إنقاذ الشعاب المرجانية

يَرفع التغير المناخي حرارةَ المحيطات فيقضي على أروع الشِّعاب المرجانية في العالم؛ لذا يسعى العلماء جاهدين لحماية المناطق المعرضة للخطر، ولتطوير أنواع مرجان أصلب وأشد مقاومة.

صاح الغواصون بحماس وإثارة، مرتدين أقنعة التنفس، وطفقت أذرعهم وأرجلهم تتأرجح في انشراح وابتهاج. كان ذلك في أغسطس 2020، أسفل مِن شِعب مرجاني بعمق أربعة أمتار لدى مياه جزر "فلوريدا كيز"؛ حيث كانت عالمة الأحياء البحرية، "هانا كوك"، وزملاؤها من "مختبر مُوتّي البحري" يتأرجحون ويحومون، في ترقّب وانتظار. قبل منتصف الليل بقليل، وفي انفجار صامت انبعث من المرجان على طول أحد الشِّعاب، شرعَتْ في الصعود حُزمٌ صغيرة ذات لون برتقالي متورّد من السائل المنوي والبيوض؛ لِتُبقِّعَ البحرَ بثوران تنقيطي يفيض بالحياة. نتجَ عن رقصات الفريق المبتهج شرارات زرقاء كهربائية انبعثت من الكائنات المُضاءة حيويًا في البحر من حولهم. تقول كوك: "بدا الأمر كما لو أننا أطلقنا الألعاب النارية. كان المشهد بهيجًا جميلا".
يُجسّد ذلك الدفق الحيوي المفاجئ طريقة تكاثر العديد من المرجان الذي يبني الشِّعاب المرجانية؛ بمعدل مرة واحدة كل عام في ليلة صيفية بعد أيام قليلة على اكتمال القمر. فاستجابةً للدورة القمرية ودرجة حرارة الماء وطول النهار على السطح، تطلق الأنواع المرجانية عبر شعاب فلوريدا في الوقت ذاته تريليونات من الحيوانات المنوية وملايين من البيوض؛ وهو نشاط محموم يعزز التنوع الوراثي ويضمن تخصيب نسبة صغيرة من البيوض واستقرارها على الشعاب في شكل يرقات، وبالتالي زرع بذور الجيل التالي من المرجان.
ولكن، لم يكن ذلك حدثَ تكاثر عاديًا. فهذا المرجان النجمي الجبلي -المعروف علميًا باسم (Orbicella faveolata) والمهدد بالانقراض حسب "قانون الأنواع المهَّددة"- قد تم استنباته و"زرعه" عام 2015 من قبل علماء مختبر مُوتّي، ضمن جهود ترميم شِعب مرجاني. وقد نجا ذلك المرجان من جائحة تَبيُّض في ذلك العام، وإعصار من الفئة الرابعة في عام 2017، ووباء في عام 2019؛ مما دل على مرونة مشجعة. وبلغ المرجان أعوام النضج التناسلي أسرع من نظيره الأصيل، وأصبح بذلك أول مرجان تعويضي يتناسل في البحر. ولقد شكَّل ذلك إنجازًا أثلج صدور العلماء الذين يسعون جاهدين لإنقاذ المرجان من الآثار المدمرة للتغير المناخي وسائر التهديدات الناجمة عن النشاط البشري. فمن بين أكثر من 800 نوع معروف من المرجان الباني للشعاب، يصنف "الاتحاد الدولي لصون الطبيعة" أكثر من ربعها على أنه في خطر انقراض متوسط أو كبير أو أقصى، ويحذر من أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد من خطر انقراض المرجان.

قبل زُهاء 40 عامًا خلت، شهد "بيتر هاريسون"، عالم البيئة البحرية لدى "جامعة ساثرن كروس" الأسترالية، أول حدث موثَّق لتبيّض مرجاني واسع النطاق. وعندما غاص الرجل قبالة جزيرة "ماغنيتيك" في "الحاجز المرجاني العظيم"، صُدم من هول المشهد؛ إذ يقول واصفًا إيّاه: "كان الشِعب خليطًا من المرجان السليم والمرجان الأبيض شديد التبيّض، مثل بدايات مدينة شبحية". وقبل أشهر فقط على ذلك، كان الموقع نفسه يموج بحياة استوائية بألوان زاهية. يقول: "لقد نفق كثير من مئات الكتل المرجانية التي سبق لي أن وسمتُها وراقبتها بعناية. كان ذلك صادمًا وجعلني أدرك مدى هشاشة هذا المرجان حقًّا".
