عالـمنا الجليدي يغــرق
رسا قارب مطاطي على مقربة من الشاطئ الثلجي، فرأت بطاريقُ "جينتو" في خليج "نيكو هاربور" البشرَ أول مرة منذ عام تقريبًا. وبدلًا من جماعات السياح (الغائبين بفعل جائحة "كورونا")، غادر القاربَ "توم هارت"، عالم الأحياء المتخصص في البطاريق من "جامعة أكسفورد"، وعدد من العلماء الآخرين العائدين إلى "شبه جزيرة أنتاركتيكا" في يناير 2021. تعالت في أرجاء المستوطنة صيحات نحو 2000 من بطاريق جينتو، فيما تهادى أحدها باحثًا عن عشه. لا تعير هذه البطاريق -البالغ طولها 75 سنتيمترًا- أدنى اهتمام لهارت وهو يتجه صوب كاميرا التسجيل البطيء المثبَّتة على حامل ثلاثي بين الصخور. استعاد بطاقة الذاكرة من تجويف داخل الكاميرا المقاومة للماء.
وظلت الكاميرا تلتقط صور البطاريق على مدار الساعة، من الفجر إلى الغسق، منذ حلول هذه الطيور في مستوطنة التعشيش قُبيل أربعة أشهر لوضع بيضها ورعاية فراخها. إنها واحدة من نحو 100 كاميرا تغطي مساحة طولها 1340 كيلومترًا وعرضها 70 كيلومترًا من شبه الجزيرة، وتوثق لتكاثر ثلاثة أنواع من البطاريق منذ العقد المنصرم.
زادت أعداد بطاريق جينتو في شبه الجزيرة بوتيرة سريعة؛ إذ فاق معدل تكاثرها ثلاثة أضعاف في كثير من المواقع خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وما فتئت تنتشر جنوبا صوب مناطق جديدة كانت شديدة البرودة عليها، مستفيدةً من مرونة طرائقها في البحث عن الطعام وفي التزاوج. في غضون ذلك، تراجعت أعداد أنواع أخرى على نحو صارخ -البطاريق "شريطية الذقون" وبطاريق "أديلي" الأنيقة ذات الرؤوس السوداء؛ إذ بلغت نسبة التراجع نحو 75 بالمئة في كثير من المستوطنات التي تزدهر فيها بطاريق جينتو.
يُعلّق هارت على ذلك قائلًا: "إجمالًا، نخسر بطريق أديلي، ونخسر بطريقا شريطي الذقن، ونكسب بطريق جينتو".
تُعد البطاريقُ حاميةً مهمة لصحة المحيطات إجمالا. ولكنها من الحساسية بمكان تّجاه التغيرات المناخية، وتعتمد على البحار المنتِجة ووفرة الفرائس.
لا يُساور علماءَ البطاريق قلقٌ بشأن انقراض البطاريق شريطية الذقون وبطاريق أديلي؛ إذ تبدو بعض مستوطناتها خارج شبه الجزيرة مستقرة، بل إن بعضها في ازدهار.
تقول "هيذر لينتش"، عالمة البيئة لدى "جامعة ستوني بروك" بولاية نيويورك: "ما يقلقنا أن أعدادها تتراجع بشدة في شبه جزيرة أنتاركتيكا". التحولات التي تشهدها أعداد البطاريق في المياه قبالة أنتاركتيكا -المحيط الجنوبي- تنذر باضطراب النظام البيئي. "إنها تخبرنا حقا أن أمرًا ما تغير في طريقة عمل المحيط الجنوبي، وأن ذلك -بلا مواربة- ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد".
إن العالم الجليدي في خطر؛ ذلك أن شبه جزيرة أنتاركتيكا واحدة من أسرع الأمكنة احترارا على سطح الكوكب. وقد بلغت حرارة الهواء إبّان موجة حر في فبراير 2020 مستوى قياسيًا إذ سجلت 18.3 درجة مئوية في "قاعدة إسبيرانزا" الأرجنتينية باتجاه الطرف الشمالي من شبه الجزيرة. (وعادةً ما لا تزيد الحرارة صيفًا على بضع درجات فوق الصفر). مع ارتفاع درجة حرارة الهواء، ينحسر الجليد البحري حوالَي شبه الجزيرة؛ وفي عام 2016 تقلص إلى أقصى حدوده منذ بداية مراقبة التغيرات الطارئة على الجليد بواسطة الأقمار الصناعية في سبعينيات القرن الماضي.
