الثبات والقوة
في يــوليــو 2021، قــاد المصـور الصحــافي الإندونيسي "محمد فضلي" سيارتَه حاملا كاميراته إلى مقبرة في ضواحي جاكرتا. وهنالك فهم تارة أخرى -وعلى نحو أعمق- كم كان مخطئًا. على مرّ أسابيع خلال شهرَي مارس وأبريل، سمح فضلي لنفسه بالاعتقاد أن الحياة كما خبرها كانت بصدد العودة إلى رشدها: فلقد رأى حملة تلقيح وطنية، وازدهار الأسواق من جديد، وإعادة فتح مراكز التسوق. إلا أن تفاؤله لم يكن في محله. لقد كان أشبه بلحظات الهدوء التي تتخلل أفلام الرعب؛ أي ذلك الإحساس بالأمان الذي سرعان ما يتلاشى على وقع الإثارة. والآن في منطقة الدفن الجديدة، وهي واحدة من ست مناطق خُصصت لهذه الغاية لمّا ملأ الوباءُ مقابرَ المدينة، تُعدّ الجرّافات مساحات إضافية بينما يقف المشيّعون عند قبور حديثة. ذكر فضلي أن سيارات نقل الأموات كانت تصل إلى بوابة المقبرة كل بضع دقائق، وكانت في كثير من الأحيان تصل دفعة واحدة فتضطر كلٌّ منها لانتظار دورها. وعندما فتح السائقون الأبواب الخلفية للسيارات، اكتشف فضلي أنها تُقل أكثر من نعش. "كان بعضها يُقل أربعة"، هكذا أخبرني فضلي في أوائل شهر سبتمبر؛ وإذ توقف كِلانا لتصوُّر ذلك الوضع، خيّم الصمتُ وهلةً على محادثتنا الهاتفية. كنت في الديار بكاليفورنيا، حيث شبّت النيران في خمس مقاطعات شمالية، وكان حريق منفصل قد انتشر على مساحة 89 ألف هكتار ويواصل تقدمه نحو مدينة ساوث ليك تاهو. أما فضلي فكان في إندونيسيا، حيث فاق المعدل اليومي للإصابة بفيروس "كورونا" خلال الصيف ما كانت تسجله الهند. قال الرجل: "أخ زوجتي، ووالد زوجتي: أصيبا بكوفيد. أخت زوجتي: مكثت في المستشفى نحو 15 يوما". سألته: "كيف انتهى الأمر؟". أجاب: "نجا الجميع". لأنهم كانوا محظوظين و-ربما- لأنهم تمكنوا من تلقي أولى حقنات اللقاح قبل الإصابة. سحق متحور "دلتا" الهندَ وإندونيسيا لمّا انتشر عبر القارات في العام الماضي، حيث أفادت أخبار من جاكرتا تسبب الفيروس بوفاة 114 طبيبا إندونيسيا في غضون أسبوعين ونصف الأسبوع. لقد جرَّ التوثيق لأحداث العام فضلي لا محالة إلى مشاهد الألم واليأس والفقد. لكنه التقط أيضا صورا في أماكن رأى فيها الأملَ وعزيمة الإنسان: محطة حافلات في المدينة أعيدت تهيئتها لتحتضن موقع تلقيح جماعي، وقد غصت عن آخرها بالإندونيسيين الراغبين في تلقي حقناتهم؛ وفصل دراسي يؤوي أطفالًا مقنعين، ترتدي الإناث منهم الحجاب والذكور ربطات العنق، فيما معلمتهم تمشي باسمة العينين بين الطاولات الخشبية حاملةً بين ذراعيها كمًّا كبيرًا من ورق الواجبات المدرسية. تَظهر ابتسامتها المُقَنَّعة من خلال عينيها. هذه المرةُ الثانيةُ التي تخصص فيها مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية" عدد شهر يناير لانطباعات المصورين إزاء العام المنتهي للتو. في يناير 2021، نشرت المجلة موجزًا بصريًا لِما تخلل الاثني عشر شهرا من انفعالات وأحزان. حينئذ بدا العام التالي حاملًا في ثناياه كثيرًا من الآمال: أسرع تطوير للقاح جديد في التاريخ؛ أكثر خطط التلقيح العالمية طموحا في التاريخ؛ إجماع دولي على أن المسنين والعاملين في مجال الرعاية الصحية أولى بالحماية. يصمد طويلًا ذلك الشعور بالارتياح النفسي لدى العديد من الأميركيين في مطلع عام 2021. فقد تم اقتحام "مبنى الكابيتول" على أيدي ثلة من المحتجين على نتائج انتخابات 2020 التي أطاحت بالرئيس "دونالد ترامب". وفي فصل "النزاعات" بهذا العدد، سترونَ صورةً التقطها المصور "ديفيد غاتنفيلدر" لأشخاص يحتجون أمام