التراب.. ذلك الراسخ فينا دائمًا أبدًا
قبل الانتقال رفقة زوجي إلى سان فرنسيسكو، كنا نعيش في جنوب كاليفورنيا، في بلدة متلألئة على طول الساحل على بعد كيلومترات إلى الجنوب من "مطار لوس أنجلوس الدولي". كانت باحةُ بيتِنا -المصمَّم على شاكلة مزرعة- منفتحةً على منطقة هادئة تمتد على مساحة 2000 متر مربع، وتموج بنباتات الشمر والمريمية والخردل البري. كانت أرضًا مملوكة للمدينة وقد حمَتها لتكون مساحةً مفتوحة على نحو دائم؛ وبعد انتقالنا بمدة وجيزة، "استعرتُ" قطعةً منها لجعلها حديقةَ خضراوات. نظفتُ الأرض بيدي، وطلبت حمولة شاحنة من التربة السطحية، ثم أنشأتُ 14 حوضَ أغراس (بِطول 3.5 متر وعرض 3 أمتار) زرعتُ فيها الطماطمَ والخيار والجزر والفاصوليا الخضراء والبنجر وخضراوات ورقية. كان والداي يعيشان على بعد ثلاثة شوارع فقط. وفي المساء -وغالبا صباح كل يوم سبت- كانا يأتيان لمساعدتي في الاعتناء بالحديقة. لم تكن التربة قَط مسألةً هيّنة لدى عائلتي. فلقد ربطتنا علاقة مديدة ومعقدة بالتربة والأرض، شأننا كشأن كثير من العائلات الأميركية ذات أصل إفريقي. لم يكن امتلاك الحديقة يعني لنا مجرد زراعة بذور ومشاهدتها تنمو. لقد كانت الحديقة بمنزلة همزة وصل مع ماضٍ مرير، تدعونا للاحتفاء بما أحرزنا من تقدم، وتبشر بالمستقبل. لقد كانت الحديقة احتفاءً بانتصارات أجدادنا وتخليدًا لكفاحهم. كانت تتعلق بالذاكرة والإرث.. ذاكرة وإرث عائلتي كما الأُمَّة الأميركية قاطبة. لقد كانت الحديقة سردًا لحكاية عن معنى أن يكون المرءُ من السود في الولايات المتحدة.
في النهار، كان والدي رجلَ أعمال وصاحبَ شركة؛ لكن حين زيارتي، كان يخلَع حذاءَه الأنيق ويشمّر عن ساعديه ويمشي حافي القدمين بين صفوف الحديقة. فلقد وُلد وترعرعَ في ريف جنوب لويزيانا وصرَّح مِرارًا وتكرارًا أنه يُحب أشياء كثيرة في الحياة، لكنّ أَحَبَّ شيء إلى قلبه هو أن يحس بقدميه في التربة. يقول إن الإحساس بدفء التربة تحت القدمين يُذكّره بأيام صباه.. مراهقة أمضاها في القنص والصيد وقطف القطن وزراعة الأرز.
بلغ والدي سن الرشد في عصر كان مثارَ استياء وامتعاض أن يكون المرء أسودَ البشرة ويمتلك أرضًا؛ وحينها كان يمكن لامتلاك قطعة أرض أن يلقي بصاحبه إلى التهلكة.
لكن حياة والدي في لويزيانا لم تكن سهلة أو رومانسية. بل إنه لا يُكِنّ أي حنين للجنوب. وبقدر ما أَحَبَّ الإحساس بقدميه في التربة، كرِهَ ما كانت تمثله تربةُ الجنوب. فلقد نشأ إبّان حقبة التمييز العنصري، وعاش باستمرار مهددًا بالعنف والترهيب والرعب على أيدي من يدّعون سمو العرق الأبيض ويُصرون على عرقلة تقدم السود. بلغ سن الرشد في عصر كان مثار استياء وامتعاض أن يكون المرء أسودَ البشرة ويمتلك أرضًا؛ وحينها كان امتلاك قطعة أرض للزراعة أو إنشاء شركة قد يلقي بصاحبه إلى التهلكة. وفي عام 1957، غادر والدي لويزيانا إلى غير رجعة، مُدركًا تمام الإدراك أن آفاق مستقبله لن تلوح على أرض مولده. خرج في إحدى موجات "الهجرة الكبرى"، التي دامت ما بين عامَي 1916 و 1970، حين غادر ستة ملايين أميركي من أصل إفريقي ريف الجنوب بحثًا عن فرص أفضل في المناطق الصناعية في الشمال الشرقي ووسط الغرب والغرب. هنالك انتقل والدي إلى كاليفورنيا، مستبدلًا حقول الأرز والأودية الملتوية في لويزيانا بشطآن لوس أنجلوس الرملية وسواحلها مترامية الأطراف. عمل ضابط مراقبة، ثم شق طريقه في مجال المبيعات. انتهى به المطاف صاحبَ شركة؛ وهو أمر لم يكن ليتحقق في موطن نشأته. فسح عملُه المجال لارتقاء عائلته. وبالنسبة إلى والدي، كان البقاء قريبًا من الأرض يعني ضياع الفرص. فلقد كان السبيل الوحيد للنجاح هو اقتلاع نفسه والتخلي عن أرض المنشأ.
