100 أعجـوبة أثرية
إن تاريخ التنقيب عن الكنوز قديمٌ قِدَم أول عملية نهـب لقبر. ولقد كان الدافع للكشف عن ثروات مدفونة الشُّغلَ الشاغل لعدد لا يُحصى من الباحثين، فجعل قلّةً قليلة منهم أثرياء، فيما دفع آخرين إلى حافة الجنون. كتبت الرحّالة البريطانية، "ماري إليزا روجرز"، بعد زيارتها فلسطين في أواسط القرن التاسع عشر: "هناك رجال يمضون كل حياتهم إلا قليلًا في البحث عن كنوز دفينة. بعضهم يصبح معتوهًا، ويهجر عائلته، ويتوهم أنه ثري مع أنه في كثير من الأحيان شديد الفقر إلى درجة أنه يتدبّر حياته بالتسوّل من بيت إلى بيت ومن قرية إلى قرية". ولكن، لم يكن جميع صيّادي الثروات الذين التقَتهم روجرز متسوّلين بائسين. فقد التقت كذلك من وُصفوا بالسَّحَرة -على أن وصْفَهم بِـ "مستحضري الأرواح" أكثر دقة- وقالت إنه "يُعتقد أن لديهم القدرة على رؤية أشياء مخبّأة تحت الأرض". وكان هؤلاء العرّافون المبجَّلون -وغالبيتهم نساء- يدخلون في غيبوبة انتشاء قالت روجرز إنها أتاحت لهم وصف أماكن وجود أمتعة نفيسة بتفاصيل دقيقة.
وقد حوّل علم الآثار تلك "الأشياء المخبّأة تحت الأرض" من كنوز بسيطة إلى أدوات فعّالة تتيح لنا أن نلمح الماضي الدفين.
في البداية، لم يكن هذا العلم الوليد الذي ظهر أيام روجرز يختلف كثيرًا عن النهــب التقليـدي، إذ تنــافست القوى الاستعماريـة الأوروبيـة عـلى مــلء خـــزائن العرض الخاصة بها بتماثيل الحضارات العريقة وجواهر من أصقاع نائية. لكن هذا المجال العلمي الجديد فتح الباب كذلك لعهد غير مسبوق من الاكتشافات التي أحدثت ثورةً في فهمنا لتنوّعنا البشري الغني، فضلًا عن إنسانيتنا المشتركة. وإنْ بدا لكم ذلك مبالغة، فلتتخيّلوا عالَمنا بلا علم الآثار؛ بلا مدينة بومبي الرومانية المترفة؛ بلا ذهب التراقيّين المدهش؛ بلا مدن المايا المطلّة على الأدغال الكثيفة. إن لم يكن هناك علم آثار لبقي جيش تيراكوتا الطيني للإمبراطور الصيني الأول مدفونًا تحت التربة الداكنة في حقل ذلك المزارع. ولولا علم الآثار، لكانت معلوماتنا عن حضارات العالم الأبكر قليلة. ولولا حجر رشيد، لظللنا محتارين في معنى الرموز المبهمة التي تغطي جدران القبور والمعابد المصرية القديمة. لولا علم الآثار، لكانت معرفتنا بأول مجتمع حضري يجيد القراءة والكتابة -والذي ازدهر في بلاد ما بين النهرين- معرفةً ضبابية مستقاة من نصوص الكتاب المقدس. ولولاه كذلك، لما كنا قد كشفنا عن أكبر تلك الثقافات المبكرة وأكثرها سكانًا، والتي تجمّعت على طول نهر السند في شبه القارّة الهندية.
ولقد استنطقَ قرنان من التنقيب في ستّ قارّات ماضٍ كان فيما سبق مغمورًا في معظمه. ومن خلال تلك المواقع واللُّقى المستعادة، تمكن أسلافنا الغابرون (الذين لم نعلم بوجود كثير منهم أصلًا) من سرد قصصهم لنا. منذ زمن سحيق يعود إلى عهد آخر ملك بابلي على أقل تقدير، قبل أكثر من 2500 سنة، جمع الحكام والأثرياء القطع الأثرية لينعموا بما تحمله من جمال العصور الغابرة وأمجادها. فقد نقل أباطرة روما ما لا يقل عن ثماني مسلّات مصرية عبر البحر المتوسط ليزيّنوا بها عاصمتهم. وخلال عصر النهضة الأوروبية، وُضع أحد هذه النُّصب الوثنية وسط "ساحة القديس بطرس" في الفاتيكان.
وفي عام 1710، استأجر رجل فرنسي أرستقراطي بعض العمال ليحفروا نفقًا يخترق هركولانيوم، وهي بلدة رومانية قريبة من مدينة بومبي لم يمسسها أحد مُذْ حدث انفجار بركان "فيزوف" القاتل عام 79 للميلاد. وقد أثارت التماثيل الرخامية المكتشفَة هوسًا انتشر على امتداد أوروبا للتنقيب في المواقع الأثرية. أما في "العالم الجديد" فقد أمر الرئيس الأميركي، "توماس جفرسون"، بحفر خنادق في تلة دفن لسكان أميركا الأصليين، لا للبحث عن نفائس في القبور، بل لتخمين مَن كان قد بنى تلال الدفن تلك ولماذا.
بحلول زمن "ماري إليزا روجرز"، كان المنقّبون الأوروبيون ينطلقون من قارّتهم إلى مختلف أنحاء العالم. ولم يكن منهم علماء مكرّسون إلا قلّة قليلة. فقد كانوا في الغالب دبلوماسيّين وضبّاطًا عسكريين وجواسيس ورجال أعمال أثرياء (وكانوا جميعًا رجالًا، مع بعض الاستثناءات القليلة) على صلة وثيقة بالتوسّع الاستعماري. واستغلوا نفوذهم وسلطتهم خارج بلادهم للدراسة والسرقة في آن؛ إذ كانوا يملؤون دفاترهم بالمعلومات ويشحنون المومياوات المصرية والتماثيل الآشورية والطُّنُف الإغريقية إلى متاحفهم الوطنية ومجموعة مقتنياتهم الخاصة.
وإذا انتقلنا سريعًا لِما يسمّى "العشرينيات الهادرة" من القرن الماضي، نرى أن الكنوز المتألقة الأخّاذة التي اكتشفت في قبر الملك المصري "توت" و"قبور أور الملكية" تصدّرت عناوين الصحف وغيّرت مجرى الفن والعَمارة وصناعة الأزياء. ولكن، بحلول ذلك الوقت، كان المثقفون المحترفون قد بدؤوا يستوعبون أن أثمن ما كان يُستخرَج من الخنادق لم يكن يتمثّل في الذهب بل في البيانات المختزنة في الفخّار المكسَّر والعظام المهملة.
وأَوجدت الأساليب الجديدة لتسجيل الطبقات الرقيقة من التربة طرقًا مبتكرة لاستخلاص تفاصيل الحياة اليومية المرتبطة بزمنها. وابتداءً من خمسينيات القرن الماضي، منح اضمحلال النشاط الإشعاعي للمواد العضوية الباحثين أول ساعة يعوَّل عليها لتحديد تاريخ اللُّقى الأثرية.
وفي قرننا هذا، يمارَس علمُ الآثار أكثر في المختبرات مما يمارَس في خنادق التنقيب. فما كان فيما مضى بلا قيمة بديهية (مثل البذور المحترقة، وبراز البشر، والفُضالة العالقة أسفل القدور) أصبح اليوم كنزًا. إذ إن هذه البقايا المتواضعة يمكن أن تكشف لنا بتحليلها، تحليلًا دقيقًا، نوعية الطعام الذي كان يأكله القوم، ومع أي أقوام أخرى كانوا يتاجرون، بل وحتى أين نشؤوا.
لا بل إن التقنيات قد بلغت مرحلة من التطوّر تجعلها قادرة على تحديد تاريخ الرسوم والنقوش الصخرية، متيحةً نظرة متعمقة إلى ثقافات مثل ثقافة سكان أستراليا الأصليين الأوائل، الذين لم يخلّفوا سوى القليل من الأدلة الراسخة على حياتهم بعد زوالهم. وبنفاذ الغوّاصين إلى حطام السفن، بدءًا من سفينة تجارية من العصر البرونزي وانتهاءً بسفينة "تايتانيك" -أسطورة أساطير الكوارث البحرية- فإن البحر لم يعد ذاك العالم الغامض المستغلِق.
أما التطوّر الأوحد الأكثر ثورية خلال العقود الأخيرة فهو قدرتنا على استخراج مواد وراثية من العظام القديمة. فقد منحنتا الأحماض النووية القديمة نظرة من كثب إلى الطريقة التي كان بها أسلافنا يتعاملون مع سلالة "النياندرتال" البشرية. كما أنها أفضت إلى اكتشاف أقاربنا من سلالة "دينيسوفا" الذين فقدناهم منذ زمن بعيد، فضلًا عن الناس شديدي الصغر الذين سكنوا جزيرة فلوريس الإندونيسية.
وتتيح مجموعة كبيرة من المناهج العلمية، بدءًا من الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية وانتهاءً بفلوريّة الأشعة السينيّة، للعلماء سبر المواقع واللُّقى الأثرية من غير أن يحتاجوا إلى وضع مِعوَل في أرض أو اقتطاع عيّنة من لُقية نفيسة لدى متحف؛ ما يعني أننا أقل عرضة لأن نطمس -بالخطأ- بيانات لا نميّزها الآن ولكن قد تستعيدها الأجيال القادمة. مع ذلك، فإن التاريخ البغيض لعلم الآثار ما زال يلقي بظلّه الثقيل على الحاضر. إذ لم يكـن مسعى إعـادة اللُّقى التي استحوذت عليها دول أجنبية ظُلمًا إلى مواطنها الأصلية، بدءًا من "رخاميّات معبد البارثينون" الإغريقي إلى "برونزيّات بِنين"، قد اكتسب زخمًا سياسيًا إلا في العقد الماضي من الزمن. كما أن عزوف الأميركيين والأوروبيين عن تدريب علماء الآثار في الدول الأصلية لهذه الآثار أو عزوفهم عن دعم هؤلاء، كان يعني بالضرورة شحًّا في أعداد الباحثين المحلّيين لمتابعة العمل عندما كانت الإمبراطوريات الاستعمارية تنهار. ومَن يكافح مِن هؤلاء العلماء المحليّين لتحقيق ذلك، كثيرًا ما يجد مسعاه معرقَلًا إما بحربٍ أو نقصٍ في الموارد أو ضغوط إنمائية. أما موقع "مِس عينك" في أفغانستان، وهو أحد المراكز الكبيرة للبوذية في آسيا الوسطى، فما فتئ يتعرّض لتهديد الناهبين والهجمات الصاروخية وخطة حكومية للتعدين في الموقع الذي يتربّع على مخزون ضخم من النحاس. وفي أغسطس 2021 وقع المكان تحت سيطرة "طالبان".
الماضي ليس مصدرا قابلًا للتجديد، وكل موقع تاريخي قديم يُجرَف أو يُنهب هو خسارة عالمية. ومن نافلة القول اليوم إن المجتمعات المحلية الصغيرة هي جزء أساسي مهم للحفاظ على صحة المنظومات البيئية الطبيعية وسلامتها. وكذلك الحال فيما يتعلق بما خلّفه أجدادنا.
وتتجلّى لنا جسامة الدمار الذي لحق ببعض المواقع الأثرية على امتداد الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أكثر عندما ندرك أنه ليس للقرويّين المُعدمين مصلحةٌ تُذكر في حمايتها. وتتمثّل التهديدات لهذا التراث في جماعات محطّمة للأصنام من أمثال تنظيم "القاعدة" وحركة طالبان، وكذلك بائعي اللُّقى الأثرية المنهوبة ومُبتاعيها. كما أن السلام والازدهار يحملان معهما نصيبهما من التهديدات، عندما تؤدي أعمال البناء الجديدة إلى تدمير المخلّفات التاريخية.
ورغم هذه الانتكاسات المرعبة، فهناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن عصرًا ذهبيًا ثانيًا لعلم الآثار قد أظلّنا.. عصرًا جُرِّد في غالبه من مظاهره الاستعمارية وفرضيّاته العنصرية. وهناك سيل من النساء والباحثين المحليّين يبّث الحياة في هذا المجال؛ وفي الوقت نفسه، فإن علماء الآثار (الذين من طبعهم الانزواء) أصبحوا يعملون يدًا بيد مع زملائهم في المجالات الأخرى. فهم يوثّقون التغيّر العالمي الذي حدث عبر العصور بالتعاون مع علماء المناخ، ويتعاونون مع علماء الكيمياء لتقفّي أثر الانتشار القديم لمخدّرات مثل الماريجوانا والأفيون، وينظرون مع علماء الفيزياء في وسائل أدقّ لتأريخ الأشياء.
ومن جهة أخرى، تُظهر مكتـشَـفات جديدة قدرةَ علم الآثار على إعادة صياغة علاقتنا بماضينا. إذ يشير "غوبيكلي تبه" في تركيا -أقدم معبد معروف في العالم، بتاريخ يعود إلى نحو 12 ألف سنة- إلى أن رغبتنا في ممارسة شعائر دينية جماعية ربما كانت قد دفعتنا إلى الاستقرار وزراعة المحاصيل، وليس العكس. كما أن بُناة الأهرام المصرية لم يكونوا أناسًا مستعبَدين بل عمّالًا مهرة يتقاضون أجورًا مناسبة ويشربون جعة جيّدة. ثم إن الحمض النووي القديم يصوّر لنا قصة مشوَّشة ومعقّدة عن رحلة أسلافنا التي قطعوا بها الكوكب.. قصة مشوّشة إلى درجة لا يمكن معها حصرها في حدود ما تمليه النظريات العرقية والأساطير الوطنية.