مقر شرطة نيويورك على مقتل شاب من السود كان عمره 20 عامًا. ولمّا بحث المحررون وسط آلاف صور ناشيونال جيوغرافيك وما ترويه من حكايات عن عام 2021، عثروا على موضوعاتهم للفصول الثلاثة الأخرى من هذا العدد: "كوفيد" و"المناخ" ثم "حِفظ الطبيعة". لا تبعث هذه الصور على ارتياح كبير -بكل تأكيد- لكنها تحوي جمالا وعزيمة وأملا.. "أناسًا عاديين يحاولون مساعدة آخرين"، كما يودّ محمد فضلي التعبير عن ذلك. الرجل الوحيد الذي يرتدي قناعًا ورداءً واقيين ويقف في أعلى وادٍ أخضر مشجَّر، هو "نذير أحمد"، عامل رعاية صحية في إقليم جامو وكشمير الهندي، يبحث عن رعاة معزولين لتطعيمهم ضد "كوفيد19-". والمرأة التي تحضن صغير ألباكا هي "ألينا سوركييسلا غوميز"، وتعمل لفائدة تعاونية مربي ماشية في البيرو، وتقدم المشورة لأفراد شعب "ألباكيرو" الأصلي الذي أصبحت موارده المائية ومراعيه مهددة بالتلوث الصادر عن المناجم والتغيرات المناخية. والرجل الكيني الذي يرتدي قفازا ويضع يده بِرِقّة على ضلع فهد شيتا، هو طبيب بيطري يدعى "مايكل نغوروغ". أسهم هذا الأخير مع خبيرَي الحياة البرية برفقته في جهود دامت خمسة أيام تخللها نقل بالشاحنة وعمليات جراحية للحفاظ على حياة حيوان بري جريح. اشتغلت "نيكول سوبيكي"، المصورة المقيمة في نيروبي، شهورًا مع "رايتشل بيل"، المحررة التنفيذية لقسم الحيوانات لدى ناشيونال جيوغرافيك، على تحقيق عن شبكة دولية لتهريب الحيوانات تتصيد فهود الشيتا الإفريقية المهددة بالانقراض. في أعقاب ذلك، عثر مرشد كيني رفقة سوبيكي على أنثى شيتا بالغة جريحة وسط محمية وطنية. راقب الاثنان هذه الأنثى طيلة 48 ساعة في انتظار وصول الفريق البيطري التابع لـ "هيئة الحياة البرية الكينية" التي أخطرها حراس محليون. قالت سوبيكي، ثم تنهدت: "فهد شيتا في جزء من العالم". في مكالمة بين نيروبي وأوكلاند بكاليفورنيا، حاولتُ بمعيتها فهمَ شعورنا إزاء محاولة إنقاذ الأنثى التي أطلق الحراس عليها اسم "نيكول". إن الأمر يدعو إلى الحماس رغم عقمه: ذلك أن أنثى الفهد، نيكول، لم تنج. بدا أن إصاباتها كانت بسبب حيوان آخر، لا بسبب صياد أو مهرب من البشر. لكن نيكول، المصورة، كانت توثق لاندثار موائل الحيوانات وآثار أزمة المناخ في إفريقيا، وكانت تواجه صعوبة في فصل نوع من الحزن عن آخر. تقول: "كانت ثمة إرادة لمحاولة إنقاذ تلك الأنثى. اتسمت الجهود بالطموح والشمولية. لا أود التقليل من شأن ذلك". ليت الأحداث جرت على نحو مغاير.. ليت بياطرة هيئة الحياة البرية لم يكونوا خارج الخدمة يوم عُثر على أنثى الفهد.. وليت الفريق البديل وصل بسرعة أكبر.. وليت السلوك البشري لم يكلف فهود الشيتا أزيد من 90 بالمئة من مجالها الطبيعي التاريخي. أجل، قد تقولون إن هذه الأنثى تحديدا ربما قُدِّرَ لها أن تنفق وحيدة تحت شجرة من دون أن تزعجها أيادٍ فاحصة. لكننا أحيانا نربط القصص الصغيرة لنتمكن من فهم القصص الأكبر في أذهاننا. تقول سوبيكي: "ننشأ جميعا على معرفة فهود الشيتا. لكن ماذا عن بقية أنواع أخرى لا حصر لها تواجه المشكلات نفسها؟ إن كنا قد أوصلنا أحد أشهر حيواناتنا إلى وضع لم تعد فيه أعداد البالغة منه في البرية تتجاوز 7000، فما بالكم بالبقية!". بالكم بالبقية! لا يوجد خط فاصل سهل بين صور هذا العـام. فـي 2021، أثار انتصار تطويـر لقـاح مضـاد لمـرض "كوفيد19-" خلافا خاصا به. من كان يتخيل كل هذا الغضب إزاء حُقَنٍ تحمينا ضد الموت؟ لقد حدثت كل محاولات الحفظ تقريبا، حِفظ الأنواع والاقتصادات ومناطق من العالم.. على خلفية وجودية تتعلق بالتغير المناخي. كان ذلك يوم 9 أغسطس، لَمَّا أصدرت "اللجنة الحكومية الأممية المعنية بالتغير المناخي" مجموعة من 2000 صفحة من التقييمات والتنبؤات القاتمة. وقد وصف الأمين العام للأمم المتحدة"، "أنطونيو غوتيريش"، هذا التقرير -السادس من نوعه خلال العقدين الماضيين- بكونه "إشارة حمراء للبشرية". بعد مرور أقل من أسبوع على صدور التقرير، شب حريق غابات في كالدور بكاليفورنيا فامتد نطاقه على مساحة 89 ألف هكتار وواصل انتشاره على سفوح التلال الجافة بينما كان رجال الإطفاء ما زالوا يجهدون أنفسهم في أقصى شمال الولاية من أجل إخماد حريق ضخم آخر، سُمي "ديكسي". كان "ديكسي" الحريق الثاني كبرًا في تاريخ كاليفورنيا، ولم يتسن احتواؤه بالكامل إلا في نهاية شهر أكتوبر. لقد كرست المصورة "لينسي أداريو" -المقيمة في لندن- مجمل مسيرتها المهنية لالتقاط صور النزاعات؛ وتتضمن هذه الصفحات صورتها المروعة، من إثيوبيا، لناجية من عمليات اغتصاب متكررة على أيدي جنود. أضت أداريو صيف 2021 في كاليفورنيا، جنبا إلى جنب مع رجال ونساء يكافحون الحرائق. كان هذا عام التجمد في تكساس.. فبراير. وأعلى درجات الحرارة المسجلة في تاريخ كندا.. يونيو. والفيضانات المفاجئة القاتلة في ألمانيا وبلجيكا.. يوليو. تفضل عالمة المناخ "كاثرين هايهو"، من "جامعة تكساس التقنية"، توظيف مصطلح "الغرابة العالمية" في معرض حديثها مع "روبرت كونزيغ" و"أليخاندرا بوروندا" والمؤلفة البيئية "كاثرين ويلكنسون" من ناشيونال جيوغرافيك. نعم، إنهما كاثرينتان متوجَّتان بشهادة الدكتوراه، وكلتاهما تحثنا على نبذ اليأس؛ والسماح لأنفسنا بالاعتقاد أن الحاضر قد يكون مروعا ورائعا في آن للعيش على ظهر الكوكب، على حد تعبير ويلكنسون. تؤكد هذه الأخيرة أنه "لدينا كثير من القوة. فثمة الكثير مما يمكننا فعله" لمكافحة التغير المناخي. قد ينبغي لك، وأنت تتفحص هذه الصور، أن تستحضر بعض العناوين الرئيسة التي ميزت عام 2021 والتي أتاحت شعورًا بالارتياح النفسي، أو على الأقل لحظة واحدة حقيقية من الشعور بتجاوز الصعاب. فلقد غيّر حريق "كالدور" وجهته دون بلوغ مدينة ساوث ليك تاهو. ورغم الرجة التي أحدثها متحور "دلتا"، استطاع الملايين منا العودة إلى رفقة الآخرين جسدا.. نعانق، ونقبل الأجداد، ونرى الأطفال يعودون إلى المدارس. في الصفحات التالية، خريجو "جامعة هاورد" يغنون ويرقصون وهم يتجولون بلباس وقلنسوات التخرج، وكلما نظرتُ إليهم أحسست بمعنوياتي ترتفع. الأمر نفسه يحدث مع الفرقة الموسيقية المكسيكية المؤلفة من المراهقين في جنوب تكساس، وأفرادها يرتدون بدلاتهم الجديدة على متن حافلة في الطريق إلى أول عرض منذ بداية تفشي الجائحة. الفيل الرضيع يمتص الحليب المصنّع من قنينة؟ يلتقي صون الطبيعة مع "كوفيد"، في نهاية سعيدة مفاجئة: في مَلاذ كيني يؤوي الفيَلة، أدى تعثر الشحن بسبب الجائحة إلى وقف إمدادات الحليب المجفف. لذلك نجح القَيِّمون على الرعاية في استبداله بحليب الماعز المتاح محليًا؛ فضاعف هذا الأخير معدل نجاة صغار الفيَلة اليتيمة حتى ناهز الـ 100 بالمئة. إن عددًا كاملًا من "عام.. بالصورة" لا يحوي بالطبع سوى عدد محدود من الصفحات. قائمة جزئية اعتباطية من أشخاص وأماكن وأشياء بارزة من عام 2021 لا توجد في هذه الصور: أولمبياد طوكيو؛ إطلاق المركبات الفضائية الخاصة؛ سفينة الشحن التي أغلقت قناة السويس؛ تنصيب أول أميركية من أصول سوداء وآسيوية وأنثى نائبة لرئيس الولايات المتحدة؛ اغتيال الرئيس، والزلزال