.. وتلكم مشكلة. فمياه البحر المتجمدة تحمي "الكريل" (وهو قشري بحجم الخنصر يُعرَف أيضًا باسم قرديس أنتاركتيكا) الذي يُعد مفتاحًا لشبكة الحياة في المحيط الجنوبي. إذ تغذي أسراب الكريل الوفيرة مجموعات كبيرة من الكائنات الأخرى. إذ تأتي حيتان "المِنك" والحيتان "الحدباء" لتناول كميات من الكريل. كما يقتات الحبار والأسماك والبطاريق على الكريل. وتصطادُ عددا من آكلات الكريل مفترساتٌ أعلى: نمور البحر من الأسفل، وطيور الكركر وطيور النوء العملاقة من الجو. باختصار: إذا أزلنا الكريل، سيتداعى النظام البيئي.
لا تُعرف على وجه التحديد كميات الكريل المفقودة بسبب الظروف المصاحبة للاحتباس الحراري. في غضون ذلك، توفر المياه حوالي شبه جزيرة أنتاركتيكا أكبر مصائد الكريل في المحيط الجنوبي؛ إذ تستخرج سفن الصيد ذو النطاق الصناعي أزيد من 725 طنًا كل يوم. يُستخلص الكريل باستمرار من شباك قد تظل مغمورة عدة أسابيع في كل مرة. تعالَج هذه القشريات على متون السفن لصنع منتجات غنية بأحماض "أوميغا 3" الدهنية، كمسحوق السمك المستخدم في أعلاف الماشية وزيت الكريل المضاف إلى المكمّلات الغذائية للإنسان وحيواناته الأليفة. وتقول لينتش إن التهديدات التي تطرحها التغيرات المناخية والصيد ذو النطاق الصناعي متشابكة على نحو وثيق.
وتستطرد لينتش قائلةً: "مع انحسار الجليد البحري، تستطيع سفن صيد الكريل دخول هذا النطاق".
على خلفية هذه الضغوط، وضع فريق دولي من علماء القطب الجنوبي خططًا لمنطقة بحرية محمية تغطي 670 ألف كيلومتر مربع من أجل حماية البحر على امتداد الساحل الغربي لشبه الجزيرة.
يرجع أمر اتخاذ القرارات بشأن إحداث أمثال هذه المناطق إلى "لجنة الحفاظ على الموارد البحرية الحية في أنتاركتيكا"، الهيئة الدولية التي رأت النور في عام 1982 لغرض حفظ الحياة البحرية في أنتاركتيكا استجابةً لتزايد الاهتمام التجاري بصيد الكريل. تعمل اللجنة وفقا لٍـ "معاهدة أنتاركتيكا" التي وقّعت عليها في عام 1959، 12 دولة آثرت وضع نزاعاتها الترابية جانبًا وتكريس القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) لأهداف السلام والعلم. يبلغ عدد أعضاء اللجنة اليوم 25 بلدًا بالإضافة إلى "الاتحاد الأوروبي".
ومنذ نحو عقدين من الزمن تعهَّدت اللجنة بتشكيل شبكة من المناطق المحمية في المحيط الجنوبي.
حفظت أولاها، المنشأة عام 2009، المياه قبالة "جزر أوركني الجنوبية"، على بعد 600 كيلومتر شمال شرق طرف شبه جزيرة أنتاركتيكا. أما الثانية، التي اكتملت أشغالها عام 2016، فقد حمت جزءا من "بحر روس" على الجانب الآخر من القارة. وكان مقررا أن تنظر اللجنة في مقترح غرب شبه جزيرة أنتاركتيكا واثنين آخرين خلال اجتماعها السنوي أواخر أكتوبر 2021.
إن من شأن الإجراءات المقترحة لفائدة جزيرة أنتاركتيكا الإبقاء على سفن صيد الكريل بعيدة عن أهم المياه المحددة للحياة البرية ضمن أربعة نطاقات حماية عامة. تقع أكبرها في الجنوب، وهي منطقة لم تُستغل بحكم أنها مغطاة بالجليد البحري. ستكون محظورة على الصيد التجاري مستقبلا وإنْ ذاب الجليد بما يكفي لإتاحة الصيد التجاري. أما بقية المحميات فستحدد منطقة قد يستمر فيها صيد الكريل وفق ضوابط متجددة.