ولكن قوة علم الآثار تظل متجذّرة في قدرته على تخطّي المعرفة الفكرية للوقت الراهن ومعتقداته. فالكشف عن ذلك الذي طالما كان مخفيًا، يربطنا جوهريًا بأسلافنا الذين قضوا وبادوا. ففي اللحظة التي يزيل فيها منقّبٌ الرواسبَ عن قطعة نقود قديمة أو ينزع بحَذَرٍ الترابَ المتكدّس عن وجهٍ بادي المعالم لتمثال نذْريّ، تُطوى المسافات التي تفصلنا عنه زمنيًا وثقافيا ولغويا ودينيا.
وحتى لو كنا ببساطة ننظر عبر زجاج علبة عرض في متحف أو نتأمل صفحات مجلة، فإننا نجد أنفسنا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالشخص الذي شكّل جرّة، أو اتخذ دبوسًا متألّقًا للزينة، أو حمل سيفه المشغول إلى المعركة. ثم إن الشعور الذي يعترينا عند رؤية آثار أقدام تعود إلى 3.7 مليون سنة في يومٍ ماطر في أراضي تنزانيا المعشوشبة، هو شعورٌ قوي لا يُنسى؛ إذ إننا نشعر وكأننا نَحضُر فجر خلقنا نحن.
إن مَهمة علماء الآثار لا تتمثّل في الكشف عن الكنوز الدفينة، بل في إعادة إحياء الموتى الذين فارقونا منذ زمن بعيد، ليعودوا كما كانوا.. أشخاصًا كحالنا.. أشخاصًا ناضلوا وعشقوا، وصنعوا ودمّروا؛ وفي المحصّلة خلّفوا لنا شيئًا من أنفسهم.
فنّانو العصر الجليدي
في عصر يومٍ من أيام سبتمبر عام 1940، شقّ أربعة شبّان طريقهم عبر أحراج تلة تطل على بلدة مونتينياك الواقعة جنوب غرب فرنسا. كانوا قد جاؤوا لاستكشاف حفرة عميقة مظلمة يُشاع أنها ممر جوفي يفضي إلى ضيعة "لاسو" القريبة. وبإقحام أنفسهم فيها الواحد تلو الآخر عبر مدخلها الضيق، ما لبثوا أن رأوا رسومات واقعية رائعة لخيول تجري، وأيائل تسبح، وثور بيسون جريح، وكائنات أخرى.. أعمال فنية قد تعود إلى 20 ألف سنة خلت.
ومجموعة الرسومات هذه في لاسو هي من بين الرسومات الموزّعة على ما يقارب 150 موقعًا من عصور ما قبل التاريخ، وتحديدًا من العصر الحجري القديم، الموثّقة في "وادي فيريز" في فرنسا. ويبدو أن هذا الركن من جنوب غرب أوروبا كان بؤرة للفن التشخيصي. أما أكبر اكتشاف منذ اكتشاف لاسو فحدث في ديسمبر من عام 1994، عندما وقعت أنظار ثلاثة روّاد كهوف على أعمال فنية لم ترها عيون بشر مُذْ سدَّ انهيارٌ صخري مغارةً في جنوب فرنسا قبل 22 ألف سنة. في هذا المكان، وعلى ضوء النار المرتعش، رسم فنّانون من عصور ما قبل التاريخ صورًا جانبية لأسود كهوف، وقطعان من الكركدّنات وفيلة الماموث، وثور بيسون مهيب، وخيول، وثيران أُرخُص، ودببة كهوف. وبالإجمال، صوّر هؤلاء الفنانون 442 حيوانًا، ربما على مرّ آلاف السنين، مستعملين نحو 37 ألف متر من جدران الكهف خلفيّةً للوحاتهم الفنية. وهذا الموقع الذي أضحى يُعرف باسم "كهف شوفيه بون دارك"، يُعَـدّ أحيانًا "كنيسة سيستينا" (في الفاتيكان) لعصور ما قبل التاريخ.
وقد طرح الباحثون على مرّ عقود نظريةً مفادها أن الفن كان قد تقدّم على مراحل بطيئة من خربشات بدائية إلى تصاوير واقعية مفعمة بالحياة. فلا شكّ إذن في أن التظليل الخفيف والخطوط الأنيقة لروائع شوفيه الفنية جعلاها تتويجًا لهذا التسلسل، أليس كذلك؟ لكن نتائج تأريخ الرسومات بالكربون المشع وصلت، وعندها أصيب علماء ما قبل التاريخ بالصدمة؛ إذ تبيّن أن رسومات شوفيه تعود إلى ما قبل 36 ألف سنة تقريبًا، أي أن عمرها يقارب ضِعف عمر تلك التي في لاسو. وبالتالي فإنها لم تمثّل حينها أوج تطوّر فن ما قبل التاريخ بل أقدم أمثلته المعروفة على الإطلاق.
وما زال البحث جاريًا عن أقدم رسومات كهوف في العالم. فعلى جزيرة "سولاويزي" الإندونيسية مثلًا عثر العلماء على حجرة رسومات لكائنات نصفها بشري ونصفها الآخر حيواني يقدّر عمرها بـ 44 ألف سنة، أي أنها أقدم من الفن التشخيصي الذي اكتُشف في أوروبا.
ولم يهتدِ الباحثون إلى معرفة ما إن كان الفن قد اخترعته شعوب مختلفة في مراحل مختلفة من التاريخ أم أنه مهارة طُوّرت في مرحلة باكرة من تطوّرنا. لكننا نعلم يقينًا أن التعبير الفني متأصّلٌ فينا منذ فجر أسلافنا الأوائل.
رجل الجليد "أوتزي"
في عام 1991، اكتشف بعض المتنزهين في أعالي الجبال على حدود إيطاليا مع النمسا جثة محنّطة بارزة من نهر جليدي. وما كان ليخطر على بالهم حينها أن "رجل الجليد" هذا كان قد عبر الزمان واصلًا إلينا من العصر النحاسي. وبالفعل، كشف مزيد من التحقيق أن رجل الجليد "أوتزي" هذا الذي يبلغ من العمر 5300 سنة (والذي أُطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى وادي "أوتزتال" القريب من موقع وفاته) هو أقدم إنسان يُكتشف محفوظًا على حاله على الإطلاق. وتعليقًا على ذلك، كتب متسلّق الجبال والكاتب، "ديفيد روبرتس": "لم يأسر آخر رجل من الماضي البعيد مخيّلة العالم مُذْ فتْح "هاورد كارتر" قبرَ الملك "توت عنخ آمون" في مطلع عشرينيّات القرن العشرين".
وعلى مَرّ العقود الثلاثة التي تلت ذلك، استعمل العلماء مجموعة متنوعة من الأدوات رفيعة التقنية، ومنها تقنيّتا التنظير الداخلي المجسّم وتحليل الحمض النووي، لفحص رجل الجليد وتنقيح سيرة حياته بتفاصيل مذهلة. فتحوّل ما كان في البداية قصة صيّاد منفرد من العصر الحجري الحديث قضت عليه عوامل الطبيعة إلى لغز جريمة قتل مشوّق. وقد تبيّن أن الرجل كان في أواسط الأربعينات من عمره، أي أنه كان مسنًّا بعض الشيء بمعايير زمانه. وكان يشكو مفاصل متآكلة، وشرايين متصلّبة، وحصوات صفراوية، ومرحلةً متقدمة من مرض في اللثة، وتسوّس الأسنان. وصحيحٌ أن هذه العوامل الصحية كانت قد قضّت مضجعه، لكنها لم تكن ما قتله.
ففي عام 2001، التقط خبيرُ أشعة صورةً شعاعية لصدر "أوتزي" ورصد رأس سهم حجري، أصغر من الدرهم، محشورًا تحت لوح كتفه اليسرى. وأصبح الدليل الجنائي أكثر إثارة للفضول عام 2005 عندما أظهرت تقنية جديدة لـ "المسح بالتصوير الطبقي المُحَوْسَب" أن رأس السهم -المصنوع غالبًا من الصوّان- كان قد ألحق جرحًا بليغًا بطول سنتيمتر وربع سنتيمتر في الشريان الأيسر تحت الترقوة. ومن شأن جرح خطِر كهذا أن يتسبّب في وفاةٍ شبه فورية. فكان الاستنتاج أن مهاجمًا، يقع خلف هدفه وأسفل منه، أطلق السهم الذي أصاب كتف "أوتزي" اليسرى. وخلال دقائق، انهار المجني عليه، وفقد وعيه، ونزف حتى الموت.
ومقابل جميع الأجوبة التي عثر عليها العلماء عن رجل الجليد، فما زالت العديد من الأسئلة موجودة. وعلى رأس قائمة تلك الأسئلة: من قتل صيّاد ما قبل التاريخ هذا، ولِمَ قتله؟
الفراعنة السود
في عام 730 قبل الميلاد، توصّل رجل يدعى "بيي" (بعنخي) إلى أن السبيل الوحيد لإنقاذ مصر من نفسها هو غزوها. فالحضارة الرائعة التي بنت الأهرام في الجيزة قد ضلّت طريقها وتمزّقت بفعل أمراء حرب تافهين. وكان "بيي" طوال عقدين يحكم مملكته الخاصة في النوبة، وهي بقعة في إفريقيا يقع معظمها اليوم ضمن السودان. لكنه رأى نفسه الوريث الشرعي للتقاليد التي مارسها الفراعنة العظام.
وبعد حملة عسكرية استمرت عامًا كاملًا، كان كل زعيم في مصر قد استسلم له. ومقابل حفاظه على أرواحهم، قدم الزعماء المهزومون لِـ "بيي" أفضل دُرَرهم، وجعلوه ينتقي أجودَ خيولهم، وأغروه بالصلاة في معابدهم. فلبّى طلبهم بأن أصبح رب مصر العليا والوسطى المبارك.
وعندما توفّي "بيي" بنهاية سنوات حكمه العشر، احترم رعاياه رغباته بدفنه في هرم على الطراز المصري في موقع يُعرف اليوم باسم الكرو. وللعلم، لم يكن أي فرعون قد حصل على دفن من هذا النوع منذ أكثر من 500 عام.
كان "بيي" الأول بين من يُعرفون بالفراعنة السود، وهم الحكّام النوبيّون الذين مثّلوا الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر. وعلى مَرّ 75 عامًا، أعاد هؤلاء الملوك توحيد مصر بعد تمزّقها وأنشؤوا إمبراطورية امتدت من الحدود الجنوبية لمدينة الخرطوم في الوقت الحاضر إلى الشمال بعيدًا حتى البحر المتوسط.
وحتى عهد قريب، كان فصلهم من التاريخ غير مرويّ في معظمه. يقول عالم الآثار السويسري "شارل بونيه": "في المرة الأولى التي حضرت فيها إلى السودان، قال بعض الناس: إنك مجنون! لا تاريخ هناك! فكل التاريخ في مصر!". ولكنه وباحثين معاصرين آخرين يكشفون الآن التاريخ الغني لثقافةٍ طال تجاهلها. فقد اعترف علماء الآثار أن الفراعنة السود لم يظهروا من فراغ، بل انطلقوا من حضارة إفريقية قوية في أرضٍ كان المصريّون يدعونها "كوش" ازدهرت على ضفاف النيل منذ زمن بعيد، لا يقل قِدَمًا عن زمن الأسرة الأولى الحاكمة لمصر قبل نحو 3000 سنة من الميلاد.
ولم يَرُق للمصريين وجود جارة قوية كهذه إلى الجنوب منهم، وبخاصة أنهم اعتمدوا على مناجم الذهب في النوبة لتمويل سيطرتهم على غرب آسيا. لذا أرسل فراعنة من الأسرة الثامنة عشرة الحاكمة (1539 إلى 1292 ق.م) جيوشًا لفتح النوبة وأقاموا ثكنات على طول النيل. وبعد إخضاع النوبيّين، أخذت نخبتهم تتبنّى عادات مصر الثقافية والروحية، فبجّلوا آلهة المصريّين، واستعملوا لغتهم، وتبنّوا أساليبهم في الدفن.
ويمكن القول إن النوبيّين كانوا أول شعب يُصاب بما يدعى "الهوس بالحضارة المصرية". فقبل أن تطأ أقدامهم أرض مصر، كانوا قد حفظوا التقاليد المصرية وأعادوا إحياء الهرم (الذي كان حينها نُصبًا لدفن الموتى تخلّى عنه المصريّون منذ قرون)
ليكون ضريحهم الملكي. وبتعبير عالم الآثار "تيموثي كيندال"، كان النوبيّون قد "أصبحوا أكثر كاثوليكيةً من البابا" (أو بمعنى أدق: أكثر مصريةً من المصريّين).
في القرن السابع قبل الميلاد، غزا الآشوريّون مصر من الشمال. عندها انسحب النوبيّون نهائيًا إلى موطنهم، لكنهم مع ذلك استمروا في توسيم أضرحتهم الملكية بالأهرام، ناثرين على مواقع مثل "الكرو" و"نوري" و"مروي" الصروح ذات الجوانب شديدة الانحدار التي ميّزت ترجمتهم للأهرام المصرية. وكحال معلّميهم، فقد ملأ ملوك "كوش" حُجرات الدفن الخاصة بهم بالكنوز وزيّنوها بصور لحياة غنية في الآخرة.
