صـوت الغـــابـة الروحـانــي

تمثّل غابة "لويتا" الجزء الخفي من منظومة "سيرينغيتي" البيئية، وهي منطقة بريّة بِكر ومقدسة لدى شعب "ماساي". وحامي الغابة ابن الثمانين عامًا، يرى فيها مشهدًا طبيعيًا روحانيًا ما فتئ يتهدده طمعُ البشر.

في الآونة الأخيرة، انطلقتُ قبل مدة قصيرة في رحلة إلى قلب براري سيرينغيتي. لكنها لم تكن براري سيرينغيتي التي قد تخطر على بالك؛ فهي لم تكن تلك المشاهد الشائعة على البطاقات التذكارية لسهول عشبية صفراء متماوجة تتناثر عليها أشجار السنط الشبيهة بالمظلّات. كما أنني لم أكن نزيلة معسكر فاخر من الخِيَّم ولم أنضم إلى جحافل الشاحنات الصغيرة المغلقة التي تحمل السيّاح وتتحلّق حول الأسود وهي تجتمع حول فرائسها المقتولة للتو لالتهامها.
لا، بل سافرتُ إلى "لويتا"، وهي جزء من منظومة "سيرينغيتي" الحيوية الكبرى التي لا تظهر على مخططات الرحلات السياحية الاعتيادية.. فهي "سيرينغيتي" خفيّةٌ، إن صحّ التعبير.. إنها بيئة تشمل براري جبلية يانعة تعلو أكثر من 2000 متر عن سطح البحر. وتقع على بعدٍ يقارب 250 كيلومترًا عن نيروبي وتطلّ على "محمية ماساي مارا الوطنية" الشهيرة عالميًا. ومع ذلك، فإنها مكان لا يعلم بوجوده جُل الذين يزورون كينيا. 
كانت خطتي أن أشق طريقي في قلب هذا الحصن الأخضر إلى مكان يُعرف بلغة شعب ماساي باسم "إنتيم إه نايمينا إنكيِيْيو"، أي "غابة الطفلة المفقودة". إنها رُقعة هشة من الغابات المطرية البِكر بمساحة قدرها 300 كيلومتر مربع.. أرض مخفيّة مع أنها على مرأى من الناظرين. وما إن وصلت إلى هناك، كان أملي أن أحظى بلقاء الرجل الذي يشرف على هذه العوالم. ولكن ينبغي أولًا أن تَعلموا أنني أعيش في عالم بعيد كل البعد عن "لويتا" هذه؛ فأنا أقطن في نيروبي، وهي حاضرة يعيش فيها نحو خمسة ملايين شخص، وتضجّ بالصخب والحياة، لكونها أحد أهم مراكز الابتكار التقني في إفريقيا، وتمثل نواة المنطقة المكنّاة
بِـ"سافانا السيليكون". ثم إنها أحد أكثر مراكز المواصلات ازدحامًا في القارة السمراء، لكونها منطلق رحلات جوية إلى أربع قارات ووجهة لها كذلك. إنها موطن لناطحات سحاب متألّقة تضم مكاتب لشركات من مختلف أنحاء العالم. فالمقرّ الإفريقي لمنظمة "الأمم المتحدة" هنا، وكذلك مقرّات مجموعة كبيرة من المنظمات الإعلامية الدولية التي تبثّ أخبار القارّة على مدار الساعة. وهنا نتحمّل الاختناقات المرورية التي تجعل المرء يفقد هدوء أعصابه، ونتساءل عن التداعيات المحليّة للتغيّر المناخي. وبالطبع، هنا كذلك ذقنا -وما زلنا نذوق منذ عام -2020 تدعيات تفشّي وباء "كوفيد19-" الذي كان سوط عذاب على سائر البشرية.

كان الرجـــل الذي رجوت لقاءه زعيــــمًا لشعــب مــاســاي، يـــدعى "مــوكومبــو أولــِهْ سيميل"، ويُعرف كذلك باسم "الأولويبوني كيتوك" (أي الزعيم الروحاني الأعلى). فمنذ هجرة شعب ماساي قبل قرون من "وادي النيل" إلى شرق إفريقيا واستقرارهم في هذا الإقليم الذي يشمل المنطقة التي سمّوها "سيرينغيت" (أي "المكان الذي تمتدّ فيها الأرض بلا نهاية")، وهم يتلقّون إرشادات رجال يشغلون منصب "الأولويبوني"، وجميع هؤلاء الزعماء من عشيرة وُهبت قدرات دنيويّة وروحانيّة استثنائية وتمرّست في العلاجات الطبيعية والخارقة للطبيعة.
إنّ شَغل منصب "الأولويبوني كيتوك" -وهو "الأولويبوني" الأعلى رتبة- يعني أن يجلس المرء بين عالمين، وسيطًا ونبيًّا وعرّافًا.. وشفيعًا ومعالجًا روحانيًا.. وخبيرًا ثقافيًا في الطقوس الدينية وخبيرًا سياسيًا إستراتيجيًا كذلك.. وأمينًا على العلاقات الطيّبة بين البشر والطبيعة. وقبل أكثر من 30 عامًا، ورث "موكومبو أولِهْ سيميل" عن أبيه عباءة "الأولويبوني" (الزعيم الروحاني) الأعلى ليلبسها مدى العمر، ويصبح "الأولويبوني كيتوك" الثاني عشر في سلالة عشيرته.
ويَصعُب عليَّ شرح التأثير الأقصى لهذا الرجل. فهو الزعيم الروحاني لأكثر من مليون فرد من شعب ماساي الذي يعيش بين كينيا وتنزانيا. ويقصده الناس لنيل بركاته واستشارته في مسائل صغيرة وكبيرة، بدءًا من الأبقار التي تضيع لعائلة وانتهاءً بخطط كبرى للمحافظة على غابة "لويتا". بل إن بعض الماساي يتكبّدون مشقّة قطع 300 كيلومتر من منطقة "سامبورو" الواقعة بشمال كينيا إلى "لويتا" لرؤيته. لكنَّ من يطلبون مشورته ليسوا محصورين في شعب ماساي؛ إذ إن سياسيّين من دول أخرى قد التمسوا بركاته ونصحه ومساعدته لكسب ودّ الناخبين.
 ومع ذلك، فليس من السهل لقاء هذا الرجل. إذ لا يستطيع المرء ببساطة أن يستقلّ سيارة وينطلق بها إلى "لويتا" ليجد طريقه إلى منزل "الأولويبوني كيتوك". بل يجب أن يُقدَّم تقديمًا إلى الزعيم الروحاني؛ وهكذا حدث أن اجتمعتُ مع رجلٍ يدعى "موريس لولبابيت"، هو صاحبُ صاحبٍ لي، ويعمل طبيبًا وأخصّائيَّ صحة عامة، وكان هو الآخرُ زعيمًا روحانيًا غير ممارس؛ ومن محاسن المصادفة أنه ابن أخ "الأولويبوني كيتوك" نفسه.