تتضمن الخطوات الأولى لإنشاء منطقة بحرية محمية جمع بيانات علمية عمّا هو موجود فيها. ابتداء من عام 2012، قاد علماء من الأرجنتين وتشيلي ذلك الجهد بشأن المنطقة البحرية المحمية في شبه جزيرة أنتاركتيكا، ولَمُّوا شمل خبراء من سائر أنحاء العالم. إن هذا الجزء من القارة مدروس بكثافة، إذ تنتشر جل قواعد البحث على امتداد الساحل الغربي من شبه الجزيرة والجزر. في سبيل تحديد المناطق الجديرة بالحماية في المقام الأول، يتولى برنامج حاسوبي تحليل كمٍّ هائل من البيانات المجمَّعة عن الحيوانات التي تعيش وتقتات وتتكاثر في هذا الجزء من المحيط الجنوبي.
سعت البعثتان الأرجنتينية والتشيلية إلى الحصول على مدخلات من دول أخرى أعضاء في اللجنة. "كان أحد أهم أهدافنا محاولة بناء تصور جماعي"، تقول "مرسيدس سانتوس"، عالمة الأحياء البحرية التي شاركت في العملية بوصفها باحثة لدى "معهد أنتاركتيكا الأرجنتيني"، التابع لوزارة الخارجية الأرجنتينية.
يتجلى أحد الأهداف في ضمان مقاومة النظم البيئية في شبه الجزيرة للتغيرات المناخية، وذلك أساسًا من خلال تنظيم المصائد. ينطوي الأمر على أهمية خاصة في المحيط الجنوبي، حيث يعتمد كثير من الحيوانات على الكريل.
تقول سانتوس: "إن منطقة بحرية محمية لن تمنع تأثير التغيرات المناخية، لكنها ستقلل الضغط على النظام البيئي".
حددت اللجنةُ الحصةَ السنوية من الكريل في المياه المحيطة بشبه جزيرة أنتاركتيكا في 155 ألف طن؛ أي أقل من واحد بالمئة من المخزون الدائم المقدَّر، حيث يشير مديرو مصائد الأسماك إلى إجمالي الكتلة الحيوية. ويقول الخبراء إجمالا إن المصائد ينبغي أن تكون مستدامة من الناحية البيئية، مع إصدار تحذير مفاده أن صيد الكريل ينبغي أن يُستهدف. تقول لينتش: "إن البطاريق التي نضبت إمدادتها من الكريل لا تهتم إطلاقا أن الكريل الذي اصطيد يمثل نسبة صغيرة من كل الكريل المتاح في المنطقة".
وتعليقًا على ذلك، يقول "سيزار كارديناس"، من "معهد أنتاركتيكا التشيلي": "إذا نظرتم إلى أنماط الصيد خلال الأعوام العشرة أو الخمسة عشر الماضية فستلاحظون أنها ظلت حتى اليوم تقصد المواقع نفسها". وينكب هذا الخبير على إنجاز خطط للمنطقة المحمية. تُفضل أساطيل الصيد أغنى المناطق بالكريل، حيث تذهب الحيتان والبطاريق بحثًا عن الغذاء. وأشار تحليل أجري في عام 2020 لأكثر من 30 عامًا من مراقبة البيانات، إلى أنه كلما ارتفعت معدلات صيد الكريل، يسوء أداء البطاريق وفقًا لجملة من المعايير، منها وزنها ومدى نجاحها في التكاثر. إن تقييد صيد الكريل في أجزاء معينة من المنطقة المحمية قد يُسهم في ضمان قوة تجمعات الكريل في الأماكن حيث ترعى البطاريق ذات الفراخ، حتى لا تضطر للتنافس مع سفن الصيد من أجل تأمين الطعام لصغارها. مع إرساء الأساس العلمي للمنطقة البحرية المحمية في شبه جزيرة أنتاركتيكا، فإن الخطوة التالية تكمن إلى حد كبير في حقل السياسة: التوصل إلى إجماع سائر أعضاء اللجنة. وبالنظر إلى أهمية صيد الكريل، يرجح أن يحتدم النقاش في المستقبل؛ لا سيما إذا ظهرت مؤشرات بشأن المفاوضات حول المنطقة البحرية المحمية في بحر روس، التي انطلقت قبل أربعة أعوام.. بعد أخذ ورد.