المدمر في هايتي؛ مواصلة مسبار "بيرسيفيرنس" التنقيب وسط الصخور على سطح كوكب المريخ؛ افتتاح "إكسبو 2020 دبي" بدولة الإمارات العربية المتحدة؛ احتشاد عشرات الآلاف من الأشخاص في الحانات والمطاعم في بروفنستاون خلال الأسبوع الرابع من يوليو في كيب كود بولاية ماساتشوسيتس، إذ خرجوا إلى الشوارع لأن مصطافين كثيرين ظنوا أن التطعيم جعل الأمور آمنة في آخر المطاف. تَبَيَّن أن المطعَّمــين الذين ســافروا مــن ديــارهم إلى بروفنستاون مصابون بفيروس "كورونا". وأظهرت عمليات التعقب عبر الولايات أن خمسة فقط دخلوا إلى المستشفى، من أصل 469 حالة تم الإبلاغ عنها، فيما لم تسجل أي وفاة؛ لذلك، فإن اللقاح يحمي بكل تأكيد. إلا أنه لا يقي تمامًا من العدوى؛ ما يعني عدم التراخي من حيث اليقظة الجماعية حتى الآن. قال "روب أندرسون"، صاحب مطعم في بروفنستاون، لمّا اتصلت به في شهر أغسطس لأسأل عمّا قام به هو والآخرون: "إن الوباء لن يرحل. ولن نرحل نحن أيضا. إننا أقوى من ذلك. ما زلنا صامدين". تابع أندرسون، على غرار آخرين في البلدة، تَقهقر عملُه في الأسابيع التي أعقبت حادث بروفنستاون، واقترح علي التفكير في الطريقة التي يصل بها السائر على حبل مشدود إلى نهاية المسار. قال: "ما عساك تفعل؟ تنظر إلى الأمام. وتظل متزنا. وهذا ما نفعله". رسخت الفكرة في ذهني: السائر على حبل مشدود. ظللت أفكر في الأمر -مدى ما كبَّدَنا عام 2021 من صعوبات في الاشتغال أحيانا في محاولة للبقاء مرفوعي الهامة- لمّا اتصلتُ بالمصور "ستيفن ويلكس" تحدثنا وهو يلتقط الصور البانورامية التي تسبق هذا المقال. كان يلتقط الصور من على ارتفاع 13.7 متر وهو يعتلي مصعدا سُمِح لطاقمه بإدخاله إلى "ناشيونال مول" بالعاصمة واشنطن. وأثناء انكباب ويلكس على ما أسماه "صور الليل والنهار"، اشتغل على مدار الساعة، فكان يلتقط صورا كثيرة ويدمجها فيما بعد في صورة واحدة شاملة. وفي سبيل إخراج "صور الليل والنهار"، ركز طيلة 30 ساعة على المُنشأة الممتدة على مساحة 8 هكتارات عند قاعدة "نُصب واشنطن": أعلام بيضاء يمثل كل منها حالة وفاة بسبب "كوفيد19-" في الولايات المتحدة. قال ويلكس: "إنه بحر من الأعلام". ثم ما لبث أن عدَّل تعبيره، فقال: "انتظر، ليس بحرا على وجه الدقة، بالنظر إلى الارتفاع الذي أوجـد عليه، أكاد أراها كأفراد. إنها تذكرني بنجوم وامضة". صممت الفنانة "سوزان برينان فيرستنبورغ" تلك المنشأة التي استمرت ثلاثة أسابيع، فكانت على شاكلة شبكة عملاقة تتخللها مسارات تتيح للناس المشي بين الأعلام وكتابة الأسماء عليها تخليدا لذكرى من رحلوا، وتثبيت أعلام جديدة مع تزايد عدد الأموات. حملت لافتة كبيرة عند المدخل أحدث الأرقام المسجلة على الصعيد الأميركي، وكانت فيرستنبورغ تُحَيِّنُها بيدها كل يوم. يقول ويلكس: "حين جئت بالأمس كان العدد 666.624. وبعد ظهيرة اليوم كان.." ثم تردد. تخيلته هناك على منصته، ماسكا كاميراه، وهو يحدق في الرقم ليقرأه من بعيد على نحو صحيح. قال: "670.032". أجرينا الحسابات ذهنيا. قال ويلكس إن الصباح كان ماطرا، "أرى رجلا مسنا يمشي بين الأعلام. أرى سيدة تجلس على الأرض، وقد ثبتت للتو علما. إنها أميركية من أصول إفريقية، ترتدي قميصا أخضر فاتحا، وكان معها على ما يبدو زوجها. كان أحدهما ممسكًا بيد الثاني". قال ويلكس إن ضوء ما بعد الظهيرة يضفي لمسة رائعة على ظل النُّصب التذكاري: فصار نيِّرًا من جهة، ومظلما من جهة ثانية. "جميل. وقد بدأ يتضح. إنه مذهل، حين تشرق الشمس.. لأن الأعلام البيضاء تتوهج".