ويعيش المرجان على نحو تكافلي مع طحالب التركيب الضوئي، التي تستوطن في أنسجته وتوفر له الغذاء الأساسي (والألوان). لكن درجات الحرارة المرتفعة وغيرها من عوامل الإجهاد يمكن أن تحول الطحالب إلى كائنات سامة. وعندما يحدث ذلك، قد تنفق الطحالب أو يطرحها المرجان؛ وهي عملية تُعرف باسم التبيّض (Bleaching) لأن أنسجة المرجان الصافية وهيكله الأبيض من كربونات الكالسيوم، تصبح مكشوفة. وإذا لم يستطع المرجان استعادة علاقته مع الطحالب، فإنه إما أن ينفق جوعًا أو يستسلم للمرض.
تَكرر ذلك الدمار الذي شهده هاريسون في عام 1982 على كثير من الشعاب المرجانية الأخرى في المحيط الهادي خلال ذلك العام والذي تلاه. وفي عامي 1997 و 1998، أصبحت الظاهرة عالمية، إذ قتلت زُهاء 16 بالمئة من مرجان العالم. فمع ارتفاع درجات الحرارة، والتلوث، والأمراض، وتنامي حموضة المحيطات، والأنواع الدخيلة الغازية، والمخاطر الأخرى.. تنتشر تلك المدن الشبحية التي وصفها هاريسون. ويعتقد العلماء أنه منذ نحو أربعة عقود، حدث تبيّض شديد خلال كل 25 عامًا تقريبا؛ مما منح المرجانَ وقتًا للتعافي. لكن جوائح التبيّض تقع اليوم على نحو أسرع -كل ستة أعوام تقريبًا- وفي بعض الأماكن يمكن في أجل قريب أن تبدأ في الحدوث سنويًا. وتعليقًا على ذلك، يقول عالم الأحياء البحرية، "تيري هيوز"، من "جامعة جيمس كوك" الأسترالية: "إن الحل الوحيد الأوحد هو التصدي للاحتباس الحراري. فمهما نظفنا مياه البحار، سوف تنهار الشعاب". في عام 2016، وهو عام سجل أرقامًا قياسية في الحرارة بالعديد من البحار، ابيَضّ ما نسبته 91 بالمئة من الشعاب المشَكِّلة للحاجز المرجاني العظيم.

يَضج كل شِعب مرجاني بالموسيقى.. والحركة: نقرات وطقطقات وصرير وغرغرة، يُصاحبها اهتزاز المرجان الرخو، وارتعاش الروبيان، وقضمات الأسماك، وانزلاق السرطانات. وتنبثق ثعابين "موراي" من تجويفات مثل دمى بأفواه مفتوحة؛ وتتقاتل أسماك قرش الشعاب للحصول على قضمات؛ ويتسكع الحبار الفضولي، ثم يندفع. وفي وجود أجمات من مرجان "الخورن" والمرجان "الجلمودي" مثل كعكات مثلجة ضخمة باللون الوردي والأخضر، وبطبقات مزينة بمراوح بحر مزركشة، وديدان أنبوبية، ومنافض ريشية.. فإن الشعاب مدهشة وكأنها من عالم خرافي؛ كمثل مسرح مخصص لعروض درامية يومية متكررة. من كل ركن وتجويف، تلوّح مخلوقات شبيهة بشخصيات كرتونية، بزعانفها أو مخالبها أو مِجسّاتها، كلٌّ يدافع عن مكانه الصغير في العالم.
