نهر باريس الغارق
في ما مضى كان نهرٌ يجري متعرّجًا عبر حي "ليفت بانك" حيث أقطن في باريس. فانطلاقًا من الحد الجنوبي للمدينة، الذي صار الآن "منتزه كيليرمان" في الدائرة الإدارية رقم 13، كان هذا النهر المسمى "بييفر" يغذي بمياهه المطاحنَ والمدابغ قبل التقائه بنهر "السين" عند الدائرة الإدارية رقم 5. ولكن بحلول أوائل القرن العشرين، أصبح نهر بييفر كريه الرائحة وملوثًا إلى حدّ جعل السلطات تطمره تحت الأرض وتحول مياهه إلى المجاري.
على الرغم من أن نهر السين يستحضر الرومانسية، فإن نهر بييفر غير معروف إلى حد كبير لدى ملايين المسافرين الذين يزورون العاصمة الفرنسية كل عام. على أن العديد من الباريسيين لديهم حلم طويل الأمد بإحياء نهر اتخذ -بالنسبة إليهم- مكانة أسطورية. وها هو حلمهم يقترب اليوم من أن يصبح حقيقة. ففي الأعوام الأخيرة، أعيد فتح أجزاء من النهر في ضواحي المنبع، وأطلق مكتب عمدة باريس دراسة جدوى للنظر في الكشف عن امتدادات النهر بالمدينة. ويُجسد إحياءُ بييفر تحولًا أخضر في تخطيط المدينة. إذ يقول "دان ليرت"، نائب العمدة المشرف على التحول البيئي وخطة المناخ والمياه والطاقة في باريس: "هناك زخم جديد لهذا المشروع إذ نواجه أزمة المناخ، وزيادة موجات الحرارة، وتهديد التنوع الحيوي". ويستطرد قائلًا: "لا يمكننا الاستمرار بالطريقة التي اعتدناها في مجال التنمية الحضرية".
تنبجس مياه بييفر في شكل فقاعات من منبعه في "غويانكورت"، على بعد نحو 35 كيلومترًا جنوب غرب باريس. وانطلاقًا من هذا الجدول المليء بالأحجار الكبيرة، يتدفق بييفر بشكل أفعواني عبر الأرض، منسكبًا في البرك التي تغذي النوافير في "قصر فيرساي"، ومرطبًا سلسلة من الضواحي. واليوم صارت 20 كيلومترًا من هذا المسار مكشوفة، وتُحوَّل مياهه إلى محطة معالجة مياه الصرف الصحي على مشارف باريس مباشرة.
وقد ظل بييفر على مرّ التاريخ، يخضع لتحويل مجراه بشكل عميق من قبل البشر. فقد قام الرهبان الأوائل بتوجيهه للري، ونقع الدبّاغةُ فيه جلودَ الحيوانات، وصنع قاطعو الجليد كتلًا من بركه لتزويد المدينة بالجليد. وسرعان ما أدى التنافس على استغلال المياه في هذه المنطقة الإقطاعية القذرة الكادحة إلى صراعات بين المجموعات التجارية: الصباغون ضد الغسّالات، والدبّاغة ضد الجزارين. في القرن الرابع عشر، أمر البرلمان الجزارين بإلقاء أحشاء الحيوانات في بييفر بدلًا من تلويث نهر السين بها، ثم تراجع عن قراره، ولكن ذلك لم يوقف تدفق النفايات. فتحول بييفر إلى بالوعة نتنة.
وكان بييفر على مر السنين يستجمع أيضًا الأساطير.. بعضها معكَّر مثل تياراته. فهناك قصة الحورية "جنتيليا" التي حولتها الإلهة "ديانا" إلى النهر للنجاة من أحد جنود طروادة الذي كان يطاردها بإصرار وشراسة. ثم هناك التنين الذي قيل إنه أرعب الأرض قبل أن ينفيه الأسقف "مارسيل" إلى بييفر في القرن الرابع.
