نفائس في مكــب النفايــات

مع اتساع مكب نفايات في إسبانيا، يميط علماءُ الأحافير اللثامَ عن العديد من الأنواع القديمة، بعضها أسلاف للرئيسات.. وأسلاف لنا.

قليلةٌ هي الأماكن التي نرغب بزيارتها في ليلة قارسة البرودة، لا سيما إذا كان مكبَّ نفايات.لكن ذلك هو المكان الذي وجد فيه عالم الحفريات "جوسيب روبلس" نفسَه في ديسمبر 2019 وهو يتعقب أدلة نادرة على تاريخ التطور البشري.خلال معظم شهَري أكتوبر ونوفمبر من العام نفسه، كان روبلس قد أمضى عدة ليالٍ كل أسبوع في "أبوكادور دي كان ماتا"، أكبر مكب نفايات قيد الاستعمال في منطقة كاتالونيا الإسبانية. على مَرّ أيام الأسبوع، وطيلة أربع وعشرين ساعة، ظلت الحفّارات تغرز مخالبها المعدنية في الأرض لتنشئ -على عَجل- حفرة أخرى عميقة تُلقى فيها نفايات برشلونة ومحيطها. كان روبلس أحد ثمانية علماء أحافير تناوبوا على مراقبة حثيثة لِمَا ينقل الحفّارون من أطنان التربة المتسخة.
خلال النهار، كانت رائحة العفن الباعثة على الغثيان تجتذب أسراب النوارس الصاخبة. وكانت التربة، بدقة مسحوق السكر ونعومته، ترتفع كسُحُب مع كل خطوة يخطوها روبلس. في الليل كان يرتدي ثيابًا ثقيلة ويستضيء بمصباح مثبت على قبعته بشريط. وكلما رصد كتلة ذات أهمية محتملة، أشار إلى سائق الحفارة أن يتوقف حتى يتسنى له فحص المادة من كثب.
فإذا بدت واعدة، غطّاها بورق فضي لامع إلى حين إزالتها صباحًا في وضح النهار. بعد ذلك يتراجع ويعطي إشارة الانتهاء، فيزمجر محرك الآلة من جديد.
تحوي تربة مكبّ "كان ماتا" مجموعة كبيرة من الأحافير الممتدة زمنيًا عبر أزيد من مليون سنة في العصر "الميوسيني"، منذ نحو 11.2 مليون إلى 12.5 مليون سنة خلت. ومنذ عام 2002، اكتشف روبلس وعلماء أحافير آخرون من "معهد ميكيل كروسافونت الكاتالوني للأحافير" -التابع لـ "جامعة برشلونة المستقلة"- أكثر من 70 ألف أحفورة ترجع إلى تلك الحقبة. وتعود تلك الأحافير إلى الخيل والكركدن والأيّل وأقارب فيَلة تسمى "خرطوميات"، وقريب قديم للباندا العملاق، وأقدم سنجاب طائر في العالم. وثمة أيضا ثروة من بقايا قديمة لقوارض وطيور وبرمائيات وزواحف.
ويبقى أهم تلك الاكتشافات، أحافير لأنواع رئيسات لم يُعثر عليها في أي مكان آخر. كثيرٌ منها أسلاف أشباه البشر: أسلاف قرَدة الغيبون؛ والقردة العليا بما فيها أورانغوتان والغوريلا والشمبانزي؛ وكذلك أسلافنا.. حسب العلماء. خلال العصر الميوسيني الوسيط، كان هناك عشرات من أنواع أشباه البشر، نشأت في إفريقيا، ثم ظهرت في آسيا وأوروبا أيضا قبل 12.5 مليون سنة. إن عظام الرئيسات المكتشَفة في "كان ماتا" تُسهم في استكمال صورة حقبة بعيدة عن ماضينا تظل غامضة من نواح كثيرة.
يقول "ديفيد ألبا"، مدير المعهد الكاتالوني للأحافير: "لقد أتاح لنا موقع كان ماتا أن نثبت أن الرئيسات في تلك الحقبة كانت أكثر تنوعا مما كان يُعتقد من قبل".
ويساعدنا كل دليل أحفوري على حل بعض أشد الألغاز غموضا بشأن نوعنا: ما نحن؟ من أين أتينا؟ ومتى بدأ وجودنا؟