الثبات والقوة
في يــوليــو 2021، قــاد المصـور الصحــافي الإندونيسي "محمد فضلي" سيارتَه حاملا كاميراته إلى مقبرة في ضواحي جاكرتا. وهنالك فهم تارة أخرى -وعلى نحو أعمق- كم كان مخطئًا. على مرّ أسابيع خلال شهرَي مارس وأبريل، سمح فضلي لنفسه بالاعتقاد أن الحياة كما خبرها كانت بصدد العودة إلى رشدها: فلقد رأى حملة تلقيح وطنية، وازدهار الأسواق من جديد، وإعادة فتح مراكز التسوق. إلا أن تفاؤله لم يكن في محله. لقد كان أشبه بلحظات الهدوء التي تتخلل أفلام الرعب؛ أي ذلك الإحساس بالأمان الذي سرعان ما يتلاشى على وقع الإثارة. والآن في منطقة الدفن الجديدة، وهي واحدة من ست مناطق خُصصت لهذه الغاية لمّا ملأ الوباءُ مقابرَ المدينة، تُعدّ الجرّافات مساحات إضافية بينما يقف المشيّعون عند قبور حديثة. ذكر فضلي أن سيارات نقل الأموات كانت تصل إلى بوابة المقبرة كل بضع دقائق، وكانت في كثير من الأحيان تصل دفعة واحدة فتضطر كلٌّ منها لانتظار دورها. وعندما فتح السائقون الأبواب الخلفية للسيارات، اكتشف فضلي أنها تُقل أكثر من نعش. "كان بعضها يُقل أربعة"، هكذا أخبرني فضلي في أوائل شهر سبتمبر؛ وإذ توقف كِلانا لتصوُّر ذلك الوضع، خيّم الصمتُ وهلةً على محادثتنا الهاتفية. كنت في الديار بكاليفورنيا، حيث شبّت النيران في خمس مقاطعات شمالية، وكان حريق منفصل قد انتشر على مساحة 89 ألف هكتار ويواصل تقدمه نحو مدينة ساوث ليك تاهو. أما فضلي فكان في إندونيسيا، حيث فاق المعدل اليومي للإصابة بفيروس "كورونا" خلال الصيف ما كانت تسجله الهند. قال الرجل: "أخ زوجتي، ووالد زوجتي: أصيبا بكوفيد. أخت زوجتي: مكثت في المستشفى نحو 15 يوما". سألته: "كيف انتهى الأمر؟". أجاب: "نجا الجميع". لأنهم كانوا محظوظين و-ربما- لأنهم تمكنوا من تلقي أولى حقنات اللقاح قبل الإصابة. سحق متحور "دلتا" الهندَ وإندونيسيا لمّا انتشر عبر القارات في العام الماضي، حيث أفادت أخبار من جاكرتا تسبب الفيروس بوفاة 114 طبيبا إندونيسيا في غضون أسبوعين ونصف الأسبوع. لقد جرَّ التوثيق لأحداث العام فضلي لا محالة إلى مشاهد الألم واليأس والفقد. لكنه التقط أيضا صورا في أماكن رأى فيها الأملَ وعزيمة الإنسان: محطة حافلات في المدينة أعيدت تهيئتها لتحتضن موقع تلقيح جماعي، وقد غصت عن آخرها بالإندونيسيين الراغبين في تلقي حقناتهم؛ وفصل دراسي يؤوي أطفالًا مقنعين، ترتدي الإناث منهم الحجاب والذكور ربطات العنق، فيما معلمتهم تمشي باسمة العينين بين الطاولات الخشبية حاملةً بين ذراعيها كمًّا كبيرًا من ورق الواجبات المدرسية. تَظهر ابتسامتها المُقَنَّعة من خلال عينيها. هذه المرةُ الثانيةُ التي تخصص فيها مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية" عدد شهر يناير لانطباعات المصورين إزاء العام المنتهي للتو. في يناير 2021، نشرت المجلة موجزًا بصريًا لِما تخلل الاثني عشر شهرا من انفعالات وأحزان. حينئذ بدا العام التالي حاملًا في ثناياه كثيرًا من الآمال: أسرع تطوير للقاح جديد في التاريخ؛ أكثر خطط التلقيح العالمية طموحا في التاريخ؛ إجماع دولي على أن المسنين والعاملين في مجال الرعاية الصحية أولى بالحماية. يصمد طويلًا ذلك الشعور بالارتياح النفسي لدى العديد من الأميركيين في مطلع عام 2021. فقد تم اقتحام "مبنى الكابيتول" على أيدي ثلة من المحتجين على نتائج انتخابات 2020 التي أطاحت بالرئيس "دونالد ترامب". وفي فصل "النزاعات" بهذا العدد، سترونَ صورةً التقطها المصور "ديفيد غاتنفيلدر" لأشخاص يحتجون أمام