على الرغم من صغر بييفر، فإنه يتمتع بسمعة جبّارة.. طيبة وسيئة في آن. فقد ألهم النهر فنانين وكتاب مثل "فرانسوا رابليه" و"فيكتور هوغو" الذي أشار إليه في رواية "البؤساء". كما أصبح ذات زمن مضى مركز قوة الصناعة الباريسية. إذ كان أكبر سبب في شهرة بييفر هي شركة "مانيفاكتير دي غوبلان"، والتي بدأت نشاطها بأوراش صبغ على ضفاف النهر في القرن الخامس عشر، ثم صارت في وقت لاحق تزود الملوك الفرنسيين بالمفروشات. ووفقًا للحكايات الشعبية، فإن شيئًا مميزًا في مياه بييفر ساعد في نشأة اللون الأحمر النابض بالحياة الذي اشتهرت به تلك الشركة عالميًا.
وازداد الانبهار بنهر بييفر منذ أن تم طمر آخر مساحات مفتوحة منه في باريس عام 1912. "إنه نهر صغير بمعدل تدفق ضعيف، لكنه جذب اهتمامًا كبيرًا من الناحية التاريخية"، كما يقول "آلان كاديو"، خبير المياه ورئيس "اتحاد نهضة بييفر"، وهو تجمّع يضم 30 منظمة غير ربحية. ولكل من هذه المنظمات تركيز مختلف، من تعزيز التراث الثقافي للنهر إلى حماية البيئة.
بعد دراسة مكثفة في عام 2001، قرر "برتراند ديلانوي"، عمدة باريس في ذلك الوقت، أن إعادة تأهيل النهر القديم مكلفة للغاية. لكن المنظمات غير الربحية استمرت في حملتها جنبًا إلى جنب الائتلافات الحكومية في حوض بييفر. ونتج عن ذلك مشروعات إعادة فتح النهر في الضواحي؛ ظلت تُوصف بكونها نصرًا مبينًا.
وكشفت "ضاحية فريسن" النقاب عن منتزه في عام 2003؛ صار اليوم منطقة غابات مورقة على طول بييفر وغنية بالحياة البرية. وفي عام 2016، حذت "ضاحية لاي لي غوز" حذو فريسن، إذ أعادت فتح امتداد 640 مترًا من النهر مع إنشاء مسار للمشي يتتبع الضفاف التي تم تصميمها حديثًا. وستعرض مدينتا "أركوي" و"جنتيلي" -وهما الضاحيتان الجنوبيتان الأقرب لباريس- مشروع إعادة افتتاح مشترك في "منتزه كوتو دي بييفر" في عام 2022.
يقول ليرت: "سيعود بييفر إلى بوابات باريس ويجد نقطة التقائه مرة أخرى مع نهر السين". تؤوي باريس مليوني نسمة، وهي المدينة الأكثر كثافة من السكان في أوروبا، وليس لدى المخططين الحضريين نية لحفر واد أو هدم مبان للكشف عن النهر. لكن بييفر يقع على بعد أمتار قليلة تحت الأرض في المساحات المفتوحة مثل "منتزه سكوير رينيه لو غال". يحتل هذا المنتزه حديقة الخضراوات السابقة لشركة "مانيفاكتير دي غوبلان"، وهو واحد من ثلاثة مواقع تم تحديدها لاحتمال إعادة فتح النهر فيها، جنبًا إلى جنب مع "منتزه كيلرمان" وملحق "متحف التاريخ الطبيعي".
إن إحياء نهر بييفر ليس مجرد وسيلة لتبريد المدينة، ومكافحة الاحتباس الحراري، وإعادة الطبيعة إلى الوسط الحضري. بل إنه كذلك يخلق بيئة معيشية أفضل لقاطني باريس -مثلي- الذين يحلمون بالسير على طريق أخضر بدلًا من الخرسانة، وتقاسم المقبّلات الصيفية مع الجيران على ضفاف النهر التي كان رابليه يجوبها ذات زمن مضى. يقول كاديو: "تدفق بييفر في باريس منذ آلاف السنين. وسيكون من الصواب إعادته سيرته الأولى".
