"كوفيد-19" يكتب نهاية أسطورة "المشرد المُقاتل"
أنهي "كوفيد -19" حياة "كارابيرو" رمز كفاح وملحمة قبيلة آوا البرازيلية التي سطرت اسمها في التاريخ الحديث كقصة نضال ضد "الحداثة المفرطة". وأعاد رحيل "كارابيرو" تسليط الأضواء على قبيلته الأمازونية التي أعتبرها الكثيرون مصدرًا للإلهام لروايات العزلة.
في مستشفى بمدينة سانتا إينيس (ولاية مارانهاو غرب الشمال الشرقي للبرازيل)، لفظ "كارابيرو" أنفاسه الأخيرة في عزلة إجبارية بسبب إصابته بفيروس "كورونا"، ويبدو أن قدره مع العزلة كان حتميًا، فقد ناضل أكثر من نصف قرن لحماية عزلة قبيلته الصغيرة ومات في عزلة "كوفيد -19" بعيدًا عن قريته تيراكامبو التي صارت أحد أشهر القرى في العالم لارتباطها بقصة "كارابيرو" غير العادية.
في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، سمعت قرية تيراكامبو صرخات خروج الرضيع "كارابيرو" إلى الحياة، ليعيش سنواته الأولى مع رفاقه في عزلتهم عن العالم، فقد كان حدود عالمهم هو أرض قبيلتهم الصغيرة. ولكن بعد أقل من 15 عامًا، اقتحم الغرباء أرض قبيلة آوا لشق خط سكة حديد ضخم لنقل خام الحديد من ولاية بارا المجاورة لأراضي القبيلة إلى موانئ المحيط الأطلسي. لقد شق طريق القطار أرض القبيلة إلى شقين ودفع بها إلى "معركة للبقاء" كان عنوانها "الحفاظ على العزلة".
يقول "لويس فورلاين"، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة نيفادا، إن شق خط السكة الحديدية أغرى المئات من الغرباء البيض إلى اكتشاف أراضي قبيلة آوا ليصادروا ممتلكاتهم وتنقلب حياة أهل القبيلة الطيبين بين ليلة وضحاها.
أخبر "كارابيرو" "فورلاي" عندما زاره في مهمة لصالح ناشيونال جيوغرافيك عام 2017 أن الرجال البيض أرادوا قتل الهنود من السكان الأصليين. ومن أجل مهمتهم الوحشية أطلقوا عليهم النار والكلاب لمطاردتهم. تبدو التفاصيل التي قصها "كارابيرو" ثقيلة على الروح, فهو لا زال يتذكر جيدًا عندما نصب مربو الماشية كمينًا له وعائلته الصغيرة ذات يوم في أواخر السبعينات من القرن الماضي, ليفقد زوجته وابنه وطفلته الرضيعة, وتبدأ رحلة موجعة من الوحدة والعزلة استمرت عقدًا من الزمن شاهدة على صمود الشعوب الأصلية في البرازيل في مواجهة المعاناة والقسوة التي يمارسها المستعمرون.
قال "سيدني بوسويلو", الذي شغل منصب مدير إدارة الهنود المعزولين في وكالة شؤون السكان الأصليين البرازيلية لما يقرب من عقدين من الزمان، في مقابلة في برازيليا عام 2017: "يحتاج مربو الماشية للتخلص من وجود الهنود للحصول على ملكية الأرض التي يحاولون الاستيلاء عليها. لذلك خرجوا لمهاجمة مجموعة كارابيرو. يستمر هذا النوع من الممارسة حتى يومنا هذا ".
يخشى قادة السكان الأصليين من أن القبائل المنعزلة مثل الآوا - ما يصل إلى 70 مجموعة منفصلة منتشرة في جميع أنحاء منطقة الأمازون البرازيلية - قد تواجه مرة أخرى خطرًا متزايدًا من السلب العنيف. إذ تتراجع اليوم جهود السلطات البرازيلية لحماية أراضي السكان الأصليين. فهناك نحو 100 شخص من إجمالي عدد السكان البالغ نحو 600 نسمة يتجولون هائمين في جيوب متقلصة من الغابات في مارانهاو كبدو رحل منعزلين, لذا أطلقت منظمة Survival International لحقوق السكان الأصليين على الآوا لقب "أكثر القبائل المهددة في العالم".
