من يوقف زحف القيظ؟

يتوقع العلماء أن الحَرّ المتصاعد خلال القرن الحالي سيدفع بملايين الناس ومناطقَ بأسرها خارج دائرة الأمان.

من طبيعة جسم الإنسان أن يطرح الحرارة الزائدة بطريقتين أساسيتين: أولاهما تَوسّع الأوعية الدموية، لنقل الحرارة إلى الجلد كي يتخلّص منها بالإشعاع؛ والأخرى أن يطفح العرق على الجلد فيبرّده بالتبخّر. وعند إخفاق هاتين الآليّتين، نموت. قد يبدو ذلك بسيطًا، لكنه في الواقع انهيارٌ معقّد بمراحل متعاقبة.
فعند ارتفاع الحرارة الداخلية لشخصٍ ما جرّاء ضربة شمس، يجد القلب والرئتان صعوبة أكبر في المحافظة على الأوعية الدموية متّسعة؛ إلى أن تحل لحظةٌ لا يستطيع القلب فيها الصمود. وعندها، يهبط ضغط الدم، فيشعر المرء بالدوار، ويتعثر في سيره، ويغمغم في كلامه. وتهبط مستويات الملح في الجسم فتتشنّج العضلات. وببلوغ الضحايا حالة من التشوّش، أو حتى الهذيان، فإن كثيرًا منهم لا يدركون أنهم بحاجة ماسة إلى مساعدة عاجلة.
وباندفاع الدم نحو الجلد المحموم، تتلقّى الأعضاء نصيبًا أقلّ منه؛ فتَحدث مجموعة من ردود الفعل التي تدمّر الخلايا. بعض الضحايا يَهلك عند حرارة داخلية لا تتعدّى 40 درجة مئوية؛ وبعضهم يمكنه تحمّل 42 درجة مدة ساعات. ويكون المآل عادةً أسوأ للأشخاص صغار السنّ والمسنّين. بل حتى المتقدّمين في السنّ الذين يتمتعون بصحة جيدة يعانون علّةً واضحة: إذ إن الغدد العرقية تتقلّص بتقدّم العمر، كما أن كثيرًا من الأدوية الشائعة تتسبب في تبلّد الحواسّ. ولا يشعر الضحايا بقدر كافٍ من العطش يجعلهم يشربون. وعندها فإن التعرّق لا يعود خيارًا مناسبًا للتعامل مع الحَرّ، لأن الجسم ليس فيه رطوبة كافية. وبدلًا من التعرّق، نجد الضحايا أحيانًا يرتجفون.
في تلك اللحظة، قد تقضي ذبحة قلبية على العَجَزَة؛ لكن الأكثر لياقة بين الضحايا قد يظلون أحياءً ليعانوا اضطرابًا بصريا يدعى "الرؤية النفقية"، وهلوسات، وربما يتجرّدون تمامًا من ملابسهم التي سيشعرون أن مَلمَسَها على أجسامهم قد صار كملمس ورق الصنفرة الخشن نتيجة الحساسية الفائقة التي تصيب