يقع مكب "كان ماتا" على بعد نحو 40 كيلومترا شمال غرب برشلونة، ووُضع على خريطة أحافير الرئيسات مع مطلع أربعينيات القرن العشرين، حين اكتشف "ميكيل كروسافونت" -الذي يحمل المعهد اسمه- قطعة من فك سفلي وأسنان قرد من العصر الميوسيني في الموقع. وأسهمت اكتشافات لاحقة في تكريس "كان ماتا" موقعًا أحفوريا موثقا. ورغم وضع الموقع هذا، يُستَغَلَّ قانونيًا بوصفه كذلك مكب نفايات منذ منتصف الثمانينيات.
في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أرادت شركة "كيسبا لتدبير النفايات" -التي تُدير الموقع- أن تنشئ حُفرا جديدة بعمق لا يقل عن 30 مترا؛ لكنها وجدت نفسها مرغمة، بحكم "قانون التراث التاريخي الإسباني"، على التأكد من أن آلاتها لن تدمر الأحافير أو تطمرها تحت أكوام القمامة. اتصلت الشركة ببعض العلماء المتخصصين للإشراف على الأحافير، فاغتنموا فرصة الوصول إلى أعماق المكب.
في عام 2002، بدأ علماء الأحافير المستقلون (يعملون اليوم جميعًا لدى المعهد الكاتالوني للأحافير) "إزاك كاسانوفاس- بيلار" و"جوردي غاليندو" و"ألبا -الذي كان حينها طالبًا في قسم الدكتوراه- مراقبة أعمال الحفر في "كان ماتا". بعد ثلاثة أسابيع من العمل، اكتشفوا سِنَّ "دينوتير"، وهو قريب ضخم للفيل له نابان مائلان نحو الأسفل. وبعد فحص الموقع من كثب، عثروا على شظية من عظم إصبع. يَذكر ألبا مشهدَ ذلك العظم قائلًا: "كنت مندهشا لأنه يشبه إصبع الرئيسات".
هنالك ركض الرجلُ إلى سيارته وأحضر قالبا ليد قرد "هيسبانوثيكوس" المنقرض عُثر عليه من قَبل في واد قريب. قارن علماء الأحافير الاثنين لكنهم لم يكونوا متأكدين مما اكتشفوا. بعد ذلك، عثروا على شظايا ناب، ألصق ألبا بعضها ببعض، ومخبأ لشظايا عظم صغير وهش متناثرة بالقرب من كتلة رواسب. هنالك أمسك ألبا بكاميرا واستلقى على بطنه ليلقي نظرة أفضل إلى الجانب السفلي من الكتلة. 
ذُهل الرجل لَمّا أدرك أنه كان ينظر مباشرة إلى وجه قديم. يقول: "كنا نحن الثلاثة متوترين -وبالكاد نتحدث- فرفعناه. كان وجه 'بييرولابيثيكوس' ينظر إلينا. كانت تلك بِحَق إحدى أعظم اللحظات في حياتي". كان "بييرولابيثيكوس كاتالاونيكوس" (Pierolapithecus catalaunicus) -الملقب باسم "باو"- ما أطلقوا عليه فيما بعد اسم النوع الجديد من القردة العليا التي اكتشفوا. كان عمره يعود إلى نحو 12 مليون سنة، وكان واحدا من أكمل هياكل الرئيسات الميوسينية التي عُثر عليها. واصل الفريق كشف عظام أخرى من صدر هذا الحيوان وأسفل ظهره ومعصميه. إنها أقدم أحفورة معروفة لرئيسات تقدم دليلًا لا لبس فيه على خاصية يتفرد بها القردة والبشر: جسم قائم. 
وتعليقًا على ذلك، يقول ألبا: "لا ينبغي الخلط بين هذا وبين ذوات القدمين. فبعض الناس يستخدمون لفظة 'قائم' للدلالة على 'ذي قدمين'. وهذا خطأ فادح".

