روايات متخفية

يُجسّد أشخاصٌ غير بِيض في مواقع تاريخ حية شخصيات من الماضي، ليعيدوا تقليب صفحات مؤلمة ويتشاركوا مع العالم منظورَهم لقصة أميركا.

خلال أيام الإجازة، ترتدي "تشيني ماك نايت"، المقيمة في نيويورك، طماقًا وقميصًا قصيرًا أو فستانًا مطبوعًا بأشكال إفريقية تقليدية. لكنها تمضي وقتًا أطول نسبيًا في الاستعداد لعملها اليومي عندما ترتدي قميصًا فضفاضًا ومِشَدًّا وثلاث طبقات من التنورات، وفوق كل ذلك عباءة قطنية وغطاء للرأس من القماش. ماك نايت امرأة أميركية سوداء من القرن الحادي والعشرين، لكنها متخصصة -بصفتها الممثلة التاريخية لدى متحف (Not Your Momma’s History) ومؤسسته- في تشخيص المستعبَدين والأحرار من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالولايات المتحدة. إذ تُسخّر تجربتها العملية على مرّ قرابة عقد من الزمان في مواقع التاريخ الحية، في ارتداء ملابس المستعبَدين لتجسيد لحظات الطبخ على المواقد القديمة في إحدى مزارع فرجينيا، أو تشخيص امرأة "كريولية" حرة خلال مهرجان يُبرز تاريخ نيو أورليانز. وتؤدي ماك نايت -مثل كثير من الممثلين- تلك الأدوار بصيغة الغائب؛ إذ تحاكي أزياء الماضي ولكنها لا تتظاهر بكونها شخصية من زمن آخر. فهي ترى أن هذا المنظور يتيح لها التحدث بصراحة أكبر ووضع القضايا الشائكة، مثل الرق والعنصرية والتعذيب، في سياقها المناسب. تقول ماك نايت: "قد يكون من الصعب التفاعل مع الزوار، لكنني أريد مواجهة هذا التحدي. فهدفي هو زيادة دقة تصوير السود الأميركيين في المواقع التاريخية والمتاحف".
ففي الولايات المتحدة، يعمل جل الممثلين التاريخيين في أحد متاحف التاريخ الحي البالغ عددها زهاء المئتين في جميع أنحاء البلد، بدءًا بأماكن شاسعة تتيح لزوارها خوض تجارب حسية غامرة مثل "كولونيال ويليامزبرغ"، وصولا إلى المواقع الأصغر مثل قِلاع الحرب الأهلية أو المزارع الكبرى التي تعود للعصر الفكتوري. ويعمل بعض الممثلين التاريخيين بدوام كامل، فيما يعمل آخرون بدوام جزئي أو بصفة تطوعية في المناسبات الخاصة. وهم يقومون بكل شيء، بدءًا من تقمص دور الضيوف الأثرياء في حفلات ثلاثينيات القرن العشرين خلال الجولات المنظمة في "قلعة هيرست" بكاليفورنيا إلى السير مثل جنود ثمانينيات القرن التاسع عشر في "حصن ماكيناك" بولاية ميتشغان. ويؤدي هؤلاء المرشدون وهذه المواقع مَهمة مشتركة من خلال السفر عبر الزمن، تتمثل في تثقيف الزوار بشأن التاريخ من خلال الزج بهم في تجارب غامرة تشمل الأشخاص والأماكن والنشاطات. لكن المؤسسات التي توظف السود والسكان الأصليين وغيرهم من غير البِيض -وتحاول أن تصورهم بأمانة- لا تزال أمامها طريق طويلة لتحقيق هذه الغاية.