ولم يكن يُعرف عن هؤلاء الملوك إلا نزر يسير، إلى أن وصل عالم الآثار المصرية وخرّيج "جامعة هارفارد"، "جورج رايزنر"، إلى السودان في مطلع القرن العشرين. رصد رايزنر مواقع أضرحة خمسة فراعنة نوبيّين لمصر وأضرحة العديد من خلفائهم. وكان الفضل لهذه الاكتشافات -والتحقيقات التي تلت ذلك- أن انتُشلت من غياهب المجهول أولُ حضارة متقدّمة في المناطق الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى.
ملكوت مَلك المايا
في نفق يقع 15 مترًا أسفل السهول العشبية في كوبان، وهي مدينة قديمة تعود إلى حضارة المايا وتوجد في ما أصبح اليوم دولة هندوراس، نظرَ عالم الآثار "جورج ستيوارت"، الموظف لدى ناشيونال جيوغرافيك، من فتحة في جدار من التربة والحجارة. وهناك في مكان حارّ خانق مهدد بالزلزال، رأى هيكلًا عظميًا على بلاطة حجرية ضخمة. كان زملاء ستيوارت من علماء الآثار قد اكتشفوا مدفنًا ملكيًا؛ وأغلب الظن أنه للملك "كإنيتش ياكس كؤوك مو"، أو ما ترجمتُه "طائر ماكاو الكويتزال الأخضر شمسيّ العينين". كان الملك المؤلّه هذا، الذي ظهر اسمه في العديد من النصوص الهيروغليفية للموقع، هو مؤسس السلالة الحاكمة التي حافظت على سلطة مملكة المايا الممتدة على أطراف وادٍ، ما يقرب من 400 سنة.
كان ذلك الاكتشاف المهم قد حدث عام 1989، لكن الباحثين في حضارة المايا كانوا يعرفون أهمية كوبان منذ وقت طويل. فاعتمادًا على أكثر من 100 سنة من البحث، ظلوا يعلمون أن المباني المهدّمة بجانب نهر "كوبان" كانت تمثّل العاصمة السياسية والدينية لمملكة مهمة قبل انهيارها منذ أكثر من ألف سنة. وقد أدرك المحققون في مرحلة باكرة أن ذلك القسم المعروف حاليًا باسم "الأكروبوليس" (وهو منطقة شبه مستطيلة تعلو النهر بمسافة كبيرة) لم يكن يشكّل موضع أروع المباني والمنحوتات فحسب، بل وكذلك مقر السلطة الحاكمة خلال أوج المرحلة الكلاسيكية للمايا، بين عامي 400 و 850 م.
وقد زعم حكّام كوبان أن نسبهم يعود إلى الشمس وحكموا بهذا الحق. وترأّسوا مملكةً برعيّةٍ تضم نحو 20 ألف فرد، تنوّعوا بين فلّاحين عاشوا في مساكن مسقوفة بالقش ومحمولة على أعمدة، والنخبة التي سكنت قصورًا على مقربة من "الأكروبوليس". وإذ حفر علماء الآثار نفقًا في "الأكروبوليس"، وقعوا على أعقد ضريح بناءً وتأثيثًا اكتشفوه في الموقع. فقد وجدوا رفات امرأة نبيلة على مستطيل حجري سميك. كانت مكسيّة بسخاء ومزيّنة بتشكيلة من أندر تشكيلات يَشْم المايا التي عُثر عليها. ووفق ما يعتقده علماء الآثار، يرجّح أنها كانت زوجة مؤسس الدولة؛ الملكة الأم للحكّام الخمسة عشر التالين في سلالة كوبان.
وباكتشاف ضريح الملكة، ما لبث أن اتضح أن "الأكروبوليس" شكّل ما قد يصحّ تسميته بمحور للعالم.. وعمليًا كومة من المدافن والأبنية المقدّسة بوجود شخص ذي سلطة تكاد تفوق الخيال في عيون سكان كوبان. وانطلاقًا من أن جميع الدلالات أشارت إلى الملك "كإنيتش ياكس كؤوك مو"، فقد بدا أن مثواه الأخير لم يكن عن ذلك المكان ببعيد. وهو ما دفع علماء الآثار المتشوّقين إلى الحفر أعمق في المجمّع.
وأخيرًا، وخلف واجهة من أقنعة لإله الشمس مثبتة على منصّة، اكتشفوا هيكلًا يعتقدون أنه لمؤسس الدولة نفسه. كان عمر الملك لا يقل عن 50 سنة، وكانت لاثنتين من أسنانه حشواتٌ من اليَشْم، وانتقل إلى عالم الآخرة بساعد أيمن مكسور. كما كانت هناك علامات على وجود جروح أخرى، ربما أصيب بها خلال معارك أو كانت نتيجة ممارسته لعبة الكرة الشعائرية الخشنة لدى المايا.
وتشير التحقيقات المستمرة إلى أن السلطة التي استُمِـدّت من الملك المؤسس أخذت تتداعى بقبض ملك مدينةٍ دولةٍ (city-state) أخرى على حاكم كوبان الثالث عشر وتقديمه قربانًا للآلهة عام 738. وبحلول عهد الملك "ياكس باساه"، بعد ربع قرن على الواقعة، كانت قوة حكم كوبان قد أصيبت بالعجز عن العودة إلى سابق عهدها. وبعد أن هجر المايا الموقعَ لمصلحة الغابة والنهر، وكان ذلك غالبًا بحلول عام 900، أخذت مبانيه الحجرية تتقوّض. ومع ذلك، فإن أطلال مبانيه المزيّنة ومنحوتاته تجعله من أعظم خزائن الفن والعمارة في الأميركيتين.
مزارات ومناجم بوذية
علــى مسيرة ساعة بالسيّارة على طول "طريق غارديز السريعة" جنوب مدينة كابول، هناك منعطف حاد إلى اليسار باتجاه طريق غير معبّدة. ويستمر هذا الدرب على طول قاع نهر جاف، مجتازًا قرى صغيرة، وحواجز طرق شبه عسكرية، وأبراج حراسة. وعلى مسافة أبعد قليلًا، ينفتح المشهد على وادٍ غير ذي شجر مجعّد بالأخاديد وجدران قديمة مكشوفة.
في عام 2009، بدأ فريق من علماء الآثار الأفغان والدوليين والعمال المحليّين الكشفَ عن آلاف من التماثيل والمخطوطات والنقود والنُّصب المقدّسة البوذية في هذا الموقع الرائع. ونتيجة لذلك، ظهرت إلى النور أديرة وتحصينات بأكملها، يمتد جذور وجودها إلى القرن الثالث للميلاد. وقد كانت عملية التنقيب هذه الأكثر طموحًا في تاريخ أفغانستان، بفارقٍ كبير عن أي عملية تنقيب أخرى.
ولكن مصادفة جيولوجية جعلت هذه الكنوز الثقافية في خطر. فاسم المكان، "مِس عينك"، يعني "بئر النحاس الصغيرة" باللغة المحلية؛ غير أن منجم النحاس هذا ليس بصغير على الإطلاق. فكمية النحاس المدفونة تحت الآثار هي واحدة من أكبر ترسّبات النحاس غير المستغلّة في العالم، إذ تقدَّر بـ 12.5 مليون طن. وفي عام 2007، فاز ائتلاف تجاري صيني بحقوق استخراج الفلزّ بناءً على عقد إيجار مدته 30 عامًا. وقد قدّمت الشركة الصينية عطاءً بقيمة تتجاوز ثلاثة مليارات دولار ووعدت بتوفير البنية التحتية للمنطقة المعزولة المتخلّفة.
وقبل أن تخرج الصفقة مع الجهات الصينية المستفيدة إلى العلن، كانت هناك لُقًى معرّضة سلفًا لأن يقتلعها الناهبون من مكانها تدريجيًا ليخسرها البحث العلمي إلى الأبد. فطالب مؤيّدو التراث الثقافي الأفغاني باستخراج الكنوز وتسجيلها كما ينبغي قبل بدء عملية التعدين من حفرة مكشوفة.
وقد تأجّل هذا المشروع، الذي كان يُتوقّع أن يبدأ بالأصل في عام 2012، بسبب خلافات تعاقدية، وأسعار النحاس المتدنية، وصراع الحكومة الأفغانية ضد "طالبان". أمَا وقد سيطرت هذه الحركة المتشدّدة على البلد، فهناك من يرى أن مستقبل الموقع الأثري قد صار أشدّ غموضًا.
ويقدّم هذا الماضي الذي كشف عنه علماء الآثار نقيضًا صارخًا لعنف الحاضر وفوضاه. فمن القرن الثالث إلى القرن الثامن للميلاد، كان "مِس عينك" مركزًا روحيًا ازدهر في سلام نسبي. ويشكّل ما لا يقل عن سبعة مجمّعات ديريّة بوذية متعددة الطوابق قوسًا حول الموقع، كلٌّ منها محميٌّ بأبراج مراقبة وجدران عالية. وقد أغنى النحاسُ الرهبانَ البوذيين هنا؛ وتشهد الرواسب الضخمة من الخَبَث (وهو المخلّفات المتصلّبة لعمليات الصهر) على أن إنتاج النحاس جرى على نطاق كبير.
ويُعرف الكثير عن روابط البوذية القديمة بالتجارة والبيع، ولكن لا يُعرف إلا القليل عن روابطها بالإنتاج الصناعي. وهنا تكمن أهمية "مِس عينك"؛ إذ قد يملأ يومًا ما الثغرات المعرفية بالمعلومات المهمة، مشيرًا إلى منظومة اقتصادية بوذية أعقد مما كان مفهومًا في السابق.
وسيتطلّب التوصّل إلى فهم للمغزى الكامل لوجود "مِس عينك" عقودًا من البحث. ويبقى أمل علماء الآثار الوحيد هو أن يكون الزمن إلى جانبهم، وأن يحظوا بفرصة لكشف المزيد عن هذا الفصل غير المعروف من الأيام المجيدة للبوذية في أفغانستان.
الإمبراطورية السواحلية
إن مدينة "كِلوة من أبهى المدن وأتقنها عمارة"، هكذا وصفها ابن بطوطة، أحد أعظم الرحّالة في التاريخ. وقد كانت المدينة تصكّ عملتها الخاصة وكانت لديها منازل بتمديدات مياه داخلية. أما سكّانها فكانوا يلبسون ثيابًا من حرير مستورد. وخلال عصرها الذهبي، بين القرنين الثاني عشر والثامن عشر، كانت كِلوة من بين ما يقارب 36 مدينة منتشرة على ما يُعرف لدى الغربيّين باسم "الساحل السواحلي". تلك الموانئ التي امتدت من الصومال إلى موزمبيق حاليًا، تطوّرت إلى مدنٍ دول (city-states) ازدادت ثراءً من تجارة المحيط الهندي؛ وازدهرت بإقبال سفن من جزيرة العرب والهند والصين على مرافئها لشراء البضائع التي أغنت الشعب السواحلي وأثرته.
وقد وجد البحّارة العرب في إفريقيا مرافئ جيدة، وبحرًا غنيًا بالسمك، وأراضي خصبة، وفرصًا للتجارة؛ فبقي كثير منهم فيها وتزوّج نساء محليّات، جالبين معهم العقيدة الإسلامية. وقد نتج عن هذا التفاعل بين اللغة والتقاليد العربية من جهة واللغات والتقاليد الإفريقية من جهة أخرى، ثقافة حضرية وتجارية ينفرد بها هذا الساحل الإفريقي.
ولكن هذه الثقافة كانت في جوهرها إفريقية؛ وهذه حقيقة كان علماء الآثار الأوائل قد أخفقوا في التوصّل إليها. وقد أظهرت عمليات تنقيب لاحقة على طول الساحل فداحة خطئهم. فعلى جزيرة سونغو منارا التنزانية مثلًا وجد علماء الآثار مجتمعًا امتاز بقصرٍ تزيّن جدرانَه النُجود، وبعشرات الأحياء السكنية، وستة مساجد، وأربع مقابر.. وجميعها ضمن سور المدينة.
وانهارت الشبكة التجارية السواحلية بفرض البرتغاليّين أنفسهم عنوةً على المنطقة وإعادة توجيه البضائع إلى البحر المتوسط وأوروبا. ولكن، حتى مع تحوّل المراكز التجارية إلى مناطق معزولة معدومة الأهمية، فقد صمدت الثقافة السواحلية الغنية عبر قرون من الاحتلال الاستعماري. يقول المؤرّخ التنزاني، عبد الشريف: "إن التاريخ السواحلي هو مسيرة من التأقلم والدمج. فقد لا تكون الثقافة السواحلية غدًا كما هي عليه اليوم، ولكنْ لا شيء يبقى على حاله أصلا".