نهر باريس الغارق
في ما مضى كان نهرٌ يجري متعرّجًا عبر حي "ليفت بانك" حيث أقطن في باريس. فانطلاقًا من الحد الجنوبي للمدينة، الذي صار الآن "منتزه كيليرمان" في الدائرة الإدارية رقم 13، كان هذا النهر المسمى "بييفر" يغذي بمياهه المطاحنَ والمدابغ قبل التقائه بنهر "السين" عند الدائرة الإدارية رقم 5. ولكن بحلول أوائل القرن العشرين، أصبح نهر بييفر كريه الرائحة وملوثًا إلى حدّ جعل السلطات تطمره تحت الأرض وتحول مياهه إلى المجاري.
على الرغم من أن نهر السين يستحضر الرومانسية، فإن نهر بييفر غير معروف إلى حد كبير لدى ملايين المسافرين الذين يزورون العاصمة الفرنسية كل عام. على أن العديد من الباريسيين لديهم حلم طويل الأمد بإحياء نهر اتخذ -بالنسبة إليهم- مكانة أسطورية. وها هو حلمهم يقترب اليوم من أن يصبح حقيقة. ففي الأعوام الأخيرة، أعيد فتح أجزاء من النهر في ضواحي المنبع، وأطلق مكتب عمدة باريس دراسة جدوى للنظر في الكشف عن امتدادات النهر بالمدينة. ويُجسد إحياءُ بييفر تحولًا أخضر في تخطيط المدينة. إذ يقول "دان ليرت"، نائب العمدة المشرف على التحول البيئي وخطة المناخ والمياه والطاقة في باريس: "هناك زخم جديد لهذا المشروع إذ نواجه أزمة المناخ، وزيادة موجات الحرارة، وتهديد التنوع الحيوي". ويستطرد قائلًا: "لا يمكننا الاستمرار بالطريقة التي اعتدناها في مجال التنمية الحضرية".
تنبجس مياه بييفر في شكل فقاعات من منبعه في "غويانكورت"، على بعد نحو 35 كيلومترًا جنوب غرب باريس. وانطلاقًا من هذا الجدول المليء بالأحجار الكبيرة، يتدفق بييفر بشكل أفعواني عبر الأرض، منسكبًا في البرك التي تغذي النوافير في "قصر فيرساي"، ومرطبًا سلسلة من الضواحي. واليوم صارت 20 كيلومترًا من هذا المسار مكشوفة، وتُحوَّل مياهه إلى محطة معالجة مياه الصرف الصحي على مشارف باريس مباشرة.
وقد ظل بييفر على مرّ التاريخ، يخضع لتحويل مجراه بشكل عميق من قبل البشر. فقد قام الرهبان الأوائل بتوجيهه للري، ونقع الدبّاغةُ فيه جلودَ الحيوانات، وصنع قاطعو الجليد كتلًا من بركه لتزويد المدينة بالجليد. وسرعان ما أدى التنافس على استغلال المياه في هذه المنطقة الإقطاعية القذرة الكادحة إلى صراعات بين المجموعات التجارية: الصباغون ضد الغسّالات، والدبّاغة ضد الجزارين. في القرن الرابع عشر، أمر البرلمان الجزارين بإلقاء أحشاء الحيوانات في بييفر بدلًا من تلويث نهر السين بها، ثم تراجع عن قراره، ولكن ذلك لم يوقف تدفق النفايات. فتحول بييفر إلى بالوعة نتنة.
وكان بييفر على مر السنين يستجمع أيضًا الأساطير.. بعضها معكَّر مثل تياراته. فهناك قصة الحورية "جنتيليا" التي حولتها الإلهة "ديانا" إلى النهر للنجاة من أحد جنود طروادة الذي كان يطاردها بإصرار وشراسة. ثم هناك التنين الذي قيل إنه أرعب الأرض قبل أن ينفيه الأسقف "مارسيل" إلى بييفر في القرن الرابع.