قبل اثني عشر عامًا أو نحو ذلك، أمضيتُ 15 يوما من الدهشة في حضرتها وأنا أغوص في الحاجز المرجاني العظيم مع المصورين "ديفيد دوبيلي" و"جنيفر هايز". واحتفى التحقيق الذي كتبته لفائدة "ناشيونال جيوغرافيك" بتلك الشعاب المرجانية وحذّرنا أننا قد نفقد هذا المكان المدهش. وبصفتي صحافية ذات خلفية أكاديمية في بيولوجيا الحِفظ، انتابني القلق بشأن انهيار النظم البيئية؛ وبصفتي غطاسة وعاشقة للبحر، خشيت حدوث خسارة أفدح بكثير. لذلك عندما رأيتُ أحدث صور للشعاب المرجانية التي غُصنا فيها سابقًا -بعضها صار اليوم حقولَ أنقاض تخنقها الطحالب- تخيلتُ الجمود والصمت، وبكيت. وعلى الرغم من ذلك الدمار، لا يزال الحاجز المرجاني العظيم أعجوبة طبيعية (إذ يتشكل من زُهاء 3000 شِعب مرجاني منفصلة تمتد على طول 2300 كيلومتر من الساحل الشمالي الشرقي لأستراليا) وتحفة نفيسة نادرة: فتجمعات الشعاب المرجانية الاستوائية الضحلة لا تغطي سوى أقل من 1 بالمئة من قاع البحر. لكن نفوق ولو شِعب مرجاني واحد فقط له آثار مدمرة؛ إذ تدعم هذه النظم البيئية ما لا يقل عن ربع الحياة في المحيطات. وتعد الشعاب المرجانية مهمة أيضًا للسكان، فهي تحمي السواحل ضد العواصف وتدعم مصائد الأسماك وتجتذب السياح.
ويُقدّر الخبراء أن الشعاب تنفع على نحو مباشر أكثر من نصف مليار شخص، إذ تسهم بعشرات المليارات من الدولارات سنويًا في الاقتصاد العالمي من خلال السياحة وحدها. وفضلًا عن ذلك، فإن قيمة الشعاب المرجانية للنفسية البشرية -من خلال تجربتها مباشرة، أو مجرد المعرفة بوجودها- لا ينكرها إلا جاحد. إذن، فمعاناة كثير من الشعاب المرجانية تحت وطأة الحرارة المرتفعة، هي أمرٌ جَلل؛ على أن التأثيرات تتفاوت وتختلف. إذ يقول عالم البيئة المرجانية "تشارلي فيرون"، كبير العلماء السابق لدى "المعهد الأسترالي لعلوم البحار": "يتحرك التغير المناخي مثل عباءة موحَّدة عبر كوكب الأرض، ولكن ثمة تباين كبير في تفاصيل ذلك. فتَبَيّض المرجان يحدث في مواقع متناثرة، وظروف الطقس المحلية تؤدي الدور الأهم: فقد تكون هنا غيوم موسمية تحمي الشعاب المرجانية، ولكن في موقع آخر هناك سماء زرقاء ترسل بأشعة شمسها الحارة لتعصف بالمياه". ويستطرد العالِم موضحًا أن هذا التباين يجعل من الصعب بمكان وضع خطط شاملة لمعالجة المشكلة. 
وعلى مَرّ أكثر من 20 عامًا، استخدمت "الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي" الأميركية بيانات الأقمار الصناعية والبيانات الموقعية، فضلًا عن النمذجة، للتنبؤ بالزمن المرجَّح لحدوث التبيّض ومكانه؛ مما منح القائمين على تدبير السواحل وقتًا استباقيًا ثمينًا وفرصة لتكثيف جهود الحماية، على حد قول "مارك إيكين"، منسق برنامج "مراقبة الشعاب المرجانية" التابع للإدارة المذكورة آنفًا. وسمحَ نظامُ الإنذار المبكر هذا لبعض من هؤلاء القائمين على تدبير السواحل بمنع الجمهور من ارتياد الشعاب المرجانية المعرضة للخطر، وبإزالة المرجان النادر وحفظه قبل إصابته بالتبيّض، وتجربة تظليل المرجان بمظلات صناعية.  لكن استراتيجيات "الطوارئ" هذه ليست رخيصة ولا هي بحلول طويلة الأمد. كما أنها لا تُجدي نفعًا في المواقع حيث نفق المرجان أصلًا. لذلك يحاول العلماء كذلك إعادة بناء الشعاب. ومن المأمول أن يُزرَع المرجان -رغم كونه حيوانًا- مثلما يُزرَع النبات: جمع العُقل، وتنميتها في مشاتل (بالمختبرات)، ثم تطعيم أنضجها على شعاب متدهورة؛ لبعث حياة جديدة فيها.

