روائـح

أزهرت هذه الشجرة آخر مرة على منحدر في هاواي منذ أزيد من قرن. وقام العلماء اليوم بإحياء أريجها المنقرض.

شُمّــَت رائحــة شجــرة "هيبيــسـكــاديلفـوس وايلـدريانـوس" (Hibiscadelphus wilderianus) آخر مرة وهي تزهر في البرية، ساعةَ كانت الهواتف اختراعًا جديدا، وسيارات فورد "تي" تباع بسرعة، و"ويليام هاورد تافت" رئيسًا للولايات المتحدة. كان موطن هذه الشجرة، وهي من القريبات البعيدة لزهرة الكركدية الشهيرة في هاواي، في المنحدر الجنوبي لجبل "هالياكالا" على جزيرة ماوي. ويُرجَّح أنها انقرضت بين عامي 1910 و 1913، بناء على مشاهدات مزعومة لها وهي تنفق مع أنواع أشجار أخرى قطعها أصحاب المزارع لإفساح المجال لماشيتهم.
بعد مُضي أزيد من قرن، تساءل عددٌ من العلماء عمّا إذا كان الانقراض حقًّا نهاية قصة هذا النوع. وماذا لو أمكن إحياء هذه النبتة التي لم تَعد تُرى في البرية -وتوجد فقط بين صفحات أرشيف جافة- وإن جزئيا على الأقل؟

تقول "كريستينا أغاباكيس"، مديرة الابتكار في "جينكو بيووركس"، وهي شركة تقنية حيوية تتخذ في بوسطن مقرا لها: "جلسنا وطفقنا نفكر، ماذا لو استطعنا إنشاء الحديقة الجوراسية؟ كان ذلك ضربًا من المحادثات الحالمة، واعتقدنا أننا قد نستطيع تحقيقه".
في غضون خمسة أعوام، فتحوا نافذة "عطرية" على الماضي؛ إذ أعادوا بناء الحمض النووي واستخدموا البيولوجيا التركيبية لإعادة إحياء رائحة العرعر القوية لأزهار شجرة هاواي المنقرضة تلك. "سيسل تولاس" باحثة وفنانة لدى "مختبر بحوث الروائح" في برلين الذي أسهم مع شركة جينكو في مشروع هذا النبات؛ تقول إن إحياء رائحةٍ ما لا يقتصر على شم شيء لم يعد له وجود؛ موضحةً "أن المرء يتفاعل عبر الرائحة مع الذاكرة والأحاسيس". واستحضار رائحة فُقدت منذ زمن بعيد ما هو إلا طريقة لعيش أحاسيس منقرضة قد تكون ولَّدتها.. إنها نفحة من الماضي. واليوم، يُقَدّر تقرير أصدرته "الحدائق الملكية للنبات" عام 2020، أن نحو 40 بالمئة من نباتات الأرض مهددة بخطر الانقراض. وستختفي نباتات كثيرة أخرى حتى قبل أن يُدرك العلماء وجودها.

إن استعادة ما فُقِد ليس بالأمر الهيّن؛ إذْ كان على أغاباكيس وفريقها في بادئ الأمر العثور على ما يكفي من بقايا بُغيتهم. اكتشف العلماء في الحديقة الجوراسية الخيالية بعوضةً محفوظة في العنبر. وافترضت أغاباكيس في البدء أن التربة الصقيعية قد تضم بقايا نباتات منقرضة. ولما ثبت أن ذلك غير ذي جدوى، سلكت مسلكا آخر فقصدت مكتبات ومعشبات "جامعة هارفارد"، على بعد 20 دقيقة بالسيارة من مقر شركة جينكو. 
في مجموعة هارفارد من عيّنات النباتات المجففة المدسوسة بين صفحات كتب كبيرة، عُثر على 20 نبتة منقرضة. أتاحت المعشبة لأغاباكيس أخذ 14 عينة، اختيرت ثلاث منها بهدف إحيائها.. وكانت "هيبيسكاديلفوس وايلدريانوس" إحداها.
وكانت الثانية، "أوربيكسيلوم ستيبولاتوم" (Orbexilum stipulatum)، التي شوهدت آخر مرة في جزيرة نهرية في كنتاكي بالولايات المتحدة، ويُعتقد أنها انقرضت عام 1881. أما الثالثة، وتسمى "لوكاديندرون غرانديفلوروم" (Leucadendron grandiflorum)، فموطنها جنوب إفريقيا، وشوهدت آخر مرة عام 1806. أُخذَت من كل منها عيّنةٌ بحجم ظفر الخنصر، وأُرسلت إلى "مختبر سانتا كروز لدراسة جينومات الأحياء القديمة" التابع لـ "جامعة كاليفورنيا"، حيث استخرج العلماء سلاسل حمضها النووي.

