما زالت قيد الإعداد.
في عام 2019، ارتفعت حرارة الحريق الذي شب في أخشـــــــــاب البلوط -حتى تجاوزت 760 درجة مئوية- وأتت على جدران الحجر الجيري المجاورة وقمم بعض الأقبية. قام اثنان من متخصصي الأحجار في "مختبر الآثار"، عالمة الجيولوجيا "ليز كادو-لورو"، وعالم صون الطبيعة "جون-ديديي ميرتز"، بتعلم تقنيات الحبال حتى يتمكنا من فحص الأضرار. أراني "ميرتز" بعض النوى التي يبلغ طولها 30 سنتيمترًا استخرجوها من حجارة سُمكها 60 سنتيمترًا. تحول سطح بعض الحجارة إلى مسحوق، وتشكلت داخلها شقوق؛ ما تسبب في تقشر ما يصل إلى 12 سنتيمترًا. لكن جل الكتل ظلت سميكة بما يكفي لأداء مَهمتها، على حد تعبير "ميرتز". طوّر هذا العالم، بمعية زملائه، تقنية لسد الشقوق عن طريق حقن ملاط كلسي. وبالنسبة إلى الحجارة التي تحتاج إلى استبدال، يبحث العلماء عن مثيلات جيدة في شمال باريس؛ فلقد توسعت المدينة فوق المحاجر التي تعود إلى العصور الوسطى، والتي كانت تشكل حينئذ ضواحيها.
انصهر جُلّ الـ 460 طنًّا من الرصاص في السقف والبرج وتساقط داخل الكنيسة، لكن الحرارة كانت شديدة بما يكفي لتحويل جزيئات الرصاص إلى دخان. قال "جيروم لانغراند"، الطبيب وخبير السموم الذي يدير "مركز السموم في باريس"، إن خطر استنشاق الرصاص في تلك الليلة كان "ضئيلا" ما لم يكن المرء واقفا إلى جوار النار مباشرة. يتمثل الخطر الحقيقي للرصاص في ابتلاعه عَرَضًا مع مرور الوقت، لا سيما من قبل الأطفال، عبر الأوساخ الملوثة في المنتزهات أو الملاعب أو الغبار الذي يستقر داخل البيوت. تجول "ألكسندر فان جين"، العالم لدى "جامعة كولومبيا"، في أنحاء باريس وهو يجمع عيّنات أوساخ في أكياس ورقية، وقدَّر أن نحو طن من الرصاص تساقط على بعد كيلومتر من الكنيسة.
مع ذلك، يقول "لانغراند" إنه لا وجود لدليل على أن الرصاص تسبب في تسمم كبير. وقد حلل بمعيّة زملائه دماء 1200 طفل في المنطقة المتضررة، فوجدوا تركيزات أعلى من "المستوى المقلق" في أقل من واحد بالمئة؛ أي النسبة نفسها تقريبًا لدى سكان فرنسا قاطبة. فضلًا عن ذلك، كشف التحقيق في كل حالة أن الأطفال كانوا يتعرضون على نحو روتيني لمصادر رصاص أخرى. من ذلك، مثلا، أن العديد من شرفات باريس تحتوي على أرضيات رصاصية.
مع ذلك، لا تُعد أي كمية من الرصاص في الدم آمنة، كما أن أسقف الرصاص تُلوث البيئة كلما تم الاشتغال عليها أو هطلت عليها الأمطار. في فبراير 2021، أوصى مجلس استشاري علمي لوزارة الصحة الفرنسية، كان "لانغراند" عضوا فيه، أن تَحظر فرنسا الرصاص في الأسقف الجديدة وأن تجد بدائل له في ترميم المباني التاريخية. حينذاك كان مجلس مدينة باريس قد صوت للمطالبة بعدم استعمال الرصاص في ترميم كاتدرائية نوتردام.
لم تفتر عزيمة "فيلنوف" لأي من تلك الذرائع، وأصر هو و"جورجولان" أن سقفًا رصاصيا في نوتردام لن يشكل خطرا على الأطفال إلّا إنْ صعدوا إليه ولعقوه.
قال "فيلنوف": "الرصاص عنصر أساسي للغاية في البناء". إن سقف "كاتدرائية شارتر" نحاسي بالتأكيد، لكن النحاس يتحول إلى اللون الأخضر، وسقوف باريس رمادية. جلها من الزنك، لكن الرصاص وحده قادر على إعادة إنتاج البرج والزخارف المنحوتة في سقف نوتردام. يقول "فيلنوف" إن الرصاص يغطي بالفعل سقوف كل من "البانثيون" و"ليزانفاليد" ومآثر أخرى، فلِمَ تكون الكاتدرائية هي الضحية الوحيدة لهذا "الجنون الذي مس المغالين في مناهضة الرصاص؟". كما أن مياه الأمطار المتدفقة من السقف الجديد ستُلتقط وتُصفّى.