وظل علماء البيئة، على مَرّ عقود من الزمن، يُحسّنون هذه الاستراتيجية لزراعة مرجان متفرع سريع النمو. ولكن حتى وقت قريب، لم يحاول سوى عدد قليل من "مزارعي" المحيطات زرعَ اللبنات الأساسية الحقيقية للشِعب، كالمرجان الجلمودي ومرجان المخ، وهما نوعان ضخمان ينموان بوتيرة بطيئة ويمكن أن يعيشا مئات السنين ويستغرقا عقودًا من الزمن لبلوغ مرحلة النضج والتناسل. ثم تَحقق إنجاز: إذ اكتشف علماء "مختبر مُوتِّي" أن "شظايا دقيقة" مقطوعة من هذا المرجان تعمل إلى حدٍّ ما مثل جِلدٍ مصاب، فتنمو بسرعة كبيرة تبلغ 10 أضعاف سرعة العُقَل الكبيرة. وتُنَمَّى السلائل (Polyps) المقطوعة من المستعمرة نفسها جنبًا إلى جنب في أحواض المختبر، ومن ثم يندمج بعضها مع بعض؛ مما يقلّص الوقت اللازم للوصول إلى حجم التناسل. وبفضل أسلوب الاستزراع هذا، فإن بعض الأنواع التي يستغرق بلوغها مرحلة التناسل في العادة عقدًا من الزمن أو أكثر، قد بدأت في التكاثر في غضون بضعة أعوام فقط.
ولكن جميع تلك البساتين معرَّض لأحوال الطقس الشديد، حتى التي تحظى بأفضل رعاية؛ وقد انهار كثيرٌ من المرجان المتفرع الذي استُزرع بالمشاتل، مُستسلمًا في النهاية لارتفاع درجات الحرارة. لذا من الأهمية بمكان، كما تقول كبيرة علماء الأحياء لدى "مختبر مُوتِّي"، "إرين مولر"، أن نركز على استخدام المرجان الذي يتحمل درجات حرارة عالية. وتَدرس مولر أيضًا إمكانية وجود ارتباط بين الحرارة ومرض يسمى "فقدان النسيج المرجاني الصخري"، والذي ظهر أول مرة في جزر "فلوريدا كيز" عام 2014، وأثر الآن في كل جزء تقريبًا من الحاجز المرجاني البالغ طوله 580 كيلومترًا. تقول مولر: "المرض مشكلة مزمنة للشعاب المرجانية، لذلك فإننا نبحث عن أنواع تصمد ضد الأمراض والحرارة، فنكثف إكثار المرجان الذي يرجَّح أن ينجو من هاتين الآفتين في العقود المقبلة؛ وباعتماد هذا النهج، ندمج عامل المرونة والقدرة على التأقلم في جهود ترميم الشعاب المرجانية". 
وتشمل استراتيجياتُ "مختبر مُوتِّي" أيضًا جهودَ ترميم الشعاب المرجانية خارج مياه فلوريدا. إذ يعكف فريق "زرع مرجان كوستاريكا"، بقيادة علماء بيئة كوستاريكيين وأميركيين متخصصين في الشعاب المرجانية، على استزراع الأنواع المتفرعة وكذا الشظايا الدقيقة من المرجان الجلمودي، لإحياء الشعاب القديمة في خليج "غولفو دولتشي". إذ يحظى مرجان هذه المنطقة، الذي يبلغ عمر بعضه آلاف السنين، بأهمية خاصة: إذ تصب في الخليج أربعة أنهار وتجرفه تيارات المد والجزر، لذا يتعرض المرجان لتقلبات سريعة في درجات الحرارة والحموضة والملوحة؛ مما يجعله مجهزًا جيدًا للتعامل مع الظروف المتغيرة. ومن ثم يمكن أن تحمل مورّثاته، وتلك التي لدى مرجان آخر يعيش في ظروف متقلبة مماثلة، أدلة على تعزيز ميزات المرونة والتأقلم في أماكن أخرى. 