يمـوت جسـمٌ مـا، فإن ضـوء الشمس والماء والجراثيم تبدأ على الفور في تحليل الحمض النووي في خلاياه؛ لذلك فإن إعادة بنائه تتطلب من العلماء تجميع أجزاء الحمض النووي المتبقية. تشَبِّه عالمة الأحياء الجزيئية، "بيث شابيرو"، المشرفة على مختبر جينومات الأحياء القديمة، تلك العمليةَ بتركيب صورة من "تريليون قطعة". تُعد شابيرو، مؤلفة كتاب "كيف تستنسخ مـامـوثًا" (How to Clone a Mammoth)، رائدة في تحليل وإعادة بناء الحمض النووي القديم. استعانت مع فريقها بقاعدة بيانات رقمية موسعة لأحماض نووية معروفة من أجل تحديد الأجزاء الوراثية في عيّنات النباتات المنقرضة، ومن ثم تجميع مورّثات إنزيمات النباتات المسؤولة عن تشكيل جزيئات الرائحة. وبمساعــدة شـركة البيــولــوجـيا التـركـيبـية، "تويست بايوساينس"، تمت طباعة إعادة البناء الرقمية في شكل سلاسل حمض نووي مركبة. وفي شركة جينكو، جرى إدماج هذه السلاسل المشفِّرة للإنزيمات المنتِجة للرائحة، في الخميرة، والتي نمت وأنتجت جزيئات الرائحة. تقول أغاباكيس إن الخميرة مَركزُ قوة في مجال البيولوجيا التركيبية، وتُستعمل لصنع أي شيء.. من الأدوية إلى منكهات الطعام. بعد ذلك أرسلت جينكو قائمة الجزيئات إلى مختبر تولاس في برلين، حيث بدأ الجزء الفني من هذا المشروع الذي يزاوج بين الفن والعلم. تُعيد تولاس بناء الروائح انطلاقا من الجزيئات، تمامًا كما يستخدم الكاتبُ الحروفَ لبناء الكلمات. وتقوم بتصنيف وفهرسة محتويات مكتبة روائحها، التي ما فتئت تتشكل منذ 25 عامًا وتضم 10 آلاف من الجزيئات والتركيبات المنظمة في عبوات صغيرة وقاعدة بيانات. وبتصنيف تولاس الجزيئات المرسلة من جينكو، عرفت الرائحة التي قد تنبثق عنها من خلال مقارنة بنيتها الجزيئية مع بنيات الروائح في مكتبتها ومجموعات أخرى. وعلى مرّ ثمانية أشهر، انكبت على معالجة صيغ الأريج -لتقوية بعض خصائصها أو تخفيفها- من أجل كشف ما كانت عليه رائحة ذلك النبات.
تقول تولاس: "لا أضيف أي شيء لم يكن موجودا. أنا أتعامل مع الحقائق".
أعادت تولاس عشرة أنواع مختلفة من رائحة نبتة هاواي وست تشكيلات من رائحة نبتتَيْ كنتاكي وجنوب إفريقيا. كانت كل نسخة تركيبًا مختلفا بعض الشيء لجزيئات الرائحة في النبتات الثلاثة وأنتجت أنواعا من الروائح التي قد تكون انبعثت منها في البرية. تأثرت أغاباكيس لَمّا شمّت الروائح المنقرضة أول مرة؛ إذ تقول: "إننا نشم شيئا فُقِد إلى الأبد. وهذا ما يُجيّش عواطف المرء. لا يودّ الإنسان التفكير في الانقراض معظم الوقت ولا في قتامته. لنتَخيّل التنوع الذي نفقد كل يوم.. بكل ذلك السحر الموجود فيه". تقول أغاباكيس إن البيولوجيا التركيبية المستعملة لإحياء الروائح المنقرضة هي الجيل التالي من الابتكار. كان لشركة "جينكو بايووركس" دور في صنع جراثيم تقوم مقام الأسمدة الكيميائية وصنع منتجات عناية بالبشرة تحوي بكتيريا حية وزراعة بروتينات تستخدم في بدائل اللحوم. وتتوقع أغاباكيس دمج البيولوجيا التركيبية في الحياة اليومية على شاكلة الاستخدام اليومي للأجهزة الإلكترونية والإنترنت اللاسلكي.
تساءلَت بصوت عالٍ: "ماذا لو كان لدينا كل شيء 'حيا'".. في ذلك المستقبل؟ 

روائـح

أزهرت هذه الشجرة آخر مرة على منحدر في هاواي منذ أزيد من قرن. وقام العلماء اليوم بإحياء أريجها المنقرض.