ماتشو بيتشو
زحف ثلاثة رجال على أيديهم وركبهم صاعدين منحدرًا زلقًا وشديد الانحدار في البيرو. كان ذلك صبيحة الرابع والعشرين من يوليو عام 1911. كان "هيرام بينغهام" الثالث، وهو أستاذ مساعد لمادة تاريخ أميركا اللاتينية لدى "جامعة ييل"، في الخامسة والثلاثين من عمره، قد انطلق في الرذاذ البارد من مخيّم بعثته الواقع على نهر "أوروبامبا" مع مرافقين بيروفيّين لاستقصاء آثار أُبلغ عنها على سفح جبل شامخ يُعرف باسم "ماتشو بيتشو" (أي "الجبل القديم" بالكيتشوا، لغة الإنكا). وشق هؤلاء المستكشفون طريقهم في الأدغال الكثيفة بتقطيع النباتات من أمامهم، واجتازوا وهم يزحفون جسرًا (إنْ صحّت تسميته بجسر) من الأخشاب الرفيعة التي رُبطت ببعضها بعضًا باستعمال نباتات متعرّشة، وتحرّكوا ببطء وحذر بين الشجيرات الدنيا التي تخفي أفاعي "السِّنان" الخبيثة.
بعد مضي ساعتين على بدء سيرهم الجبلي، وعلى ارتفاع 600 متر عن قاع الوادي، التقى المتسلّقون مزارعَين كانا قد انتقلا إلى منطقة أعلى في الجبل لتفادي جامعي الضرائب. وأكّد الرجلان للمستكشف بينغهام، الذي كان قد ازداد شكًّا في الموضوع، أن الآثار التي تناولتها الشائعات تقع قريبًا منهم وأرسلا شابًا معهم ليرشدهم إليها.
وعندما وصل بينغهام أخيرًا إلى الموقع، وقف مشدوهًا برؤية المنظر الذي أمامه. إذ برزت من الشجيرات الملتفّة متاهة من المصاطب المنحوتة في المنحدرات وجدرانًا مبنية بلا مِلاط من حجارة متطابقة ومتلاصقة بشدة إلى درجة لا يمكن فيها حشر شفرة سكّين بينها. وغدا الموقع أحد أعظم الكنوز الأثرية في القرن العشرين: إذ كان مدينة مهجورة للإنكا محفوظة على حالها، مخفية عن العالم الخارجي منذ زهاء 400 عام. وقد كتب بينغهام فيما بعد تعليقًا على ذلك يقول: "بدا لي الوضع كما لو أنه حلم لا يصدَّق". واعترف بينغهام أنه لم يكن أول من اكتشف "ماتشو بيتشو". إذ كان السكان المحليون يعرفون بوجودها، بل وكان مستأجِرٌ بيروفي لأرض زراعية -يدعى "أوغستين ليساراغا"- قد نقش اسمه على أحد جدرانها قبل نحو عقد من ذلك. ولكن ما فعله بينغهام حقًّا هو أنه لفت انتباه العالم إلى هذا المعقل الواقع في قمة جبل، وذلك بأن ملأ تقريره عن عمله هناك ولدى مواقع أخرى صفحات عدد أبريل لعام 1913 من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" الأميركية.
كما أن بينغهام كان أول من درس ماتشو بيتشو دراسة علمية. فبدعم من "جامعة ييل" و"الجمعية الجغرافية الوطنية"، عاد مرتين إلى الموقع. وأزالت فرقه النباتات التي كانت قد غزت القمة، وشحنت آلافًا من اللُّقى إلى "متحف بيبودي للتاريخ الطبيعي" في جامعة ييل (والتي أعيدت إلى البيرو عام 2012) ورسمت خرائط للآثار والتقطت صورًا لها. وكان من شأن آلاف الصور التي التقطها الرجل أن تغيَّر علم الآثار إلى الأبد، فقد أظهرت قدرة الصور على شرعنة هذا العلم والترويج له.
أعاجيب كشفها ذوبان الجليد
إن موقع "نوناليك" الأثري الواقع على الساحل الجنوبي الغربي من ألاسكا يحفظ لحظة حاسمة متجمّدة عبر الزمن؛ وهذه القطعة المربعة الموحلة من الأرض مليئة بكل الأشياء التي كان شعب يوبيك الأصلي يستعملها للبقاء حيًا والاحتفال بالحياة هنا، وكل شيء هنا تُرك على حاله كما كان موضوعًا عندما وقع القوم ضحية هجوم قاتل قبل نحو أربعة قرون. وكما يحدث في كثير من الأحيان، فإن مصائب قوم من الزمن الغابر عند علماء الآثار فوائد. فقد استعاد الباحثون أكثر من 100 ألف لُقية أثرية لدى "نوناليك"، بدءًا من أدوات الطعام التقليدية وانتهاءً بأشياء استثنائية مثل أقنعة شعائرية خشبية وإبر وشمٍ مصنوعة من العاج، وقطع من زوارق الكاياك المفصّلة بإتقان، وحزام من أسنان أيائل الرنة. وقد حُفظت هذه الأشياء حفظًا مذهلًا، نظرًا لكونها بقيت مجمّدة في التراب منذ عام 1660.
أما اليوم، والتغيّر المناخي يدّك المناطق القطبية للأرض، فإن النتيجة هي خسارة كارثية للُقًى من ثقافات تعود إلى عصور ما قبل التاريخ ولا يُعرف عنها الكثير -كحال تلك التي في "نوناليك"- موجودة على طول سواحل ألاسكا وما بعدها. ويكشف الذوبان واسع النطاق مخلَّفات لشعوب وحضارات من الماضي على امتداد المناطق الشمالية من الكوكب؛ ابتداءً من أقواس ونبال من العصر الحجري الجديد في سويسرا، إلى عصيّ المشي من زمن الفايكينغ في النرويج، والأضرحة المؤثّثة بسخاء للسكوثيّين الرُّحَّل في سيبيريا. وفي المناطق الساحلية من ألاسكا، تهدد المواقعَ الأثرية ضربتان متتاليتان: الأولى من درجات الحرارة الآخذة في الارتفاع، والأخرى من مستوى البحر الآخذ في الارتفاع هو الآخر. وعندما بدأ علماء الآثار التنقيب في "نوناليك" عام 2009، وصلوا إلى التربة المتجمّدة على عمق 46 سنتيمترًا تحت سطح التندرا. أما اليوم، فقد زال التجمّد عن التراب حتى عمق متر واحد، وهذا يعني خروج لُقًى أثرية صُنعت بإتقان من قرون الرنة والخشب المجروف والعظم وعاج حيوان الفظ من الجمود الشديد الذي حفظها على أكمل حال. وفي حال لم تُنقَذ هذه الأشياء، فستأخذ فورًا في التعفّن والتفتّت. وقد ارتفع المستوى العالمي لمياه المحيطات ما بين 20 و 23 سنتيمترًا منذ عام 1900. ويمثل ذلك تهديدًا مباشرا للمواقع الساحلية مثل "نوناليك" التي أصبحت معرّضة أكثر بمقدار الضعف لضرر الأمواج، إذ إن زوال التجمّد عن التربة الصقيعية قد جعل الأرض تغور. يقول "ريك كنيشت"، قائد فريق علماء الآثار: "يكفي إعصار شتوي قوي واحد لنفقد الموقع تمامًا". عندما أخذت لُقًى خشبية ترتمي على الشاطئ محمولة بأمواج البحر، ساعد زعيم المجتمع المحلي، "وارن جونز"، على إقناع مجلس إدارة القرية بأن التنقيب في "نوناليك" فكرة صائبة. وتطوّرت تلك المناقشات لتتحوّل إلى عملية تعاون فريدة، عمل فيها أفراد المجتمع المحلي وعلماء الآثار ضمن شراكة. واليوم يفد أفراد من شعب يوبيك بمركبات صالحة لجميع التضاريس (ATVs) إلى الموقع ليتعلموا المزيد عن تراثهم ويلمسوا اللُّقى. وهناك وُرَش لدى مركز جديد للثقافة والآثار تحتفل بثقافة يوبيك قديمًا وحديثًا. ويفتخر جونز بهذه الشراكة ويتطلّع إلى مزيد من الاكتشافات لدى الموقع. يقول الرجل: "أريد لأولادنا الذين يدرسون في الكليات اليوم أن يديروا المركز وأن يفتخروا بأنه مركزنا".
العثور على تايتانيك
في الساعة 2:20 بعد منتصف الليل من يوم 15 أبريل عام 1912، اختفت سفينة "آر. إم. إس. تايتانيك" المكنّاة بِـ "عصية على الغرق" تحت الأمواج، مغرقةً معها 1500 من ركّابها. ولكنْ، ما الذي يجعل لهذه المأساة تلك الجاذبية لخيالنا بعد مضيّ أكثر من 100 عام؟ يتمثل جوهر جاذبية تايتانيك في شدّة المواصفات والظروف المتعلقة بنهايتها. فطالما كانت هذه قصةَ منتهَيات: قصة سفينة بمنتهى القوة والعظمة تغرق في مياه بمنتهى البرودة والعمق. وقد حُسم مصير السفينة في رحلتها الأولى من مدينة ساوثهامبتون الإنجليزية إلى مدينة نيويورك الأميركية. ففي الساعة 11:40 ليلًا، اصطدمت من الجانب بجبل جليدي في الجزء الشمالي من المحيط الأطلسي، فالـتَــوَت نتيجةً لذلك أجزاء من ميمنة جسمها على مرّ 90 مترًا وتعرّضت الحُجرات الستّ الأمامية لمياه المحيط. فكان الغرق منذ تلك اللحظة مصيرًا محتومًا.
وعلى مرّ عقود من الزمن، سعت بعثات إلى العثور على تايتانيك بلا فائدة. وما زاد المشكلة تعقيدًا أجواء الأطلسي التي لا يمكن التنبّؤ بها، والعمق السحيق الذي تقع عليه السفينة الغارقة (3800 متر)، والإفادات المتضاربة عن اللحظات الأخيرة للسفينة. ولكن، وبعد 73 سنة على غرقها، عثر مستكشف ناشيونال جيوغرافيك، "روبرت بالارد"، والعالم الفرنسي، "جون-لوي ميشيل"، على المثوى الأخير لتايتانيك، في الأول من سبتمبر عام 1985. وكانت السفينة في المياه الدولية على بعد يقارب 610 كيلومترات عن جزيرة نيوفاوندلاند الكندية. وفي الآونة الأخيرة، كشفت معلومات رُفعت عنها السريّة بأن الاكتشاف نشأ عن تحقيق سري أجرته البحرية الأميركية في غوّاصتين نوويّتين أميركيّتين محطّمتين، هما "يو.إس.إس ثريشر" و"يو.إس.إس سكوربيون". إذ كانت المؤسسة العسكرية تريد معرفة مصير المفاعلين النوويّين اللّذَين شغّلا الغوّاصتين، ورؤية ما إنْ كان هناك أي دليل يدعم نظرية أن السوفييت كانوا هم من أغرقوا الغواصة "سكوربيون" (وبالمناسبة، لم يظهر أي دليل على ذلك).
وكان بالارد قد التقى مسؤولين في البحرية الأميركية عام 1982 لطلب تمويل لتطوير تقنيات لمركبات روبوتية غاطسة احتاج إليها للعثور على تايتانيك. وأبدت البحرية اهتمامًا بالموضوع، ولكن بغرض جمع المعلومات الاستخبارية التي تريدها هي. فاشترطت على بالارد -إنْ كانت هناك بقية من وقت- أن يستكمل معاينة الغواصة قبل أن يفعل ما يرغب فيه. ونتيجة لذلك لم يستطع أن يبدأ البحث عن تايتانيك إلا عندما تبقّى له أقل من أسبوعين على انتهاء مهمته. وبعدها، التقطت كاميرات الفيديو فجأة، في إحدى الليالي عند الساعة 1:05 بعد منتصف الليل، صورة أحد سخّانات السفينة. وكتب بالارد معبّرًا عن لحظة الاكتشاف تلك: "لا أصدق عينَيّ!".
وطوال الأعوام التي تلت بعثة بالارد، عملت التفاعلات العضوية بلا هوادة على تفكيك تايتانيك: إذ التهمت الرخويات خشب السفينة، في حين أكلت الجراثيم أجزاءها المعدنية المكشوفة، مشَكلةً كتلًا من الصدأ شبيهة بالكتل الجليدية المتدلّية. وقد أخذ جسم السفينة ينهار ساحبًا معه قاعات المناسبات. وبعد عملية غوص مأهولة بمركبة غاطسة عام 2019، قال "باركس ستيفنسون"، خبير تاريخ سفينة تايتانيك: "من بين جميع المناطق المهترئة، كان مشهد مهجع الضباط، الذي ضم مهجع القبطان، الأشد صدمة لنا". وباستعمال أجهزة فائقة التطور، التقط الفريق صورًا للحطام يمكن استعمالها لإنشاء نماذج مجسّمة تساعد الباحثين على متابعة دراسة ماضي السفينة ومستقبلها.
ولكنْ، كم ستظل تايتانيك سليمة؟ عن ذلك أجابني "بيل لانغ"، اختصاصي البحث لدى "معهد وودز هول لعلوم المحيطات"، قائلًا: "لكلٍّ رأيُه في الموضوع؛ فبعض الناس يعتقد أن جؤجؤ السفينة (مقدّمتها) سينهار في سنة أو اثنتين. فيما يقول آخرون إنه سيظل على حاله مئات السنين".
وبصرف النظر عن مدى طول بقاء حطام السفينة، فما لا شك فيه أن قصتها ستظل حيّة. فهي قصة سفينة حملت في اسمها شموخًا زائدًا، أبحرت بسرعة نحو العالم الجديد وإذْ بها تُخدَشُ خدشًا مميتًا بجسم عتيق وبطيء: الجليد.