نفائس في مكــب النفايــات

مع اتساع مكب نفايات في إسبانيا، يميط علماءُ الأحافير اللثامَ عن العديد من الأنواع القديمة، بعضها أسلاف للرئيسات.. وأسلاف لنا.

قليلةٌ هي الأماكن التي نرغب بزيارتها في ليلة قارسة البرودة، لا سيما إذا كان مكبَّ نفايات.لكن ذلك هو المكان الذي وجد فيه عالم الحفريات "جوسيب روبلس" نفسَه في ديسمبر 2019 وهو يتعقب أدلة نادرة على تاريخ التطور البشري.خلال معظم شهَري أكتوبر ونوفمبر من العام نفسه، كان روبلس قد أمضى عدة ليالٍ كل أسبوع في "أبوكادور دي كان ماتا"، أكبر مكب نفايات قيد الاستعمال في منطقة كاتالونيا الإسبانية. على مَرّ أيام الأسبوع، وطيلة أربع وعشرين ساعة، ظلت الحفّارات تغرز مخالبها المعدنية في الأرض لتنشئ -على عَجل- حفرة أخرى عميقة تُلقى فيها نفايات برشلونة ومحيطها. كان روبلس أحد ثمانية علماء أحافير تناوبوا على مراقبة حثيثة لِمَا ينقل الحفّارون من أطنان التربة المتسخة.
خلال النهار، كانت رائحة العفن الباعثة على الغثيان تجتذب أسراب النوارس الصاخبة. وكانت التربة، بدقة مسحوق السكر ونعومته، ترتفع كسُحُب مع كل خطوة يخطوها روبلس. في الليل كان يرتدي ثيابًا ثقيلة ويستضيء بمصباح مثبت على قبعته بشريط. وكلما رصد كتلة ذات أهمية محتملة، أشار إلى سائق الحفارة أن يتوقف حتى يتسنى له فحص المادة من كثب.
فإذا بدت واعدة، غطّاها بورق فضي لامع إلى حين إزالتها صباحًا في وضح النهار. بعد ذلك يتراجع ويعطي إشارة الانتهاء، فيزمجر محرك الآلة من جديد.
تحوي تربة مكبّ "كان ماتا" مجموعة كبيرة من الأحافير الممتدة زمنيًا عبر أزيد من مليون سنة في العصر "الميوسيني"، منذ نحو 11.2 مليون إلى 12.5 مليون سنة خلت. ومنذ عام 2002، اكتشف روبلس وعلماء أحافير آخرون من "معهد ميكيل كروسافونت الكاتالوني للأحافير" -التابع لـ "جامعة برشلونة المستقلة"- أكثر من 70 ألف أحفورة ترجع إلى تلك الحقبة. وتعود تلك الأحافير إلى الخيل والكركدن والأيّل وأقارب فيَلة تسمى "خرطوميات"، وقريب قديم للباندا العملاق، وأقدم سنجاب طائر في العالم. وثمة أيضا ثروة من بقايا قديمة لقوارض وطيور وبرمائيات وزواحف.
ويبقى أهم تلك الاكتشافات، أحافير لأنواع رئيسات لم يُعثر عليها في أي مكان آخر. كثيرٌ منها أسلاف أشباه البشر: أسلاف قرَدة الغيبون؛ والقردة العليا بما فيها أورانغوتان والغوريلا والشمبانزي؛ وكذلك أسلافنا.. حسب العلماء. خلال العصر الميوسيني الوسيط، كان هناك عشرات من أنواع أشباه البشر، نشأت في إفريقيا، ثم ظهرت في آسيا وأوروبا أيضا قبل 12.5 مليون سنة. إن عظام الرئيسات المكتشَفة في "كان ماتا" تُسهم في استكمال صورة حقبة بعيدة عن ماضينا تظل غامضة من نواح كثيرة.
يقول "ديفيد ألبا"، مدير المعهد الكاتالوني للأحافير: "لقد أتاح لنا موقع كان ماتا أن نثبت أن الرئيسات في تلك الحقبة كانت أكثر تنوعا مما كان يُعتقد من قبل".
ويساعدنا كل دليل أحفوري على حل بعض أشد الألغاز غموضا بشأن نوعنا: ما نحن؟ من أين أتينا؟ ومتى بدأ وجودنا؟