إن بحر روس امتداد عميق لأنتاركتيكا بين "ماري بيرد لاند" و"فكتوريا لاند"، على بعد 3700 كيلومتر جنوب "كرايستشيرش" في نيوزيلندا. ويُطلق عليه اسم "المحيط الأخير" بحكم طبيعته البِكر إلى حد كبير، ويُعد أحد آخر النظم البيئية البحرية السليمة المتبقية على وجه الأرض. تجوب مياهَه أعدادٌ هائلة من المفترسات الكبرى: حيتان الأركة، وطيور نوء الثلج، وفقمات ويدل، والبطاريق الإمبراطورية، وبطاريق أديلي.
تقول "كاساندرا بروكس"، عالمة البحار لدى "جامعة كولورادو، بولدر"، والتي عملت في المحيط الجنوبي منذ عام 2004: "إنه يضم قدرًا غير متناسب من كل أشكال الحياة البحرية الرائعة التي نعرف بها أنتاركتيكا. لقد كان هذا المكان حقا موضعَ إجماع التم فيه شمل المجتمع الدولي".
لقد أصبح بحر روس أولوية قصوى للحماية بسبب التغيرات المناخية وازدهار الصيد التجاري للأسماك ذات الأسنان في أنتاركتيكا أواسط العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. مع ذلك، استغرق الأمر أزيد من عشرة أعوام من التخطيط العلمي وخمسة أعوام من المفاوضات المكثفة داخل اللجنة المذكورة آنفًا، من أجل اعتماد المنطقة البحرية المحمية في بحر روس.
تعطلت المناقشات بشأن حقوق الصيد وحدود المناطق البحرية المحمية؛ وشيئا فشيئا تغيرت المعايير الأصلية. أبدت دول الصيد الكبرى -ومنها النرويج وكوريا الجنوبية- تعاونها لَمّا تم خفض المناطق البحرية المحمية بنسبة 40 بالمئة. (أدت إضافات لاحقة إلى إعادة مجموع المساحة الإجمالية مرة أخرى). لا توجد في بحر روس مصائد تجارية للكريل، لكن ذلك الخيار ظل مفتوحا. وأسهم تعيين منطقة أبحاث الكريل والاتفاق على إمكانية صيد الكريل في مناطق صيد الأسماك ذات الأسنان في الحصول على دعم الصين عام 2015.
ترأست روسيا، آخر المعارضين، اجتماع اللجنة المنعقد في هوبارت، تسمانيا، في أكتوبر 2016. شملت التعديلات النهائية بندًا يُلغى تلقائيا بعد 35 عامًا، حين تتم مراجعة إجراءات حماية بحر روس. وفي مختتم الاجتماع الذي دام أسبوعين أعلن الأعضاءُ بحرَ روس منطقة بحرية محمية. إنها أكبر منطقة بحرية محمية في العالم، إذ تغطي نحو 1.5 مليون كيلومتر مربع من المحيط، فضلًا عن 474 ألف كيلومتر مربع تحت "رصيف روس الجليدي"؛ أي ما يكاد يعادل في المجموع مساحة المكسيك.
تقول بروكس، التي شهدت أطوار المفاوضات: "كان الجميع يصفقون ويصيحون ويتعانقون ويبكون. لقد كانت حقا لحظة رائعة".
في يونيو 2021، قدمت مجموعة الدول السبع -التي تضم قادة حكومات من بعض أغنى بلدان العالم- دعمها الكامل لاهتمام اللجنة بإقامة شبكة من المناطق المحمية في المحيط الجنوبي. وإلى جانب مقترح شبه جزيرة أنتاركتيكا، ثمة منطقتان أخريان -شرق أنتاركتيكا وبحر ويدل- يجري النظر في منحهما وضع المناطق البحرية المحمية. ههنا يتولى الاتحاد الأوروبي وأستراليا والنرويج والمملكة المتحدة والأورغواي أدوارًا قيادية. أما الولايات المتحدة -الممثَّلة بوزير خارجيتها السابق "جون كيري"، الذي اضطلع بدور فعال في مفاوضات بحر روس- فتشارك على نحو نشط مرة أخرى بعدما ظلت على الهامش خلال ولاية "دونالد ترامب".
كان من المقرر عقد اجتماع اللجنة في أكتوبر 2021 عبر الإنترنت بسبب جائحة "كورونا"، مع التعانق الافتراضي هذه المرة. يصادف العام الحالي الذكرى الستين لدخول معاهدة أنتاركتيكا حيز التنفيذ؛ ما يزيد من تفاؤل الساعين إلى حماية أكبر للمحيط الجنوبي. تقول ميرسيدس سانتوس: "إنها تذكرة لنا أننا، مرة أخرى، مطالبون بإنجاز أشياء عظيمة".