لم يعش والدي في لويزيانا قَط مرة أخرى، لكنه كان دائما يقول إن تربتَها شكلت وعيَه بعمق، وإنه مهما حقق من إنجازات شخصية، يُعرِّف نفسَه -وجدانيًا وروحيًا وفكريًا وثقافيًا- بالأرض التي أتى منها. لقد كانت تربة لويزيانا، بحسناتها وسيئاتها، تجري منه مجرى الدم. أما علاقة أمي بالتربة فكانت مختلفة؛ فهي سليلة أجيال كانت ترى في التربة فرصة. وُلدت في ديترويت بولاية ميشيغان، ونشأت على مبدأ مفاده أن امتلاك الأرض هو السبيل نحو الاعتماد على الذات والاستقلال المالي. وحتى في الجنوب، على خلاف عائلة والدي، كان أهلها يمتلكون الأرض ويعملون فيها. وُلد جدها الأكبر، "ماك هول" عام 1845. وبعد التحرير، غادر المزرعة ليستقر غير بعيد في جورجيانا بولاية ألاباما. صار تاجرًا ومربي نحل ومزارعًا، واقتنى في نهاية المطاف أزيد من 240 هكتارا.
سواء زرعت جدتي البتونيا أو الغذاء، كانت أرض حديقتها الصغيرة عميمة النفع. ولقد كانت الأرض رمز السيادة والحرية والاستقلال.
في أعين ماك هول وأربعة ملايين من السود الآخرين الذين أُعتقوا حديثًا آنذاك، كان امتلاك الأرض بشيرًا بتقرير المصير. فقد كان امتلاك الرجال الأرضَ مُرادفًا للمكانة في المجتمع ودفع الضرائب وممارسة الحق في التصويت. كما كان امتلاك الأرض يَعِد بفرصة مراكمة الثروة التي يمكن تمريرها إلى الأجيال التالية. وبعبارة أخرى، كان امتلاك الأرض تأكيدًا لهوية المرء بصفته مواطنًا أميركيا، ووسيلةً لامتلاك زمام أمره بنفسه. هاجر والدا أمي، "مامون" و"ويلا"، إلى ديترويت في الأعوام الأولى من "الهجرة الكبرى"، آملين امتلاك الأرض مرة أخرى. وفي منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، اشتريا 11 قطعة أرض شاغرة في بلدة "رويال أوك" ذات الأغلبية السوداء على مشارف ديترويت. جعل مامون وويلا -على طريقتهما الخاصة- تلك الأرض نسخة من مزرعة عائلية. أقاما على إحدى القطع بيتين: أحدهما لنفسيهما وأبنائهما، والآخر لوالديهما. بعد مقتل مامون على يد سائق مخمور، حولت ويلا المرآب إلى شقتين أَجَّرَتهما لمهاجرين سود وفدوا من "أقصى الجنوب". لم تكن مجرد مالكة أرض، بل كانت توفر المأوى لغيرها من السود الحالمين بتحسين أوضاعهم.