مقر شرطة نيويورك على مقتل شاب من السود كان عمره 20 عامًا. ولمّا بحث المحررون وسط آلاف صور ناشيونال جيوغرافيك وما ترويه من حكايات عن عام 2021، عثروا على موضوعاتهم للفصول الثلاثة الأخرى من هذا العدد: "كوفيد" و"المناخ" ثم "حِفظ الطبيعة". لا تبعث هذه الصور على ارتياح كبير -بكل تأكيد- لكنها تحوي جمالا وعزيمة وأملا.. "أناسًا عاديين يحاولون مساعدة آخرين"، كما يودّ محمد فضلي التعبير عن ذلك. الرجل الوحيد الذي يرتدي قناعًا ورداءً واقيين ويقف في أعلى وادٍ أخضر مشجَّر، هو "نذير أحمد"، عامل رعاية صحية في إقليم جامو وكشمير الهندي، يبحث عن رعاة معزولين لتطعيمهم ضد "كوفيد19-". والمرأة التي تحضن صغير ألباكا هي "ألينا سوركييسلا غوميز"، وتعمل لفائدة تعاونية مربي ماشية في البيرو، وتقدم المشورة لأفراد شعب "ألباكيرو" الأصلي الذي أصبحت موارده المائية ومراعيه مهددة بالتلوث الصادر عن المناجم والتغيرات المناخية. والرجل الكيني الذي يرتدي قفازا ويضع يده بِرِقّة على ضلع فهد شيتا، هو طبيب بيطري يدعى "مايكل نغوروغ". أسهم هذا الأخير مع خبيرَي الحياة البرية برفقته في جهود دامت خمسة أيام تخللها نقل بالشاحنة وعمليات جراحية للحفاظ على حياة حيوان بري جريح. اشتغلت "نيكول سوبيكي"، المصورة المقيمة في نيروبي، شهورًا مع "رايتشل بيل"، المحررة التنفيذية لقسم الحيوانات لدى ناشيونال جيوغرافيك، على تحقيق عن شبكة دولية لتهريب الحيوانات تتصيد فهود الشيتا الإفريقية المهددة بالانقراض. في أعقاب ذلك، عثر مرشد كيني رفقة سوبيكي على أنثى شيتا بالغة جريحة وسط محمية وطنية. راقب الاثنان هذه الأنثى طيلة 48 ساعة في انتظار وصول الفريق البيطري التابع لـ "هيئة الحياة البرية الكينية" التي أخطرها حراس محليون. قالت سوبيكي، ثم تنهدت: "فهد شيتا في جزء من العالم". في مكالمة بين نيروبي وأوكلاند بكاليفورنيا، حاولتُ بمعيتها فهمَ شعورنا إزاء محاولة إنقاذ الأنثى التي أطلق الحراس عليها اسم "نيكول". إن الأمر يدعو إلى الحماس رغم عقمه: ذلك أن أنثى الفهد، نيكول، لم تنج. بدا أن إصاباتها كانت بسبب حيوان آخر، لا بسبب صياد أو مهرب من البشر. لكن نيكول، المصورة، كانت توثق لاندثار موائل الحيوانات وآثار أزمة المناخ في إفريقيا، وكانت تواجه صعوبة في فصل نوع من الحزن عن آخر. تقول: "كانت ثمة إرادة لمحاولة إنقاذ تلك الأنثى. اتسمت الجهود بالطموح والشمولية. لا أود التقليل من شأن ذلك". ليت الأحداث جرت على نحو مغاير.. ليت بياطرة هيئة الحياة البرية لم يكونوا خارج الخدمة يوم عُثر على أنثى الفهد.. وليت الفريق البديل وصل بسرعة أكبر.. وليت السلوك البشري لم يكلف فهود الشيتا أزيد من 90 بالمئة من مجالها الطبيعي التاريخي. أجل، قد تقولون إن هذه الأنثى تحديدا ربما قُدِّرَ لها أن تنفق وحيدة تحت شجرة من دون أن تزعجها أيادٍ فاحصة. لكننا أحيانا نربط القصص الصغيرة لنتمكن من فهم القصص الأكبر في أذهاننا. تقول سوبيكي: "ننشأ جميعا على معرفة فهود الشيتا. لكن ماذا عن بقية أنواع أخرى لا حصر لها تواجه المشكلات نفسها؟ إن كنا قد أوصلنا أحد أشهر حيواناتنا إلى وضع لم تعد فيه أعداد البالغة منه في البرية تتجاوز 7000، فما بالكم بالبقية!". بالكم بالبقية! لا يوجد خط فاصل سهل بين صور هذا العـام. فـي 2021، أثار انتصار تطويـر لقـاح مضـاد لمـرض "كوفيد19-" خلافا خاصا به. من كان يتخيل كل هذا الغضب إزاء حُقَنٍ تحمينا ضد الموت؟ لقد حدثت كل محاولات الحفظ تقريبا، حِفظ الأنواع والاقتصادات ومناطق من العالم.. على خلفية وجودية تتعلق بالتغير المناخي. كان ذلك يوم 9 أغسطس، لَمَّا أصدرت "اللجنة الحكومية الأممية المعنية بالتغير المناخي" مجموعة من 2000 صفحة من التقييمات والتنبؤات القاتمة. وقد وصف الأمين العام للأمم المتحدة"، "أنطونيو غوتيريش"، هذا التقرير -السادس من نوعه خلال العقدين الماضيين- بكونه "إشارة حمراء للبشرية". بعد مرور أقل من أسبوع على صدور التقرير، شب حريق غابات في كالدور بكاليفورنيا فامتد نطاقه على مساحة 89 ألف هكتار وواصل انتشاره على سفوح التلال الجافة بينما كان رجال الإطفاء ما زالوا يجهدون أنفسهم في أقصى شمال الولاية من أجل إخماد حريق ضخم آخر، سُمي "ديكسي". كان "ديكسي" الحريق الثاني كبرًا في تاريخ كاليفورنيا، ولم يتسن احتواؤه بالكامل إلا في نهاية شهر أكتوبر. لقد كرست المصورة "لينسي أداريو" -المقيمة في لندن- مجمل مسيرتها المهنية لالتقاط صور النزاعات؛ وتتضمن هذه الصفحات صورتها المروعة، من إثيوبيا، لناجية من عمليات اغتصاب متكررة على أيدي جنود. أضت أداريو صيف 2021 في كاليفورنيا، جنبا إلى جنب مع رجال ونساء يكافحون الحرائق. كان هذا عام التجمد في تكساس.. فبراير. وأعلى درجات الحرارة المسجلة في تاريخ كندا.. يونيو. والفيضانات المفاجئة القاتلة في ألمانيا وبلجيكا.. يوليو. تفضل عالمة المناخ "كاثرين هايهو"، من "جامعة تكساس التقنية"، توظيف مصطلح "الغرابة العالمية" في معرض حديثها مع "روبرت كونزيغ" و"أليخاندرا بوروندا" والمؤلفة البيئية "كاثرين ويلكنسون" من ناشيونال جيوغرافيك. نعم، إنهما كاثرينتان متوجَّتان بشهادة الدكتوراه، وكلتاهما تحثنا على نبذ اليأس؛ والسماح لأنفسنا بالاعتقاد أن الحاضر قد يكون مروعا ورائعا في آن للعيش على ظهر الكوكب، على حد تعبير ويلكنسون. تؤكد هذه الأخيرة أنه "لدينا كثير من القوة. فثمة الكثير مما يمكننا فعله" لمكافحة التغير المناخي. قد ينبغي لك، وأنت تتفحص هذه الصور، أن تستحضر بعض العناوين الرئيسة التي ميزت عام 2021 والتي أتاحت شعورًا بالارتياح النفسي، أو على الأقل لحظة واحدة حقيقية من الشعور بتجاوز الصعاب. فلقد غيّر حريق "كالدور" وجهته دون بلوغ مدينة ساوث ليك تاهو. ورغم الرجة التي أحدثها متحور "دلتا"، استطاع الملايين منا العودة إلى رفقة الآخرين جسدا.. نعانق، ونقبل الأجداد، ونرى الأطفال يعودون إلى المدارس. في الصفحات التالية، خريجو "جامعة هاورد" يغنون ويرقصون وهم يتجولون بلباس وقلنسوات التخرج، وكلما نظرتُ إليهم أحسست بمعنوياتي ترتفع. الأمر نفسه يحدث مع الفرقة الموسيقية المكسيكية المؤلفة من المراهقين في جنوب تكساس، وأفرادها يرتدون بدلاتهم الجديدة على متن حافلة في الطريق إلى أول عرض منذ بداية تفشي الجائحة. الفيل الرضيع يمتص الحليب المصنّع من قنينة؟ يلتقي صون الطبيعة مع "كوفيد"، في نهاية سعيدة مفاجئة: في مَلاذ كيني يؤوي الفيَلة، أدى تعثر الشحن بسبب الجائحة إلى وقف إمدادات الحليب المجفف. لذلك نجح القَيِّمون على الرعاية في استبداله بحليب الماعز المتاح محليًا؛ فضاعف هذا الأخير معدل نجاة صغار الفيَلة اليتيمة حتى ناهز الـ 100 بالمئة. إن عددًا كاملًا من "عام.. بالصورة" لا يحوي بالطبع سوى عدد محدود من الصفحات. قائمة جزئية اعتباطية من أشخاص وأماكن وأشياء بارزة من عام 2021 لا توجد في هذه الصور: أولمبياد طوكيو؛ إطلاق المركبات الفضائية الخاصة؛ سفينة الشحن التي أغلقت قناة السويس؛ تنصيب أول أميركية من أصول سوداء وآسيوية وأنثى نائبة لرئيس الولايات المتحدة؛ اغتيال الرئيس، والزلزال