في بيتنــا.. موتى
ذات ليلة، قُبيل الساعة السابعة، جذبَت "إليزابيث رانتي" ستارًا ذا لون ذهبي من المدخل لتفسح الطريق لنا كي ندخل. راحتْ تُحدِّث زوجَها همسًا: "بابا.. بابا. حلّت بِدارنا ضيفةٌ من بعيد". ثم دخل خلفنا "جيمي" -الابن الثاني كبرًا- حامِلًا طبقًا وهو يمشي نحو والده بتؤدة وهدوء. قال: "إليكَ أرزك، بابا. وهذا سَمكك. وها هي ذي التوابل الحارة".
وبينما انسحبنا من الغرفة بصمت، قالت إليزابيث بصوت خفيض: "استيقظ يا بابا. لقد حان وقت عشائك". التفتتُ لحظةً إذ تكلمَ الابن الأكبر "يوكي" قائلًا: "إنها تلتقط صورة لك يا بابا". كانت تلكَ لحظةً عائلية مؤثرة، وقد تَحدُث في أي بقعة بالعالم.. ما عدا أمرًا واحدا: فقد مات زوج إليزابيث منذ نحو أسبوعين، وكان قيد حياته موظفًا لدى مكتب الزواج في البلدة. ففي هذا البيت الجميل، ذي الجدران الإسمنتية الحمراء الفاتحة، حيث تقطن عائلة محترمة وموسرة، يرقد "بيتروس سامبي" بلا حراك على سرير خشبي صغير، فيما دُسَّ تحت ذقنه لحافٌ مزركش. سيرقد بيتروس على سريره أيامًا أُخر في هذا البيت الواقع على تخوم بلدة "رانتيباو" في المرتفعات النائية من جزيرة سولاوسي الإندونيسية. وستُكلِّمه زوجتُه وأبناؤه وهم يحملون إليه الطعام أربع مرات في اليوم؛ الفطور والغداء والعشاء واللمجة. يقول يوكي: "نفعل هذا لأننا نحبه حبًّا جَمًّا ونحترمه احترامًا بالغًا". عقَّبت إليزابيث قائلةً: "كنا قبل الذي حدث نأكل معًا. إنه ما يزال في البيت، وعلينا إطعامه". يُعالَج الجثمان بمحلول "الفورمالين" (فورمالدهيد وماء) عقب الوفاة بوقت قصير حتى لا يتحلل، ومع مرور الوقت يتحنط. ولذا لم تَزد رائحةُ الغرفة عن رائحة خشب الصندل الخفيفة المألوفة في بيوت شعب "توراجا" هذا. على الجدار عُلقت صورة للسيد المسيح يقود حَمَلًا، وعيناه تنظران إلى الأسفل.
انقضت أربعة أيام، تخللها عزف الموسيقى ترحمًا على روح الفقيد، وإقامة قداس مسيحي، وتقديم عشاء من لحم الخنزير والخضراوات والأرز لأزيد من مئة شخص؛ ثم نقل أفراد العائلة بيتروس من السرير إلى تابوت، ووُثِّق للحدث بالكاميرات. تدافع ثمانية أطفال أو أكثر -من أبناء الأقارب وأصدقاء الحي- عساهم يشهدون الحدث من زاوية أفضل. وسيظل بيتروس في البيت، داخل تابوته، إلى أن يحين موعد جنازته بعد أربعة أشهر. إلى ذلك الموعد، ستعيش معه زوجته؛ إذ تتبع بعض العائلات عادةً قديمة مفادها ألَّا يُترك المتوفى وحيدًا. وإلى أن تأزف ساعة الجنازة، ستُسميه إليزابيث وأبناؤها، "تُو ماكولا" (المريض). يقول يوكي: "نؤمن بأن الوالد 'تُو ماكولا'، ومع ذلك فإن روحه مازالت داخل البيت".
إن موت الجسد، في اعتقاد شعب توراجا، ليس حدثًا فاصلا مفاجئا ونهائيا كما في التصور الغربي، بل هو مجرد خطوة ضمن سيرورة طويلة وتدريجية. إذ يُعتنى بالأحبة الراحلين في البيت أسابيع أو شهورا أو سنوات بعد وفاتهم. وعادة ما تؤجَّل الجنائزُ إن استدعى الأمر حتى يتسنى الحضور للأقارب الذين يعيشون في مناطق نائية. وأعظم المآتم تدوم أسابيع وتستقطب أهالي توراجا من كل فج عميق، في ما يشبه هجرةً عكسية نحو بلدتهم. وحين يُشيِّعُ موكبٌ من مئات الدراجات النارية والسيارات جنازةً عبر شوارع البلدة من بعيد، تتوقف حركة المرور أكثر مما يَحدث عند إفساح المجال لسيارة إسعاف أو سيارة شرطة؛ فالموت هنا أعظم شأنًا من الحياة.
لا يرفض أهالي توراجا التداوي من الأمراض التي تتهدد الحياة، ولا يتفادون الحزن حين يرحل الأحبة، لكنهم مع ذلك لا يضربون صفحًا عن الموت، بل يجعلها جل الناس هنا في صلب الحياة. ويعتقد أهل توراجا أن الناس لا يموتون حقا حين يموتون، وأن وشيجة إنسانية وطيدة تستمر بعد الموت. ويرى كثير منهم أن جوهر الموت أشبه بالستار منه بالجدار؛ فهو ليس قطيعة، بل وصلٌ من نوع آخر. والعروة الوثقى مع الأحبة في توراجا غالبا ما لا تنفصم عند حافة القبر؛ إذ بين الفينة والأخرى، يَعمد بعض أهاليهم في الشمال إلى إخراج الأقارب من قبورهم وإلباسهم أكفانًا وملابس جديدة.
