حكايات من الطريق

أمٌّ تتلو عليها الأشعار، وأبٌ يحكي لها قصصًا عن الأسفار، وكتابٌ مصوَّر يداعب مخيلتَها ويشحذ نظرتَها الثاقبة. فمَن ذا يخمّن مهنتها في المستقبل؟

نشأتُ وترعرعتُ على الترحال. كان والدي من وسط مدينة لندن ولكنه كان يحلم بالتوجه إلى الريف والعيش في مقطورة تجرّها الخيول. وهكذا وُلدتُ على الطريق في عام 1981 وأمضيت الأعوام القليلة الأولى من حياتي مسافرةً عبر جنوب إنجلترا مع والدَي وخيولنا. في نهاية المطاف، اشتريا ساحةً في مقاطعة "ديفون".. حيث عشنا في مقطورات. حتى بلوغي من العمر 13 عامًا، لم تكن لدينا مياه جارية أو كهرباء؛ فما بالك بجهاز التلفزيون. لكننا لم نكترث لذلك؛ فلقد كان والدي حكواتيًا عظيمًا، فنشأتُ منغمسةً في حكايات عن رحلاته إلى جميع أنحاء أوروبا وأميركا وآسيا. وكانت أمي تقرأ لي روايات الأطفال وأشعارهم بصوت عالٍ كل ليلة عند النوم. في ذلك الوقت المبكر من حياتي، اعتقدتُ أني ربما أرغب في أن أصبح شاعرةَ حروب عندما أكبر، مثل "سيغفريد ساسون" أو "ويلفريد أوين".
في المدرسة الثانوية، حضرتُ دروسًا في التصوير الفوتوغرافي ووجدت -بمحض المصادفة- كتابًا يحوي صورًا التقطها المصور البريطاني "دون ماك كولين" في حرب فيتنام. كانت صورًا جريئة بالأبيض والأسود لجنود "مارينز" شبان جرحى يقدمون الرعاية لبعضهم بعضًا. كانت هذه الصور مؤثرة للغاية.. ورومانسية أيضًا. كانت توحي بالألفة، إذ ذكّرتني بأشعار الحرب العالمية الأولى التي كنت أعرف. حتى ذلك الحين، لم يكن يخطر ببالي مطلقًا أني يمكن أن أصبح مصورة صحافية، وبطريقة غير واعية، لا بد أني كنت أعتقد أيضا أن تصوير الحرب سيكون أسهل من كتابة قصائد عنها. لذلك أخبرت والدَي أنني أريد أن أصبح مصورة حروب. أبدَت أمي فزعًا شديدًا -لم ترغب بعملي في أماكن خطرة- لكنّ أبي ساندني كثيرًا منذ البداية، معتقدًا أنها ستكون طريقة رائعة أعيش بها حياتي. وهكذا درَست التصوير الوثائقي بالجامعة؛ وفي عام 2003 ذهبت إلى كردستان العراق لتصوير عمَل عن وحَدة نسائية في "البشمركة" كانت تقاتل لمصلحة القوات البريطانية والأميركية. كان أبي قد سافر في ربوع كردستان في أواخر سبعينيات القرن الماضي وروى لي قصصًا مذهلة عن كرم الضيافة الذي حظي به من الغرباء هناك. وبينما كان جميع أفراد عائلتي قلقين بشأن ذهابي في أول رحلة صحافية خارجية لي، أخبرني أبي أنني لن أشعر بالوحدة أو الجوع أبدًا أو أكون بحاجة إلى مكان للإقامة ما دمت في العراق. ولقد كان محقًّا في ذلك.