المدمر في هايتي؛ مواصلة مسبار "بيرسيفيرنس" التنقيب وسط الصخور على سطح كوكب المريخ؛ افتتاح "إكسبو 2020 دبي" بدولة الإمارات العربية المتحدة؛ احتشاد عشرات الآلاف من الأشخاص في الحانات والمطاعم في بروفنستاون خلال الأسبوع الرابع من يوليو في كيب كود بولاية ماساتشوسيتس، إذ خرجوا إلى الشوارع لأن مصطافين كثيرين ظنوا أن التطعيم جعل الأمور آمنة في آخر المطاف. تَبَيَّن أن المطعَّمــين الذين ســافروا مــن ديــارهم إلى بروفنستاون مصابون بفيروس "كورونا". وأظهرت عمليات التعقب عبر الولايات أن خمسة فقط دخلوا إلى المستشفى، من أصل 469 حالة تم الإبلاغ عنها، فيما لم تسجل أي وفاة؛ لذلك، فإن اللقاح يحمي بكل تأكيد. إلا أنه لا يقي تمامًا من العدوى؛ ما يعني عدم التراخي من حيث اليقظة الجماعية حتى الآن. قال "روب أندرسون"، صاحب مطعم في بروفنستاون، لمّا اتصلت به في شهر أغسطس لأسأل عمّا قام به هو والآخرون: "إن الوباء لن يرحل. ولن نرحل نحن أيضا. إننا أقوى من ذلك. ما زلنا صامدين". تابع أندرسون، على غرار آخرين في البلدة، تَقهقر عملُه في الأسابيع التي أعقبت حادث بروفنستاون، واقترح علي التفكير في الطريقة التي يصل بها السائر على حبل مشدود إلى نهاية المسار. قال: "ما عساك تفعل؟ تنظر إلى الأمام. وتظل متزنا. وهذا ما نفعله". رسخت الفكرة في ذهني: السائر على حبل مشدود. ظللت أفكر في الأمر -مدى ما كبَّدَنا عام 2021 من صعوبات في الاشتغال أحيانا في محاولة للبقاء مرفوعي الهامة- لمّا اتصلتُ بالمصور "ستيفن ويلكس" تحدثنا وهو يلتقط الصور البانورامية التي تسبق هذا المقال. كان يلتقط الصور من على ارتفاع 13.7 متر وهو يعتلي مصعدا سُمِح لطاقمه بإدخاله إلى "ناشيونال مول" بالعاصمة واشنطن. وأثناء انكباب ويلكس على ما أسماه "صور الليل والنهار"، اشتغل على مدار الساعة، فكان يلتقط صورا كثيرة ويدمجها فيما بعد في صورة واحدة شاملة. وفي سبيل إخراج "صور الليل والنهار"، ركز طيلة 30 ساعة على المُنشأة الممتدة على مساحة 8 هكتارات عند قاعدة "نُصب واشنطن": أعلام بيضاء يمثل كل منها حالة وفاة بسبب "كوفيد19-" في الولايات المتحدة. قال ويلكس: "إنه بحر من الأعلام". ثم ما لبث أن عدَّل تعبيره، فقال: "انتظر، ليس بحرا على وجه الدقة، بالنظر إلى الارتفاع الذي أوجـد عليه، أكاد أراها كأفراد. إنها تذكرني بنجوم وامضة". صممت الفنانة "سوزان برينان فيرستنبورغ" تلك المنشأة التي استمرت ثلاثة أسابيع، فكانت على شاكلة شبكة عملاقة تتخللها مسارات تتيح للناس المشي بين الأعلام وكتابة الأسماء عليها تخليدا لذكرى من رحلوا، وتثبيت أعلام جديدة مع تزايد عدد الأموات. حملت لافتة كبيرة عند المدخل أحدث الأرقام المسجلة على الصعيد الأميركي، وكانت فيرستنبورغ تُحَيِّنُها بيدها كل يوم. يقول ويلكس: "حين جئت بالأمس كان العدد 666.624. وبعد ظهيرة اليوم كان.." ثم تردد. تخيلته هناك على منصته، ماسكا كاميراه، وهو يحدق في الرقم ليقرأه من بعيد على نحو صحيح. قال: "670.032". أجرينا الحسابات ذهنيا. قال ويلكس إن الصباح كان ماطرا، "أرى رجلا مسنا يمشي بين الأعلام. أرى سيدة تجلس على الأرض، وقد ثبتت للتو علما. إنها أميركية من أصول إفريقية، ترتدي قميصا أخضر فاتحا، وكان معها على ما يبدو زوجها. كان أحدهما ممسكًا بيد الثاني". قال ويلكس إن ضوء ما بعد الظهيرة يضفي لمسة رائعة على ظل النُّصب التذكاري: فصار نيِّرًا من جهة، ومظلما من جهة ثانية. "جميل. وقد بدأ يتضح. إنه مذهل، حين تشرق الشمس.. لأن الأعلام البيضاء تتوهج".