عالـمنا الجليدي يغــرق
رسا قارب مطاطي على مقربة من الشاطئ الثلجي، فرأت بطاريقُ "جينتو" في خليج "نيكو هاربور" البشرَ أول مرة منذ عام تقريبًا. وبدلًا من جماعات السياح (الغائبين بفعل جائحة "كورونا")، غادر القاربَ "توم هارت"، عالم الأحياء المتخصص في البطاريق من "جامعة أكسفورد"، وعدد من العلماء الآخرين العائدين إلى "شبه جزيرة أنتاركتيكا" في يناير 2021. تعالت في أرجاء المستوطنة صيحات نحو 2000 من بطاريق جينتو، فيما تهادى أحدها باحثًا عن عشه. لا تعير هذه البطاريق -البالغ طولها 75 سنتيمترًا- أدنى اهتمام لهارت وهو يتجه صوب كاميرا التسجيل البطيء المثبَّتة على حامل ثلاثي بين الصخور. استعاد بطاقة الذاكرة من تجويف داخل الكاميرا المقاومة للماء.
وظلت الكاميرا تلتقط صور البطاريق على مدار الساعة، من الفجر إلى الغسق، منذ حلول هذه الطيور في مستوطنة التعشيش قُبيل أربعة أشهر لوضع بيضها ورعاية فراخها. إنها واحدة من نحو 100 كاميرا تغطي مساحة طولها 1340 كيلومترًا وعرضها 70 كيلومترًا من شبه الجزيرة، وتوثق لتكاثر ثلاثة أنواع من البطاريق منذ العقد المنصرم.
زادت أعداد بطاريق جينتو في شبه الجزيرة بوتيرة سريعة؛ إذ فاق معدل تكاثرها ثلاثة أضعاف في كثير من المواقع خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وما فتئت تنتشر جنوبا صوب مناطق جديدة كانت شديدة البرودة عليها، مستفيدةً من مرونة طرائقها في البحث عن الطعام وفي التزاوج. في غضون ذلك، تراجعت أعداد أنواع أخرى على نحو صارخ -البطاريق "شريطية الذقون" وبطاريق "أديلي" الأنيقة ذات الرؤوس السوداء؛ إذ بلغت نسبة التراجع نحو 75 بالمئة في كثير من المستوطنات التي تزدهر فيها بطاريق جينتو.
يُعلّق هارت على ذلك قائلًا: "إجمالًا، نخسر بطريق أديلي، ونخسر بطريقا شريطي الذقن، ونكسب بطريق جينتو".
تُعد البطاريقُ حاميةً مهمة لصحة المحيطات إجمالا. ولكنها من الحساسية بمكان تّجاه التغيرات المناخية، وتعتمد على البحار المنتِجة ووفرة الفرائس.
لا يُساور علماءَ البطاريق قلقٌ بشأن انقراض البطاريق شريطية الذقون وبطاريق أديلي؛ إذ تبدو بعض مستوطناتها خارج شبه الجزيرة مستقرة، بل إن بعضها في ازدهار.
تقول "هيذر لينتش"، عالمة البيئة لدى "جامعة ستوني بروك" بولاية نيويورك: "ما يقلقنا أن أعدادها تتراجع بشدة في شبه جزيرة أنتاركتيكا". التحولات التي تشهدها أعداد البطاريق في المياه قبالة أنتاركتيكا -المحيط الجنوبي- تنذر باضطراب النظام البيئي. "إنها تخبرنا حقا أن أمرًا ما تغير في طريقة عمل المحيط الجنوبي، وأن ذلك -بلا مواربة- ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد".
إن العالم الجليدي في خطر؛ ذلك أن شبه جزيرة أنتاركتيكا واحدة من أسرع الأمكنة احترارا على سطح الكوكب. وقد بلغت حرارة الهواء إبّان موجة حر في فبراير 2020 مستوى قياسيًا إذ سجلت 18.3 درجة مئوية في "قاعدة إسبيرانزا" الأرجنتينية باتجاه الطرف الشمالي من شبه الجزيرة. (وعادةً ما لا تزيد الحرارة صيفًا على بضع درجات فوق الصفر). مع ارتفاع درجة حرارة الهواء، ينحسر الجليد البحري حوالَي شبه الجزيرة؛ وفي عام 2016 تقلص إلى أقصى حدوده منذ بداية مراقبة التغيرات الطارئة على الجليد بواسطة الأقمار الصناعية في سبعينيات القرن الماضي.