نهاياتهم العصبية. أما أنسجتهم العضلية -ومنها تلك التي في القلب- فقد تكون التالية في قائمة الأنسجة التالفة. وما إن تبدأ القناة الهضمية في تسريب محتواها، حتى تدخل موادُّها السامة مجرى الدم. فتستجيب الدورة الدموية بمحاولة أخيرة كبيرة يائسة لتخثير الدم، تؤدي بدورها إلى زيادة الخطر على الأعضاء الحيوية (الكليتين والمثانة والقلب)؛ فيكون الموت عندها وشيكًا.
في صيف عام 2003، خيّم مرتفع جوي عملاق على المنطقتين الغربية والوسطى من أوروبا. وببلوغ كتلة الهواء الدوّامة تلكَ درجات حرارة فائقة فوق حوض المتوسط، فقد منعت عن هاتين المنطقتين استقبال أي هواء أبرد آتٍ من المحيط الأطلسي، على مَرّ أسابيعَ عديدة. وتصاعدت درجات الحرارة حينها في فرنسا تدريجيًا، حتى بلغت مداها المذهل (40 درجة مئوية) طيلة ثمانية أيام متتالية. وبازدياد الحرارة، بدأ الناس يموتون.
كان كثير من الأطباء والمسعفين حينها في إجازاتهم السنوية؛ وسرعان ما غصّت المستشفيات. امتلأت مستودعات الجثث، فاضطلعت الشاحنات المبرّدة وجمّادات أسواق الطعام بمَهمّة تلك المستودعات. وكان المسعِفون الزائرون يجدون الناس مُمدَّدين على أرضيات بيوتهم أو ميتين في كراسيهم. (آنذاك كانت نسبة ضئيلة من البيوت الفرنسية تمتلك مكيّفات هواء). ويستذكر "باتريك بيلو"، رئيس "الرابطة الفرنسية لأطباء غرف الطوارئ"، تلك الفترة قائلًا إن رجال الشرطة كانوا يُستدعَون لفتح أبواب البيوت عنوةً "فيفاجؤون برؤية جثث خلفها. لقد كان الوضع فظيعًا". وكان كثير من الجثث لا يُكتشَف إلا بعد مُضي أسابيع عديدة.
وفي المحصلة، عزت فرنسا وفاة أكثر من 15 ألف شخص إلى موجة الحر تلك. أما إيطاليا، فكانت بليّتها أعظم، بوفاة نحو 20 ألف شخص. وعلى امتداد القارة الأوروبية، توفّي أكثر من 70 ألف شخص، كانوا في معظمهم فقراء ومنعزلين ومسنّين. ووفق تقدير العلماء لاحقًا، كان ذلك أحرّ صيف مرّ على أوروبا منذ 500 عام، ورُبط ذلك -على نحو لا لبس فيه- بالتغيّر المناخي؛ وكان قد زاد خطر الموت بسبب الحر في باريس ذلك العام بنسبة تقارب 70 بالمئة.