100 أعجـوبة أثرية
إن تاريخ التنقيب عن الكنوز قديمٌ قِدَم أول عملية نهـب لقبر. ولقد كان الدافع للكشف عن ثروات مدفونة الشُّغلَ الشاغل لعدد لا يُحصى من الباحثين، فجعل قلّةً قليلة منهم أثرياء، فيما دفع آخرين إلى حافة الجنون. كتبت الرحّالة البريطانية، "ماري إليزا روجرز"، بعد زيارتها فلسطين في أواسط القرن التاسع عشر: "هناك رجال يمضون كل حياتهم إلا قليلًا في البحث عن كنوز دفينة. بعضهم يصبح معتوهًا، ويهجر عائلته، ويتوهم أنه ثري مع أنه في كثير من الأحيان شديد الفقر إلى درجة أنه يتدبّر حياته بالتسوّل من بيت إلى بيت ومن قرية إلى قرية". ولكن، لم يكن جميع صيّادي الثروات الذين التقَتهم روجرز متسوّلين بائسين. فقد التقت كذلك من وُصفوا بالسَّحَرة -على أن وصْفَهم بِـ "مستحضري الأرواح" أكثر دقة- وقالت إنه "يُعتقد أن لديهم القدرة على رؤية أشياء مخبّأة تحت الأرض". وكان هؤلاء العرّافون المبجَّلون -وغالبيتهم نساء- يدخلون في غيبوبة انتشاء قالت روجرز إنها أتاحت لهم وصف أماكن وجود أمتعة نفيسة بتفاصيل دقيقة.
وقد حوّل علم الآثار تلك "الأشياء المخبّأة تحت الأرض" من كنوز بسيطة إلى أدوات فعّالة تتيح لنا أن نلمح الماضي الدفين.
في البداية، لم يكن هذا العلم الوليد الذي ظهر أيام روجرز يختلف كثيرًا عن النهــب التقليـدي، إذ تنــافست القوى الاستعماريـة الأوروبيـة عـلى مــلء خـــزائن العرض الخاصة بها بتماثيل الحضارات العريقة وجواهر من أصقاع نائية. لكن هذا المجال العلمي الجديد فتح الباب كذلك لعهد غير مسبوق من الاكتشافات التي أحدثت ثورةً في فهمنا لتنوّعنا البشري الغني، فضلًا عن إنسانيتنا المشتركة. وإنْ بدا لكم ذلك مبالغة، فلتتخيّلوا عالَمنا بلا علم الآثار؛ بلا مدينة بومبي الرومانية المترفة؛ بلا ذهب التراقيّين المدهش؛ بلا مدن المايا المطلّة على الأدغال الكثيفة. إن لم يكن هناك علم آثار لبقي جيش تيراكوتا الطيني للإمبراطور الصيني الأول مدفونًا تحت التربة الداكنة في حقل ذلك المزارع. ولولا علم الآثار، لكانت معلوماتنا عن حضارات العالم الأبكر قليلة. ولولا حجر رشيد، لظللنا محتارين في معنى الرموز المبهمة التي تغطي جدران القبور والمعابد المصرية القديمة. لولا علم الآثار، لكانت معرفتنا بأول مجتمع حضري يجيد القراءة والكتابة -والذي ازدهر في بلاد ما بين النهرين- معرفةً ضبابية مستقاة من نصوص الكتاب المقدس. ولولاه كذلك، لما كنا قد كشفنا عن أكبر تلك الثقافات المبكرة وأكثرها سكانًا، والتي تجمّعت على طول نهر السند في شبه القارّة الهندية.
ولقد استنطقَ قرنان من التنقيب في ستّ قارّات ماضٍ كان فيما سبق مغمورًا في معظمه. ومن خلال تلك المواقع واللُّقى المستعادة، تمكن أسلافنا الغابرون (الذين لم نعلم بوجود كثير منهم أصلًا) من سرد قصصهم لنا. منذ زمن سحيق يعود إلى عهد آخر ملك بابلي على أقل تقدير، قبل أكثر من 2500 سنة، جمع الحكام والأثرياء القطع الأثرية لينعموا بما تحمله من جمال العصور الغابرة وأمجادها. فقد نقل أباطرة روما ما لا يقل عن ثماني مسلّات مصرية عبر البحر المتوسط ليزيّنوا بها عاصمتهم. وخلال عصر النهضة الأوروبية، وُضع أحد هذه النُّصب الوثنية وسط "ساحة القديس بطرس" في الفاتيكان.
وفي عام 1710، استأجر رجل فرنسي أرستقراطي بعض العمال ليحفروا نفقًا يخترق هركولانيوم، وهي بلدة رومانية قريبة من مدينة بومبي لم يمسسها أحد مُذْ حدث انفجار بركان "فيزوف" القاتل عام 79 للميلاد. وقد أثارت التماثيل الرخامية المكتشفَة هوسًا انتشر على امتداد أوروبا للتنقيب في المواقع الأثرية. أما في "العالم الجديد" فقد أمر الرئيس الأميركي، "توماس جفرسون"، بحفر خنادق في تلة دفن لسكان أميركا الأصليين، لا للبحث عن نفائس في القبور، بل لتخمين مَن كان قد بنى تلال الدفن تلك ولماذا.
بحلول زمن "ماري إليزا روجرز"، كان المنقّبون الأوروبيون ينطلقون من قارّتهم إلى مختلف أنحاء العالم. ولم يكن منهم علماء مكرّسون إلا قلّة قليلة. فقد كانوا في الغالب دبلوماسيّين وضبّاطًا عسكريين وجواسيس ورجال أعمال أثرياء (وكانوا جميعًا رجالًا، مع بعض الاستثناءات القليلة) على صلة وثيقة بالتوسّع الاستعماري. واستغلوا نفوذهم وسلطتهم خارج بلادهم للدراسة والسرقة في آن؛ إذ كانوا يملؤون دفاترهم بالمعلومات ويشحنون المومياوات المصرية والتماثيل الآشورية والطُّنُف الإغريقية إلى متاحفهم الوطنية ومجموعة مقتنياتهم الخاصة.
وإذا انتقلنا سريعًا لِما يسمّى "العشرينيات الهادرة" من القرن الماضي، نرى أن الكنوز المتألقة الأخّاذة التي اكتشفت في قبر الملك المصري "توت" و"قبور أور الملكية" تصدّرت عناوين الصحف وغيّرت مجرى الفن والعَمارة وصناعة الأزياء. ولكن، بحلول ذلك الوقت، كان المثقفون المحترفون قد بدؤوا يستوعبون أن أثمن ما كان يُستخرَج من الخنادق لم يكن يتمثّل في الذهب بل في البيانات المختزنة في الفخّار المكسَّر والعظام المهملة.
وأَوجدت الأساليب الجديدة لتسجيل الطبقات الرقيقة من التربة طرقًا مبتكرة لاستخلاص تفاصيل الحياة اليومية المرتبطة بزمنها. وابتداءً من خمسينيات القرن الماضي، منح اضمحلال النشاط الإشعاعي للمواد العضوية الباحثين أول ساعة يعوَّل عليها لتحديد تاريخ اللُّقى الأثرية.
وفي قرننا هذا، يمارَس علمُ الآثار أكثر في المختبرات مما يمارَس في خنادق التنقيب. فما كان فيما مضى بلا قيمة بديهية (مثل البذور المحترقة، وبراز البشر، والفُضالة العالقة أسفل القدور) أصبح اليوم كنزًا. إذ إن هذه البقايا المتواضعة يمكن أن تكشف لنا بتحليلها، تحليلًا دقيقًا، نوعية الطعام الذي كان يأكله القوم، ومع أي أقوام أخرى كانوا يتاجرون، بل وحتى أين نشؤوا.
لا بل إن التقنيات قد بلغت مرحلة من التطوّر تجعلها قادرة على تحديد تاريخ الرسوم والنقوش الصخرية، متيحةً نظرة متعمقة إلى ثقافات مثل ثقافة سكان أستراليا الأصليين الأوائل، الذين لم يخلّفوا سوى القليل من الأدلة الراسخة على حياتهم بعد زوالهم. وبنفاذ الغوّاصين إلى حطام السفن، بدءًا من سفينة تجارية من العصر البرونزي وانتهاءً بسفينة "تايتانيك" -أسطورة أساطير الكوارث البحرية- فإن البحر لم يعد ذاك العالم الغامض المستغلِق.
أما التطوّر الأوحد الأكثر ثورية خلال العقود الأخيرة فهو قدرتنا على استخراج مواد وراثية من العظام القديمة. فقد منحنتا الأحماض النووية القديمة نظرة من كثب إلى الطريقة التي كان بها أسلافنا يتعاملون مع سلالة "النياندرتال" البشرية. كما أنها أفضت إلى اكتشاف أقاربنا من سلالة "دينيسوفا" الذين فقدناهم منذ زمن بعيد، فضلًا عن الناس شديدي الصغر الذين سكنوا جزيرة فلوريس الإندونيسية.
وتتيح مجموعة كبيرة من المناهج العلمية، بدءًا من الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية وانتهاءً بفلوريّة الأشعة السينيّة، للعلماء سبر المواقع واللُّقى الأثرية من غير أن يحتاجوا إلى وضع مِعوَل في أرض أو اقتطاع عيّنة من لُقية نفيسة لدى متحف؛ ما يعني أننا أقل عرضة لأن نطمس -بالخطأ- بيانات لا نميّزها الآن ولكن قد تستعيدها الأجيال القادمة. مع ذلك، فإن التاريخ البغيض لعلم الآثار ما زال يلقي بظلّه الثقيل على الحاضر. إذ لم يكـن مسعى إعـادة اللُّقى التي استحوذت عليها دول أجنبية ظُلمًا إلى مواطنها الأصلية، بدءًا من "رخاميّات معبد البارثينون" الإغريقي إلى "برونزيّات بِنين"، قد اكتسب زخمًا سياسيًا إلا في العقد الماضي من الزمن. كما أن عزوف الأميركيين والأوروبيين عن تدريب علماء الآثار في الدول الأصلية لهذه الآثار أو عزوفهم عن دعم هؤلاء، كان يعني بالضرورة شحًّا في أعداد الباحثين المحلّيين لمتابعة العمل عندما كانت الإمبراطوريات الاستعمارية تنهار. ومَن يكافح مِن هؤلاء العلماء المحليّين لتحقيق ذلك، كثيرًا ما يجد مسعاه معرقَلًا إما بحربٍ أو نقصٍ في الموارد أو ضغوط إنمائية. أما موقع "مِس عينك" في أفغانستان، وهو أحد المراكز الكبيرة للبوذية في آسيا الوسطى، فما فتئ يتعرّض لتهديد الناهبين والهجمات الصاروخية وخطة حكومية للتعدين في الموقع الذي يتربّع على مخزون ضخم من النحاس. وفي أغسطس 2021 وقع المكان تحت سيطرة "طالبان".
الماضي ليس مصدرا قابلًا للتجديد، وكل موقع تاريخي قديم يُجرَف أو يُنهب هو خسارة عالمية. ومن نافلة القول اليوم إن المجتمعات المحلية الصغيرة هي جزء أساسي مهم للحفاظ على صحة المنظومات البيئية الطبيعية وسلامتها. وكذلك الحال فيما يتعلق بما خلّفه أجدادنا.
وتتجلّى لنا جسامة الدمار الذي لحق ببعض المواقع الأثرية على امتداد الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أكثر عندما ندرك أنه ليس للقرويّين المُعدمين مصلحةٌ تُذكر في حمايتها. وتتمثّل التهديدات لهذا التراث في جماعات محطّمة للأصنام من أمثال تنظيم "القاعدة" وحركة طالبان، وكذلك بائعي اللُّقى الأثرية المنهوبة ومُبتاعيها. كما أن السلام والازدهار يحملان معهما نصيبهما من التهديدات، عندما تؤدي أعمال البناء الجديدة إلى تدمير المخلّفات التاريخية.
ورغم هذه الانتكاسات المرعبة، فهناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن عصرًا ذهبيًا ثانيًا لعلم الآثار قد أظلّنا.. عصرًا جُرِّد في غالبه من مظاهره الاستعمارية وفرضيّاته العنصرية. وهناك سيل من النساء والباحثين المحليّين يبّث الحياة في هذا المجال؛ وفي الوقت نفسه، فإن علماء الآثار (الذين من طبعهم الانزواء) أصبحوا يعملون يدًا بيد مع زملائهم في المجالات الأخرى. فهم يوثّقون التغيّر العالمي الذي حدث عبر العصور بالتعاون مع علماء المناخ، ويتعاونون مع علماء الكيمياء لتقفّي أثر الانتشار القديم لمخدّرات مثل الماريجوانا والأفيون، وينظرون مع علماء الفيزياء في وسائل أدقّ لتأريخ الأشياء.
ومن جهة أخرى، تُظهر مكتـشَـفات جديدة قدرةَ علم الآثار على إعادة صياغة علاقتنا بماضينا. إذ يشير "غوبيكلي تبه" في تركيا -أقدم معبد معروف في العالم، بتاريخ يعود إلى نحو 12 ألف سنة- إلى أن رغبتنا في ممارسة شعائر دينية جماعية ربما كانت قد دفعتنا إلى الاستقرار وزراعة المحاصيل، وليس العكس. كما أن بُناة الأهرام المصرية لم يكونوا أناسًا مستعبَدين بل عمّالًا مهرة يتقاضون أجورًا مناسبة ويشربون جعة جيّدة. ثم إن الحمض النووي القديم يصوّر لنا قصة مشوَّشة ومعقّدة عن رحلة أسلافنا التي قطعوا بها الكوكب.. قصة مشوّشة إلى درجة لا يمكن معها حصرها في حدود ما تمليه النظريات العرقية والأساطير الوطنية.