  • روايات متخفية

 

ففي أوائل القرن العشرين، تغاضت العديد من المواقع التاريخية عن الأشخاص غير البِيض أو عمدت إلى إسقاطهم من برامجها. فلربما كان لمزارع ما قبل الحرب مرشد سياحي بملابسه التاريخية، لكن غالبًا ما كانت تتولى القيام بذلك امرأة بيضاء تتجمل بكامل زينتها كسيّدة أرستقراطية على شاكلة ما جاء في فيلم "ذهب مع الريح". أما إذا تم التلميح إلى الرق، فقد يستخدم العاملون كلمة "الخدم" على استحياء. وفي أواخر القرن الثامن عشر، كان ما يقرب من نصف سكان مدينة ويليامزبرغ من السود؛ إذ كانوا يرزحون تحت أعباء قَطع الحطب، وتفريغ مراحيض الأسِرّة، والزراعة التي مكنت عاصمة مستعمرةِ فرجينيا من سد احتياجاتها. وقد بُني متحف "كولونيال ويليامزبرغ" الذي يوثق لبدايات الحياة الأميركية على مساحة 122 هكتارًا على بقايا المدينة القديمة في عام 1932. لكن لم يمثل المواطنينَ السود في أيامه الأولى سوى عدد قليل من العاملين بأزيائهم التاريخية، وكان جلهم يرتدي زي الحوذيين.
وعندما بدأ التمثيل في "كولونيال ويليامزبرغ" بصيغة المتكلم في أواخر سبعينيات القرن العشرين، كان ثلاثة ممثلين سود من بين أعضاء الفرقة المكونة من تسعة أشخاص. وكانوا يصورون مجموعة من شخصيات المستعبَدين، بمن فيهم "الأب غوان بامفليت"، القس الذي حُرِّر من الرق. أما اليوم، فيوجد من بين طاقم العاملين 36 ممثلا يؤدون بصيغة المتكلم؛ 15 منهم من السود، على الرغم من أن العدد الإجمالي للممثلين غير البِيض الذين يعملون بأزيائهم التاريخية في الموقع، لا يشكل سوى 14 بالمئة. "لم نصل بعد إلى التوازن المثالي الذي يسمح بسرد القصة كاملة، لكننا قطعنا أشواطًا متقدمة على ما كنا عليه في أي وقت مضى"، يقول "ستيفن سيلز" الذي يؤدي دور جاسوس الثورة الأميركية المستعبَد، "جيمس أرميستيد لافاييت".
وقد بدأت المؤرخة والممثلة "ماري كارتر" في تصوير "آغي"، وهي شخصية حقيقية لامرأة سوداء مستعبَدة من القرن الثامن عشر، في "كولونيال ويليامزبرغ" في عام 2011؛ إذ جذبتها السيرة الذاتية لهذه المرأة التي تضمنت تفاصيل دقيقة لم تكن تتوقعها. فقد حملت آغي -مثل كثير من المستعبَدات- من مالك المزرعة، "رايلاند راندولف"، وأنجبت له طفلين. لكن الأمر الأكثر غرابة هو أن وصية راندولف بعد وفاته نصت على تحرير آغي وطفليها. وكان من اللازم خوض معركة في المحاكم لتنفيذ رغبته. تقول كارتر: "أردت أن يعرف الناس اسمها وقصتها".
وغالبًا ما تعرّج كارتر خلال الجولات والأحاديث على موضوعات قاتمة ومزعجة، مثل العنف وحقوق الإنسان. وتتحدث، عند تشخيصها آغي، بحذر شديد وهي تنقل بصوتها نبرة توتر من يتحدث عن زمن غيره ويأتي بكلمات وحركات ليست له. فالأسئلة التي يمطرها بها الزوار، من قبيل "هل أحبها راندولف؟ وهل كان يعاملها معاملة حسنة؟"، تتطلب إجابات مؤلمة. تقول كارتر: "أتفَهّم ما يسألون عنه؛ فهم يريدون معرفة ما إذا كان هناك أمل أو جانب مشرق. وأعتقد أن المستعبَدين عاشوا لحظات من الفرح، لكن من الخطأ البحث عنها في تصرفات الأشخاص الذين استعبدوهم". وتواصل كارتر، شأنها في ذلك كشأن جل الممثلين، إجراء الأبحاث من خلال الرسائل ووثائق المحاكم والمذكرات. ولا تنفك عن تطوير تشخيصها لآغي. تقول: "مرت علي أوقات في حياتي شعرت فيها بالخجل لأنني من أحفاد المستعبَدين. لكنهم نسوا أن يخبروني بضرورة الافتخار بما كابدوه، وما تجاوزوه، وما تزودوا به من قوة من أجل المضي قُدمًا".