فضلًا عن ذلك، يخطط "فيلنوف" لإعادة بناء الهيكل الخشبي على شاكلته السابقة تمامًا. فقد كان مُشكَّلًا من جزأين متميزين. لمّا أعاد "فيولي-لو-ديك" بناء البرج كان قد استبدل هيكل الجناح على خلاف طريقة العصور الوسطى؛ إذ تم قطع العوارض في المناشر الصناعية. وسيفعل "فيلنوف" الشيء نفسه. في شتاء عام 2021، نسق غورمان عملية تبرع بأشجار بلوط بلغ عددها 1200 من سائر أنحاء فرنسا. زُرع أكبرها وأقدمها قبيل الثورة الفرنسية على أيدي حراس الغابة الملكيين الذين كانوا يؤمّنون حاجات البحرية من صواري السفن. ستشكل تلك الأشجار قاعدة البرج.
كانت الأخشاب العلوية في الصحن وزاوية الجوقة مختلفة: كانت في الغالب أصلية يعود تاريخها إلى القرن الـ 13. في سبتمبر 2020، أعادت منظمة تدعى "نجّارون بلا حدود" بناء أحد الجلمونات المثلثة أمام الكاتدرائية لإثبات جدوى إعادة بناء الهيكل وفق طريقة العصور الوسطى. اصطحبني "فرانسوا كالام"، وهو عالم أعراق ونجّار أسّس المنظمة، لمشاهدة هذا الجملون حيث يُعرَض الآن، خارج قلعة من القرون الوسطى في نورماندي، تسمى "شاتو دو كريفكور". يتألف من اثنتي عشرة دعامة، حُفر كل منها باليد من شجرة بلوط واحدة، ولا يزيد عرضه على 30 سنتيمترًا.
كان نجّارو العصور الوسطى يشتغلون على الأخشاب الطرية، وكذلك يفعل منتسبو "نجارون بلا حدود". كانوا يتبعون اللحاء ويُبقون على النوى في المركز. أضفَت تلك الطريقة على بعض الدعامات انحناءات طفيفة، لكنها جعلتها أقوى. لقد ظلت دعامات كاتدرائية نوتردام صامدة أزيد من 800 عام قبل أن ينفد حظها. أخرج "كالام" من صندوق سيارته الأداة المفضلة: فأس عريض يتوهج رأسه مثل بوق. وجّه بضع ضربات حاذقة إلى جذع شجرة، ودعاني إلى المحاولة. حذّرني أن الفأس حاد بما يكفي لإحداث إصابة خطيرة إن أُسيءَ تصويبه؛ ما بدا احتمالا معقولا. كانت ضرباتي الأولى غير دقيقة، ثم ما لبثتُ أن أصَبتُ فيما بعدُ. تطايرتْ في الهواء أسافينُ صغيرة من الخشب الطازج.
يرى "كالام" أن الترميم التاريخي يهم أيضا استعادة المهارات المفقودة إلى جانب ترميم المباني المتضررة؛ وليس ذلك فقط لمصلحة النجارين. ويَعتقد أن السبب وراء تأثير "غابة" كاتدرائية نوتردام على قلوب من رأوها كامن في أن الرسالة كانت تُمرر عبر القرون من الحرفيين المهرة الذين أبدعوها.
يقول "كالام": "كان عمر الهيكل 800 عام. لقد صار أثرًا بعد عين. لكني أعتقد أنه إذا قمنا بإعادة العمل وفق الطريقة التي تم بها بادئ الأمر -أي بالطريقة نفسها والمواد عينها- فيمكن نقل الرسالة. سيكون المرء قادرا على الشعور بها". أُعجب "فيلنوف" بالإثبات الذي قدّمته "نجارون بلا حدود". وتوفيرًا للوقت، قال إن مناشر الخشب ستقطع الجذوع المخصَّصة للصحن وزاوية الجوقة، لكن العوارض ستُشذَّب يدويًا باستعمال الفؤوس. ومع ذلك، سيأتي إنشاء البرج في المقام الأول. اضطر "فيولي-لو-ديك" لإحداث حفرة في الأقبية حتى يتسنى له بناء برجه انطلاقًا من الداخل. أما "فيلنوف" فبدأ من الأعلى: فالحفرة موجودة بالفعل.
كان "موريس دو سويي"، أسقف باريس الذي أمر ببناء كاتدرائية نوتردام عام 1163، ابنَ فلاحين. إن توجه البرج صوب السماء لا يعني خلو نفس "سويي" من تطلعات دنيوية أيضا: فلقد تباهى بقوته أمام خصومه وأمام الملك. بدا البرج في قصر رئيس الأساقفة كحصن. وكانت الواجهة الغربية للكاتدرائية أضخم.