في بيتنــا.. موتى
ذات ليلة، قُبيل الساعة السابعة، جذبَت "إليزابيث رانتي" ستارًا ذا لون ذهبي من المدخل لتفسح الطريق لنا كي ندخل. راحتْ تُحدِّث زوجَها همسًا: "بابا.. بابا. حلّت بِدارنا ضيفةٌ من بعيد". ثم دخل خلفنا "جيمي" -الابن الثاني كبرًا- حامِلًا طبقًا وهو يمشي نحو والده بتؤدة وهدوء. قال: "إليكَ أرزك، بابا. وهذا سَمكك. وها هي ذي التوابل الحارة".
وبينما انسحبنا من الغرفة بصمت، قالت إليزابيث بصوت خفيض: "استيقظ يا بابا. لقد حان وقت عشائك". التفتتُ لحظةً إذ تكلمَ الابن الأكبر "يوكي" قائلًا: "إنها تلتقط صورة لك يا بابا". كانت تلكَ لحظةً عائلية مؤثرة، وقد تَحدُث في أي بقعة بالعالم.. ما عدا أمرًا واحدا: فقد مات زوج إليزابيث منذ نحو أسبوعين، وكان قيد حياته موظفًا لدى مكتب الزواج في البلدة. ففي هذا البيت الجميل، ذي الجدران الإسمنتية الحمراء الفاتحة، حيث تقطن عائلة محترمة وموسرة، يرقد "بيتروس سامبي" بلا حراك على سرير خشبي صغير، فيما دُسَّ تحت ذقنه لحافٌ مزركش. سيرقد بيتروس على سريره أيامًا أُخر في هذا البيت الواقع على تخوم بلدة "رانتيباو" في المرتفعات النائية من جزيرة سولاوسي الإندونيسية. وستُكلِّمه زوجتُه وأبناؤه وهم يحملون إليه الطعام أربع مرات في اليوم؛ الفطور والغداء والعشاء واللمجة. يقول يوكي: "نفعل هذا لأننا نحبه حبًّا جَمًّا ونحترمه احترامًا بالغًا". عقَّبت إليزابيث قائلةً: "كنا قبل الذي حدث نأكل معًا. إنه ما يزال في البيت، وعلينا إطعامه". يُعالَج الجثمان بمحلول "الفورمالين" (فورمالدهيد وماء) عقب الوفاة بوقت قصير حتى لا يتحلل، ومع مرور الوقت يتحنط. ولذا لم تَزد رائحةُ الغرفة عن رائحة خشب الصندل الخفيفة المألوفة في بيوت شعب "توراجا" هذا. على الجدار عُلقت صورة للسيد المسيح يقود حَمَلًا، وعيناه تنظران إلى الأسفل.
انقضت أربعة أيام، تخللها عزف الموسيقى ترحمًا على روح الفقيد، وإقامة قداس مسيحي، وتقديم عشاء من لحم الخنزير والخضراوات والأرز لأزيد من مئة شخص؛ ثم نقل أفراد العائلة بيتروس من السرير إلى تابوت، ووُثِّق للحدث بالكاميرات. تدافع ثمانية أطفال أو أكثر -من أبناء الأقارب وأصدقاء الحي- عساهم يشهدون الحدث من زاوية أفضل. وسيظل بيتروس في البيت، داخل تابوته، إلى أن يحين موعد جنازته بعد أربعة أشهر. إلى ذلك الموعد، ستعيش معه زوجته؛ إذ تتبع بعض العائلات عادةً قديمة مفادها ألَّا يُترك المتوفى وحيدًا. وإلى أن تأزف ساعة الجنازة، ستُسميه إليزابيث وأبناؤها، "تُو ماكولا" (المريض). يقول يوكي: "نؤمن بأن الوالد 'تُو ماكولا'، ومع ذلك فإن روحه مازالت داخل البيت".
إن موت الجسد، في اعتقاد شعب توراجا، ليس حدثًا فاصلا مفاجئا ونهائيا كما في التصور الغربي، بل هو مجرد خطوة ضمن سيرورة طويلة وتدريجية. إذ يُعتنى بالأحبة الراحلين في البيت أسابيع أو شهورا أو سنوات بعد وفاتهم. وعادة ما تؤجَّل الجنائزُ إن استدعى الأمر حتى يتسنى الحضور للأقارب الذين يعيشون في مناطق نائية. وأعظم المآتم تدوم أسابيع وتستقطب أهالي توراجا من كل فج عميق، في ما يشبه هجرةً عكسية نحو بلدتهم. وحين يُشيِّعُ موكبٌ من مئات الدراجات النارية والسيارات جنازةً عبر شوارع البلدة من بعيد، تتوقف حركة المرور أكثر مما يَحدث عند إفساح المجال لسيارة إسعاف أو سيارة شرطة؛ فالموت هنا أعظم شأنًا من الحياة.
لا يرفض أهالي توراجا التداوي من الأمراض التي تتهدد الحياة، ولا يتفادون الحزن حين يرحل الأحبة، لكنهم مع ذلك لا يضربون صفحًا عن الموت، بل يجعلها جل الناس هنا في صلب الحياة. ويعتقد أهل توراجا أن الناس لا يموتون حقا حين يموتون، وأن وشيجة إنسانية وطيدة تستمر بعد الموت. ويرى كثير منهم أن جوهر الموت أشبه بالستار منه بالجدار؛ فهو ليس قطيعة، بل وصلٌ من نوع آخر. والعروة الوثقى مع الأحبة في توراجا غالبا ما لا تنفصم عند حافة القبر؛ إذ بين الفينة والأخرى، يَعمد بعض أهاليهم في الشمال إلى إخراج الأقارب من قبورهم وإلباسهم أكفانًا وملابس جديدة.