وهكذا حدَثَ أن جلستُ ظهيرة يوم من أيام مايو على بساط من العشب الأخضر تُزيّنه زهور بنفسجية وصفراء صغيرة، في ظل شجرة "أوريتيتي" عملاقة. كانت السماء حينها زرقاء صافية، ومع أن الشمس كانت ساطعة، فإن ريحًا شرقية أنعشتني برذاذ بارد. وفي مكانٍ ما غير بعيد، كان نهيق حمار يتردّد في الأجواء.
كان موريس قد أرشدني إلى هذا المكان في رحلة تطلّبت مسيرة ثماني ساعات بالسيارة في طرق وعرة صعدت تدريجيًا إلى سهل عشبي جبلي يمثّل بوّابة لغابة "لويتا". هنا، في موطن "الأولويبوني" المتمثل في مجموعة من المباني المصنوعة من الطُّوب المسقوفة بالقش، وحظائر الحيوانات، يستقبل الرجل زوّاره، وهنا رجوتُ أن أستأذنه بزيارة "لويتا" وأن أُجري معه مقابلة.
كنت واحدة من أصل عشرين شخصًا، من بيننا وفدٌ من خمسة رجال من تنزانيا كان قد وصل قبل الفجر. واستُقبلنا جميعًا استقبال الحجّاج، ولم يُعامَل أحدٌ منا معاملة الغريب.
وتُملي التقاليد ألّا يأتي ضيفٌ إلى هنا صفر اليدين؛ وكنا قد أحضرنا بعض الأمتعة المنزلية (طحينًا، وتوابل، ودفاتر تلوين وأقلام) لتُعطى لزوجات "الأولويبوني" وأولاده. أما أنا، فقد جئت أحمل أربع شتلات غالية من شجر البُنّ.. لتكون عطيتي الخاصة له. هنالك انتظرنا جميعًا ما يقارب الساعتين.
وظهر الرجل أخيرًا.. وبظهوره حدثت فجأة موجة من الأحداث. إذ حيّته جوقةٌ من الأصوات البشرية، وتَقدّم إليه المبعوثون المجتمعون. كما أن أحد عجوله المفضّلة اندفع نحوه، وأخذت عنزاته تثغو، ومن بعيد رأيت خمس زرافات تمشي الهوينى. كان الرجل في عقده التاسع ويمشي وظهره منحنٍ بعض الشيء. أخذ يومئ للآخرين كما لو أنه قائد فرقة موسيقية، مرشدًا أحد الرعاة إلى المراعي حيث ينبغي أن ترعى خرافه وماعزه وأبقاره، ومرسلًا شابًّا آخر إلى السوق، ومحمّلًا ابنه (ووليّ عهده)، "ليمارون"، مَهمة تقديم خدمات معالَجة لتهدئة روع ثلاثة زوّار متوتّرين.
كان "الأولويبوني" يتقوّى على قطع خطواته غير المتناسقة متكئًا على عصا ثخينة منحوتة. أما رأسه، فكانت تغطيه قلنسوة زرقاء داكنة من الصوف. وكان يلتحف بعباءة حمراء وزرقاء يرتديها شعب ماساي تدعى "أولكاراشا". وإذ اقترب منا، كان حريصًا على النظر في عيون أولئك الذين كانوا ينتظرونه. 
كانت السنين قد حفرت تجاعيد عميقة في وجهه؛ أما عينيه السمراوتين العسليّتين فقد غشيهما السُّد (إعتام عدسة العين). 
نهضتُ لأحَيّيه. فبدا لي وكأنه قرأني بنظرة مطوّلة، مُجريًا تقييمًا سريعًا لجميع مناقبي ومثالبي الأعمق. وقد أربكني ذلك وجعلني أشعر بأنني أصبحت مكشوفة فجأة.
كان صوت "الأولويبوني" خفيضًا وأجشّ عندما قال لي بلغة الماساي: "أنتِ هنا".
فقلت له: "أنا كذلك". ثم طأطأتُ رأسي -تماشيًا مع تقاليد الماساي- كي يحيّيني بلمسه.
بعدها صففتُ شتلات شجر البُنّ الأربع على العشب بيني وبين "الأولويبوني" الذي كان قد جلس للتو. ولمّا كنت أجهل لغة الماساي و"الأولويبوني" يجهل اللغة السواحلية، فقد تولّى موريس تقديمي للزعيم وأوضح لي أنه سيُترجم لي. عنــدهـا أمــرني "الأولــويــبــوني" قـائــلًا: "تحدّثي!".
هنالك أخذتُ أقصّ عليه كيف تحوّلت روحٌ جوّالة من أرواح الغابة إلى شجرة بُنّ في غابات مملكة "كافا" القديمة، كي تعيش وسط البشر الذين كانت مولعة بهم.. وكيف اكتسبت دورًا علاجيًا بتحفيز حواراتٍ كانت تُصلح ذات البين.. وكيف كانت تحوّل الغرباء إلى أقرباء.. وكيف كانت رفيقًا وشعيرة حاضرة مارسها الرهبان الأورثوذكس في الحبشة (إثيوبيا اليوم) أثناء مناجاتهم الله والقدّيسين.
وإذْ راح موريس يترجم كلماتي، أصغى "الأولويبوني" بإمعان. وبدت عيناه وكأنهما تنيران. عندها وصلتُ إلى خاتمة حكايتي قائلة: "إننا أحضرنا هذه الشتلات لكم ولهذه الغابة لنضعها، من بعد إذنكم، في عهدتكم كي تجد هذه الروح مأوى لها هنا كذلك".
لاذ الرجل بالصمت. فلم أسمع إلا زقزقة الطيور وهمس الرجال.. وأخذت أنتظر. 
وأخيرًا، تكرّم "الأولويبوني" عليَّ بأضعف إيماءات برأسه. وفجأة -وبابتسامة إعجابٍ خفيفة- التفت وصاح مناديًا ابنه: "ليمارون!"، وتبع ذلك حوار بينهما بلغة الماساي. فترجم لي موريس ذلك قائلًا: "إن الأولويبوني كيتوك يرحّب بك، ويبارك في زيارتك هذه. لكِ أن تذهبي أنّى شئت. يُسمح لك بدخول الغابة. أما فيما يخصّ المقابلة، فانتظري موعدًا منه".
عندها نهضتُ، فسألني موريس: "إلى أين ستتجهين ضمن الغابة التي يمتلكها موكومبو؟".
لم أكن قد فكّرت في مواقع محددة، فأجبته قائلة: "إلى الشلّال". فقال: "هنالك الكثير منها، فاختاري أحدها".

في صباح اليوم التالي، انطلقنا ننشد شلّالنا المختار، وقد تحصّـنّا ببركات "الأولويبوني". وإذ سارت بنا السيارة في السديم، تفكّرتُ في الأسطورة التي استُوحي منها اسم "غابة الطفلة المفقودة"؛ ومفادها أن فتاةً دخلت الغابة ذات يوم بحثًا عن عجولها الشاردة، فعادت العجول، ولم تعد هي. وحاول بعض الشبان العثور على الفتاة بلا جدوى.. فلقد قررت الغابة الاحتفاظ بها.