"في مدينة العصور الوسطى، كان المبنى طاغيا"، يقول "بيرنار فونكورني"، الذي عمل -بوصفه كبير المهندسين- على ترميم الواجهة في تسعينيات القرن الماضي وإزالة تراكمات عقود من عوادم السيارات وفضلات الحمَام. كنتُ أعيش حينذاك في فرنسا، وأَذكر تلك الولادة الجديدة.. حين توهجت الجدران عندما أزيلت السقالات.
يقول "داني ساندرون"، مؤرخ الفن لدى "جامعة السوربون"، إن بناء الكاتدرائية تم في معظمه بأموال تبرع بها عامة الناس. لم تكن تجربتهم مع الكنيسة كتجربة كاثوليك اليوم ممن يرتادون القداس. حين يذرعون الصحن الخالي من المقاعد لا يرون -وبالكاد يسمعون- قداسات رجال الدين المقيمين، ثماني مرات في اليوم، خلف جدار في زاوية الجوقة. وفي الجنبات يهمس القساوسة نحو 120 قُدَّاسًا في اليوم، لكنها أيضا لم تكن موجهة للأحياء، بل للموتى الأثرياء الذين موّلوا القداسات إلى الأبد، على أمل انتشال أرواحهم من المَطهر. مع ذلك، توافد عامة الناس إلى كاتدرائية نوتردام. كانوا ينامون أحيانا على الأرض قبالة المذبح، يحلمون بعلاجات خارقة لأمراض مؤلمة. لقد كان الإيمان الكاثوليكي حينئذ حيويا لمعظم الفرنسيين، على خلاف ما هو عليه اليوم.
أكد "باتريك شوفي"، عميد الكاتدرائية، أن "نوتردام ليست متحفا". قبل الحريق، كان نحو 3000 شخص يحضرون القداس أيام الآحاد؛ لكن 10 ملايين إلى 12 مليونا من السياح يزورنها كل عام. ومعرفة كثير منهم بالمسيحية ضئيلة. تساءل "شوفي" قائلا: "أنّى لهم أن تمسهم نعمة هذا المكان؟ وأنّى لجماله أن يتيح لهم مساءلة ذواتهم عن معاني حياتهم؟".
وقال إن الخطة تكمن في إعادة تنسيق الزيارة، وعند إعادة افتتاح الكنيسة، سيتم توجيه الزوار إلى حلقة جديدة تمر بالمصليات الجانبية. وفي طريقهم من الشمال إلى الجنوب -من الظلمة إلى النور- سيلاقون بداية "العهد القديم" ومن ثم "العهد الجديد"، من أجل "الخوض تدريجيًا في الأسرار الربانية"، على حد تعبير "شوفي".
هل سينجح الأمر؟ بفضل ميزانية الترميم الضخمة، ينبغي أن تكون الكاتدرائية في أبهى حلة. والعمل الذي يستغرق بطبيعته عقودا، قد خُطط له أن يُنجز في غضون الأعوام الثلاثة المقبلة. سيتم تنظيف كل أجزاء الكنيسة من الداخل، بما في ذلك المصليات واللوحات وجل الزجاج الملون.. إنها ولادة جديدة متألقة. وإذا كان، كما يعتقد "جورجولان"، "جمال المعمار القوطي أحد أفضل البراهين على وجود الرب"، فسيكون الرب قد قام ليقاتل يومًا آخر في فرنسا. لن يكون الحريق قد شب هباءً.
مساء ذلك اليوم من شهر أبريل، كنتُ أنا وزوجتي مع أصدقاء قدامى جاؤوا في أول رحلة لهم إلى باريس. بعد العشاء على الضفة اليمنى، قررنا المشي في طريق العودة إلى حيث نعيش على الضفة اليسرى. كانت ضفاف نهر السين مكتظة بالناس وهم يشاهدون كاتدرائية نوتردام تحترق. عند عبور جزيرة "سانت لويس"، تخطينا خرطوما وضعه رجال الإطفاء لضخ المياه من النهر. وعلى "قنطرة لاتورنيل" توقفنا بالقرب من جوقة مرتجلة ترتل بلطف ترانيم للسيدة العذراء. أُعجبت بذلك المنظر، على طول نهر السين باتجاه حنية نوتردام، عشرات المرات. لم أستطع تصور ما قد يكون عليه الحال إن اندثرت الكاتدرائية إلى الأبد.
قال "لونيو": "لقد كان ذلك جميلا.. على المرء أن يؤكد على جمال النار. كان الأمر رائعا، لكن الروعة تتلوها البشاعة. لا يوجد سوى الخراب. في البدء كان السواد والظلام والموت".. إلى أن عادت إلى الحياة، كما يجب.