يقع مكب "كان ماتا" على بعد نحو 40 كيلومترا شمال غرب برشلونة، ووُضع على خريطة أحافير الرئيسات مع مطلع أربعينيات القرن العشرين، حين اكتشف "ميكيل كروسافونت" -الذي يحمل المعهد اسمه- قطعة من فك سفلي وأسنان قرد من العصر الميوسيني في الموقع. وأسهمت اكتشافات لاحقة في تكريس "كان ماتا" موقعًا أحفوريا موثقا. ورغم وضع الموقع هذا، يُستَغَلَّ قانونيًا بوصفه كذلك مكب نفايات منذ منتصف الثمانينيات.
في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أرادت شركة "كيسبا لتدبير النفايات" -التي تُدير الموقع- أن تنشئ حُفرا جديدة بعمق لا يقل عن 30 مترا؛ لكنها وجدت نفسها مرغمة، بحكم "قانون التراث التاريخي الإسباني"، على التأكد من أن آلاتها لن تدمر الأحافير أو تطمرها تحت أكوام القمامة. اتصلت الشركة ببعض العلماء المتخصصين للإشراف على الأحافير، فاغتنموا فرصة الوصول إلى أعماق المكب.
في عام 2002، بدأ علماء الأحافير المستقلون (يعملون اليوم جميعًا لدى المعهد الكاتالوني للأحافير) "إزاك كاسانوفاس- بيلار" و"جوردي غاليندو" و"ألبا -الذي كان حينها طالبًا في قسم الدكتوراه- مراقبة أعمال الحفر في "كان ماتا". بعد ثلاثة أسابيع من العمل، اكتشفوا سِنَّ "دينوتير"، وهو قريب ضخم للفيل له نابان مائلان نحو الأسفل. وبعد فحص الموقع من كثب، عثروا على شظية من عظم إصبع. يَذكر ألبا مشهدَ ذلك العظم قائلًا: "كنت مندهشا لأنه يشبه إصبع الرئيسات".
هنالك ركض الرجلُ إلى سيارته وأحضر قالبا ليد قرد "هيسبانوثيكوس" المنقرض عُثر عليه من قَبل في واد قريب. قارن علماء الأحافير الاثنين لكنهم لم يكونوا متأكدين مما اكتشفوا. بعد ذلك، عثروا على شظايا ناب، ألصق ألبا بعضها ببعض، ومخبأ لشظايا عظم صغير وهش متناثرة بالقرب من كتلة رواسب. هنالك أمسك ألبا بكاميرا واستلقى على بطنه ليلقي نظرة أفضل إلى الجانب السفلي من الكتلة. 
ذُهل الرجل لَمّا أدرك أنه كان ينظر مباشرة إلى وجه قديم. يقول: "كنا نحن الثلاثة متوترين -وبالكاد نتحدث- فرفعناه. كان وجه 'بييرولابيثيكوس' ينظر إلينا. كانت تلك بِحَق إحدى أعظم اللحظات في حياتي". كان "بييرولابيثيكوس كاتالاونيكوس" (Pierolapithecus catalaunicus) -الملقب باسم "باو"- ما أطلقوا عليه فيما بعد اسم النوع الجديد من القردة العليا التي اكتشفوا. كان عمره يعود إلى نحو 12 مليون سنة، وكان واحدا من أكمل هياكل الرئيسات الميوسينية التي عُثر عليها. واصل الفريق كشف عظام أخرى من صدر هذا الحيوان وأسفل ظهره ومعصميه. إنها أقدم أحفورة معروفة لرئيسات تقدم دليلًا لا لبس فيه على خاصية يتفرد بها القردة والبشر: جسم قائم. 
وتعليقًا على ذلك، يقول ألبا: "لا ينبغي الخلط بين هذا وبين ذوات القدمين. فبعض الناس يستخدمون لفظة 'قائم' للدلالة على 'ذي قدمين'. وهذا خطأ فادح".