شُمّــَت رائحــة شجــرة "هيبيــسـكــاديلفـوس وايلـدريانـوس" (Hibiscadelphus wilderianus) آخر مرة وهي تزهر في البرية، ساعةَ كانت الهواتف اختراعًا جديدا، وسيارات فورد "تي" تباع بسرعة، و"ويليام هاورد تافت" رئيسًا للولايات المتحدة. كان موطن هذه الشجرة، وهي من القريبات البعيدة لزهرة الكركدية الشهيرة في هاواي، في المنحدر الجنوبي لجبل "هالياكالا" على جزيرة ماوي. ويُرجَّح أنها انقرضت بين عامي 1910 و 1913، بناء على مشاهدات مزعومة لها وهي تنفق مع أنواع أشجار أخرى قطعها أصحاب المزارع لإفساح المجال لماشيتهم.
بعد مُضي أزيد من قرن، تساءل عددٌ من العلماء عمّا إذا كان الانقراض حقًّا نهاية قصة هذا النوع. وماذا لو أمكن إحياء هذه النبتة التي لم تَعد تُرى في البرية -وتوجد فقط بين صفحات أرشيف جافة- وإن جزئيا على الأقل؟

تقول "كريستينا أغاباكيس"، مديرة الابتكار في "جينكو بيووركس"، وهي شركة تقنية حيوية تتخذ في بوسطن مقرا لها: "جلسنا وطفقنا نفكر، ماذا لو استطعنا إنشاء الحديقة الجوراسية؟ كان ذلك ضربًا من المحادثات الحالمة، واعتقدنا أننا قد نستطيع تحقيقه".
في غضون خمسة أعوام، فتحوا نافذة "عطرية" على الماضي؛ إذ أعادوا بناء الحمض النووي واستخدموا البيولوجيا التركيبية لإعادة إحياء رائحة العرعر القوية لأزهار شجرة هاواي المنقرضة تلك. "سيسل تولاس" باحثة وفنانة لدى "مختبر بحوث الروائح" في برلين الذي أسهم مع شركة جينكو في مشروع هذا النبات؛ تقول إن إحياء رائحةٍ ما لا يقتصر على شم شيء لم يعد له وجود؛ موضحةً "أن المرء يتفاعل عبر الرائحة مع الذاكرة والأحاسيس". واستحضار رائحة فُقدت منذ زمن بعيد ما هو إلا طريقة لعيش أحاسيس منقرضة قد تكون ولَّدتها.. إنها نفحة من الماضي. واليوم، يُقَدّر تقرير أصدرته "الحدائق الملكية للنبات" عام 2020، أن نحو 40 بالمئة من نباتات الأرض مهددة بخطر الانقراض. وستختفي نباتات كثيرة أخرى حتى قبل أن يُدرك العلماء وجودها.

إن استعادة ما فُقِد ليس بالأمر الهيّن؛ إذْ كان على أغاباكيس وفريقها في بادئ الأمر العثور على ما يكفي من بقايا بُغيتهم. اكتشف العلماء في الحديقة الجوراسية الخيالية بعوضةً محفوظة في العنبر. وافترضت أغاباكيس في البدء أن التربة الصقيعية قد تضم بقايا نباتات منقرضة. ولما ثبت أن ذلك غير ذي جدوى، سلكت مسلكا آخر فقصدت مكتبات ومعشبات "جامعة هارفارد"، على بعد 20 دقيقة بالسيارة من مقر شركة جينكو. 
في مجموعة هارفارد من عيّنات النباتات المجففة المدسوسة بين صفحات كتب كبيرة، عُثر على 20 نبتة منقرضة. أتاحت المعشبة لأغاباكيس أخذ 14 عينة، اختيرت ثلاث منها بهدف إحيائها.. وكانت "هيبيسكاديلفوس وايلدريانوس" إحداها.
وكانت الثانية، "أوربيكسيلوم ستيبولاتوم" (Orbexilum stipulatum)، التي شوهدت آخر مرة في جزيرة نهرية في كنتاكي بالولايات المتحدة، ويُعتقد أنها انقرضت عام 1881. أما الثالثة، وتسمى "لوكاديندرون غرانديفلوروم" (Leucadendron grandiflorum)، فموطنها جنوب إفريقيا، وشوهدت آخر مرة عام 1806. أُخذَت من كل منها عيّنةٌ بحجم ظفر الخنصر، وأُرسلت إلى "مختبر سانتا كروز لدراسة جينومات الأحياء القديمة" التابع لـ "جامعة كاليفورنيا"، حيث استخرج العلماء سلاسل حمضها النووي.