إنقاذ الشعاب المرجانية

يَرفع التغير المناخي حرارةَ المحيطات فيقضي على أروع الشِّعاب المرجانية في العالم؛ لذا يسعى العلماء جاهدين لحماية المناطق المعرضة للخطر، ولتطوير أنواع مرجان أصلب وأشد مقاومة.

صاح الغواصون بحماس وإثارة، مرتدين أقنعة التنفس، وطفقت أذرعهم وأرجلهم تتأرجح في انشراح وابتهاج. كان ذلك في أغسطس 2020، أسفل مِن شِعب مرجاني بعمق أربعة أمتار لدى مياه جزر "فلوريدا كيز"؛ حيث كانت عالمة الأحياء البحرية، "هانا كوك"، وزملاؤها من "مختبر مُوتّي البحري" يتأرجحون ويحومون، في ترقّب وانتظار. قبل منتصف الليل بقليل، وفي انفجار صامت انبعث من المرجان على طول أحد الشِّعاب، شرعَتْ في الصعود حُزمٌ صغيرة ذات لون برتقالي متورّد من السائل المنوي والبيوض؛ لِتُبقِّعَ البحرَ بثوران تنقيطي يفيض بالحياة. نتجَ عن رقصات الفريق المبتهج شرارات زرقاء كهربائية انبعثت من الكائنات المُضاءة حيويًا في البحر من حولهم. تقول كوك: "بدا الأمر كما لو أننا أطلقنا الألعاب النارية. كان المشهد بهيجًا جميلا".
يُجسّد ذلك الدفق الحيوي المفاجئ طريقة تكاثر العديد من المرجان الذي يبني الشِّعاب المرجانية؛ بمعدل مرة واحدة كل عام في ليلة صيفية بعد أيام قليلة على اكتمال القمر. فاستجابةً للدورة القمرية ودرجة حرارة الماء وطول النهار على السطح، تطلق الأنواع المرجانية عبر شعاب فلوريدا في الوقت ذاته تريليونات من الحيوانات المنوية وملايين من البيوض؛ وهو نشاط محموم يعزز التنوع الوراثي ويضمن تخصيب نسبة صغيرة من البيوض واستقرارها على الشعاب في شكل يرقات، وبالتالي زرع بذور الجيل التالي من المرجان.
ولكن، لم يكن ذلك حدثَ تكاثر عاديًا. فهذا المرجان النجمي الجبلي -المعروف علميًا باسم (Orbicella faveolata) والمهدد بالانقراض حسب "قانون الأنواع المهَّددة"- قد تم استنباته و"زرعه" عام 2015 من قبل علماء مختبر مُوتّي، ضمن جهود ترميم شِعب مرجاني. وقد نجا ذلك المرجان من جائحة تَبيُّض في ذلك العام، وإعصار من الفئة الرابعة في عام 2017، ووباء في عام 2019؛ مما دل على مرونة مشجعة. وبلغ المرجان أعوام النضج التناسلي أسرع من نظيره الأصيل، وأصبح بذلك أول مرجان تعويضي يتناسل في البحر. ولقد شكَّل ذلك إنجازًا أثلج صدور العلماء الذين يسعون جاهدين لإنقاذ المرجان من الآثار المدمرة للتغير المناخي وسائر التهديدات الناجمة عن النشاط البشري. فمن بين أكثر من 800 نوع معروف من المرجان الباني للشعاب، يصنف "الاتحاد الدولي لصون الطبيعة" أكثر من ربعها على أنه في خطر انقراض متوسط أو كبير أو أقصى، ويحذر من أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد من خطر انقراض المرجان.

قبل زُهاء 40 عامًا خلت، شهد "بيتر هاريسون"، عالم البيئة البحرية لدى "جامعة ساثرن كروس" الأسترالية، أول حدث موثَّق لتبيّض مرجاني واسع النطاق. وعندما غاص الرجل قبالة جزيرة "ماغنيتيك" في "الحاجز المرجاني العظيم"، صُدم من هول المشهد؛ إذ يقول واصفًا إيّاه: "كان الشِعب خليطًا من المرجان السليم والمرجان الأبيض شديد التبيّض، مثل بدايات مدينة شبحية". وقبل أشهر فقط على ذلك، كان الموقع نفسه يموج بحياة استوائية بألوان زاهية. يقول: "لقد نفق كثير من مئات الكتل المرجانية التي سبق لي أن وسمتُها وراقبتها بعناية. كان ذلك صادمًا وجعلني أدرك مدى هشاشة هذا المرجان حقًّا".