 كما أقنعَ جدتي بإقراضي مبلغ ألف جنيه نقدًا لغرض الرحلة. وللحفاظ على هذا المبلغ في مأمن، وضعت الأوراق النقدية بقيمة 20 جنيهًا في أكياس بلاستيكية أسفل نعل حذائي. وبعد أن دسستُ مبلغ 500 جنيه في كل فردة من حذائي -وكان مبلغًا ضخمًا في نظري آنذاك- عبرت الحدود من تركيا. كنت في الثانية والعشرين من عمري ولا خبرة لي في الحياة بتاتًا. لم أكن أعرف أنه من المعتاد خلع الحذاء عند ولوج المنازل في الشرق الأوسط. تعلمت ذلك ما إن وصلتُ إلى مدينة "دهوك" واضطررت لترك حذائي المليء بالنقود في الشرفة الأمامية. أقمتُ مع وحَدة صغيرة تراوح قوامها بين عشرين وثلاثين جندية من "البشمركة" في قاعدة للجيش خارج مدينة "السليمانية". عشت هناك بضعة أسابيع، أصور كل جانب من جوانب حياتهن اليومية. لم تكن لدي خبرة كبيرة في إنجاز القصص المصورة، لكني عرفت أن البداية الجيدة ستكون بالتقاط صور لكل شيء، يومًا بعد يوم: الجنديات وهن نائمات، وينظفن أسنانهن في الصباح، ويتدربن، ويحرسن نقاط التفتيش، ويطهين طعام العشاء. لم أكن أعرف ذلك بعدُ حينها، ولكن تلك هي الطريقة التي تُحكى بها قصة حياة شخص ما؛ أي من خلال تفاصيل صغيرة. ومنذ أعوام، وثّقت بكاميرتي لأشخاص مختلفين في أماكن مختلفة وهم يفعلون الشيء نفسه في الغالب. والصورة التي ترونها هنا هي لجندية تُدعى "غاشو جعفر"، عند نقطة التفتيش حيث كانت تؤدي مهمة الحراسة مسلحةً ببندقية "كلاشنيكوف". لم أكن قد شاركت بعمل قَط في أي مسابقة للتصوير الفوتوغرافي حتى تقدمت بهذه الصورة إلى مسابقة نظمتها "الغارديان"، وهي صحيفة مستقلة مقرها في المملكة المتحدة. وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين حصلت على الجائزة الأولى. كان "ديفيد بيلي"، مصور البورتريه الإنجليزي، أحد حكام المسابقة. شبَّه صورتي بالصورة الشهيرة التي التقطها "ألبرتو كوردا" للمناضل الثائر "تشي غيفارا". مُنحتُ 5000 جنيه -أكثر من أي مبلغ حصلت عليه في حياتي- ومنحة من الغارديان للعودة إلى كردستان وتصوير المقاتلات من "حزب العمال الكردستاني". كانت تلك الجائزة أول منعطف كبير لي بصفتي مصورة صحافية. عدت إلى قاعدة البشمركة نفسها في عام 2014، بعد عِقد من الزمن على رحلتي الأولى. وجدت أن "غاشو" قد تقاعدت، لكن العديد من الشابّات اللائي التقيتهن من قبلُ كنّ مازلن هناك. وكُنَّ هذه المرة يقاتلن عدوًا جديدًا يدعى "داعش". في جدول زمني ضيق، لم يكن لدي سوى يومين لتصوير الجنديات وقائدة وحدتهن، العقيد "رانجين يوسف". بعد شهر على تصوير "رانجين"، أصبحت أول امرأة من البشمركة تُقتل في معارك ضد "داعش"، يوم 11 أكتوبر 2014. كنت أرغب منذ الصغر في أن أرى بأم عيني كيف تبدو الحروب. وفي كردستان علمت أن الحرب لم تكن تشبه صور "دون ماك كولين".. وأنها لم تكن مثل قصائد ويلفريد أوين أيضًا. أعتقد أن اهتمامي بنقل وقائع الحروب قد نبع من اعتقاد ساذج بأن سرد القصص عن العنف قد يكون حلًّا للعنف نفسه. عندما كنت طفلة، افترضت أن الحروب كانت تقع لأن لا أحد يعرف عنها؛ وإذا التقط الناس صورًا لوقائعها، فيمكنهم المساعدة في وقفها. وبالطبع، أعرف الآن أن هذا ليس صحيحًا. دائمًا ما