يمـوت جسـمٌ مـا، فإن ضـوء الشمس والماء والجراثيم تبدأ على الفور في تحليل الحمض النووي في خلاياه؛ لذلك فإن إعادة بنائه تتطلب من العلماء تجميع أجزاء الحمض النووي المتبقية. تشَبِّه عالمة الأحياء الجزيئية، "بيث شابيرو"، المشرفة على مختبر جينومات الأحياء القديمة، تلك العمليةَ بتركيب صورة من "تريليون قطعة". تُعد شابيرو، مؤلفة كتاب "كيف تستنسخ مـامـوثًا" (How to Clone a Mammoth)، رائدة في تحليل وإعادة بناء الحمض النووي القديم. استعانت مع فريقها بقاعدة بيانات رقمية موسعة لأحماض نووية معروفة من أجل تحديد الأجزاء الوراثية في عيّنات النباتات المنقرضة، ومن ثم تجميع مورّثات إنزيمات النباتات المسؤولة عن تشكيل جزيئات الرائحة. وبمساعــدة شـركة البيــولــوجـيا التـركـيبـية، "تويست بايوساينس"، تمت طباعة إعادة البناء الرقمية في شكل سلاسل حمض نووي مركبة. وفي شركة جينكو، جرى إدماج هذه السلاسل المشفِّرة للإنزيمات المنتِجة للرائحة، في الخميرة، والتي نمت وأنتجت جزيئات الرائحة. تقول أغاباكيس إن الخميرة مَركزُ قوة في مجال البيولوجيا التركيبية، وتُستعمل لصنع أي شيء.. من الأدوية إلى منكهات الطعام. بعد ذلك أرسلت جينكو قائمة الجزيئات إلى مختبر تولاس في برلين، حيث بدأ الجزء الفني من هذا المشروع الذي يزاوج بين الفن والعلم. تُعيد تولاس بناء الروائح انطلاقا من الجزيئات، تمامًا كما يستخدم الكاتبُ الحروفَ لبناء الكلمات. وتقوم بتصنيف وفهرسة محتويات مكتبة روائحها، التي ما فتئت تتشكل منذ 25 عامًا وتضم 10 آلاف من الجزيئات والتركيبات المنظمة في عبوات صغيرة وقاعدة بيانات. وبتصنيف تولاس الجزيئات المرسلة من جينكو، عرفت الرائحة التي قد تنبثق عنها من خلال مقارنة بنيتها الجزيئية مع بنيات الروائح في مكتبتها ومجموعات أخرى. وعلى مرّ ثمانية أشهر، انكبت على معالجة صيغ الأريج -لتقوية بعض خصائصها أو تخفيفها- من أجل كشف ما كانت عليه رائحة ذلك النبات.
تقول تولاس: "لا أضيف أي شيء لم يكن موجودا. أنا أتعامل مع الحقائق".
أعادت تولاس عشرة أنواع مختلفة من رائحة نبتة هاواي وست تشكيلات من رائحة نبتتَيْ كنتاكي وجنوب إفريقيا. كانت كل نسخة تركيبًا مختلفا بعض الشيء لجزيئات الرائحة في النبتات الثلاثة وأنتجت أنواعا من الروائح التي قد تكون انبعثت منها في البرية. تأثرت أغاباكيس لَمّا شمّت الروائح المنقرضة أول مرة؛ إذ تقول: "إننا نشم شيئا فُقِد إلى الأبد. وهذا ما يُجيّش عواطف المرء. لا يودّ الإنسان التفكير في الانقراض معظم الوقت ولا في قتامته. لنتَخيّل التنوع الذي نفقد كل يوم.. بكل ذلك السحر الموجود فيه". تقول أغاباكيس إن البيولوجيا التركيبية المستعملة لإحياء الروائح المنقرضة هي الجيل التالي من الابتكار. كان لشركة "جينكو بايووركس" دور في صنع جراثيم تقوم مقام الأسمدة الكيميائية وصنع منتجات عناية بالبشرة تحوي بكتيريا حية وزراعة بروتينات تستخدم في بدائل اللحوم. وتتوقع أغاباكيس دمج البيولوجيا التركيبية في الحياة اليومية على شاكلة الاستخدام اليومي للأجهزة الإلكترونية والإنترنت اللاسلكي.
تساءلَت بصوت عالٍ: "ماذا لو كان لدينا كل شيء 'حيا'".. في ذلك المستقبل؟