على مر الأعوام، ظلت ويلا تبيع قطعة أرض شاغرة كلما احتاجت إلى المال، لكنها احتفظت بواحدة لزراعة خضراواتها. أطعمت نفسها وبناتها الخمس -جزئيا على الأقل- من الخضراوات التي استنبتت. فكانت القدرة على توفير الطعام والمأوى لعائلتها من الأرض التي امتلكتها بمنزلة صمام أمان يُغنيها عن الاعتماد على غيرها في توفير لقمة العيش. وسواء زرعت البتونيا أو الغذاء، كانت أرض حديقتها الصغيرة عميمة النفع. لقد كانت ويلا ترى في التربة رمز السيادة والحرية والاستقلال. نقلـت ويـلا إيمـانـها بامتـلاك الأرض إلى والـدتي التـي استخدمت قسطًا من راتبها المتواضع -وكانت مُدَرِّسة- لشراء أرض في ضاحية لوس أنجلوس. واليوم، خلال الأماسي المعتدلة وصباحات أيام السبت المشرقة، نتعهد أنا وأمي الحديقة بالرعاية. ترتدي قفازات البستنة وقبعتها ذات الحواف، وتُذكّرني دائما أن امتلاك الأرض يجري في عائلتنا مجرى الدم. كنت ممتنة لحكايات والديَّ وجذورهما الجنوبية. ومكنني العمل معهما في الحديقة من رؤية حياتهما من منظور جديد. لقد كانوا أشخاصا يدركون أنهم لا يستطيعون إعالة أنفسهم والمُضي قُدمًا مع الاحتفاظ بعلاقة تقليدية مع الأرض. كان عليهم اتخاذ قرارات مختلفة. مع ذلك، كانوا واعين تمام الوعي بكيفية نشوء دوافعهم وعزيمتهم من الأرض.
والآن حان دوري لأتغلب على الماضي وأطرح مجموعة جديدة من أسئلة على القدر نفسه من التعقيد. وُلِدْتُ وترعرعت في كاليفورنيا، في الضواحي المحاطة بالمروج المشذبة والخرسانة. كان علي صوغ علاقتي الخاصة بالأرض ومن ثم تمريرها إلى أطفالي. وصرت أرى الحديقة فرصة أمام بناتي لربط الصلة مع أسلافهن. أدركت أنني أول فرد من العائلة أدت البستنة في حياته دورًا مختلفًا تماما. كان تقليب التربة بالنسبة إلي هواية وشغفًا. كانت الحديقة مكان ترفيه ومتعة، وموردًا للذاكرة القوية واستحضار الماضي. لن تكون التربة أبدًا مجرد شيء وحيد في أعين السود. سيكون ثمة دائمًا توتر بين التربة والتقاليد، وبين التربة والتقدم، وبين التربة والحرية. وإننا نمارس البستنة للتخفيف من حدة ذلك التوتر، والتصريح بأصلنا ومآلنا. إن البستنة محاولة منا للتذكر والنسيان، وللاستشراف والعودة إلى الخلف، للتمسك والاندفاع نحو الأمام.
خُدعة "40 فدانا وبغل واحد"
في يوم 12 يناير 1865، في سافانا بولاية جورجيا، التقى وزير الحرب في حكومة الاتحاد، "إدوين ستانتون" واللواء "ويليام تي. شيرمان" 20 قِسًّا من السود يمثلون أربعة ملايين آخرين حديثي العهد بالتحرر. سأل المحاربان القساوسةَ: ما عسى قومُكم فاعلين لإعالة أنفسهم؟ جاء الرد من القس المعمداني، "غاريسون فريزر": "أفضل طريقة للاعتناء بأنفسنا هي امتلاك الأرض. نريد أن نُوَطَّن في الأرض، إلى أن نستطيع شراءَها وتمَلُّكَها". بعد أربعة أيام، استجاب شيرمان؛ إذ أصدر، عبر "الأمر الميداني الخاص رقم 15"، تعليمات تقضي بتوزيع نحو 162 ألف هكتار من أراضي الكونفدرالية المصادَرة على العبيد السابقين. وبموجب الأمر -الذي سُمي فيما بعدُ "40 فدانا وبغل واحد"- تم توطين نحو 40 ألف أميركي أسود في غضون ستة أشهر. لكن منحة الأرض تلك كانت قصيرة الأمد. فما إن اغتيل الرئيس "أبراهام لنكولن" حتى تحرك خلَفُه "أندرو جونسون" لتهدئة المزارعين الكونفدراليين البِيض بإلغاء ذلك "الأمر رقم 15" وإرجاع أراضيهم. مع ذلك، وفي مواجهة العهد الذي نقضته أميركا، على مَرّ عقود بعد التحرر، ورغم إخفاق "إعادة البناء" وتصاعد التمييز العنصري، كدَحَ السود وقدَّموا تضحيات لتحقيق حلمهم: امتلاك الأرض. -نتالي بازيل
التراب.. ذلك الراسخ فينا دائمًا أبدًا