ويعيش المرجان على نحو تكافلي مع طحالب التركيب الضوئي، التي تستوطن في أنسجته وتوفر له الغذاء الأساسي (والألوان). لكن درجات الحرارة المرتفعة وغيرها من عوامل الإجهاد يمكن أن تحول الطحالب إلى كائنات سامة. وعندما يحدث ذلك، قد تنفق الطحالب أو يطرحها المرجان؛ وهي عملية تُعرف باسم التبيّض (Bleaching) لأن أنسجة المرجان الصافية وهيكله الأبيض من كربونات الكالسيوم، تصبح مكشوفة. وإذا لم يستطع المرجان استعادة علاقته مع الطحالب، فإنه إما أن ينفق جوعًا أو يستسلم للمرض.
تَكرر ذلك الدمار الذي شهده هاريسون في عام 1982 على كثير من الشعاب المرجانية الأخرى في المحيط الهادي خلال ذلك العام والذي تلاه. وفي عامي 1997 و 1998، أصبحت الظاهرة عالمية، إذ قتلت زُهاء 16 بالمئة من مرجان العالم. فمع ارتفاع درجات الحرارة، والتلوث، والأمراض، وتنامي حموضة المحيطات، والأنواع الدخيلة الغازية، والمخاطر الأخرى.. تنتشر تلك المدن الشبحية التي وصفها هاريسون. ويعتقد العلماء أنه منذ نحو أربعة عقود، حدث تبيّض شديد خلال كل 25 عامًا تقريبا؛ مما منح المرجانَ وقتًا للتعافي. لكن جوائح التبيّض تقع اليوم على نحو أسرع -كل ستة أعوام تقريبًا- وفي بعض الأماكن يمكن في أجل قريب أن تبدأ في الحدوث سنويًا. وتعليقًا على ذلك، يقول عالم الأحياء البحرية، "تيري هيوز"، من "جامعة جيمس كوك" الأسترالية: "إن الحل الوحيد الأوحد هو التصدي للاحتباس الحراري. فمهما نظفنا مياه البحار، سوف تنهار الشعاب". في عام 2016، وهو عام سجل أرقامًا قياسية في الحرارة بالعديد من البحار، ابيَضّ ما نسبته 91 بالمئة من الشعاب المشَكِّلة للحاجز المرجاني العظيم.

يَضج كل شِعب مرجاني بالموسيقى.. والحركة: نقرات وطقطقات وصرير وغرغرة، يُصاحبها اهتزاز المرجان الرخو، وارتعاش الروبيان، وقضمات الأسماك، وانزلاق السرطانات. وتنبثق ثعابين "موراي" من تجويفات مثل دمى بأفواه مفتوحة؛ وتتقاتل أسماك قرش الشعاب للحصول على قضمات؛ ويتسكع الحبار الفضولي، ثم يندفع. وفي وجود أجمات من مرجان "الخورن" والمرجان "الجلمودي" مثل كعكات مثلجة ضخمة باللون الوردي والأخضر، وبطبقات مزينة بمراوح بحر مزركشة، وديدان أنبوبية، ومنافض ريشية.. فإن الشعاب مدهشة وكأنها من عالم خرافي؛ كمثل مسرح مخصص لعروض درامية يومية متكررة. من كل ركن وتجويف، تلوّح مخلوقات شبيهة بشخصيات كرتونية، بزعانفها أو مخالبها أو مِجسّاتها، كلٌّ يدافع عن مكانه الصغير في العالم.