روايات متخفية

يُجسّد أشخاصٌ غير بِيض في مواقع تاريخ حية شخصيات من الماضي، ليعيدوا تقليب صفحات مؤلمة ويتشاركوا مع العالم منظورَهم لقصة أميركا.

خلال أيام الإجازة، ترتدي "تشيني ماك نايت"، المقيمة في نيويورك، طماقًا وقميصًا قصيرًا أو فستانًا مطبوعًا بأشكال إفريقية تقليدية. لكنها تمضي وقتًا أطول نسبيًا في الاستعداد لعملها اليومي عندما ترتدي قميصًا فضفاضًا ومِشَدًّا وثلاث طبقات من التنورات، وفوق كل ذلك عباءة قطنية وغطاء للرأس من القماش. ماك نايت امرأة أميركية سوداء من القرن الحادي والعشرين، لكنها متخصصة -بصفتها الممثلة التاريخية لدى متحف (Not Your Momma’s History) ومؤسسته- في تشخيص المستعبَدين والأحرار من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالولايات المتحدة. إذ تُسخّر تجربتها العملية على مرّ قرابة عقد من الزمان في مواقع التاريخ الحية، في ارتداء ملابس المستعبَدين لتجسيد لحظات الطبخ على المواقد القديمة في إحدى مزارع فرجينيا، أو تشخيص امرأة "كريولية" حرة خلال مهرجان يُبرز تاريخ نيو أورليانز. وتؤدي ماك نايت -مثل كثير من الممثلين- تلك الأدوار بصيغة الغائب؛ إذ تحاكي أزياء الماضي ولكنها لا تتظاهر بكونها شخصية من زمن آخر. فهي ترى أن هذا المنظور يتيح لها التحدث بصراحة أكبر ووضع القضايا الشائكة، مثل الرق والعنصرية والتعذيب، في سياقها المناسب. تقول ماك نايت: "قد يكون من الصعب التفاعل مع الزوار، لكنني أريد مواجهة هذا التحدي. فهدفي هو زيادة دقة تصوير السود الأميركيين في المواقع التاريخية والمتاحف".
ففي الولايات المتحدة، يعمل جل الممثلين التاريخيين في أحد متاحف التاريخ الحي البالغ عددها زهاء المئتين في جميع أنحاء البلد، بدءًا بأماكن شاسعة تتيح لزوارها خوض تجارب حسية غامرة مثل "كولونيال ويليامزبرغ"، وصولا إلى المواقع الأصغر مثل قِلاع الحرب الأهلية أو المزارع الكبرى التي تعود للعصر الفكتوري. ويعمل بعض الممثلين التاريخيين بدوام كامل، فيما يعمل آخرون بدوام جزئي أو بصفة تطوعية في المناسبات الخاصة. وهم يقومون بكل شيء، بدءًا من تقمص دور الضيوف الأثرياء في حفلات ثلاثينيات القرن العشرين خلال الجولات المنظمة في "قلعة هيرست" بكاليفورنيا إلى السير مثل جنود ثمانينيات القرن التاسع عشر في "حصن ماكيناك" بولاية ميتشغان. ويؤدي هؤلاء المرشدون وهذه المواقع مَهمة مشتركة من خلال السفر عبر الزمن، تتمثل في تثقيف الزوار بشأن التاريخ من خلال الزج بهم في تجارب غامرة تشمل الأشخاص والأماكن والنشاطات. لكن المؤسسات التي توظف السود والسكان الأصليين وغيرهم من غير البِيض -وتحاول أن تصورهم بأمانة- لا تزال أمامها طريق طويلة لتحقيق هذه الغاية.