قبل الانتقال رفقة زوجي إلى سان فرنسيسكو، كنا نعيش في جنوب كاليفورنيا، في بلدة متلألئة على طول الساحل على بعد كيلومترات إلى الجنوب من "مطار لوس أنجلوس الدولي". كانت باحةُ بيتِنا -المصمَّم على شاكلة مزرعة- منفتحةً على منطقة هادئة تمتد على مساحة 2000 متر مربع، وتموج بنباتات الشمر والمريمية والخردل البري. كانت أرضًا مملوكة للمدينة وقد حمَتها لتكون مساحةً مفتوحة على نحو دائم؛ وبعد انتقالنا بمدة وجيزة، "استعرتُ" قطعةً منها لجعلها حديقةَ خضراوات. نظفتُ الأرض بيدي، وطلبت حمولة شاحنة من التربة السطحية، ثم أنشأتُ 14 حوضَ أغراس (بِطول 3.5 متر وعرض 3 أمتار) زرعتُ فيها الطماطمَ والخيار والجزر والفاصوليا الخضراء والبنجر وخضراوات ورقية. كان والداي يعيشان على بعد ثلاثة شوارع فقط. وفي المساء -وغالبا صباح كل يوم سبت- كانا يأتيان لمساعدتي في الاعتناء بالحديقة. لم تكن التربة قَط مسألةً هيّنة لدى عائلتي. فلقد ربطتنا علاقة مديدة ومعقدة بالتربة والأرض، شأننا كشأن كثير من العائلات الأميركية ذات أصل إفريقي. لم يكن امتلاك الحديقة يعني لنا مجرد زراعة بذور ومشاهدتها تنمو. لقد كانت الحديقة بمنزلة همزة وصل مع ماضٍ مرير، تدعونا للاحتفاء بما أحرزنا من تقدم، وتبشر بالمستقبل. لقد كانت الحديقة احتفاءً بانتصارات أجدادنا وتخليدًا لكفاحهم. كانت تتعلق بالذاكرة والإرث.. ذاكرة وإرث عائلتي كما الأُمَّة الأميركية قاطبة. لقد كانت الحديقة سردًا لحكاية عن معنى أن يكون المرءُ من السود في الولايات المتحدة.
في النهار، كان والدي رجلَ أعمال وصاحبَ شركة؛ لكن حين زيارتي، كان يخلَع حذاءَه الأنيق ويشمّر عن ساعديه ويمشي حافي القدمين بين صفوف الحديقة. فلقد وُلد وترعرعَ في ريف جنوب لويزيانا وصرَّح مِرارًا وتكرارًا أنه يُحب أشياء كثيرة في الحياة، لكنّ أَحَبَّ شيء إلى قلبه هو أن يحس بقدميه في التربة. يقول إن الإحساس بدفء التربة تحت القدمين يُذكّره بأيام صباه.. مراهقة أمضاها في القنص والصيد وقطف القطن وزراعة الأرز.
بلغ والدي سن الرشد في عصر كان مثارَ استياء وامتعاض أن يكون المرء أسودَ البشرة ويمتلك أرضًا؛ وحينها كان يمكن لامتلاك قطعة أرض أن يلقي بصاحبه إلى التهلكة.
لكن حياة والدي في لويزيانا لم تكن سهلة أو رومانسية. بل إنه لا يُكِنّ أي حنين للجنوب. وبقدر ما أَحَبَّ الإحساس بقدميه في التربة، كرِهَ ما كانت تمثله تربةُ الجنوب. فلقد نشأ إبّان حقبة التمييز العنصري، وعاش باستمرار مهددًا بالعنف والترهيب والرعب على أيدي من يدّعون سمو العرق الأبيض ويُصرون على عرقلة تقدم السود. بلغ سن الرشد في عصر كان مثار استياء وامتعاض أن يكون المرء أسودَ البشرة ويمتلك أرضًا؛ وحينها كان امتلاك قطعة أرض للزراعة أو إنشاء شركة قد يلقي بصاحبه إلى التهلكة. وفي عام 1957، غادر والدي لويزيانا إلى غير رجعة، مُدركًا تمام الإدراك أن آفاق مستقبله لن تلوح على أرض مولده. خرج في إحدى موجات "الهجرة الكبرى"، التي دامت ما بين عامَي 1916 و 1970، حين غادر ستة ملايين أميركي من أصل إفريقي ريف الجنوب بحثًا عن فرص أفضل في المناطق الصناعية في الشمال الشرقي ووسط الغرب والغرب. هنالك انتقل والدي إلى كاليفورنيا، مستبدلًا حقول الأرز والأودية الملتوية في لويزيانا بشطآن لوس أنجلوس الرملية وسواحلها مترامية الأطراف. عمل ضابط مراقبة، ثم شق طريقه في مجال المبيعات. انتهى به المطاف صاحبَ شركة؛ وهو أمر لم يكن ليتحقق في موطن نشأته. فسح عملُه المجال لارتقاء عائلته. وبالنسبة إلى والدي، كان البقاء قريبًا من الأرض يعني ضياع الفرص. فلقد كان السبيل الوحيد للنجاح هو اقتلاع نفسه والتخلي عن أرض المنشأ.