ولكن قوة علم الآثار تظل متجذّرة في قدرته على تخطّي المعرفة الفكرية للوقت الراهن ومعتقداته. فالكشف عن ذلك الذي طالما كان مخفيًا، يربطنا جوهريًا بأسلافنا الذين قضوا وبادوا. ففي اللحظة التي يزيل فيها منقّبٌ الرواسبَ عن قطعة نقود قديمة أو ينزع بحَذَرٍ الترابَ المتكدّس عن وجهٍ بادي المعالم لتمثال نذْريّ، تُطوى المسافات التي تفصلنا عنه زمنيًا وثقافيا ولغويا ودينيا.
وحتى لو كنا ببساطة ننظر عبر زجاج علبة عرض في متحف أو نتأمل صفحات مجلة، فإننا نجد أنفسنا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالشخص الذي شكّل جرّة، أو اتخذ دبوسًا متألّقًا للزينة، أو حمل سيفه المشغول إلى المعركة. ثم إن الشعور الذي يعترينا عند رؤية آثار أقدام تعود إلى 3.7 مليون سنة في يومٍ ماطر في أراضي تنزانيا المعشوشبة، هو شعورٌ قوي لا يُنسى؛ إذ إننا نشعر وكأننا نَحضُر فجر خلقنا نحن.
إن مَهمة علماء الآثار لا تتمثّل في الكشف عن الكنوز الدفينة، بل في إعادة إحياء الموتى الذين فارقونا منذ زمن بعيد، ليعودوا كما كانوا.. أشخاصًا كحالنا.. أشخاصًا ناضلوا وعشقوا، وصنعوا ودمّروا؛ وفي المحصّلة خلّفوا لنا شيئًا من أنفسهم.
فنّانو العصر الجليدي
في عصر يومٍ من أيام سبتمبر عام 1940، شقّ أربعة شبّان طريقهم عبر أحراج تلة تطل على بلدة مونتينياك الواقعة جنوب غرب فرنسا. كانوا قد جاؤوا لاستكشاف حفرة عميقة مظلمة يُشاع أنها ممر جوفي يفضي إلى ضيعة "لاسو" القريبة. وبإقحام أنفسهم فيها الواحد تلو الآخر عبر مدخلها الضيق، ما لبثوا أن رأوا رسومات واقعية رائعة لخيول تجري، وأيائل تسبح، وثور بيسون جريح، وكائنات أخرى.. أعمال فنية قد تعود إلى 20 ألف سنة خلت.
ومجموعة الرسومات هذه في لاسو هي من بين الرسومات الموزّعة على ما يقارب 150 موقعًا من عصور ما قبل التاريخ، وتحديدًا من العصر الحجري القديم، الموثّقة في "وادي فيريز" في فرنسا. ويبدو أن هذا الركن من جنوب غرب أوروبا كان بؤرة للفن التشخيصي. أما أكبر اكتشاف منذ اكتشاف لاسو فحدث في ديسمبر من عام 1994، عندما وقعت أنظار ثلاثة روّاد كهوف على أعمال فنية لم ترها عيون بشر مُذْ سدَّ انهيارٌ صخري مغارةً في جنوب فرنسا قبل 22 ألف سنة. في هذا المكان، وعلى ضوء النار المرتعش، رسم فنّانون من عصور ما قبل التاريخ صورًا جانبية لأسود كهوف، وقطعان من الكركدّنات وفيلة الماموث، وثور بيسون مهيب، وخيول، وثيران أُرخُص، ودببة كهوف. وبالإجمال، صوّر هؤلاء الفنانون 442 حيوانًا، ربما على مرّ آلاف السنين، مستعملين نحو 37 ألف متر من جدران الكهف خلفيّةً للوحاتهم الفنية. وهذا الموقع الذي أضحى يُعرف باسم "كهف شوفيه بون دارك"، يُعَـدّ أحيانًا "كنيسة سيستينا" (في الفاتيكان) لعصور ما قبل التاريخ.
وقد طرح الباحثون على مرّ عقود نظريةً مفادها أن الفن كان قد تقدّم على مراحل بطيئة من خربشات بدائية إلى تصاوير واقعية مفعمة بالحياة. فلا شكّ إذن في أن التظليل الخفيف والخطوط الأنيقة لروائع شوفيه الفنية جعلاها تتويجًا لهذا التسلسل، أليس كذلك؟ لكن نتائج تأريخ الرسومات بالكربون المشع وصلت، وعندها أصيب علماء ما قبل التاريخ بالصدمة؛ إذ تبيّن أن رسومات شوفيه تعود إلى ما قبل 36 ألف سنة تقريبًا، أي أن عمرها يقارب ضِعف عمر تلك التي في لاسو. وبالتالي فإنها لم تمثّل حينها أوج تطوّر فن ما قبل التاريخ بل أقدم أمثلته المعروفة على الإطلاق.
وما زال البحث جاريًا عن أقدم رسومات كهوف في العالم. فعلى جزيرة "سولاويزي" الإندونيسية مثلًا عثر العلماء على حجرة رسومات لكائنات نصفها بشري ونصفها الآخر حيواني يقدّر عمرها بـ 44 ألف سنة، أي أنها أقدم من الفن التشخيصي الذي اكتُشف في أوروبا.
ولم يهتدِ الباحثون إلى معرفة ما إن كان الفن قد اخترعته شعوب مختلفة في مراحل مختلفة من التاريخ أم أنه مهارة طُوّرت في مرحلة باكرة من تطوّرنا. لكننا نعلم يقينًا أن التعبير الفني متأصّلٌ فينا منذ فجر أسلافنا الأوائل.
رجل الجليد "أوتزي"
في عام 1991، اكتشف بعض المتنزهين في أعالي الجبال على حدود إيطاليا مع النمسا جثة محنّطة بارزة من نهر جليدي. وما كان ليخطر على بالهم حينها أن "رجل الجليد" هذا كان قد عبر الزمان واصلًا إلينا من العصر النحاسي. وبالفعل، كشف مزيد من التحقيق أن رجل الجليد "أوتزي" هذا الذي يبلغ من العمر 5300 سنة (والذي أُطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى وادي "أوتزتال" القريب من موقع وفاته) هو أقدم إنسان يُكتشف محفوظًا على حاله على الإطلاق. وتعليقًا على ذلك، كتب متسلّق الجبال والكاتب، "ديفيد روبرتس": "لم يأسر آخر رجل من الماضي البعيد مخيّلة العالم مُذْ فتْح "هاورد كارتر" قبرَ الملك "توت عنخ آمون" في مطلع عشرينيّات القرن العشرين".
وعلى مَرّ العقود الثلاثة التي تلت ذلك، استعمل العلماء مجموعة متنوعة من الأدوات رفيعة التقنية، ومنها تقنيّتا التنظير الداخلي المجسّم وتحليل الحمض النووي، لفحص رجل الجليد وتنقيح سيرة حياته بتفاصيل مذهلة. فتحوّل ما كان في البداية قصة صيّاد منفرد من العصر الحجري الحديث قضت عليه عوامل الطبيعة إلى لغز جريمة قتل مشوّق. وقد تبيّن أن الرجل كان في أواسط الأربعينات من عمره، أي أنه كان مسنًّا بعض الشيء بمعايير زمانه. وكان يشكو مفاصل متآكلة، وشرايين متصلّبة، وحصوات صفراوية، ومرحلةً متقدمة من مرض في اللثة، وتسوّس الأسنان. وصحيحٌ أن هذه العوامل الصحية كانت قد قضّت مضجعه، لكنها لم تكن ما قتله.
ففي عام 2001، التقط خبيرُ أشعة صورةً شعاعية لصدر "أوتزي" ورصد رأس سهم حجري، أصغر من الدرهم، محشورًا تحت لوح كتفه اليسرى. وأصبح الدليل الجنائي أكثر إثارة للفضول عام 2005 عندما أظهرت تقنية جديدة لـ "المسح بالتصوير الطبقي المُحَوْسَب" أن رأس السهم -المصنوع غالبًا من الصوّان- كان قد ألحق جرحًا بليغًا بطول سنتيمتر وربع سنتيمتر في الشريان الأيسر تحت الترقوة. ومن شأن جرح خطِر كهذا أن يتسبّب في وفاةٍ شبه فورية. فكان الاستنتاج أن مهاجمًا، يقع خلف هدفه وأسفل منه، أطلق السهم الذي أصاب كتف "أوتزي" اليسرى. وخلال دقائق، انهار المجني عليه، وفقد وعيه، ونزف حتى الموت.
ومقابل جميع الأجوبة التي عثر عليها العلماء عن رجل الجليد، فما زالت العديد من الأسئلة موجودة. وعلى رأس قائمة تلك الأسئلة: من قتل صيّاد ما قبل التاريخ هذا، ولِمَ قتله؟
الفراعنة السود
في عام 730 قبل الميلاد، توصّل رجل يدعى "بيي" (بعنخي) إلى أن السبيل الوحيد لإنقاذ مصر من نفسها هو غزوها. فالحضارة الرائعة التي بنت الأهرام في الجيزة قد ضلّت طريقها وتمزّقت بفعل أمراء حرب تافهين. وكان "بيي" طوال عقدين يحكم مملكته الخاصة في النوبة، وهي بقعة في إفريقيا يقع معظمها اليوم ضمن السودان. لكنه رأى نفسه الوريث الشرعي للتقاليد التي مارسها الفراعنة العظام.
وبعد حملة عسكرية استمرت عامًا كاملًا، كان كل زعيم في مصر قد استسلم له. ومقابل حفاظه على أرواحهم، قدم الزعماء المهزومون لِـ "بيي" أفضل دُرَرهم، وجعلوه ينتقي أجودَ خيولهم، وأغروه بالصلاة في معابدهم. فلبّى طلبهم بأن أصبح رب مصر العليا والوسطى المبارك.
وعندما توفّي "بيي" بنهاية سنوات حكمه العشر، احترم رعاياه رغباته بدفنه في هرم على الطراز المصري في موقع يُعرف اليوم باسم الكرو. وللعلم، لم يكن أي فرعون قد حصل على دفن من هذا النوع منذ أكثر من 500 عام.
كان "بيي" الأول بين من يُعرفون بالفراعنة السود، وهم الحكّام النوبيّون الذين مثّلوا الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر. وعلى مَرّ 75 عامًا، أعاد هؤلاء الملوك توحيد مصر بعد تمزّقها وأنشؤوا إمبراطورية امتدت من الحدود الجنوبية لمدينة الخرطوم في الوقت الحاضر إلى الشمال بعيدًا حتى البحر المتوسط.
وحتى عهد قريب، كان فصلهم من التاريخ غير مرويّ في معظمه. يقول عالم الآثار السويسري "شارل بونيه": "في المرة الأولى التي حضرت فيها إلى السودان، قال بعض الناس: إنك مجنون! لا تاريخ هناك! فكل التاريخ في مصر!". ولكنه وباحثين معاصرين آخرين يكشفون الآن التاريخ الغني لثقافةٍ طال تجاهلها. فقد اعترف علماء الآثار أن الفراعنة السود لم يظهروا من فراغ، بل انطلقوا من حضارة إفريقية قوية في أرضٍ كان المصريّون يدعونها "كوش" ازدهرت على ضفاف النيل منذ زمن بعيد، لا يقل قِدَمًا عن زمن الأسرة الأولى الحاكمة لمصر قبل نحو 3000 سنة من الميلاد.
ولم يَرُق للمصريين وجود جارة قوية كهذه إلى الجنوب منهم، وبخاصة أنهم اعتمدوا على مناجم الذهب في النوبة لتمويل سيطرتهم على غرب آسيا. لذا أرسل فراعنة من الأسرة الثامنة عشرة الحاكمة (1539 إلى 1292 ق.م) جيوشًا لفتح النوبة وأقاموا ثكنات على طول النيل. وبعد إخضاع النوبيّين، أخذت نخبتهم تتبنّى عادات مصر الثقافية والروحية، فبجّلوا آلهة المصريّين، واستعملوا لغتهم، وتبنّوا أساليبهم في الدفن.
ويمكن القول إن النوبيّين كانوا أول شعب يُصاب بما يدعى "الهوس بالحضارة المصرية". فقبل أن تطأ أقدامهم أرض مصر، كانوا قد حفظوا التقاليد المصرية وأعادوا إحياء الهرم (الذي كان حينها نُصبًا لدفن الموتى تخلّى عنه المصريّون منذ قرون)
ليكون ضريحهم الملكي. وبتعبير عالم الآثار "تيموثي كيندال"، كان النوبيّون قد "أصبحوا أكثر كاثوليكيةً من البابا" (أو بمعنى أدق: أكثر مصريةً من المصريّين).
في القرن السابع قبل الميلاد، غزا الآشوريّون مصر من الشمال. عندها انسحب النوبيّون نهائيًا إلى موطنهم، لكنهم مع ذلك استمروا في توسيم أضرحتهم الملكية بالأهرام، ناثرين على مواقع مثل "الكرو" و"نوري" و"مروي" الصروح ذات الجوانب شديدة الانحدار التي ميّزت ترجمتهم للأهرام المصرية. وكحال معلّميهم، فقد ملأ ملوك "كوش" حُجرات الدفن الخاصة بهم بالكنوز وزيّنوها بصور لحياة غنية في الآخرة.