على الرغم من صغر بييفر، فإنه يتمتع بسمعة جبّارة.. طيبة وسيئة في آن. فقد ألهم النهر فنانين وكتاب مثل "فرانسوا رابليه" و"فيكتور هوغو" الذي أشار إليه في رواية "البؤساء". كما أصبح ذات زمن مضى مركز قوة الصناعة الباريسية. إذ كان أكبر سبب في شهرة بييفر هي شركة "مانيفاكتير دي غوبلان"، والتي بدأت نشاطها بأوراش صبغ على ضفاف النهر في القرن الخامس عشر، ثم صارت في وقت لاحق تزود الملوك الفرنسيين بالمفروشات. ووفقًا للحكايات الشعبية، فإن شيئًا مميزًا في مياه بييفر ساعد في نشأة اللون الأحمر النابض بالحياة الذي اشتهرت به تلك الشركة عالميًا.
وازداد الانبهار بنهر بييفر منذ أن تم طمر آخر مساحات مفتوحة منه في باريس عام 1912. "إنه نهر صغير بمعدل تدفق ضعيف، لكنه جذب اهتمامًا كبيرًا من الناحية التاريخية"، كما يقول "آلان كاديو"، خبير المياه ورئيس "اتحاد نهضة بييفر"، وهو تجمّع يضم 30 منظمة غير ربحية. ولكل من هذه المنظمات تركيز مختلف، من تعزيز التراث الثقافي للنهر إلى حماية البيئة.
بعد دراسة مكثفة في عام 2001، قرر "برتراند ديلانوي"، عمدة باريس في ذلك الوقت، أن إعادة تأهيل النهر القديم مكلفة للغاية. لكن المنظمات غير الربحية استمرت في حملتها جنبًا إلى جنب الائتلافات الحكومية في حوض بييفر. ونتج عن ذلك مشروعات إعادة فتح النهر في الضواحي؛ ظلت تُوصف بكونها نصرًا مبينًا.
وكشفت "ضاحية فريسن" النقاب عن منتزه في عام 2003؛ صار اليوم منطقة غابات مورقة على طول بييفر وغنية بالحياة البرية. وفي عام 2016، حذت "ضاحية لاي لي غوز" حذو فريسن، إذ أعادت فتح امتداد 640 مترًا من النهر مع إنشاء مسار للمشي يتتبع الضفاف التي تم تصميمها حديثًا. وستعرض مدينتا "أركوي" و"جنتيلي" -وهما الضاحيتان الجنوبيتان الأقرب لباريس- مشروع إعادة افتتاح مشترك في "منتزه كوتو دي بييفر" في عام 2022.
يقول ليرت: "سيعود بييفر إلى بوابات باريس ويجد نقطة التقائه مرة أخرى مع نهر السين". تؤوي باريس مليوني نسمة، وهي المدينة الأكثر كثافة من السكان في أوروبا، وليس لدى المخططين الحضريين نية لحفر واد أو هدم مبان للكشف عن النهر. لكن بييفر يقع على بعد أمتار قليلة تحت الأرض في المساحات المفتوحة مثل "منتزه سكوير رينيه لو غال". يحتل هذا المنتزه حديقة الخضراوات السابقة لشركة "مانيفاكتير دي غوبلان"، وهو واحد من ثلاثة مواقع تم تحديدها لاحتمال إعادة فتح النهر فيها، جنبًا إلى جنب مع "منتزه كيلرمان" وملحق "متحف التاريخ الطبيعي".
إن إحياء نهر بييفر ليس مجرد وسيلة لتبريد المدينة، ومكافحة الاحتباس الحراري، وإعادة الطبيعة إلى الوسط الحضري. بل إنه كذلك يخلق بيئة معيشية أفضل لقاطني باريس -مثلي- الذين يحلمون بالسير على طريق أخضر بدلًا من الخرسانة، وتقاسم المقبّلات الصيفية مع الجيران على ضفاف النهر التي كان رابليه يجوبها ذات زمن مضى. يقول كاديو: "تدفق بييفر في باريس منذ آلاف السنين. وسيكون من الصواب إعادته سيرته الأولى".