.. وتلكم مشكلة. فمياه البحر المتجمدة تحمي "الكريل" (وهو قشري بحجم الخنصر يُعرَف أيضًا باسم قرديس أنتاركتيكا) الذي يُعد مفتاحًا لشبكة الحياة في المحيط الجنوبي. إذ تغذي أسراب الكريل الوفيرة مجموعات كبيرة من الكائنات الأخرى. إذ تأتي حيتان "المِنك" والحيتان "الحدباء" لتناول كميات من الكريل. كما يقتات الحبار والأسماك والبطاريق على الكريل. وتصطادُ عددا من آكلات الكريل مفترساتٌ أعلى: نمور البحر من الأسفل، وطيور الكركر وطيور النوء العملاقة من الجو. باختصار: إذا أزلنا الكريل، سيتداعى النظام البيئي.
لا تُعرف على وجه التحديد كميات الكريل المفقودة بسبب الظروف المصاحبة للاحتباس الحراري. في غضون ذلك، توفر المياه حوالي شبه جزيرة أنتاركتيكا أكبر مصائد الكريل في المحيط الجنوبي؛ إذ تستخرج سفن الصيد ذو النطاق الصناعي أزيد من 725 طنًا كل يوم. يُستخلص الكريل باستمرار من شباك قد تظل مغمورة عدة أسابيع في كل مرة. تعالَج هذه القشريات على متون السفن لصنع منتجات غنية بأحماض "أوميغا 3" الدهنية، كمسحوق السمك المستخدم في أعلاف الماشية وزيت الكريل المضاف إلى المكمّلات الغذائية للإنسان وحيواناته الأليفة. وتقول لينتش إن التهديدات التي تطرحها التغيرات المناخية والصيد ذو النطاق الصناعي متشابكة على نحو وثيق.
وتستطرد لينتش قائلةً: "مع انحسار الجليد البحري، تستطيع سفن صيد الكريل دخول هذا النطاق".
على خلفية هذه الضغوط، وضع فريق دولي من علماء القطب الجنوبي خططًا لمنطقة بحرية محمية تغطي 670 ألف كيلومتر مربع من أجل حماية البحر على امتداد الساحل الغربي لشبه الجزيرة.
يرجع أمر اتخاذ القرارات بشأن إحداث أمثال هذه المناطق إلى "لجنة الحفاظ على الموارد البحرية الحية في أنتاركتيكا"، الهيئة الدولية التي رأت النور في عام 1982 لغرض حفظ الحياة البحرية في أنتاركتيكا استجابةً لتزايد الاهتمام التجاري بصيد الكريل. تعمل اللجنة وفقا لٍـ "معاهدة أنتاركتيكا" التي وقّعت عليها في عام 1959، 12 دولة آثرت وضع نزاعاتها الترابية جانبًا وتكريس القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) لأهداف السلام والعلم. يبلغ عدد أعضاء اللجنة اليوم 25 بلدًا بالإضافة إلى "الاتحاد الأوروبي".
ومنذ نحو عقدين من الزمن تعهَّدت اللجنة بتشكيل شبكة من المناطق المحمية في المحيط الجنوبي.
حفظت أولاها، المنشأة عام 2009، المياه قبالة "جزر أوركني الجنوبية"، على بعد 600 كيلومتر شمال شرق طرف شبه جزيرة أنتاركتيكا. أما الثانية، التي اكتملت أشغالها عام 2016، فقد حمت جزءا من "بحر روس" على الجانب الآخر من القارة. وكان مقررا أن تنظر اللجنة في مقترح غرب شبه جزيرة أنتاركتيكا واثنين آخرين خلال اجتماعها السنوي أواخر أكتوبر 2021.
إن من شأن الإجراءات المقترحة لفائدة جزيرة أنتاركتيكا الإبقاء على سفن صيد الكريل بعيدة عن أهم المياه المحددة للحياة البرية ضمن أربعة نطاقات حماية عامة. تقع أكبرها في الجنوب، وهي منطقة لم تُستغل بحكم أنها مغطاة بالجليد البحري. ستكون محظورة على الصيد التجاري مستقبلا وإنْ ذاب الجليد بما يكفي لإتاحة الصيد التجاري. أما بقية المحميات فستحدد منطقة قد يستمر فيها صيد الكريل وفق ضوابط متجددة.