وحدة وخوف
بعد أن فقد "كارابيرو" عائلته إثر الكمين, الذي ترك أثاره على عموده الفقري بسبب إصابته برصاصة, انطلق فارًا إلى الغابات معتقدًا أنه الناجي الوحيد من الهجوم الدامي. تحولت الأيام القاسية إلى أسابيع ثم شهور, صار مطاردًا يتخفى بين الأشجار. وكانت حيلته للبقاء على قيد الحياة حرابًا صغيرة من الخيزران, يواجه بها خطر الحيوانات المفترسة. بقى "كارابيرو" وحيدًا لسنوات طويلة دون اتصال بشري, لا يؤنس وحشته سوى ذكريات لطختها الدماء بعد مطاردة البيض التي غيرت مسار حياته إلى الأبد.
قاد التجوال "كارابيرو" في النهاية إلى الخروج من التلال إلى منطقة مستقرة من الحقول المحروثة والمراعي، التي تنتشر فيها المنازل والمباني الملحقة. أصبحت الطرائد البرية نادرة، واتجه "كارابيرو" لقتل حيوانات المزرعة تحت جنح الظلام. حينئذ أثيرت شكوك أحد المزارعين في صباح أحد الأيام عندما اقتحم خنزير جريح فناء منزله. كان السر في رجل عارٍ يُمسك قوسًا وعدة سهام، ابتسم للسكان المحليين في خجل، ثم تخلى عن أسلحته صاغرًا.
أخذ المزارع الذي فقد خنزيره "كارابيرو" إلى منزله، وأطعمه ومنحه لباس. لكن بقي لغز من هذا الرجل الشريد ومن أين أتى؟ يحتاج إلى إجابة. كان ذلك في عام 1989. عندما أسس "سيدني بوسويلو" قسم الهنود المعزولين التابع لـ FUNAI لحماية حقوق مجتمعات السكان الأصليين التي لا تزال تعيش بمعزل عن العالم الخارجي - ما يسمى بـ "القبائل المنعزلة".
لقاء عاطفي
خلال السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنقضي، قاد "بوسويلو" جهود FUNAI للاتصال بأفراد من الآوا لإنقاذهم من العنف على أيدي المستوطنين المتعطشين للأرض. منذ اللحظة التي وضع فيها عينيه على "كارابيرو"، انتاب "بوسويلو" حدس - شيئًا ما عن مظهره - طلب من زملائه في مارانهاو إرسال مترجم للمساعدة في حل لغز "كارابيرو". كان المترجم الذي ظهر في منزل "بوسويلو" شابًا من أوا، اسمه "تيراموكوم". تيتم عندما كان صبيًا وترعرع من قبل موظفي الوكالة في موقع FUNAI.
يقول" فورلاين" إن الرحلات الملحمية التي قام بها الناجون الوحيدون من السكان الأصليين مثل "كارابيرو" قد أحيت النقاشات داخل مجال "البيئة التاريخية" التي تقول إن الصيادين وجامعي الثمار الذين يعبرون جسر بيرينغ البري من آسيا ربما انتشروا وقاموا بتحويل المناظر الطبيعية عبر الأميركتين في وقت أقرب بكثير مما كان متوقعًا.
أما موت "كارابيرو" فقد أصاب "بوسويلو"، بمشاعر عميقة امتزجت بين الحنين والامتنان. يتذكر الوقت الذي قضاه "كارابيرو" في منزله قبل سنوات عندما كان يداعب أطفاله الصغار ويشاركهم اللعب. يقول "بوسويلو" عن الرجل المشرد المقاتل الذي قضى أيامه الأخيرة في مستشفى بعيد عن شعبه تشبه عزلته الأولى:" يالها من نهاية حزينة لرجل قاتل ببطولة شديدة للنجاة من ضراوة الرجل الأبيض وقسوة الغابة".