عندما بلغنا القمة التي سيبدأ عندها سيرنا الجبلي، وجدنا بانتظارنا ثلاثة من صغار الشيوخ. كان هؤلاء الكشّافة رجالًا مهيبين نحيلين بعضلات مفتولة، دائمي اليقظة والصمت، باستثناء رجل يدعى "لانغوتوت أولِهْ كويا"؛ فقد كان اجتماعيًا، وكان قد عاد قبل وقت قريب إلى "لويتا" بعد أن أمضى بعض الوقت في مخيّم لدى "محمية ماساي مارا الوطنية". وأوضح لنا مرشدونا أن شلّالنا المنشود يقع على بعدٍ يزيد قليلًا على ثمانية كيلومترات إذا اتجهنا في خطٍ مستقيم؛ وهو ما يعني أن نسير خمس ساعات على الأقدام عبر مجموعة متدرجة من الأهوار.
وإذ أخذنا نقفز من جزيرةٍ قصباءَ موحلةٍ إلى أخرى، سلّيتُ نفسي بالتفكّر في كيف أن هذه الأرض ذكّرتني بالأهوار الميتة في رواية "سيد الخواتم" التي كان مؤلّف القصة، "جي. آر. آر. توليكين"، قد وصفها بأنها "شبكةٌ لا نهاية لها من البرك ومستنقعات الخثّ الطريّة ومجاري المياه شبه المخنوقة".
ولكن بعد انتقالنا إلى الهور الثالث، تلاشت طرافةُ تخيّلِ هذا المكان على أنه رحلةٌ في "الأرض الوسطى" المذكورة في الرواية بتحوّلها إلى عمليةٍ مضنية اضطررنا لخوضها بإذعان. فقد تلطّخت أحذيتنا بطبقات سميكة من الوحل وابتلّت بناطيلنا تمامًا، وكان بقاؤنا جافّين من المستحيلات، والماء يحيط بنا من كل جهة. وكانت الجداول تنفجر من الأرض كالجنّ، في حين نضحت جداول أخرى وتبخّر ماؤها قبل أن يتجاوز منتصف مجراه. وقد تسرّب الماء من الصخور أو سال على شكل خيوط طويلة مفردة متدلّية من نتوءات صخرية مرتفعة. 
وانساب كل ذلك الماء إلى ما بدا لي مستنقعا لكنه كان في الواقع نهرًا متلويًّا يسمى "أولاسور". وقد تتبّعنا نموّه وهو يزداد عرضًا وعمقًا. وأخبرَنا المرشدون أنه يؤوي الأسماك وأفراس النهر، والتماسيح كذلك؛ وهو ما أقلقني. ثم اختفى النهر في الغابة وقد ولج في نفق من الأعشاب والشجيرات الملتفّة. ولكننا لم نستطع رؤيته عندما زحفنا خارج الأجمات الكثيفة، فاهتدينا بصوت جريانه.
مشينا في طريق ضيّق تُزاحمنا فيه جلاميدُ مكسوّة بالنباتات الحزازية، واخترقنا شِباكًا هائلة الحجم لعناكب، وأصبحنا معتادين أكثر مما ينبغي لسعات نبات القرّاص الكبير والنمل الأحمر، وتعلّمنا أن نتحاشى بهدوء أماكن شَعَـر مرشدونا فيها بوجود فيلة وجواميس. لكنّي، إذْ تحاشيت هذه الحيوانات، فإني لم أستطع تحاشي الدوس في فضلاتها.
لم يشوَّش "لانغوتوت" بأيٍّ مما سبق ذكره؛ فقد لاحظ كل شيء آخر، مشيرًا إلى أشكال الأشجار، وملمس الأوراق، والأنماط الشكلية للأشنات على الصخور، ووضعية شجرة ساقطة، وتشققات الأغصان، والخدوش التي خلّفتها الحيوانات على لحاء الشجر. وكان يتوقف بين حين وآخر عند عدد لا يحصى من أنواع الفضلات ليُعرّف المخلوقات التي كانت قد طرحتها. وحدّثني عن مسارات طيران الحشرات والطيور، وكثافة الريح وحرارتها، وقوام الضوء الواصل عبر ظلّة الشجر، ورائحة الأشياء، وتنفّس النباتات، ومعاني السَّكَنات. وإذ مشيتُ، أخذ تركيزي ينحصر في ما يوجد أمامي.. في كيفية تغيّر لون التراب من الأسمر الداكن إلى الأحمر الزاهي ثم إلى لونٍ يقارب السواد، ثم إلى الرملي والصلصالي فالبرتقالي، ثم إلى درجات سمارٍ داكنة وفاتحة من جديد. وبدأتُ أرى الأنساق في الأوراق والظلال.
وقد لقينا مجموعات عديدة من النحل. ولا عجب، فقد قال لي لانغوتوت: "إن هذه تدعى كذلك غابة العسل"، مشيرًا إلى كثرة الشجيرات المثمرة فيها. وعندها أشار إلى بستان عرّفه بأنه أشجار حضانة. قال: "تنمو الأشجار في عوائل؛ الأشجار الكبيرة بينها ترعى الأشجار الصغيرة وترشدها. كما أنه تجمعها صداقاتٌ فيما بينها، وكذلك بينها وبين الناس". وشرح لي القوة العملية والطبية والروحانية لبعض الأشجار، مثل "أوريتيتي" و"المعلاقية" والزيتون البري ونخيل التمر.
وإذ تابعنا المسير، ذكر لي أماكن سرية أخرى ضمن الغابة: كهوفًا تضم جداول صافية ورسومات منقوشة على جدرانها. وحدّثني عن كاتدرائية من الأشجار العملاقة يقيم فيها "الأولويبوني" مراسمهم الأكثر خصوصية. وقد تعلّمت مفردات أوّلية بلغة الماساي، مثل "إوانغ آن" (النور) و"أوليب" (الظلّ). وامتلأت أذناي بأهازيج الطيور وهمسات الريح، والصفير والصرير اللذين تطلقهما الحشرات ومخلوقات أخرى، وكذلك إيقاع قطرات المطر وهي تنهمر على أوراق الشجر. أما أنفي فأزكمته الروائح الواخزة: روائح الصدأ والتعفّن والحمضيات والنعناع.
نبّهَنا أحد مرشدينا إلى صياح طائر أبي قرن وإلى تغيّر جَرْس صوت قرد "كولبس" وهو يصيح: "غرو غرو غرو". كانت هاتان علامتين على قرب هطول المطر، فأخذنا نحثّ خطانا الثقيلة.وأخيرًا برزنا فوق وادٍ شاهق يصيب المرء بالدُّوار، تَحفّه جروفٌ من الحجر الأسمر المرقوش بالأبيض. رفرفت حولنا فراشات زرقاء وأخَرُ بيضاء وخضراء وصفراء شاحبة، معلنةً انتهاء موسم الأمطار. ومن علٍ، حوّم طائر جارح. أما أسفلنا، فرأينا أخيرًا الشلّال.. "الأولاسور" يتدفق من نفق صخري، هاويًا ما يقارب الـ 180 مترًا إلى هـوّة تحت أوراق الشجر. وقد أخبرني لانغوتوت أن مياهه سترفد نهر "أولويبورتوتو"، وأنه في حال لم تُحرَف عن مجراها الطبيعي فستصب في بحيرة "النطرون".ولكن لم يكن بمقدورنا البقاء؛ إذ اضطررنا للعودة عبر الغابة قبل أن يرخي الليل سدوله، وقبل أن يحجب السديم الأهوارَ عن مرآنا. ولدى انطلاقنا خارج الغابة، تعلّمت كلمة أخرى من كلمة الماساي عندما أبصرنا أتمَّ الأقمار وأكبرها وأنورها: "أولابا". عندما وصلنا إلى دار الضيافة، كان "الأولويبوني" قد ترك لي رسالة مفادها أنه سيحادثني في الصباح.