لم يعش والدي في لويزيانا قَط مرة أخرى، لكنه كان دائما يقول إن تربتَها شكلت وعيَه بعمق، وإنه مهما حقق من إنجازات شخصية، يُعرِّف نفسَه -وجدانيًا وروحيًا وفكريًا وثقافيًا- بالأرض التي أتى منها. لقد كانت تربة لويزيانا، بحسناتها وسيئاتها، تجري منه مجرى الدم. أما علاقة أمي بالتربة فكانت مختلفة؛ فهي سليلة أجيال كانت ترى في التربة فرصة. وُلدت في ديترويت بولاية ميشيغان، ونشأت على مبدأ مفاده أن امتلاك الأرض هو السبيل نحو الاعتماد على الذات والاستقلال المالي. وحتى في الجنوب، على خلاف عائلة والدي، كان أهلها يمتلكون الأرض ويعملون فيها. وُلد جدها الأكبر، "ماك هول" عام 1845. وبعد التحرير، غادر المزرعة ليستقر غير بعيد في جورجيانا بولاية ألاباما. صار تاجرًا ومربي نحل ومزارعًا، واقتنى في نهاية المطاف أزيد من 240 هكتارا.
سواء زرعت جدتي البتونيا أو الغذاء، كانت أرض حديقتها الصغيرة عميمة النفع. ولقد كانت الأرض رمز السيادة والحرية والاستقلال.
في أعين ماك هول وأربعة ملايين من السود الآخرين الذين أُعتقوا حديثًا آنذاك، كان امتلاك الأرض بشيرًا بتقرير المصير. فقد كان امتلاك الرجال الأرضَ مُرادفًا للمكانة في المجتمع ودفع الضرائب وممارسة الحق في التصويت. كما كان امتلاك الأرض يَعِد بفرصة مراكمة الثروة التي يمكن تمريرها إلى الأجيال التالية. وبعبارة أخرى، كان امتلاك الأرض تأكيدًا لهوية المرء بصفته مواطنًا أميركيا، ووسيلةً لامتلاك زمام أمره بنفسه. هاجر والدا أمي، "مامون" و"ويلا"، إلى ديترويت في الأعوام الأولى من "الهجرة الكبرى"، آملين امتلاك الأرض مرة أخرى. وفي منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، اشتريا 11 قطعة أرض شاغرة في بلدة "رويال أوك" ذات الأغلبية السوداء على مشارف ديترويت. جعل مامون وويلا -على طريقتهما الخاصة- تلك الأرض نسخة من مزرعة عائلية. أقاما على إحدى القطع بيتين: أحدهما لنفسيهما وأبنائهما، والآخر لوالديهما. بعد مقتل مامون على يد سائق مخمور، حولت ويلا المرآب إلى شقتين أَجَّرَتهما لمهاجرين سود وفدوا من "أقصى الجنوب". لم تكن مجرد مالكة أرض، بل كانت توفر المأوى لغيرها من السود الحالمين بتحسين أوضاعهم.