ولم يكن يُعرف عن هؤلاء الملوك إلا نزر يسير، إلى أن وصل عالم الآثار المصرية وخرّيج "جامعة هارفارد"، "جورج رايزنر"، إلى السودان في مطلع القرن العشرين. رصد رايزنر مواقع أضرحة خمسة فراعنة نوبيّين لمصر وأضرحة العديد من خلفائهم. وكان الفضل لهذه الاكتشافات -والتحقيقات التي تلت ذلك- أن انتُشلت من غياهب المجهول أولُ حضارة متقدّمة في المناطق الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى.
ملكوت مَلك المايا
في نفق يقع 15 مترًا أسفل السهول العشبية في كوبان، وهي مدينة قديمة تعود إلى حضارة المايا وتوجد في ما أصبح اليوم دولة هندوراس، نظرَ عالم الآثار "جورج ستيوارت"، الموظف لدى ناشيونال جيوغرافيك، من فتحة في جدار من التربة والحجارة. وهناك في مكان حارّ خانق مهدد بالزلزال، رأى هيكلًا عظميًا على بلاطة حجرية ضخمة. كان زملاء ستيوارت من علماء الآثار قد اكتشفوا مدفنًا ملكيًا؛ وأغلب الظن أنه للملك "كإنيتش ياكس كؤوك مو"، أو ما ترجمتُه "طائر ماكاو الكويتزال الأخضر شمسيّ العينين". كان الملك المؤلّه هذا، الذي ظهر اسمه في العديد من النصوص الهيروغليفية للموقع، هو مؤسس السلالة الحاكمة التي حافظت على سلطة مملكة المايا الممتدة على أطراف وادٍ، ما يقرب من 400 سنة.
كان ذلك الاكتشاف المهم قد حدث عام 1989، لكن الباحثين في حضارة المايا كانوا يعرفون أهمية كوبان منذ وقت طويل. فاعتمادًا على أكثر من 100 سنة من البحث، ظلوا يعلمون أن المباني المهدّمة بجانب نهر "كوبان" كانت تمثّل العاصمة السياسية والدينية لمملكة مهمة قبل انهيارها منذ أكثر من ألف سنة. وقد أدرك المحققون في مرحلة باكرة أن ذلك القسم المعروف حاليًا باسم "الأكروبوليس" (وهو منطقة شبه مستطيلة تعلو النهر بمسافة كبيرة) لم يكن يشكّل موضع أروع المباني والمنحوتات فحسب، بل وكذلك مقر السلطة الحاكمة خلال أوج المرحلة الكلاسيكية للمايا، بين عامي 400 و 850 م.
وقد زعم حكّام كوبان أن نسبهم يعود إلى الشمس وحكموا بهذا الحق. وترأّسوا مملكةً برعيّةٍ تضم نحو 20 ألف فرد، تنوّعوا بين فلّاحين عاشوا في مساكن مسقوفة بالقش ومحمولة على أعمدة، والنخبة التي سكنت قصورًا على مقربة من "الأكروبوليس". وإذ حفر علماء الآثار نفقًا في "الأكروبوليس"، وقعوا على أعقد ضريح بناءً وتأثيثًا اكتشفوه في الموقع. فقد وجدوا رفات امرأة نبيلة على مستطيل حجري سميك. كانت مكسيّة بسخاء ومزيّنة بتشكيلة من أندر تشكيلات يَشْم المايا التي عُثر عليها. ووفق ما يعتقده علماء الآثار، يرجّح أنها كانت زوجة مؤسس الدولة؛ الملكة الأم للحكّام الخمسة عشر التالين في سلالة كوبان.
وباكتشاف ضريح الملكة، ما لبث أن اتضح أن "الأكروبوليس" شكّل ما قد يصحّ تسميته بمحور للعالم.. وعمليًا كومة من المدافن والأبنية المقدّسة بوجود شخص ذي سلطة تكاد تفوق الخيال في عيون سكان كوبان. وانطلاقًا من أن جميع الدلالات أشارت إلى الملك "كإنيتش ياكس كؤوك مو"، فقد بدا أن مثواه الأخير لم يكن عن ذلك المكان ببعيد. وهو ما دفع علماء الآثار المتشوّقين إلى الحفر أعمق في المجمّع.
وأخيرًا، وخلف واجهة من أقنعة لإله الشمس مثبتة على منصّة، اكتشفوا هيكلًا يعتقدون أنه لمؤسس الدولة نفسه. كان عمر الملك لا يقل عن 50 سنة، وكانت لاثنتين من أسنانه حشواتٌ من اليَشْم، وانتقل إلى عالم الآخرة بساعد أيمن مكسور. كما كانت هناك علامات على وجود جروح أخرى، ربما أصيب بها خلال معارك أو كانت نتيجة ممارسته لعبة الكرة الشعائرية الخشنة لدى المايا.
وتشير التحقيقات المستمرة إلى أن السلطة التي استُمِـدّت من الملك المؤسس أخذت تتداعى بقبض ملك مدينةٍ دولةٍ (city-state) أخرى على حاكم كوبان الثالث عشر وتقديمه قربانًا للآلهة عام 738. وبحلول عهد الملك "ياكس باساه"، بعد ربع قرن على الواقعة، كانت قوة حكم كوبان قد أصيبت بالعجز عن العودة إلى سابق عهدها. وبعد أن هجر المايا الموقعَ لمصلحة الغابة والنهر، وكان ذلك غالبًا بحلول عام 900، أخذت مبانيه الحجرية تتقوّض. ومع ذلك، فإن أطلال مبانيه المزيّنة ومنحوتاته تجعله من أعظم خزائن الفن والعمارة في الأميركيتين.
مزارات ومناجم بوذية
علــى مسيرة ساعة بالسيّارة على طول "طريق غارديز السريعة" جنوب مدينة كابول، هناك منعطف حاد إلى اليسار باتجاه طريق غير معبّدة. ويستمر هذا الدرب على طول قاع نهر جاف، مجتازًا قرى صغيرة، وحواجز طرق شبه عسكرية، وأبراج حراسة. وعلى مسافة أبعد قليلًا، ينفتح المشهد على وادٍ غير ذي شجر مجعّد بالأخاديد وجدران قديمة مكشوفة.
في عام 2009، بدأ فريق من علماء الآثار الأفغان والدوليين والعمال المحليّين الكشفَ عن آلاف من التماثيل والمخطوطات والنقود والنُّصب المقدّسة البوذية في هذا الموقع الرائع. ونتيجة لذلك، ظهرت إلى النور أديرة وتحصينات بأكملها، يمتد جذور وجودها إلى القرن الثالث للميلاد. وقد كانت عملية التنقيب هذه الأكثر طموحًا في تاريخ أفغانستان، بفارقٍ كبير عن أي عملية تنقيب أخرى.
ولكن مصادفة جيولوجية جعلت هذه الكنوز الثقافية في خطر. فاسم المكان، "مِس عينك"، يعني "بئر النحاس الصغيرة" باللغة المحلية؛ غير أن منجم النحاس هذا ليس بصغير على الإطلاق. فكمية النحاس المدفونة تحت الآثار هي واحدة من أكبر ترسّبات النحاس غير المستغلّة في العالم، إذ تقدَّر بـ 12.5 مليون طن. وفي عام 2007، فاز ائتلاف تجاري صيني بحقوق استخراج الفلزّ بناءً على عقد إيجار مدته 30 عامًا. وقد قدّمت الشركة الصينية عطاءً بقيمة تتجاوز ثلاثة مليارات دولار ووعدت بتوفير البنية التحتية للمنطقة المعزولة المتخلّفة.
وقبل أن تخرج الصفقة مع الجهات الصينية المستفيدة إلى العلن، كانت هناك لُقًى معرّضة سلفًا لأن يقتلعها الناهبون من مكانها تدريجيًا ليخسرها البحث العلمي إلى الأبد. فطالب مؤيّدو التراث الثقافي الأفغاني باستخراج الكنوز وتسجيلها كما ينبغي قبل بدء عملية التعدين من حفرة مكشوفة.
وقد تأجّل هذا المشروع، الذي كان يُتوقّع أن يبدأ بالأصل في عام 2012، بسبب خلافات تعاقدية، وأسعار النحاس المتدنية، وصراع الحكومة الأفغانية ضد "طالبان". أمَا وقد سيطرت هذه الحركة المتشدّدة على البلد، فهناك من يرى أن مستقبل الموقع الأثري قد صار أشدّ غموضًا.
ويقدّم هذا الماضي الذي كشف عنه علماء الآثار نقيضًا صارخًا لعنف الحاضر وفوضاه. فمن القرن الثالث إلى القرن الثامن للميلاد، كان "مِس عينك" مركزًا روحيًا ازدهر في سلام نسبي. ويشكّل ما لا يقل عن سبعة مجمّعات ديريّة بوذية متعددة الطوابق قوسًا حول الموقع، كلٌّ منها محميٌّ بأبراج مراقبة وجدران عالية. وقد أغنى النحاسُ الرهبانَ البوذيين هنا؛ وتشهد الرواسب الضخمة من الخَبَث (وهو المخلّفات المتصلّبة لعمليات الصهر) على أن إنتاج النحاس جرى على نطاق كبير.
ويُعرف الكثير عن روابط البوذية القديمة بالتجارة والبيع، ولكن لا يُعرف إلا القليل عن روابطها بالإنتاج الصناعي. وهنا تكمن أهمية "مِس عينك"؛ إذ قد يملأ يومًا ما الثغرات المعرفية بالمعلومات المهمة، مشيرًا إلى منظومة اقتصادية بوذية أعقد مما كان مفهومًا في السابق.
وسيتطلّب التوصّل إلى فهم للمغزى الكامل لوجود "مِس عينك" عقودًا من البحث. ويبقى أمل علماء الآثار الوحيد هو أن يكون الزمن إلى جانبهم، وأن يحظوا بفرصة لكشف المزيد عن هذا الفصل غير المعروف من الأيام المجيدة للبوذية في أفغانستان.
الإمبراطورية السواحلية
إن مدينة "كِلوة من أبهى المدن وأتقنها عمارة"، هكذا وصفها ابن بطوطة، أحد أعظم الرحّالة في التاريخ. وقد كانت المدينة تصكّ عملتها الخاصة وكانت لديها منازل بتمديدات مياه داخلية. أما سكّانها فكانوا يلبسون ثيابًا من حرير مستورد. وخلال عصرها الذهبي، بين القرنين الثاني عشر والثامن عشر، كانت كِلوة من بين ما يقارب 36 مدينة منتشرة على ما يُعرف لدى الغربيّين باسم "الساحل السواحلي". تلك الموانئ التي امتدت من الصومال إلى موزمبيق حاليًا، تطوّرت إلى مدنٍ دول (city-states) ازدادت ثراءً من تجارة المحيط الهندي؛ وازدهرت بإقبال سفن من جزيرة العرب والهند والصين على مرافئها لشراء البضائع التي أغنت الشعب السواحلي وأثرته.
وقد وجد البحّارة العرب في إفريقيا مرافئ جيدة، وبحرًا غنيًا بالسمك، وأراضي خصبة، وفرصًا للتجارة؛ فبقي كثير منهم فيها وتزوّج نساء محليّات، جالبين معهم العقيدة الإسلامية. وقد نتج عن هذا التفاعل بين اللغة والتقاليد العربية من جهة واللغات والتقاليد الإفريقية من جهة أخرى، ثقافة حضرية وتجارية ينفرد بها هذا الساحل الإفريقي.
ولكن هذه الثقافة كانت في جوهرها إفريقية؛ وهذه حقيقة كان علماء الآثار الأوائل قد أخفقوا في التوصّل إليها. وقد أظهرت عمليات تنقيب لاحقة على طول الساحل فداحة خطئهم. فعلى جزيرة سونغو منارا التنزانية مثلًا وجد علماء الآثار مجتمعًا امتاز بقصرٍ تزيّن جدرانَه النُجود، وبعشرات الأحياء السكنية، وستة مساجد، وأربع مقابر.. وجميعها ضمن سور المدينة.
وانهارت الشبكة التجارية السواحلية بفرض البرتغاليّين أنفسهم عنوةً على المنطقة وإعادة توجيه البضائع إلى البحر المتوسط وأوروبا. ولكن، حتى مع تحوّل المراكز التجارية إلى مناطق معزولة معدومة الأهمية، فقد صمدت الثقافة السواحلية الغنية عبر قرون من الاحتلال الاستعماري. يقول المؤرّخ التنزاني، عبد الشريف: "إن التاريخ السواحلي هو مسيرة من التأقلم والدمج. فقد لا تكون الثقافة السواحلية غدًا كما هي عليه اليوم، ولكنْ لا شيء يبقى على حاله أصلا".