تبخترديكٌ أسمر الريش ضمن مجمّع "الأولويبوني" وجرادةٌ في منقاره.. وانطلقت أبقار وعنزات بخفّة نحو مرعاها تحت حراسة شابّ. أما أنا، فجلست أنتظر تحت شجرة "أوريتيتي" ضخمة ورأسي ما يزال يعجّ بأحداث البارحة.
لمعَت عينا "الأولويبوني" لدى رؤيتي. ولا أستطيع إنكار أنني شعرت بهالته. سمِّها إن شئت جاذبية صرفة، أو لعلّ الأمر يتعلق بالأساطير التي سمعتُها وقد اختلطت بروعة رحلة أمس. أو لعلّ المسألة ذات صلة بسعادتي بلقاء زعيمٍ ذي ولاء للعالم الطبيعي لا يلين. وقد وجدت توافقًا بين "الأولويبوني" وشجرة "أوريتيتي" الخاصة به؛ فكلاهما متجذّر في الأرض وقديم وغامض، وكلاهما يوفر ظلًا ومأوى لمن ينشدهما.
تنوّعت أحاديثنا وتنقّلت من موضوع إلى آخر.. كما يتلوّى نهر "أولاسور". أشار إلى نسَـب أسلافه وإلى ذريّته، وشرح لي معنى أن يشغل المرء منصب "الأولويبوني كيتوك"، فاتضح لي أن المسألة ليست خيارًا؛ إذ كان قد وُلد ليشغل هذا المنصب. وقد تحدّث عن غابة "لويتا" التي أشار إليها بأنها غابته الشخصية، واصفًا إيّاها بأنها: مزارٌ ومعبد، وملاذ ومصدر للوقود.. وهي روضة من رياض الله، و"دار ضيوف المطر".. وهي مدرسة ومتجر كبير ومستشفى وصيدلية ودار للمسنّين. لكنها مهددة من غدر البشر، وبالأخص من شرَههم وغدرهم وجشعهم وحسدهم.
إذ أخبرني "الأولويبوني" عن موجة تلو موجة من توغّلات الدخلاء: بينهم مسؤولون حكوميّون مشبوهون، ووُعّاظٌ مزيّفون، وأصحاب مشاريع إنمائية طمّاعون. تحدّثوا جميعًا بمصطلحاتٍ ظاهرُها لطيفٌ ومنتَقى وباطنُها يحمل الموت في طيّاته: السياج وترسيم الحدود وسندات الملكية والقروض المصرفية وطريق يعبر الغابة. وألمح إلى مكائد لا تتوقّف، وبخاصة من مجموعات دولية غنية تعمل في مجال حفظ الطبيعة زعمت أنها تخبر سكّان المنطقة (الإيلويتاي) بما هو خيرٌ لغابة "لويتا".
تحدّثنا عن أهمية هذه الأرض؛ إذ قال لي الرجل: "إنْ نفقد الأرض، نفقد الثقافة؛ وإن نفقد الثقافة، نفقد السلام. وإن نفقد السلام، نفقد المجتمع المحلي. وإن نفقد المجتمع المحلي، نفقد طريقة حياتنا إلى الأبد".
جلسنا بهدوء صامتين. رأيتُ فيه شبيهًا لشخصية الإله "أطلس" اليوناني الأسطورية، لكن هذا الرجل المسنّ لم يُحمَّل السماوات فحسب على عاتقه، بل وحُمِّل الأرض كذلك. أخذ طائر "حبّاك" يغرّد بإلحاح، فنظر "الأولويبوني" باتجاهه، وخيّمت عليه السكينة. كان ينبغي أن أسأله حينها: "ما الذي قاله الطائر؟"؛ لكنني قررت أن أنتقل إلى الحديث عن التغيّر المناخي. 
قال: "سمعتُ عن أشياء من ذلك القبيل". 
قلت: "هل شهدت تغيّرًا للفصول هنا؟". 
قال: "البرد يهجم بشراسة أكبر ووتيرة أكبر.. شهدنا هذا حقًا".
قلت: "ماذا عن الجفاف؟".
عندها قطّب حاجبيه وقال: "شهدناه مرة قبل خمسة أعوام. لكن ذلك كان ثمرة آثامنا؛ فقد نصبنا السياجات. بَيد أننا صوّبنا ذلك الخطأ".
غرّد طائر الحبّاك مجددًا.
قلت له: "ألديك رسالة توجّهها إلى بشريةٍ شوّشها التغيّر المناخي؟".
تَفكّر مليًّا، ثم قال أخيرًا وابتسامة مجاملة تعلو محيّاه: "ماذا عساني أن أقول؟ بوصفنا نزلاء مؤقتین في دار الضيافة هذه التي ندعوها الحياة -وفي هذا البيت المتمثّل في الأرض- ألا ينبغي أن نكون قد تعلّمنا بعد طول مكوثنا فيه كيفية التصرّف باحترام؟".
أوضح لي أن ذلك يقتضي، وفقًا لتقاليد شعب ماساي، التزام ما يدعى "الأولمانيارا"؛ وهو مصطلحٌ تَصعُب ترجمتُه. وكان موريس قد فسّر لي "الأولمانيارا" في ليلة سابقة ونحن نجلس حول نار مخيّم بأنه نظام أخلاقٍ هو أقرب في طبيعته لمفهوم الوصاية منه إلى مفهوم الحفظ. فهو عن تقبّل الطبيعة، وعن الوعي بالحياة وإكرامها بجميع أشكالها.
تَردّدَ هزيمُ الرعد من بعيد؛ إذ كانت السماء تمطر فوق "محمية ماساي مارا الوطنية"، إيذانًا بمواصلة الهجرات الغريزية للحيوانات.
سألت الرجل: "هل حدث قطّ أن خشيت المستقبل؟". أجابني مازحًا: "أينبغي أن أخشاه؟". وما لبثت نبرة الشيخ أن تغيّرت، فوجدتُ نفسي قد عدت طالبة عنده من جديد؛ إذ قال: "أمَا وقد زرتِ الغابة، فما الذي رأيته؟".
أجبتُه قائلة: "رأيتُ جهلي؛ فقد كانت فكرتي عن الغابة مقصورة على الشجر". فضحك "الأولويبوني" ضحكةً من القلب جعلت الجميع يشاركونه الضحك. ثم أردف قائلًا: "وما الذي رأيتِه سوى ذلك؟".