تتضمن الخطوات الأولى لإنشاء منطقة بحرية محمية جمع بيانات علمية عمّا هو موجود فيها. ابتداء من عام 2012، قاد علماء من الأرجنتين وتشيلي ذلك الجهد بشأن المنطقة البحرية المحمية في شبه جزيرة أنتاركتيكا، ولَمُّوا شمل خبراء من سائر أنحاء العالم. إن هذا الجزء من القارة مدروس بكثافة، إذ تنتشر جل قواعد البحث على امتداد الساحل الغربي من شبه الجزيرة والجزر. في سبيل تحديد المناطق الجديرة بالحماية في المقام الأول، يتولى برنامج حاسوبي تحليل كمٍّ هائل من البيانات المجمَّعة عن الحيوانات التي تعيش وتقتات وتتكاثر في هذا الجزء من المحيط الجنوبي.
سعت البعثتان الأرجنتينية والتشيلية إلى الحصول على مدخلات من دول أخرى أعضاء في اللجنة. "كان أحد أهم أهدافنا محاولة بناء تصور جماعي"، تقول "مرسيدس سانتوس"، عالمة الأحياء البحرية التي شاركت في العملية بوصفها باحثة لدى "معهد أنتاركتيكا الأرجنتيني"، التابع لوزارة الخارجية الأرجنتينية.
يتجلى أحد الأهداف في ضمان مقاومة النظم البيئية في شبه الجزيرة للتغيرات المناخية، وذلك أساسًا من خلال تنظيم المصائد. ينطوي الأمر على أهمية خاصة في المحيط الجنوبي، حيث يعتمد كثير من الحيوانات على الكريل.
تقول سانتوس: "إن منطقة بحرية محمية لن تمنع تأثير التغيرات المناخية، لكنها ستقلل الضغط على النظام البيئي".
حددت اللجنةُ الحصةَ السنوية من الكريل في المياه المحيطة بشبه جزيرة أنتاركتيكا في 155 ألف طن؛ أي أقل من واحد بالمئة من المخزون الدائم المقدَّر، حيث يشير مديرو مصائد الأسماك إلى إجمالي الكتلة الحيوية. ويقول الخبراء إجمالا إن المصائد ينبغي أن تكون مستدامة من الناحية البيئية، مع إصدار تحذير مفاده أن صيد الكريل ينبغي أن يُستهدف. تقول لينتش: "إن البطاريق التي نضبت إمدادتها من الكريل لا تهتم إطلاقا أن الكريل الذي اصطيد يمثل نسبة صغيرة من كل الكريل المتاح في المنطقة".
وتعليقًا على ذلك، يقول "سيزار كارديناس"، من "معهد أنتاركتيكا التشيلي": "إذا نظرتم إلى أنماط الصيد خلال الأعوام العشرة أو الخمسة عشر الماضية فستلاحظون أنها ظلت حتى اليوم تقصد المواقع نفسها". وينكب هذا الخبير على إنجاز خطط للمنطقة المحمية. تُفضل أساطيل الصيد أغنى المناطق بالكريل، حيث تذهب الحيتان والبطاريق بحثًا عن الغذاء. وأشار تحليل أجري في عام 2020 لأكثر من 30 عامًا من مراقبة البيانات، إلى أنه كلما ارتفعت معدلات صيد الكريل، يسوء أداء البطاريق وفقًا لجملة من المعايير، منها وزنها ومدى نجاحها في التكاثر. إن تقييد صيد الكريل في أجزاء معينة من المنطقة المحمية قد يُسهم في ضمان قوة تجمعات الكريل في الأماكن حيث ترعى البطاريق ذات الفراخ، حتى لا تضطر للتنافس مع سفن الصيد من أجل تأمين الطعام لصغارها. مع إرساء الأساس العلمي للمنطقة البحرية المحمية في شبه جزيرة أنتاركتيكا، فإن الخطوة التالية تكمن إلى حد كبير في حقل السياسة: التوصل إلى إجماع سائر أعضاء اللجنة. وبالنظر إلى أهمية صيد الكريل، يرجح أن يحتدم النقاش في المستقبل؛ لا سيما إذا ظهرت مؤشرات بشأن المفاوضات حول المنطقة البحرية المحمية في بحر روس، التي انطلقت قبل أربعة أعوام.. بعد أخذ ورد.