  • روايات متخفية

 

ففي أوائل القرن العشرين، تغاضت العديد من المواقع التاريخية عن الأشخاص غير البِيض أو عمدت إلى إسقاطهم من برامجها. فلربما كان لمزارع ما قبل الحرب مرشد سياحي بملابسه التاريخية، لكن غالبًا ما كانت تتولى القيام بذلك امرأة بيضاء تتجمل بكامل زينتها كسيّدة أرستقراطية على شاكلة ما جاء في فيلم "ذهب مع الريح". أما إذا تم التلميح إلى الرق، فقد يستخدم العاملون كلمة "الخدم" على استحياء. وفي أواخر القرن الثامن عشر، كان ما يقرب من نصف سكان مدينة ويليامزبرغ من السود؛ إذ كانوا يرزحون تحت أعباء قَطع الحطب، وتفريغ مراحيض الأسِرّة، والزراعة التي مكنت عاصمة مستعمرةِ فرجينيا من سد احتياجاتها. وقد بُني متحف "كولونيال ويليامزبرغ" الذي يوثق لبدايات الحياة الأميركية على مساحة 122 هكتارًا على بقايا المدينة القديمة في عام 1932. لكن لم يمثل المواطنينَ السود في أيامه الأولى سوى عدد قليل من العاملين بأزيائهم التاريخية، وكان جلهم يرتدي زي الحوذيين.
وعندما بدأ التمثيل في "كولونيال ويليامزبرغ" بصيغة المتكلم في أواخر سبعينيات القرن العشرين، كان ثلاثة ممثلين سود من بين أعضاء الفرقة المكونة من تسعة أشخاص. وكانوا يصورون مجموعة من شخصيات المستعبَدين، بمن فيهم "الأب غوان بامفليت"، القس الذي حُرِّر من الرق. أما اليوم، فيوجد من بين طاقم العاملين 36 ممثلا يؤدون بصيغة المتكلم؛ 15 منهم من السود، على الرغم من أن العدد الإجمالي للممثلين غير البِيض الذين يعملون بأزيائهم التاريخية في الموقع، لا يشكل سوى 14 بالمئة. "لم نصل بعد إلى التوازن المثالي الذي يسمح بسرد القصة كاملة، لكننا قطعنا أشواطًا متقدمة على ما كنا عليه في أي وقت مضى"، يقول "ستيفن سيلز" الذي يؤدي دور جاسوس الثورة الأميركية المستعبَد، "جيمس أرميستيد لافاييت".
وقد بدأت المؤرخة والممثلة "ماري كارتر" في تصوير "آغي"، وهي شخصية حقيقية لامرأة سوداء مستعبَدة من القرن الثامن عشر، في "كولونيال ويليامزبرغ" في عام 2011؛ إذ جذبتها السيرة الذاتية لهذه المرأة التي تضمنت تفاصيل دقيقة لم تكن تتوقعها. فقد حملت آغي -مثل كثير من المستعبَدات- من مالك المزرعة، "رايلاند راندولف"، وأنجبت له طفلين. لكن الأمر الأكثر غرابة هو أن وصية راندولف بعد وفاته نصت على تحرير آغي وطفليها. وكان من اللازم خوض معركة في المحاكم لتنفيذ رغبته. تقول كارتر: "أردت أن يعرف الناس اسمها وقصتها".
وغالبًا ما تعرّج كارتر خلال الجولات والأحاديث على موضوعات قاتمة ومزعجة، مثل العنف وحقوق الإنسان. وتتحدث، عند تشخيصها آغي، بحذر شديد وهي تنقل بصوتها نبرة توتر من يتحدث عن زمن غيره ويأتي بكلمات وحركات ليست له. فالأسئلة التي يمطرها بها الزوار، من قبيل "هل أحبها راندولف؟ وهل كان يعاملها معاملة حسنة؟"، تتطلب إجابات مؤلمة. تقول كارتر: "أتفَهّم ما يسألون عنه؛ فهم يريدون معرفة ما إذا كان هناك أمل أو جانب مشرق. وأعتقد أن المستعبَدين عاشوا لحظات من الفرح، لكن من الخطأ البحث عنها في تصرفات الأشخاص الذين استعبدوهم". وتواصل كارتر، شأنها في ذلك كشأن جل الممثلين، إجراء الأبحاث من خلال الرسائل ووثائق المحاكم والمذكرات. ولا تنفك عن تطوير تشخيصها لآغي. تقول: "مرت علي أوقات في حياتي شعرت فيها بالخجل لأنني من أحفاد المستعبَدين. لكنهم نسوا أن يخبروني بضرورة الافتخار بما كابدوه، وما تجاوزوه، وما تزودوا به من قوة من أجل المضي قُدمًا".