اعتقد أبي أنّي سأصبح مصورة صحافية. ولقد دعم مسيرتي المهنية؛ وظل يعرض لأصدقائه بفخر نُسخًا من المجلات التي تنشر أعمالي، حتى وفاته عام 2017. أصبحت أمي في نهاية المطاف معالِجة نفسية ووسيطة تقدم حلولًا لمشكلة العنف. وقد ألهمني عَملُ أمي شحذَ مهاراتي في إنتاج صور للحروب. والآن صرت أكثر إصرارًا على تضمين وجهات نظر النساء. أتجنب الصور النمطية المسيئة التي تقزّم الأشخاص الحقيقيين فتحولهم إلى شخصيات في قصص حروب عالمية. والأهم من ذلك كله، فأنا أركز على التجارب اليومية للأفراد. فحتى في مناطق النزاع، يستمر الناس في العيش.. ما دامت الحياة مستمرة.  j

حكايات من الطريق

أمٌّ تتلو عليها الأشعار، وأبٌ يحكي لها قصصًا عن الأسفار، وكتابٌ مصوَّر يداعب مخيلتَها ويشحذ نظرتَها الثاقبة. فمَن ذا يخمّن مهنتها في المستقبل؟

نشأتُ وترعرعتُ على الترحال. كان والدي من وسط مدينة لندن ولكنه كان يحلم بالتوجه إلى الريف والعيش في مقطورة تجرّها الخيول. وهكذا وُلدتُ على الطريق في عام 1981 وأمضيت الأعوام القليلة الأولى من حياتي مسافرةً عبر جنوب إنجلترا مع والدَي وخيولنا. في نهاية المطاف، اشتريا ساحةً في مقاطعة "ديفون".. حيث عشنا في مقطورات. حتى بلوغي من العمر 13 عامًا، لم تكن لدينا مياه جارية أو كهرباء؛ فما بالك بجهاز التلفزيون. لكننا لم نكترث لذلك؛ فلقد كان والدي حكواتيًا عظيمًا، فنشأتُ منغمسةً في حكايات عن رحلاته إلى جميع أنحاء أوروبا وأميركا وآسيا. وكانت أمي تقرأ لي روايات الأطفال وأشعارهم بصوت عالٍ كل ليلة عند النوم. في ذلك الوقت المبكر من حياتي، اعتقدتُ أني ربما أرغب في أن أصبح شاعرةَ حروب عندما أكبر، مثل "سيغفريد ساسون" أو "ويلفريد أوين".
في المدرسة الثانوية، حضرتُ دروسًا في التصوير الفوتوغرافي ووجدت -بمحض المصادفة- كتابًا يحوي صورًا التقطها المصور البريطاني "دون ماك كولين" في حرب فيتنام. كانت صورًا جريئة بالأبيض والأسود لجنود "مارينز" شبان جرحى يقدمون الرعاية لبعضهم بعضًا. كانت هذه الصور مؤثرة للغاية.. ورومانسية أيضًا. كانت توحي بالألفة، إذ ذكّرتني بأشعار الحرب العالمية الأولى التي كنت أعرف. حتى ذلك الحين، لم يكن يخطر ببالي مطلقًا أني يمكن أن أصبح مصورة صحافية، وبطريقة غير واعية، لا بد أني كنت أعتقد أيضا أن تصوير الحرب سيكون أسهل من كتابة قصائد عنها. لذلك أخبرت والدَي أنني أريد أن أصبح مصورة حروب. أبدَت أمي فزعًا شديدًا -لم ترغب بعملي في أماكن خطرة- لكنّ أبي ساندني كثيرًا منذ البداية، معتقدًا أنها ستكون طريقة رائعة أعيش بها حياتي. وهكذا درَست التصوير الوثائقي بالجامعة؛ وفي عام 2003 ذهبت إلى كردستان العراق لتصوير عمَل عن وحَدة نسائية في "البشمركة" كانت تقاتل لمصلحة القوات البريطانية والأميركية. كان أبي قد سافر في ربوع كردستان في أواخر سبعينيات القرن الماضي وروى لي قصصًا مذهلة عن كرم الضيافة الذي حظي به من الغرباء هناك. وبينما كان جميع أفراد عائلتي قلقين بشأن ذهابي في أول رحلة صحافية خارجية لي، أخبرني أبي أنني لن أشعر بالوحدة أو الجوع أبدًا أو أكون بحاجة إلى مكان للإقامة ما دمت في العراق. ولقد كان محقًّا في ذلك.