صـوت الغـــابـة الروحـانــي

تمثّل غابة "لويتا" الجزء الخفي من منظومة "سيرينغيتي" البيئية، وهي منطقة بريّة بِكر ومقدسة لدى شعب "ماساي". وحامي الغابة ابن الثمانين عامًا، يرى فيها مشهدًا طبيعيًا روحانيًا ما فتئ يتهدده طمعُ البشر.

في الآونة الأخيرة، انطلقتُ قبل مدة قصيرة في رحلة إلى قلب براري سيرينغيتي. لكنها لم تكن براري سيرينغيتي التي قد تخطر على بالك؛ فهي لم تكن تلك المشاهد الشائعة على البطاقات التذكارية لسهول عشبية صفراء متماوجة تتناثر عليها أشجار السنط الشبيهة بالمظلّات. كما أنني لم أكن نزيلة معسكر فاخر من الخِيَّم ولم أنضم إلى جحافل الشاحنات الصغيرة المغلقة التي تحمل السيّاح وتتحلّق حول الأسود وهي تجتمع حول فرائسها المقتولة للتو لالتهامها.
لا، بل سافرتُ إلى "لويتا"، وهي جزء من منظومة "سيرينغيتي" الحيوية الكبرى التي لا تظهر على مخططات الرحلات السياحية الاعتيادية.. فهي "سيرينغيتي" خفيّةٌ، إن صحّ التعبير.. إنها بيئة تشمل براري جبلية يانعة تعلو أكثر من 2000 متر عن سطح البحر. وتقع على بعدٍ يقارب 250 كيلومترًا عن نيروبي وتطلّ على "محمية ماساي مارا الوطنية" الشهيرة عالميًا. ومع ذلك، فإنها مكان لا يعلم بوجوده جُل الذين يزورون كينيا. 
كانت خطتي أن أشق طريقي في قلب هذا الحصن الأخضر إلى مكان يُعرف بلغة شعب ماساي باسم "إنتيم إه نايمينا إنكيِيْيو"، أي "غابة الطفلة المفقودة". إنها رُقعة هشة من الغابات المطرية البِكر بمساحة قدرها 300 كيلومتر مربع.. أرض مخفيّة مع أنها على مرأى من الناظرين. وما إن وصلت إلى هناك، كان أملي أن أحظى بلقاء الرجل الذي يشرف على هذه العوالم. ولكن ينبغي أولًا أن تَعلموا أنني أعيش في عالم بعيد كل البعد عن "لويتا" هذه؛ فأنا أقطن في نيروبي، وهي حاضرة يعيش فيها نحو خمسة ملايين شخص، وتضجّ بالصخب والحياة، لكونها أحد أهم مراكز الابتكار التقني في إفريقيا، وتمثل نواة المنطقة المكنّاة
بِـ"سافانا السيليكون". ثم إنها أحد أكثر مراكز المواصلات ازدحامًا في القارة السمراء، لكونها منطلق رحلات جوية إلى أربع قارات ووجهة لها كذلك. إنها موطن لناطحات سحاب متألّقة تضم مكاتب لشركات من مختلف أنحاء العالم. فالمقرّ الإفريقي لمنظمة "الأمم المتحدة" هنا، وكذلك مقرّات مجموعة كبيرة من المنظمات الإعلامية الدولية التي تبثّ أخبار القارّة على مدار الساعة. وهنا نتحمّل الاختناقات المرورية التي تجعل المرء يفقد هدوء أعصابه، ونتساءل عن التداعيات المحليّة للتغيّر المناخي. وبالطبع، هنا كذلك ذقنا -وما زلنا نذوق منذ عام -2020 تدعيات تفشّي وباء "كوفيد19-" الذي كان سوط عذاب على سائر البشرية.

كان الرجـــل الذي رجوت لقاءه زعيــــمًا لشعــب مــاســاي، يـــدعى "مــوكومبــو أولــِهْ سيميل"، ويُعرف كذلك باسم "الأولويبوني كيتوك" (أي الزعيم الروحاني الأعلى). فمنذ هجرة شعب ماساي قبل قرون من "وادي النيل" إلى شرق إفريقيا واستقرارهم في هذا الإقليم الذي يشمل المنطقة التي سمّوها "سيرينغيت" (أي "المكان الذي تمتدّ فيها الأرض بلا نهاية")، وهم يتلقّون إرشادات رجال يشغلون منصب "الأولويبوني"، وجميع هؤلاء الزعماء من عشيرة وُهبت قدرات دنيويّة وروحانيّة استثنائية وتمرّست في العلاجات الطبيعية والخارقة للطبيعة.
إنّ شَغل منصب "الأولويبوني كيتوك" -وهو "الأولويبوني" الأعلى رتبة- يعني أن يجلس المرء بين عالمين، وسيطًا ونبيًّا وعرّافًا.. وشفيعًا ومعالجًا روحانيًا.. وخبيرًا ثقافيًا في الطقوس الدينية وخبيرًا سياسيًا إستراتيجيًا كذلك.. وأمينًا على العلاقات الطيّبة بين البشر والطبيعة. وقبل أكثر من 30 عامًا، ورث "موكومبو أولِهْ سيميل" عن أبيه عباءة "الأولويبوني" (الزعيم الروحاني) الأعلى ليلبسها مدى العمر، ويصبح "الأولويبوني كيتوك" الثاني عشر في سلالة عشيرته.
ويَصعُب عليَّ شرح التأثير الأقصى لهذا الرجل. فهو الزعيم الروحاني لأكثر من مليون فرد من شعب ماساي الذي يعيش بين كينيا وتنزانيا. ويقصده الناس لنيل بركاته واستشارته في مسائل صغيرة وكبيرة، بدءًا من الأبقار التي تضيع لعائلة وانتهاءً بخطط كبرى للمحافظة على غابة "لويتا". بل إن بعض الماساي يتكبّدون مشقّة قطع 300 كيلومتر من منطقة "سامبورو" الواقعة بشمال كينيا إلى "لويتا" لرؤيته. لكنَّ من يطلبون مشورته ليسوا محصورين في شعب ماساي؛ إذ إن سياسيّين من دول أخرى قد التمسوا بركاته ونصحه ومساعدته لكسب ودّ الناخبين.
 ومع ذلك، فليس من السهل لقاء هذا الرجل. إذ لا يستطيع المرء ببساطة أن يستقلّ سيارة وينطلق بها إلى "لويتا" ليجد طريقه إلى منزل "الأولويبوني كيتوك". بل يجب أن يُقدَّم تقديمًا إلى الزعيم الروحاني؛ وهكذا حدث أن اجتمعتُ مع رجلٍ يدعى "موريس لولبابيت"، هو صاحبُ صاحبٍ لي، ويعمل طبيبًا وأخصّائيَّ صحة عامة، وكان هو الآخرُ زعيمًا روحانيًا غير ممارس؛ ومن محاسن المصادفة أنه ابن أخ "الأولويبوني كيتوك" نفسه.