إن بحر روس امتداد عميق لأنتاركتيكا بين "ماري بيرد لاند" و"فكتوريا لاند"، على بعد 3700 كيلومتر جنوب "كرايستشيرش" في نيوزيلندا. ويُطلق عليه اسم "المحيط الأخير" بحكم طبيعته البِكر إلى حد كبير، ويُعد أحد آخر النظم البيئية البحرية السليمة المتبقية على وجه الأرض. تجوب مياهَه أعدادٌ هائلة من المفترسات الكبرى: حيتان الأركة، وطيور نوء الثلج، وفقمات ويدل، والبطاريق الإمبراطورية، وبطاريق أديلي.
تقول "كاساندرا بروكس"، عالمة البحار لدى "جامعة كولورادو، بولدر"، والتي عملت في المحيط الجنوبي منذ عام 2004: "إنه يضم قدرًا غير متناسب من كل أشكال الحياة البحرية الرائعة التي نعرف بها أنتاركتيكا. لقد كان هذا المكان حقا موضعَ إجماع التم فيه شمل المجتمع الدولي".
لقد أصبح بحر روس أولوية قصوى للحماية بسبب التغيرات المناخية وازدهار الصيد التجاري للأسماك ذات الأسنان في أنتاركتيكا أواسط العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. مع ذلك، استغرق الأمر أزيد من عشرة أعوام من التخطيط العلمي وخمسة أعوام من المفاوضات المكثفة داخل اللجنة المذكورة آنفًا، من أجل اعتماد المنطقة البحرية المحمية في بحر روس.
تعطلت المناقشات بشأن حقوق الصيد وحدود المناطق البحرية المحمية؛ وشيئا فشيئا تغيرت المعايير الأصلية. أبدت دول الصيد الكبرى -ومنها النرويج وكوريا الجنوبية- تعاونها لَمّا تم خفض المناطق البحرية المحمية بنسبة 40 بالمئة. (أدت إضافات لاحقة إلى إعادة مجموع المساحة الإجمالية مرة أخرى). لا توجد في بحر روس مصائد تجارية للكريل، لكن ذلك الخيار ظل مفتوحا. وأسهم تعيين منطقة أبحاث الكريل والاتفاق على إمكانية صيد الكريل في مناطق صيد الأسماك ذات الأسنان في الحصول على دعم الصين عام 2015.
ترأست روسيا، آخر المعارضين، اجتماع اللجنة المنعقد في هوبارت، تسمانيا، في أكتوبر 2016. شملت التعديلات النهائية بندًا يُلغى تلقائيا بعد 35 عامًا، حين تتم مراجعة إجراءات حماية بحر روس. وفي مختتم الاجتماع الذي دام أسبوعين أعلن الأعضاءُ بحرَ روس منطقة بحرية محمية. إنها أكبر منطقة بحرية محمية في العالم، إذ تغطي نحو 1.5 مليون كيلومتر مربع من المحيط، فضلًا عن 474 ألف كيلومتر مربع تحت "رصيف روس الجليدي"؛ أي ما يكاد يعادل في المجموع مساحة المكسيك.
تقول بروكس، التي شهدت أطوار المفاوضات: "كان الجميع يصفقون ويصيحون ويتعانقون ويبكون. لقد كانت حقا لحظة رائعة".
في يونيو 2021، قدمت مجموعة الدول السبع -التي تضم قادة حكومات من بعض أغنى بلدان العالم- دعمها الكامل لاهتمام اللجنة بإقامة شبكة من المناطق المحمية في المحيط الجنوبي. وإلى جانب مقترح شبه جزيرة أنتاركتيكا، ثمة منطقتان أخريان -شرق أنتاركتيكا وبحر ويدل- يجري النظر في منحهما وضع المناطق البحرية المحمية. ههنا يتولى الاتحاد الأوروبي وأستراليا والنرويج والمملكة المتحدة والأورغواي أدوارًا قيادية. أما الولايات المتحدة -الممثَّلة بوزير خارجيتها السابق "جون كيري"، الذي اضطلع بدور فعال في مفاوضات بحر روس- فتشارك على نحو نشط مرة أخرى بعدما ظلت على الهامش خلال ولاية "دونالد ترامب".
كان من المقرر عقد اجتماع اللجنة في أكتوبر 2021 عبر الإنترنت بسبب جائحة "كورونا"، مع التعانق الافتراضي هذه المرة. يصادف العام الحالي الذكرى الستين لدخول معاهدة أنتاركتيكا حيز التنفيذ؛ ما يزيد من تفاؤل الساعين إلى حماية أكبر للمحيط الجنوبي. تقول ميرسيدس سانتوس: "إنها تذكرة لنا أننا، مرة أخرى، مطالبون بإنجاز أشياء عظيمة".