قبل اثني عشر عامًا أو نحو ذلك، أمضيتُ 15 يوما من الدهشة في حضرتها وأنا أغوص في الحاجز المرجاني العظيم مع المصورين "ديفيد دوبيلي" و"جنيفر هايز". واحتفى التحقيق الذي كتبته لفائدة "ناشيونال جيوغرافيك" بتلك الشعاب المرجانية وحذّرنا أننا قد نفقد هذا المكان المدهش. وبصفتي صحافية ذات خلفية أكاديمية في بيولوجيا الحِفظ، انتابني القلق بشأن انهيار النظم البيئية؛ وبصفتي غطاسة وعاشقة للبحر، خشيت حدوث خسارة أفدح بكثير. لذلك عندما رأيتُ أحدث صور للشعاب المرجانية التي غُصنا فيها سابقًا -بعضها صار اليوم حقولَ أنقاض تخنقها الطحالب- تخيلتُ الجمود والصمت، وبكيت. وعلى الرغم من ذلك الدمار، لا يزال الحاجز المرجاني العظيم أعجوبة طبيعية (إذ يتشكل من زُهاء 3000 شِعب مرجاني منفصلة تمتد على طول 2300 كيلومتر من الساحل الشمالي الشرقي لأستراليا) وتحفة نفيسة نادرة: فتجمعات الشعاب المرجانية الاستوائية الضحلة لا تغطي سوى أقل من 1 بالمئة من قاع البحر. لكن نفوق ولو شِعب مرجاني واحد فقط له آثار مدمرة؛ إذ تدعم هذه النظم البيئية ما لا يقل عن ربع الحياة في المحيطات. وتعد الشعاب المرجانية مهمة أيضًا للسكان، فهي تحمي السواحل ضد العواصف وتدعم مصائد الأسماك وتجتذب السياح.
ويُقدّر الخبراء أن الشعاب تنفع على نحو مباشر أكثر من نصف مليار شخص، إذ تسهم بعشرات المليارات من الدولارات سنويًا في الاقتصاد العالمي من خلال السياحة وحدها. وفضلًا عن ذلك، فإن قيمة الشعاب المرجانية للنفسية البشرية -من خلال تجربتها مباشرة، أو مجرد المعرفة بوجودها- لا ينكرها إلا جاحد. إذن، فمعاناة كثير من الشعاب المرجانية تحت وطأة الحرارة المرتفعة، هي أمرٌ جَلل؛ على أن التأثيرات تتفاوت وتختلف. إذ يقول عالم البيئة المرجانية "تشارلي فيرون"، كبير العلماء السابق لدى "المعهد الأسترالي لعلوم البحار": "يتحرك التغير المناخي مثل عباءة موحَّدة عبر كوكب الأرض، ولكن ثمة تباين كبير في تفاصيل ذلك. فتَبَيّض المرجان يحدث في مواقع متناثرة، وظروف الطقس المحلية تؤدي الدور الأهم: فقد تكون هنا غيوم موسمية تحمي الشعاب المرجانية، ولكن في موقع آخر هناك سماء زرقاء ترسل بأشعة شمسها الحارة لتعصف بالمياه". ويستطرد العالِم موضحًا أن هذا التباين يجعل من الصعب بمكان وضع خطط شاملة لمعالجة المشكلة. 
وعلى مَرّ أكثر من 20 عامًا، استخدمت "الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي" الأميركية بيانات الأقمار الصناعية والبيانات الموقعية، فضلًا عن النمذجة، للتنبؤ بالزمن المرجَّح لحدوث التبيّض ومكانه؛ مما منح القائمين على تدبير السواحل وقتًا استباقيًا ثمينًا وفرصة لتكثيف جهود الحماية، على حد قول "مارك إيكين"، منسق برنامج "مراقبة الشعاب المرجانية" التابع للإدارة المذكورة آنفًا. وسمحَ نظامُ الإنذار المبكر هذا لبعض من هؤلاء القائمين على تدبير السواحل بمنع الجمهور من ارتياد الشعاب المرجانية المعرضة للخطر، وبإزالة المرجان النادر وحفظه قبل إصابته بالتبيّض، وتجربة تظليل المرجان بمظلات صناعية.  لكن استراتيجيات "الطوارئ" هذه ليست رخيصة ولا هي بحلول طويلة الأمد. كما أنها لا تُجدي نفعًا في المواقع حيث نفق المرجان أصلًا. لذلك يحاول العلماء كذلك إعادة بناء الشعاب. ومن المأمول أن يُزرَع المرجان -رغم كونه حيوانًا- مثلما يُزرَع النبات: جمع العُقل، وتنميتها في مشاتل (بالمختبرات)، ثم تطعيم أنضجها على شعاب متدهورة؛ لبعث حياة جديدة فيها.