وهكذا حدَثَ أن جلستُ ظهيرة يوم من أيام مايو على بساط من العشب الأخضر تُزيّنه زهور بنفسجية وصفراء صغيرة، في ظل شجرة "أوريتيتي" عملاقة. كانت السماء حينها زرقاء صافية، ومع أن الشمس كانت ساطعة، فإن ريحًا شرقية أنعشتني برذاذ بارد. وفي مكانٍ ما غير بعيد، كان نهيق حمار يتردّد في الأجواء.
كان موريس قد أرشدني إلى هذا المكان في رحلة تطلّبت مسيرة ثماني ساعات بالسيارة في طرق وعرة صعدت تدريجيًا إلى سهل عشبي جبلي يمثّل بوّابة لغابة "لويتا". هنا، في موطن "الأولويبوني" المتمثل في مجموعة من المباني المصنوعة من الطُّوب المسقوفة بالقش، وحظائر الحيوانات، يستقبل الرجل زوّاره، وهنا رجوتُ أن أستأذنه بزيارة "لويتا" وأن أُجري معه مقابلة.
كنت واحدة من أصل عشرين شخصًا، من بيننا وفدٌ من خمسة رجال من تنزانيا كان قد وصل قبل الفجر. واستُقبلنا جميعًا استقبال الحجّاج، ولم يُعامَل أحدٌ منا معاملة الغريب.
وتُملي التقاليد ألّا يأتي ضيفٌ إلى هنا صفر اليدين؛ وكنا قد أحضرنا بعض الأمتعة المنزلية (طحينًا، وتوابل، ودفاتر تلوين وأقلام) لتُعطى لزوجات "الأولويبوني" وأولاده. أما أنا، فقد جئت أحمل أربع شتلات غالية من شجر البُنّ.. لتكون عطيتي الخاصة له. هنالك انتظرنا جميعًا ما يقارب الساعتين.
وظهر الرجل أخيرًا.. وبظهوره حدثت فجأة موجة من الأحداث. إذ حيّته جوقةٌ من الأصوات البشرية، وتَقدّم إليه المبعوثون المجتمعون. كما أن أحد عجوله المفضّلة اندفع نحوه، وأخذت عنزاته تثغو، ومن بعيد رأيت خمس زرافات تمشي الهوينى. كان الرجل في عقده التاسع ويمشي وظهره منحنٍ بعض الشيء. أخذ يومئ للآخرين كما لو أنه قائد فرقة موسيقية، مرشدًا أحد الرعاة إلى المراعي حيث ينبغي أن ترعى خرافه وماعزه وأبقاره، ومرسلًا شابًّا آخر إلى السوق، ومحمّلًا ابنه (ووليّ عهده)، "ليمارون"، مَهمة تقديم خدمات معالَجة لتهدئة روع ثلاثة زوّار متوتّرين.
كان "الأولويبوني" يتقوّى على قطع خطواته غير المتناسقة متكئًا على عصا ثخينة منحوتة. أما رأسه، فكانت تغطيه قلنسوة زرقاء داكنة من الصوف. وكان يلتحف بعباءة حمراء وزرقاء يرتديها شعب ماساي تدعى "أولكاراشا". وإذ اقترب منا، كان حريصًا على النظر في عيون أولئك الذين كانوا ينتظرونه. 
كانت السنين قد حفرت تجاعيد عميقة في وجهه؛ أما عينيه السمراوتين العسليّتين فقد غشيهما السُّد (إعتام عدسة العين). 
نهضتُ لأحَيّيه. فبدا لي وكأنه قرأني بنظرة مطوّلة، مُجريًا تقييمًا سريعًا لجميع مناقبي ومثالبي الأعمق. وقد أربكني ذلك وجعلني أشعر بأنني أصبحت مكشوفة فجأة.
كان صوت "الأولويبوني" خفيضًا وأجشّ عندما قال لي بلغة الماساي: "أنتِ هنا".
فقلت له: "أنا كذلك". ثم طأطأتُ رأسي -تماشيًا مع تقاليد الماساي- كي يحيّيني بلمسه.
بعدها صففتُ شتلات شجر البُنّ الأربع على العشب بيني وبين "الأولويبوني" الذي كان قد جلس للتو. ولمّا كنت أجهل لغة الماساي و"الأولويبوني" يجهل اللغة السواحلية، فقد تولّى موريس تقديمي للزعيم وأوضح لي أنه سيُترجم لي. عنــدهـا أمــرني "الأولــويــبــوني" قـائــلًا: "تحدّثي!".
هنالك أخذتُ أقصّ عليه كيف تحوّلت روحٌ جوّالة من أرواح الغابة إلى شجرة بُنّ في غابات مملكة "كافا" القديمة، كي تعيش وسط البشر الذين كانت مولعة بهم.. وكيف اكتسبت دورًا علاجيًا بتحفيز حواراتٍ كانت تُصلح ذات البين.. وكيف كانت تحوّل الغرباء إلى أقرباء.. وكيف كانت رفيقًا وشعيرة حاضرة مارسها الرهبان الأورثوذكس في الحبشة (إثيوبيا اليوم) أثناء مناجاتهم الله والقدّيسين.
وإذْ راح موريس يترجم كلماتي، أصغى "الأولويبوني" بإمعان. وبدت عيناه وكأنهما تنيران. عندها وصلتُ إلى خاتمة حكايتي قائلة: "إننا أحضرنا هذه الشتلات لكم ولهذه الغابة لنضعها، من بعد إذنكم، في عهدتكم كي تجد هذه الروح مأوى لها هنا كذلك".
لاذ الرجل بالصمت. فلم أسمع إلا زقزقة الطيور وهمس الرجال.. وأخذت أنتظر. 
وأخيرًا، تكرّم "الأولويبوني" عليَّ بأضعف إيماءات برأسه. وفجأة -وبابتسامة إعجابٍ خفيفة- التفت وصاح مناديًا ابنه: "ليمارون!"، وتبع ذلك حوار بينهما بلغة الماساي. فترجم لي موريس ذلك قائلًا: "إن الأولويبوني كيتوك يرحّب بك، ويبارك في زيارتك هذه. لكِ أن تذهبي أنّى شئت. يُسمح لك بدخول الغابة. أما فيما يخصّ المقابلة، فانتظري موعدًا منه".
عندها نهضتُ، فسألني موريس: "إلى أين ستتجهين ضمن الغابة التي يمتلكها موكومبو؟".
لم أكن قد فكّرت في مواقع محددة، فأجبته قائلة: "إلى الشلّال". فقال: "هنالك الكثير منها، فاختاري أحدها".

في صباح اليوم التالي، انطلقنا ننشد شلّالنا المختار، وقد تحصّـنّا ببركات "الأولويبوني". وإذ سارت بنا السيارة في السديم، تفكّرتُ في الأسطورة التي استُوحي منها اسم "غابة الطفلة المفقودة"؛ ومفادها أن فتاةً دخلت الغابة ذات يوم بحثًا عن عجولها الشاردة، فعادت العجول، ولم تعد هي. وحاول بعض الشبان العثور على الفتاة بلا جدوى.. فلقد قررت الغابة الاحتفاظ بها.