المصدر: National Geographic
"كوفيد-19" يكتب نهاية أسطورة "المشرد المُقاتل"
- مريم عيسى
أنهي "كوفيد -19" حياة "كارابيرو" رمز كفاح وملحمة قبيلة آوا البرازيلية التي سطرت اسمها في التاريخ الحديث كقصة نضال ضد "الحداثة المفرطة". وأعاد رحيل "كارابيرو" تسليط الأضواء على قبيلته الأمازونية التي أعتبرها الكثيرون مصدرًا للإلهام لروايات العزلة.
في مستشفى بمدينة سانتا إينيس (ولاية مارانهاو غرب الشمال الشرقي للبرازيل)، لفظ "كارابيرو" أنفاسه الأخيرة في عزلة إجبارية بسبب إصابته بفيروس "كورونا"، ويبدو أن قدره مع العزلة كان حتميًا، فقد ناضل أكثر من نصف قرن لحماية عزلة قبيلته الصغيرة ومات في عزلة "كوفيد -19" بعيدًا عن قريته تيراكامبو التي صارت أحد أشهر القرى في العالم لارتباطها بقصة "كارابيرو" غير العادية.
في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، سمعت قرية تيراكامبو صرخات خروج الرضيع "كارابيرو" إلى الحياة، ليعيش سنواته الأولى مع رفاقه في عزلتهم عن العالم، فقد كان حدود عالمهم هو أرض قبيلتهم الصغيرة. ولكن بعد أقل من 15 عامًا، اقتحم الغرباء أرض قبيلة آوا لشق خط سكة حديد ضخم لنقل خام الحديد من ولاية بارا المجاورة لأراضي القبيلة إلى موانئ المحيط الأطلسي. لقد شق طريق القطار أرض القبيلة إلى شقين ودفع بها إلى "معركة للبقاء" كان عنوانها "الحفاظ على العزلة".
يقول "لويس فورلاين"، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة نيفادا، إن شق خط السكة الحديدية أغرى المئات من الغرباء البيض إلى اكتشاف أراضي قبيلة آوا ليصادروا ممتلكاتهم وتنقلب حياة أهل القبيلة الطيبين بين ليلة وضحاها.
أخبر "كارابيرو" "فورلاي" عندما زاره في مهمة لصالح ناشيونال جيوغرافيك عام 2017 أن الرجال البيض أرادوا قتل الهنود من السكان الأصليين. ومن أجل مهمتهم الوحشية أطلقوا عليهم النار والكلاب لمطاردتهم. تبدو التفاصيل التي قصها "كارابيرو" ثقيلة على الروح, فهو لا زال يتذكر جيدًا عندما نصب مربو الماشية كمينًا له وعائلته الصغيرة ذات يوم في أواخر السبعينات من القرن الماضي, ليفقد زوجته وابنه وطفلته الرضيعة, وتبدأ رحلة موجعة من الوحدة والعزلة استمرت عقدًا من الزمن شاهدة على صمود الشعوب الأصلية في البرازيل في مواجهة المعاناة والقسوة التي يمارسها المستعمرون.
قال "سيدني بوسويلو", الذي شغل منصب مدير إدارة الهنود المعزولين في وكالة شؤون السكان الأصليين البرازيلية لما يقرب من عقدين من الزمان، في مقابلة في برازيليا عام 2017: "يحتاج مربو الماشية للتخلص من وجود الهنود للحصول على ملكية الأرض التي يحاولون الاستيلاء عليها. لذلك خرجوا لمهاجمة مجموعة كارابيرو. يستمر هذا النوع من الممارسة حتى يومنا هذا ".
يخشى قادة السكان الأصليين من أن القبائل المنعزلة مثل الآوا - ما يصل إلى 70 مجموعة منفصلة منتشرة في جميع أنحاء منطقة الأمازون البرازيلية - قد تواجه مرة أخرى خطرًا متزايدًا من السلب العنيف. إذ تتراجع اليوم جهود السلطات البرازيلية لحماية أراضي السكان الأصليين. فهناك نحو 100 شخص من إجمالي عدد السكان البالغ نحو 600 نسمة يتجولون هائمين في جيوب متقلصة من الغابات في مارانهاو كبدو رحل منعزلين, لذا أطلقت منظمة Survival International لحقوق السكان الأصليين على الآوا لقب "أكثر القبائل المهددة في العالم".