على مر الأعوام، ظلت ويلا تبيع قطعة أرض شاغرة كلما احتاجت إلى المال، لكنها احتفظت بواحدة لزراعة خضراواتها. أطعمت نفسها وبناتها الخمس -جزئيا على الأقل- من الخضراوات التي استنبتت. فكانت القدرة على توفير الطعام والمأوى لعائلتها من الأرض التي امتلكتها بمنزلة صمام أمان يُغنيها عن الاعتماد على غيرها في توفير لقمة العيش. وسواء زرعت البتونيا أو الغذاء، كانت أرض حديقتها الصغيرة عميمة النفع. لقد كانت ويلا ترى في التربة رمز السيادة والحرية والاستقلال. نقلـت ويـلا إيمـانـها بامتـلاك الأرض إلى والـدتي التـي استخدمت قسطًا من راتبها المتواضع -وكانت مُدَرِّسة- لشراء أرض في ضاحية لوس أنجلوس. واليوم، خلال الأماسي المعتدلة وصباحات أيام السبت المشرقة، نتعهد أنا وأمي الحديقة بالرعاية. ترتدي قفازات البستنة وقبعتها ذات الحواف، وتُذكّرني دائما أن امتلاك الأرض يجري في عائلتنا مجرى الدم. كنت ممتنة لحكايات والديَّ وجذورهما الجنوبية. ومكنني العمل معهما في الحديقة من رؤية حياتهما من منظور جديد. لقد كانوا أشخاصا يدركون أنهم لا يستطيعون إعالة أنفسهم والمُضي قُدمًا مع الاحتفاظ بعلاقة تقليدية مع الأرض. كان عليهم اتخاذ قرارات مختلفة. مع ذلك، كانوا واعين تمام الوعي بكيفية نشوء دوافعهم وعزيمتهم من الأرض.
والآن حان دوري لأتغلب على الماضي وأطرح مجموعة جديدة من أسئلة على القدر نفسه من التعقيد. وُلِدْتُ وترعرعت في كاليفورنيا، في الضواحي المحاطة بالمروج المشذبة والخرسانة. كان علي صوغ علاقتي الخاصة بالأرض ومن ثم تمريرها إلى أطفالي. وصرت أرى الحديقة فرصة أمام بناتي لربط الصلة مع أسلافهن. أدركت أنني أول فرد من العائلة أدت البستنة في حياته دورًا مختلفًا تماما. كان تقليب التربة بالنسبة إلي هواية وشغفًا. كانت الحديقة مكان ترفيه ومتعة، وموردًا للذاكرة القوية واستحضار الماضي. لن تكون التربة أبدًا مجرد شيء وحيد في أعين السود. سيكون ثمة دائمًا توتر بين التربة والتقاليد، وبين التربة والتقدم، وبين التربة والحرية. وإننا نمارس البستنة للتخفيف من حدة ذلك التوتر، والتصريح بأصلنا ومآلنا. إن البستنة محاولة منا للتذكر والنسيان، وللاستشراف والعودة إلى الخلف، للتمسك والاندفاع نحو الأمام.
خُدعة "40 فدانا وبغل واحد"
في يوم 12 يناير 1865، في سافانا بولاية جورجيا، التقى وزير الحرب في حكومة الاتحاد، "إدوين ستانتون" واللواء "ويليام تي. شيرمان" 20 قِسًّا من السود يمثلون أربعة ملايين آخرين حديثي العهد بالتحرر. سأل المحاربان القساوسةَ: ما عسى قومُكم فاعلين لإعالة أنفسهم؟ جاء الرد من القس المعمداني، "غاريسون فريزر": "أفضل طريقة للاعتناء بأنفسنا هي امتلاك الأرض. نريد أن نُوَطَّن في الأرض، إلى أن نستطيع شراءَها وتمَلُّكَها". بعد أربعة أيام، استجاب شيرمان؛ إذ أصدر، عبر "الأمر الميداني الخاص رقم 15"، تعليمات تقضي بتوزيع نحو 162 ألف هكتار من أراضي الكونفدرالية المصادَرة على العبيد السابقين. وبموجب الأمر -الذي سُمي فيما بعدُ "40 فدانا وبغل واحد"- تم توطين نحو 40 ألف أميركي أسود في غضون ستة أشهر. لكن منحة الأرض تلك كانت قصيرة الأمد. فما إن اغتيل الرئيس "أبراهام لنكولن" حتى تحرك خلَفُه "أندرو جونسون" لتهدئة المزارعين الكونفدراليين البِيض بإلغاء ذلك "الأمر رقم 15" وإرجاع أراضيهم. مع ذلك، وفي مواجهة العهد الذي نقضته أميركا، على مَرّ عقود بعد التحرر، ورغم إخفاق "إعادة البناء" وتصاعد التمييز العنصري، كدَحَ السود وقدَّموا تضحيات لتحقيق حلمهم: امتلاك الأرض. -نتالي بازيل