من يوقف زحف القيظ؟

يتوقع العلماء أن الحَرّ المتصاعد خلال القرن الحالي سيدفع بملايين الناس ومناطقَ بأسرها خارج دائرة الأمان.

من طبيعة جسم الإنسان أن يطرح الحرارة الزائدة بطريقتين أساسيتين: أولاهما تَوسّع الأوعية الدموية، لنقل الحرارة إلى الجلد كي يتخلّص منها بالإشعاع؛ والأخرى أن يطفح العرق على الجلد فيبرّده بالتبخّر. وعند إخفاق هاتين الآليّتين، نموت. قد يبدو ذلك بسيطًا، لكنه في الواقع انهيارٌ معقّد بمراحل متعاقبة.
فعند ارتفاع الحرارة الداخلية لشخصٍ ما جرّاء ضربة شمس، يجد القلب والرئتان صعوبة أكبر في المحافظة على الأوعية الدموية متّسعة؛ إلى أن تحل لحظةٌ لا يستطيع القلب فيها الصمود. وعندها، يهبط ضغط الدم، فيشعر المرء بالدوار، ويتعثر في سيره، ويغمغم في كلامه. وتهبط مستويات الملح في الجسم فتتشنّج العضلات. وببلوغ الضحايا حالة من التشوّش، أو حتى الهذيان، فإن كثيرًا منهم لا يدركون أنهم بحاجة ماسة إلى مساعدة عاجلة.
وباندفاع الدم نحو الجلد المحموم، تتلقّى الأعضاء نصيبًا أقلّ منه؛ فتَحدث مجموعة من ردود الفعل التي تدمّر الخلايا. بعض الضحايا يَهلك عند حرارة داخلية لا تتعدّى 40 درجة مئوية؛ وبعضهم يمكنه تحمّل 42 درجة مدة ساعات. ويكون المآل عادةً أسوأ للأشخاص صغار السنّ والمسنّين. بل حتى المتقدّمين في السنّ الذين يتمتعون بصحة جيدة يعانون علّةً واضحة: إذ إن الغدد العرقية تتقلّص بتقدّم العمر، كما أن كثيرًا من الأدوية الشائعة تتسبب في تبلّد الحواسّ. ولا يشعر الضحايا بقدر كافٍ من العطش يجعلهم يشربون. وعندها فإن التعرّق لا يعود خيارًا مناسبًا للتعامل مع الحَرّ، لأن الجسم ليس فيه رطوبة كافية. وبدلًا من التعرّق، نجد الضحايا أحيانًا يرتجفون.
في تلك اللحظة، قد تقضي ذبحة قلبية على العَجَزَة؛ لكن الأكثر لياقة بين الضحايا قد يظلون أحياءً ليعانوا اضطرابًا بصريا يدعى "الرؤية النفقية"، وهلوسات، وربما يتجرّدون تمامًا من ملابسهم التي سيشعرون أن مَلمَسَها على أجسامهم قد صار كملمس ورق الصنفرة الخشن نتيجة الحساسية الفائقة التي تصيب نهاياتهم العصبية. أما أنسجتهم العضلية -ومنها تلك التي في القلب- فقد تكون التالية في قائمة الأنسجة التالفة. وما إن تبدأ القناة الهضمية في تسريب محتواها، حتى تدخل موادُّها السامة مجرى الدم. فتستجيب الدورة الدموية بمحاولة أخيرة كبيرة يائسة لتخثير الدم، تؤدي بدورها إلى زيادة الخطر على الأعضاء الحيوية (الكليتين والمثانة والقلب)؛ فيكون الموت عندها وشيكًا.
في صيف عام 2003، خيّم مرتفع جوي عملاق على المنطقتين الغربية والوسطى من أوروبا. وببلوغ كتلة الهواء الدوّامة تلكَ درجات حرارة فائقة فوق حوض المتوسط، فقد منعت عن هاتين المنطقتين استقبال أي هواء أبرد آتٍ من المحيط الأطلسي، على مَرّ أسابيعَ عديدة. وتصاعدت درجات الحرارة حينها في فرنسا تدريجيًا، حتى بلغت مداها المذهل (40 درجة مئوية) طيلة ثمانية أيام متتالية. وبازدياد الحرارة، بدأ الناس يموتون.
كان كثير من الأطباء والمسعفين حينها في إجازاتهم السنوية؛ وسرعان ما غصّت المستشفيات. امتلأت مستودعات الجثث، فاضطلعت الشاحنات المبرّدة وجمّادات أسواق الطعام بمَهمّة تلك المستودعات. وكان المسعِفون الزائرون يجدون الناس مُمدَّدين على أرضيات بيوتهم أو ميتين في كراسيهم. (آنذاك كانت نسبة ضئيلة من البيوت الفرنسية تمتلك مكيّفات هواء). ويستذكر "باتريك بيلو"، رئيس "الرابطة الفرنسية لأطباء غرف الطوارئ"، تلك الفترة قائلًا إن رجال الشرطة كانوا يُستدعَون لفتح أبواب البيوت عنوةً "فيفاجؤون برؤية جثث خلفها. لقد كان الوضع فظيعًا". وكان كثير من الجثث لا يُكتشَف إلا بعد مُضي أسابيع عديدة.
وفي المحصلة، عزت فرنسا وفاة أكثر من 15 ألف شخص إلى موجة الحر تلك. أما إيطاليا، فكانت بليّتها أعظم، بوفاة نحو 20 ألف شخص. وعلى امتداد القارة الأوروبية، توفّي أكثر من 70 ألف شخص، كانوا في معظمهم فقراء ومنعزلين ومسنّين. ووفق تقدير العلماء لاحقًا، كان ذلك أحرّ صيف مرّ على أوروبا منذ 500 عام، ورُبط ذلك -على نحو لا لبس فيه- بالتغيّر المناخي؛ وكان قد زاد خطر الموت بسبب الحر في باريس ذلك العام بنسبة تقارب 70 بالمئة.