ماتشو بيتشو
زحف ثلاثة رجال على أيديهم وركبهم صاعدين منحدرًا زلقًا وشديد الانحدار في البيرو. كان ذلك صبيحة الرابع والعشرين من يوليو عام 1911. كان "هيرام بينغهام" الثالث، وهو أستاذ مساعد لمادة تاريخ أميركا اللاتينية لدى "جامعة ييل"، في الخامسة والثلاثين من عمره، قد انطلق في الرذاذ البارد من مخيّم بعثته الواقع على نهر "أوروبامبا" مع مرافقين بيروفيّين لاستقصاء آثار أُبلغ عنها على سفح جبل شامخ يُعرف باسم "ماتشو بيتشو" (أي "الجبل القديم" بالكيتشوا، لغة الإنكا). وشق هؤلاء المستكشفون طريقهم في الأدغال الكثيفة بتقطيع النباتات من أمامهم، واجتازوا وهم يزحفون جسرًا (إنْ صحّت تسميته بجسر) من الأخشاب الرفيعة التي رُبطت ببعضها بعضًا باستعمال نباتات متعرّشة، وتحرّكوا ببطء وحذر بين الشجيرات الدنيا التي تخفي أفاعي "السِّنان" الخبيثة.
بعد مضي ساعتين على بدء سيرهم الجبلي، وعلى ارتفاع 600 متر عن قاع الوادي، التقى المتسلّقون مزارعَين كانا قد انتقلا إلى منطقة أعلى في الجبل لتفادي جامعي الضرائب. وأكّد الرجلان للمستكشف بينغهام، الذي كان قد ازداد شكًّا في الموضوع، أن الآثار التي تناولتها الشائعات تقع قريبًا منهم وأرسلا شابًا معهم ليرشدهم إليها.
وعندما وصل بينغهام أخيرًا إلى الموقع، وقف مشدوهًا برؤية المنظر الذي أمامه. إذ برزت من الشجيرات الملتفّة متاهة من المصاطب المنحوتة في المنحدرات وجدرانًا مبنية بلا مِلاط من حجارة متطابقة ومتلاصقة بشدة إلى درجة لا يمكن فيها حشر شفرة سكّين بينها. وغدا الموقع أحد أعظم الكنوز الأثرية في القرن العشرين: إذ كان مدينة مهجورة للإنكا محفوظة على حالها، مخفية عن العالم الخارجي منذ زهاء 400 عام. وقد كتب بينغهام فيما بعد تعليقًا على ذلك يقول: "بدا لي الوضع كما لو أنه حلم لا يصدَّق". واعترف بينغهام أنه لم يكن أول من اكتشف "ماتشو بيتشو". إذ كان السكان المحليون يعرفون بوجودها، بل وكان مستأجِرٌ بيروفي لأرض زراعية -يدعى "أوغستين ليساراغا"- قد نقش اسمه على أحد جدرانها قبل نحو عقد من ذلك. ولكن ما فعله بينغهام حقًّا هو أنه لفت انتباه العالم إلى هذا المعقل الواقع في قمة جبل، وذلك بأن ملأ تقريره عن عمله هناك ولدى مواقع أخرى صفحات عدد أبريل لعام 1913 من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" الأميركية.
كما أن بينغهام كان أول من درس ماتشو بيتشو دراسة علمية. فبدعم من "جامعة ييل" و"الجمعية الجغرافية الوطنية"، عاد مرتين إلى الموقع. وأزالت فرقه النباتات التي كانت قد غزت القمة، وشحنت آلافًا من اللُّقى إلى "متحف بيبودي للتاريخ الطبيعي" في جامعة ييل (والتي أعيدت إلى البيرو عام 2012) ورسمت خرائط للآثار والتقطت صورًا لها. وكان من شأن آلاف الصور التي التقطها الرجل أن تغيَّر علم الآثار إلى الأبد، فقد أظهرت قدرة الصور على شرعنة هذا العلم والترويج له.
أعاجيب كشفها ذوبان الجليد
إن موقع "نوناليك" الأثري الواقع على الساحل الجنوبي الغربي من ألاسكا يحفظ لحظة حاسمة متجمّدة عبر الزمن؛ وهذه القطعة المربعة الموحلة من الأرض مليئة بكل الأشياء التي كان شعب يوبيك الأصلي يستعملها للبقاء حيًا والاحتفال بالحياة هنا، وكل شيء هنا تُرك على حاله كما كان موضوعًا عندما وقع القوم ضحية هجوم قاتل قبل نحو أربعة قرون. وكما يحدث في كثير من الأحيان، فإن مصائب قوم من الزمن الغابر عند علماء الآثار فوائد. فقد استعاد الباحثون أكثر من 100 ألف لُقية أثرية لدى "نوناليك"، بدءًا من أدوات الطعام التقليدية وانتهاءً بأشياء استثنائية مثل أقنعة شعائرية خشبية وإبر وشمٍ مصنوعة من العاج، وقطع من زوارق الكاياك المفصّلة بإتقان، وحزام من أسنان أيائل الرنة. وقد حُفظت هذه الأشياء حفظًا مذهلًا، نظرًا لكونها بقيت مجمّدة في التراب منذ عام 1660.
أما اليوم، والتغيّر المناخي يدّك المناطق القطبية للأرض، فإن النتيجة هي خسارة كارثية للُقًى من ثقافات تعود إلى عصور ما قبل التاريخ ولا يُعرف عنها الكثير -كحال تلك التي في "نوناليك"- موجودة على طول سواحل ألاسكا وما بعدها. ويكشف الذوبان واسع النطاق مخلَّفات لشعوب وحضارات من الماضي على امتداد المناطق الشمالية من الكوكب؛ ابتداءً من أقواس ونبال من العصر الحجري الجديد في سويسرا، إلى عصيّ المشي من زمن الفايكينغ في النرويج، والأضرحة المؤثّثة بسخاء للسكوثيّين الرُّحَّل في سيبيريا. وفي المناطق الساحلية من ألاسكا، تهدد المواقعَ الأثرية ضربتان متتاليتان: الأولى من درجات الحرارة الآخذة في الارتفاع، والأخرى من مستوى البحر الآخذ في الارتفاع هو الآخر. وعندما بدأ علماء الآثار التنقيب في "نوناليك" عام 2009، وصلوا إلى التربة المتجمّدة على عمق 46 سنتيمترًا تحت سطح التندرا. أما اليوم، فقد زال التجمّد عن التراب حتى عمق متر واحد، وهذا يعني خروج لُقًى أثرية صُنعت بإتقان من قرون الرنة والخشب المجروف والعظم وعاج حيوان الفظ من الجمود الشديد الذي حفظها على أكمل حال. وفي حال لم تُنقَذ هذه الأشياء، فستأخذ فورًا في التعفّن والتفتّت. وقد ارتفع المستوى العالمي لمياه المحيطات ما بين 20 و 23 سنتيمترًا منذ عام 1900. ويمثل ذلك تهديدًا مباشرا للمواقع الساحلية مثل "نوناليك" التي أصبحت معرّضة أكثر بمقدار الضعف لضرر الأمواج، إذ إن زوال التجمّد عن التربة الصقيعية قد جعل الأرض تغور. يقول "ريك كنيشت"، قائد فريق علماء الآثار: "يكفي إعصار شتوي قوي واحد لنفقد الموقع تمامًا". عندما أخذت لُقًى خشبية ترتمي على الشاطئ محمولة بأمواج البحر، ساعد زعيم المجتمع المحلي، "وارن جونز"، على إقناع مجلس إدارة القرية بأن التنقيب في "نوناليك" فكرة صائبة. وتطوّرت تلك المناقشات لتتحوّل إلى عملية تعاون فريدة، عمل فيها أفراد المجتمع المحلي وعلماء الآثار ضمن شراكة. واليوم يفد أفراد من شعب يوبيك بمركبات صالحة لجميع التضاريس (ATVs) إلى الموقع ليتعلموا المزيد عن تراثهم ويلمسوا اللُّقى. وهناك وُرَش لدى مركز جديد للثقافة والآثار تحتفل بثقافة يوبيك قديمًا وحديثًا. ويفتخر جونز بهذه الشراكة ويتطلّع إلى مزيد من الاكتشافات لدى الموقع. يقول الرجل: "أريد لأولادنا الذين يدرسون في الكليات اليوم أن يديروا المركز وأن يفتخروا بأنه مركزنا".
العثور على تايتانيك
في الساعة 2:20 بعد منتصف الليل من يوم 15 أبريل عام 1912، اختفت سفينة "آر. إم. إس. تايتانيك" المكنّاة بِـ "عصية على الغرق" تحت الأمواج، مغرقةً معها 1500 من ركّابها. ولكنْ، ما الذي يجعل لهذه المأساة تلك الجاذبية لخيالنا بعد مضيّ أكثر من 100 عام؟ يتمثل جوهر جاذبية تايتانيك في شدّة المواصفات والظروف المتعلقة بنهايتها. فطالما كانت هذه قصةَ منتهَيات: قصة سفينة بمنتهى القوة والعظمة تغرق في مياه بمنتهى البرودة والعمق. وقد حُسم مصير السفينة في رحلتها الأولى من مدينة ساوثهامبتون الإنجليزية إلى مدينة نيويورك الأميركية. ففي الساعة 11:40 ليلًا، اصطدمت من الجانب بجبل جليدي في الجزء الشمالي من المحيط الأطلسي، فالـتَــوَت نتيجةً لذلك أجزاء من ميمنة جسمها على مرّ 90 مترًا وتعرّضت الحُجرات الستّ الأمامية لمياه المحيط. فكان الغرق منذ تلك اللحظة مصيرًا محتومًا.
وعلى مرّ عقود من الزمن، سعت بعثات إلى العثور على تايتانيك بلا فائدة. وما زاد المشكلة تعقيدًا أجواء الأطلسي التي لا يمكن التنبّؤ بها، والعمق السحيق الذي تقع عليه السفينة الغارقة (3800 متر)، والإفادات المتضاربة عن اللحظات الأخيرة للسفينة. ولكن، وبعد 73 سنة على غرقها، عثر مستكشف ناشيونال جيوغرافيك، "روبرت بالارد"، والعالم الفرنسي، "جون-لوي ميشيل"، على المثوى الأخير لتايتانيك، في الأول من سبتمبر عام 1985. وكانت السفينة في المياه الدولية على بعد يقارب 610 كيلومترات عن جزيرة نيوفاوندلاند الكندية. وفي الآونة الأخيرة، كشفت معلومات رُفعت عنها السريّة بأن الاكتشاف نشأ عن تحقيق سري أجرته البحرية الأميركية في غوّاصتين نوويّتين أميركيّتين محطّمتين، هما "يو.إس.إس ثريشر" و"يو.إس.إس سكوربيون". إذ كانت المؤسسة العسكرية تريد معرفة مصير المفاعلين النوويّين اللّذَين شغّلا الغوّاصتين، ورؤية ما إنْ كان هناك أي دليل يدعم نظرية أن السوفييت كانوا هم من أغرقوا الغواصة "سكوربيون" (وبالمناسبة، لم يظهر أي دليل على ذلك).
وكان بالارد قد التقى مسؤولين في البحرية الأميركية عام 1982 لطلب تمويل لتطوير تقنيات لمركبات روبوتية غاطسة احتاج إليها للعثور على تايتانيك. وأبدت البحرية اهتمامًا بالموضوع، ولكن بغرض جمع المعلومات الاستخبارية التي تريدها هي. فاشترطت على بالارد -إنْ كانت هناك بقية من وقت- أن يستكمل معاينة الغواصة قبل أن يفعل ما يرغب فيه. ونتيجة لذلك لم يستطع أن يبدأ البحث عن تايتانيك إلا عندما تبقّى له أقل من أسبوعين على انتهاء مهمته. وبعدها، التقطت كاميرات الفيديو فجأة، في إحدى الليالي عند الساعة 1:05 بعد منتصف الليل، صورة أحد سخّانات السفينة. وكتب بالارد معبّرًا عن لحظة الاكتشاف تلك: "لا أصدق عينَيّ!".
وطوال الأعوام التي تلت بعثة بالارد، عملت التفاعلات العضوية بلا هوادة على تفكيك تايتانيك: إذ التهمت الرخويات خشب السفينة، في حين أكلت الجراثيم أجزاءها المعدنية المكشوفة، مشَكلةً كتلًا من الصدأ شبيهة بالكتل الجليدية المتدلّية. وقد أخذ جسم السفينة ينهار ساحبًا معه قاعات المناسبات. وبعد عملية غوص مأهولة بمركبة غاطسة عام 2019، قال "باركس ستيفنسون"، خبير تاريخ سفينة تايتانيك: "من بين جميع المناطق المهترئة، كان مشهد مهجع الضباط، الذي ضم مهجع القبطان، الأشد صدمة لنا". وباستعمال أجهزة فائقة التطور، التقط الفريق صورًا للحطام يمكن استعمالها لإنشاء نماذج مجسّمة تساعد الباحثين على متابعة دراسة ماضي السفينة ومستقبلها.
ولكنْ، كم ستظل تايتانيك سليمة؟ عن ذلك أجابني "بيل لانغ"، اختصاصي البحث لدى "معهد وودز هول لعلوم المحيطات"، قائلًا: "لكلٍّ رأيُه في الموضوع؛ فبعض الناس يعتقد أن جؤجؤ السفينة (مقدّمتها) سينهار في سنة أو اثنتين. فيما يقول آخرون إنه سيظل على حاله مئات السنين".
وبصرف النظر عن مدى طول بقاء حطام السفينة، فما لا شك فيه أن قصتها ستظل حيّة. فهي قصة سفينة حملت في اسمها شموخًا زائدًا، أبحرت بسرعة نحو العالم الجديد وإذْ بها تُخدَشُ خدشًا مميتًا بجسم عتيق وبطيء: الجليد.