 كما أقنعَ جدتي بإقراضي مبلغ ألف جنيه نقدًا لغرض الرحلة. وللحفاظ على هذا المبلغ في مأمن، وضعت الأوراق النقدية بقيمة 20 جنيهًا في أكياس بلاستيكية أسفل نعل حذائي. وبعد أن دسستُ مبلغ 500 جنيه في كل فردة من حذائي -وكان مبلغًا ضخمًا في نظري آنذاك- عبرت الحدود من تركيا. كنت في الثانية والعشرين من عمري ولا خبرة لي في الحياة بتاتًا. لم أكن أعرف أنه من المعتاد خلع الحذاء عند ولوج المنازل في الشرق الأوسط. تعلمت ذلك ما إن وصلتُ إلى مدينة "دهوك" واضطررت لترك حذائي المليء بالنقود في الشرفة الأمامية. أقمتُ مع وحَدة صغيرة تراوح قوامها بين عشرين وثلاثين جندية من "البشمركة" في قاعدة للجيش خارج مدينة "السليمانية". عشت هناك بضعة أسابيع، أصور كل جانب من جوانب حياتهن اليومية. لم تكن لدي خبرة كبيرة في إنجاز القصص المصورة، لكني عرفت أن البداية الجيدة ستكون بالتقاط صور لكل شيء، يومًا بعد يوم: الجنديات وهن نائمات، وينظفن أسنانهن في الصباح، ويتدربن، ويحرسن نقاط التفتيش، ويطهين طعام العشاء. لم أكن أعرف ذلك بعدُ حينها، ولكن تلك هي الطريقة التي تُحكى بها قصة حياة شخص ما؛ أي من خلال تفاصيل صغيرة. ومنذ أعوام، وثّقت بكاميرتي لأشخاص مختلفين في أماكن مختلفة وهم يفعلون الشيء نفسه في الغالب. والصورة التي ترونها هنا هي لجندية تُدعى "غاشو جعفر"، عند نقطة التفتيش حيث كانت تؤدي مهمة الحراسة مسلحةً ببندقية "كلاشنيكوف". لم أكن قد شاركت بعمل قَط في أي مسابقة للتصوير الفوتوغرافي حتى تقدمت بهذه الصورة إلى مسابقة نظمتها "الغارديان"، وهي صحيفة مستقلة مقرها في المملكة المتحدة. وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين حصلت على الجائزة الأولى. كان "ديفيد بيلي"، مصور البورتريه الإنجليزي، أحد حكام المسابقة. شبَّه صورتي بالصورة الشهيرة التي التقطها "ألبرتو كوردا" للمناضل الثائر "تشي غيفارا". مُنحتُ 5000 جنيه -أكثر من أي مبلغ حصلت عليه في حياتي- ومنحة من الغارديان للعودة إلى كردستان وتصوير المقاتلات من "حزب العمال الكردستاني". كانت تلك الجائزة أول منعطف كبير لي بصفتي مصورة صحافية. عدت إلى قاعدة البشمركة نفسها في عام 2014، بعد عِقد من الزمن على رحلتي الأولى. وجدت أن "غاشو" قد تقاعدت، لكن العديد من الشابّات اللائي التقيتهن من قبلُ كنّ مازلن هناك. وكُنَّ هذه المرة يقاتلن عدوًا جديدًا يدعى "داعش". في جدول زمني ضيق، لم يكن لدي سوى يومين لتصوير الجنديات وقائدة وحدتهن، العقيد "رانجين يوسف". بعد شهر على تصوير "رانجين"، أصبحت أول امرأة من البشمركة تُقتل في معارك ضد "داعش"، يوم 11 أكتوبر 2014. كنت أرغب منذ الصغر في أن أرى بأم عيني كيف تبدو الحروب. وفي كردستان علمت أن الحرب لم تكن تشبه صور "دون ماك كولين".. وأنها لم تكن مثل قصائد ويلفريد أوين أيضًا. أعتقد أن اهتمامي بنقل وقائع الحروب قد نبع من اعتقاد ساذج بأن سرد القصص عن العنف قد يكون حلًّا للعنف نفسه. عندما كنت طفلة، افترضت أن الحروب كانت تقع لأن لا أحد يعرف عنها؛ وإذا التقط الناس صورًا لوقائعها، فيمكنهم المساعدة في وقفها. وبالطبع، أعرف الآن أن هذا ليس صحيحًا. دائمًا ما اعتقد أبي أنّي سأصبح مصورة صحافية. ولقد دعم مسيرتي المهنية؛ وظل يعرض لأصدقائه بفخر نُسخًا من المجلات التي تنشر أعمالي، حتى وفاته عام 2017. أصبحت أمي في نهاية المطاف معالِجة نفسية ووسيطة تقدم حلولًا لمشكلة العنف. وقد ألهمني عَملُ أمي شحذَ مهاراتي في إنتاج صور للحروب. والآن صرت أكثر إصرارًا على تضمين وجهات نظر النساء. أتجنب الصور النمطية المسيئة التي تقزّم الأشخاص الحقيقيين فتحولهم إلى شخصيات في قصص حروب عالمية. والأهم من ذلك كله، فأنا أركز على التجارب اليومية للأفراد. فحتى في مناطق النزاع، يستمر الناس في العيش.. ما دامت الحياة مستمرة.  j