عندما بلغنا القمة التي سيبدأ عندها سيرنا الجبلي، وجدنا بانتظارنا ثلاثة من صغار الشيوخ. كان هؤلاء الكشّافة رجالًا مهيبين نحيلين بعضلات مفتولة، دائمي اليقظة والصمت، باستثناء رجل يدعى "لانغوتوت أولِهْ كويا"؛ فقد كان اجتماعيًا، وكان قد عاد قبل وقت قريب إلى "لويتا" بعد أن أمضى بعض الوقت في مخيّم لدى "محمية ماساي مارا الوطنية". وأوضح لنا مرشدونا أن شلّالنا المنشود يقع على بعدٍ يزيد قليلًا على ثمانية كيلومترات إذا اتجهنا في خطٍ مستقيم؛ وهو ما يعني أن نسير خمس ساعات على الأقدام عبر مجموعة متدرجة من الأهوار.
وإذ أخذنا نقفز من جزيرةٍ قصباءَ موحلةٍ إلى أخرى، سلّيتُ نفسي بالتفكّر في كيف أن هذه الأرض ذكّرتني بالأهوار الميتة في رواية "سيد الخواتم" التي كان مؤلّف القصة، "جي. آر. آر. توليكين"، قد وصفها بأنها "شبكةٌ لا نهاية لها من البرك ومستنقعات الخثّ الطريّة ومجاري المياه شبه المخنوقة".
ولكن بعد انتقالنا إلى الهور الثالث، تلاشت طرافةُ تخيّلِ هذا المكان على أنه رحلةٌ في "الأرض الوسطى" المذكورة في الرواية بتحوّلها إلى عمليةٍ مضنية اضطررنا لخوضها بإذعان. فقد تلطّخت أحذيتنا بطبقات سميكة من الوحل وابتلّت بناطيلنا تمامًا، وكان بقاؤنا جافّين من المستحيلات، والماء يحيط بنا من كل جهة. وكانت الجداول تنفجر من الأرض كالجنّ، في حين نضحت جداول أخرى وتبخّر ماؤها قبل أن يتجاوز منتصف مجراه. وقد تسرّب الماء من الصخور أو سال على شكل خيوط طويلة مفردة متدلّية من نتوءات صخرية مرتفعة. 
وانساب كل ذلك الماء إلى ما بدا لي مستنقعا لكنه كان في الواقع نهرًا متلويًّا يسمى "أولاسور". وقد تتبّعنا نموّه وهو يزداد عرضًا وعمقًا. وأخبرَنا المرشدون أنه يؤوي الأسماك وأفراس النهر، والتماسيح كذلك؛ وهو ما أقلقني. ثم اختفى النهر في الغابة وقد ولج في نفق من الأعشاب والشجيرات الملتفّة. ولكننا لم نستطع رؤيته عندما زحفنا خارج الأجمات الكثيفة، فاهتدينا بصوت جريانه.
مشينا في طريق ضيّق تُزاحمنا فيه جلاميدُ مكسوّة بالنباتات الحزازية، واخترقنا شِباكًا هائلة الحجم لعناكب، وأصبحنا معتادين أكثر مما ينبغي لسعات نبات القرّاص الكبير والنمل الأحمر، وتعلّمنا أن نتحاشى بهدوء أماكن شَعَـر مرشدونا فيها بوجود فيلة وجواميس. لكنّي، إذْ تحاشيت هذه الحيوانات، فإني لم أستطع تحاشي الدوس في فضلاتها.
لم يشوَّش "لانغوتوت" بأيٍّ مما سبق ذكره؛ فقد لاحظ كل شيء آخر، مشيرًا إلى أشكال الأشجار، وملمس الأوراق، والأنماط الشكلية للأشنات على الصخور، ووضعية شجرة ساقطة، وتشققات الأغصان، والخدوش التي خلّفتها الحيوانات على لحاء الشجر. وكان يتوقف بين حين وآخر عند عدد لا يحصى من أنواع الفضلات ليُعرّف المخلوقات التي كانت قد طرحتها. وحدّثني عن مسارات طيران الحشرات والطيور، وكثافة الريح وحرارتها، وقوام الضوء الواصل عبر ظلّة الشجر، ورائحة الأشياء، وتنفّس النباتات، ومعاني السَّكَنات. وإذ مشيتُ، أخذ تركيزي ينحصر في ما يوجد أمامي.. في كيفية تغيّر لون التراب من الأسمر الداكن إلى الأحمر الزاهي ثم إلى لونٍ يقارب السواد، ثم إلى الرملي والصلصالي فالبرتقالي، ثم إلى درجات سمارٍ داكنة وفاتحة من جديد. وبدأتُ أرى الأنساق في الأوراق والظلال.
وقد لقينا مجموعات عديدة من النحل. ولا عجب، فقد قال لي لانغوتوت: "إن هذه تدعى كذلك غابة العسل"، مشيرًا إلى كثرة الشجيرات المثمرة فيها. وعندها أشار إلى بستان عرّفه بأنه أشجار حضانة. قال: "تنمو الأشجار في عوائل؛ الأشجار الكبيرة بينها ترعى الأشجار الصغيرة وترشدها. كما أنه تجمعها صداقاتٌ فيما بينها، وكذلك بينها وبين الناس". وشرح لي القوة العملية والطبية والروحانية لبعض الأشجار، مثل "أوريتيتي" و"المعلاقية" والزيتون البري ونخيل التمر.
وإذ تابعنا المسير، ذكر لي أماكن سرية أخرى ضمن الغابة: كهوفًا تضم جداول صافية ورسومات منقوشة على جدرانها. وحدّثني عن كاتدرائية من الأشجار العملاقة يقيم فيها "الأولويبوني" مراسمهم الأكثر خصوصية. وقد تعلّمت مفردات أوّلية بلغة الماساي، مثل "إوانغ آن" (النور) و"أوليب" (الظلّ). وامتلأت أذناي بأهازيج الطيور وهمسات الريح، والصفير والصرير اللذين تطلقهما الحشرات ومخلوقات أخرى، وكذلك إيقاع قطرات المطر وهي تنهمر على أوراق الشجر. أما أنفي فأزكمته الروائح الواخزة: روائح الصدأ والتعفّن والحمضيات والنعناع.
نبّهَنا أحد مرشدينا إلى صياح طائر أبي قرن وإلى تغيّر جَرْس صوت قرد "كولبس" وهو يصيح: "غرو غرو غرو". كانت هاتان علامتين على قرب هطول المطر، فأخذنا نحثّ خطانا الثقيلة.وأخيرًا برزنا فوق وادٍ شاهق يصيب المرء بالدُّوار، تَحفّه جروفٌ من الحجر الأسمر المرقوش بالأبيض. رفرفت حولنا فراشات زرقاء وأخَرُ بيضاء وخضراء وصفراء شاحبة، معلنةً انتهاء موسم الأمطار. ومن علٍ، حوّم طائر جارح. أما أسفلنا، فرأينا أخيرًا الشلّال.. "الأولاسور" يتدفق من نفق صخري، هاويًا ما يقارب الـ 180 مترًا إلى هـوّة تحت أوراق الشجر. وقد أخبرني لانغوتوت أن مياهه سترفد نهر "أولويبورتوتو"، وأنه في حال لم تُحرَف عن مجراها الطبيعي فستصب في بحيرة "النطرون".ولكن لم يكن بمقدورنا البقاء؛ إذ اضطررنا للعودة عبر الغابة قبل أن يرخي الليل سدوله، وقبل أن يحجب السديم الأهوارَ عن مرآنا. ولدى انطلاقنا خارج الغابة، تعلّمت كلمة أخرى من كلمة الماساي عندما أبصرنا أتمَّ الأقمار وأكبرها وأنورها: "أولابا". عندما وصلنا إلى دار الضيافة، كان "الأولويبوني" قد ترك لي رسالة مفادها أنه سيحادثني في الصباح.