وظل علماء البيئة، على مَرّ عقود من الزمن، يُحسّنون هذه الاستراتيجية لزراعة مرجان متفرع سريع النمو. ولكن حتى وقت قريب، لم يحاول سوى عدد قليل من "مزارعي" المحيطات زرعَ اللبنات الأساسية الحقيقية للشِعب، كالمرجان الجلمودي ومرجان المخ، وهما نوعان ضخمان ينموان بوتيرة بطيئة ويمكن أن يعيشا مئات السنين ويستغرقا عقودًا من الزمن لبلوغ مرحلة النضج والتناسل. ثم تَحقق إنجاز: إذ اكتشف علماء "مختبر مُوتِّي" أن "شظايا دقيقة" مقطوعة من هذا المرجان تعمل إلى حدٍّ ما مثل جِلدٍ مصاب، فتنمو بسرعة كبيرة تبلغ 10 أضعاف سرعة العُقَل الكبيرة. وتُنَمَّى السلائل (Polyps) المقطوعة من المستعمرة نفسها جنبًا إلى جنب في أحواض المختبر، ومن ثم يندمج بعضها مع بعض؛ مما يقلّص الوقت اللازم للوصول إلى حجم التناسل. وبفضل أسلوب الاستزراع هذا، فإن بعض الأنواع التي يستغرق بلوغها مرحلة التناسل في العادة عقدًا من الزمن أو أكثر، قد بدأت في التكاثر في غضون بضعة أعوام فقط.
ولكن جميع تلك البساتين معرَّض لأحوال الطقس الشديد، حتى التي تحظى بأفضل رعاية؛ وقد انهار كثيرٌ من المرجان المتفرع الذي استُزرع بالمشاتل، مُستسلمًا في النهاية لارتفاع درجات الحرارة. لذا من الأهمية بمكان، كما تقول كبيرة علماء الأحياء لدى "مختبر مُوتِّي"، "إرين مولر"، أن نركز على استخدام المرجان الذي يتحمل درجات حرارة عالية. وتَدرس مولر أيضًا إمكانية وجود ارتباط بين الحرارة ومرض يسمى "فقدان النسيج المرجاني الصخري"، والذي ظهر أول مرة في جزر "فلوريدا كيز" عام 2014، وأثر الآن في كل جزء تقريبًا من الحاجز المرجاني البالغ طوله 580 كيلومترًا. تقول مولر: "المرض مشكلة مزمنة للشعاب المرجانية، لذلك فإننا نبحث عن أنواع تصمد ضد الأمراض والحرارة، فنكثف إكثار المرجان الذي يرجَّح أن ينجو من هاتين الآفتين في العقود المقبلة؛ وباعتماد هذا النهج، ندمج عامل المرونة والقدرة على التأقلم في جهود ترميم الشعاب المرجانية". 
وتشمل استراتيجياتُ "مختبر مُوتِّي" أيضًا جهودَ ترميم الشعاب المرجانية خارج مياه فلوريدا. إذ يعكف فريق "زرع مرجان كوستاريكا"، بقيادة علماء بيئة كوستاريكيين وأميركيين متخصصين في الشعاب المرجانية، على استزراع الأنواع المتفرعة وكذا الشظايا الدقيقة من المرجان الجلمودي، لإحياء الشعاب القديمة في خليج "غولفو دولتشي". إذ يحظى مرجان هذه المنطقة، الذي يبلغ عمر بعضه آلاف السنين، بأهمية خاصة: إذ تصب في الخليج أربعة أنهار وتجرفه تيارات المد والجزر، لذا يتعرض المرجان لتقلبات سريعة في درجات الحرارة والحموضة والملوحة؛ مما يجعله مجهزًا جيدًا للتعامل مع الظروف المتغيرة. ومن ثم يمكن أن تحمل مورّثاته، وتلك التي لدى مرجان آخر يعيش في ظروف متقلبة مماثلة، أدلة على تعزيز ميزات المرونة والتأقلم في أماكن أخرى.