وحدة وخوف
بعد أن فقد "كارابيرو" عائلته إثر الكمين, الذي ترك أثاره على عموده الفقري بسبب إصابته برصاصة, انطلق فارًا إلى الغابات معتقدًا أنه الناجي الوحيد من الهجوم الدامي. تحولت الأيام القاسية إلى أسابيع ثم شهور, صار مطاردًا يتخفى بين الأشجار. وكانت حيلته للبقاء على قيد الحياة حرابًا صغيرة من الخيزران, يواجه بها خطر الحيوانات المفترسة. بقى "كارابيرو" وحيدًا لسنوات طويلة دون اتصال بشري, لا يؤنس وحشته سوى ذكريات لطختها الدماء بعد مطاردة البيض التي غيرت مسار حياته إلى الأبد.
قاد التجوال "كارابيرو" في النهاية إلى الخروج من التلال إلى منطقة مستقرة من الحقول المحروثة والمراعي، التي تنتشر فيها المنازل والمباني الملحقة. أصبحت الطرائد البرية نادرة، واتجه "كارابيرو" لقتل حيوانات المزرعة تحت جنح الظلام. حينئذ أثيرت شكوك أحد المزارعين في صباح أحد الأيام عندما اقتحم خنزير جريح فناء منزله. كان السر في رجل عارٍ يُمسك قوسًا وعدة سهام، ابتسم للسكان المحليين في خجل، ثم تخلى عن أسلحته صاغرًا.
أخذ المزارع الذي فقد خنزيره "كارابيرو" إلى منزله، وأطعمه ومنحه لباس. لكن بقي لغز من هذا الرجل الشريد ومن أين أتى؟ يحتاج إلى إجابة. كان ذلك في عام 1989. عندما أسس "سيدني بوسويلو" قسم الهنود المعزولين التابع لـ FUNAI لحماية حقوق مجتمعات السكان الأصليين التي لا تزال تعيش بمعزل عن العالم الخارجي - ما يسمى بـ "القبائل المنعزلة".
لقاء عاطفي
خلال السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنقضي، قاد "بوسويلو" جهود FUNAI للاتصال بأفراد من الآوا لإنقاذهم من العنف على أيدي المستوطنين المتعطشين للأرض. منذ اللحظة التي وضع فيها عينيه على "كارابيرو"، انتاب "بوسويلو" حدس - شيئًا ما عن مظهره - طلب من زملائه في مارانهاو إرسال مترجم للمساعدة في حل لغز "كارابيرو". كان المترجم الذي ظهر في منزل "بوسويلو" شابًا من أوا، اسمه "تيراموكوم". تيتم عندما كان صبيًا وترعرع من قبل موظفي الوكالة في موقع FUNAI.
يقول" فورلاين" إن الرحلات الملحمية التي قام بها الناجون الوحيدون من السكان الأصليين مثل "كارابيرو" قد أحيت النقاشات داخل مجال "البيئة التاريخية" التي تقول إن الصيادين وجامعي الثمار الذين يعبرون جسر بيرينغ البري من آسيا ربما انتشروا وقاموا بتحويل المناظر الطبيعية عبر الأميركتين في وقت أقرب بكثير مما كان متوقعًا.
أما موت "كارابيرو" فقد أصاب "بوسويلو"، بمشاعر عميقة امتزجت بين الحنين والامتنان. يتذكر الوقت الذي قضاه "كارابيرو" في منزله قبل سنوات عندما كان يداعب أطفاله الصغار ويشاركهم اللعب. يقول "بوسويلو" عن الرجل المشرد المقاتل الذي قضى أيامه الأخيرة في مستشفى بعيد عن شعبه تشبه عزلته الأولى:" يالها من نهاية حزينة لرجل قاتل ببطولة شديدة للنجاة من ضراوة الرجل الأبيض وقسوة الغابة".
المصدر: National Geographic