تبخترديكٌ أسمر الريش ضمن مجمّع "الأولويبوني" وجرادةٌ في منقاره.. وانطلقت أبقار وعنزات بخفّة نحو مرعاها تحت حراسة شابّ. أما أنا، فجلست أنتظر تحت شجرة "أوريتيتي" ضخمة ورأسي ما يزال يعجّ بأحداث البارحة.
لمعَت عينا "الأولويبوني" لدى رؤيتي. ولا أستطيع إنكار أنني شعرت بهالته. سمِّها إن شئت جاذبية صرفة، أو لعلّ الأمر يتعلق بالأساطير التي سمعتُها وقد اختلطت بروعة رحلة أمس. أو لعلّ المسألة ذات صلة بسعادتي بلقاء زعيمٍ ذي ولاء للعالم الطبيعي لا يلين. وقد وجدت توافقًا بين "الأولويبوني" وشجرة "أوريتيتي" الخاصة به؛ فكلاهما متجذّر في الأرض وقديم وغامض، وكلاهما يوفر ظلًا ومأوى لمن ينشدهما.
تنوّعت أحاديثنا وتنقّلت من موضوع إلى آخر.. كما يتلوّى نهر "أولاسور". أشار إلى نسَـب أسلافه وإلى ذريّته، وشرح لي معنى أن يشغل المرء منصب "الأولويبوني كيتوك"، فاتضح لي أن المسألة ليست خيارًا؛ إذ كان قد وُلد ليشغل هذا المنصب. وقد تحدّث عن غابة "لويتا" التي أشار إليها بأنها غابته الشخصية، واصفًا إيّاها بأنها: مزارٌ ومعبد، وملاذ ومصدر للوقود.. وهي روضة من رياض الله، و"دار ضيوف المطر".. وهي مدرسة ومتجر كبير ومستشفى وصيدلية ودار للمسنّين. لكنها مهددة من غدر البشر، وبالأخص من شرَههم وغدرهم وجشعهم وحسدهم.
إذ أخبرني "الأولويبوني" عن موجة تلو موجة من توغّلات الدخلاء: بينهم مسؤولون حكوميّون مشبوهون، ووُعّاظٌ مزيّفون، وأصحاب مشاريع إنمائية طمّاعون. تحدّثوا جميعًا بمصطلحاتٍ ظاهرُها لطيفٌ ومنتَقى وباطنُها يحمل الموت في طيّاته: السياج وترسيم الحدود وسندات الملكية والقروض المصرفية وطريق يعبر الغابة. وألمح إلى مكائد لا تتوقّف، وبخاصة من مجموعات دولية غنية تعمل في مجال حفظ الطبيعة زعمت أنها تخبر سكّان المنطقة (الإيلويتاي) بما هو خيرٌ لغابة "لويتا".
تحدّثنا عن أهمية هذه الأرض؛ إذ قال لي الرجل: "إنْ نفقد الأرض، نفقد الثقافة؛ وإن نفقد الثقافة، نفقد السلام. وإن نفقد السلام، نفقد المجتمع المحلي. وإن نفقد المجتمع المحلي، نفقد طريقة حياتنا إلى الأبد".
جلسنا بهدوء صامتين. رأيتُ فيه شبيهًا لشخصية الإله "أطلس" اليوناني الأسطورية، لكن هذا الرجل المسنّ لم يُحمَّل السماوات فحسب على عاتقه، بل وحُمِّل الأرض كذلك. أخذ طائر "حبّاك" يغرّد بإلحاح، فنظر "الأولويبوني" باتجاهه، وخيّمت عليه السكينة. كان ينبغي أن أسأله حينها: "ما الذي قاله الطائر؟"؛ لكنني قررت أن أنتقل إلى الحديث عن التغيّر المناخي. 
قال: "سمعتُ عن أشياء من ذلك القبيل". 
قلت: "هل شهدت تغيّرًا للفصول هنا؟". 
قال: "البرد يهجم بشراسة أكبر ووتيرة أكبر.. شهدنا هذا حقًا".
قلت: "ماذا عن الجفاف؟".
عندها قطّب حاجبيه وقال: "شهدناه مرة قبل خمسة أعوام. لكن ذلك كان ثمرة آثامنا؛ فقد نصبنا السياجات. بَيد أننا صوّبنا ذلك الخطأ".
غرّد طائر الحبّاك مجددًا.
قلت له: "ألديك رسالة توجّهها إلى بشريةٍ شوّشها التغيّر المناخي؟".
تَفكّر مليًّا، ثم قال أخيرًا وابتسامة مجاملة تعلو محيّاه: "ماذا عساني أن أقول؟ بوصفنا نزلاء مؤقتین في دار الضيافة هذه التي ندعوها الحياة -وفي هذا البيت المتمثّل في الأرض- ألا ينبغي أن نكون قد تعلّمنا بعد طول مكوثنا فيه كيفية التصرّف باحترام؟".
أوضح لي أن ذلك يقتضي، وفقًا لتقاليد شعب ماساي، التزام ما يدعى "الأولمانيارا"؛ وهو مصطلحٌ تَصعُب ترجمتُه. وكان موريس قد فسّر لي "الأولمانيارا" في ليلة سابقة ونحن نجلس حول نار مخيّم بأنه نظام أخلاقٍ هو أقرب في طبيعته لمفهوم الوصاية منه إلى مفهوم الحفظ. فهو عن تقبّل الطبيعة، وعن الوعي بالحياة وإكرامها بجميع أشكالها.
تَردّدَ هزيمُ الرعد من بعيد؛ إذ كانت السماء تمطر فوق "محمية ماساي مارا الوطنية"، إيذانًا بمواصلة الهجرات الغريزية للحيوانات.
سألت الرجل: "هل حدث قطّ أن خشيت المستقبل؟". أجابني مازحًا: "أينبغي أن أخشاه؟". وما لبثت نبرة الشيخ أن تغيّرت، فوجدتُ نفسي قد عدت طالبة عنده من جديد؛ إذ قال: "أمَا وقد زرتِ الغابة، فما الذي رأيته؟".
أجبتُه قائلة: "رأيتُ جهلي؛ فقد كانت فكرتي عن الغابة مقصورة على الشجر". فضحك "الأولويبوني" ضحكةً من القلب جعلت الجميع يشاركونه الضحك. ثم أردف قائلًا: "وما الذي رأيتِه سوى ذلك؟".