كوارث غير "طبيعية" تمامًا
صرَّح حاكم ولاية كاليفورنيا خلال مؤتمر صحافي في منتصف أغسطس 2020، بأن الولاية سجلت اندلاع 367 حريقًا "معروفًا" في الغابات. "أقول حريقًا 'معروفًا'، لأن احتمال ارتفاع هذا العدد أمر وارد جدًا"، على حد تعبير الحاكم. فبعد يومين اثنين، ارتفع العدد فعليًا إلى 560 حريقًا. وبعد ذلك بأسابيع قليلة، كان العديد من الحرائق لا يزال مشتعلًا، وأضحى أحدُها (وهو حريق "داو" في شمال مدينة سانتا روزا) أكبرَ حريق في تاريخ كاليفورنيا؛ إذ كان الدخان المنبعث من الولاية شديدًا للغاية فحجب الشمس في نيو إنغلاند. وبحلول الوقت الذي أُخمد فيه جل ألسنة اللهب بكاليفورنيا في أواخر نوفمبر الماضي، كانت النيران قد تسببت بوفاة ما لا يقل عن 31 شخصًا وإجلاء عشرات الآلاف من السكان. وفي الوقت الذي كان فيه أكثر من 15 ألف إطفائي يكافحون حرائق الغابات في كاليفورنيا، كان إعصار "لورا" يقترب من لويزيانا. ومع مروره فوق خليج المكسيك، اشتدت قوته لتبلغ مستويات قريبة من المستويات القياسية. ففي ظرف لا يتجاوز 24 ساعة، انتقل تصنيفه من الفئة الأولى إلى الفئة الرابعة. وعندما ضرب "لورا" مقاطعة كاميرون في وقت مبكر من صباح يوم 27 أغسطس، أضحى خامسَ إعصار شديد يصل إلى اليابسة في تاريخ الولايات المتحدة. وقد تسبب هذا الإعصار في مقتل ما لا يقل عن 16 أميركيًا وخسائر بلغت 12 مليار دولار.
قبل عشرين عامًا، كان من الممكن أن تُوصف الكوارث -من قبيل حريق "داو" وإعصار "لورا"- بأنها "كوارث طبيعية". لكن بسبب التغير المناخي، لم يعد الأمر كذلك. ففي الوقت نفسه تقريبًا حين كان حاكم كاليفورنيا يُدلي بتصريحه الصحافي، وصلت الحرارة في "وادي الموت" إلى 54.4 درجة مئوية، وهي أعلى درجة حرارة تُسجَّل بصفة موثوقة في الأرض. ومن المرجح أن تشتعل النيران مع ارتفاع الحرارة والجفاف في كاليفورنيا. وتتزايد حرارة خليج المكسيك أيضًا مع ما قد يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة. وتستمد الأعاصير طاقتها من دفء المياه السطحية، ولذلك أصبحت أقوى وأكثر قابلية للاحتدام. وقد درجتُ على إعداد تقارير عن تغير المناخ منذ قرابة عقدين من الزمان، وخلصتُ إلى اعتقاد مفاده أننا بحاجة إلى مصطلح جديد لتوصيف هذه الأحداث. وربما ينبغي أن نسميها "كوارث طبيعية ناجمة عن النشاط البشري".
وإذ يـؤدي البشـر دورًا مؤثـرًا في كوكـب الأرض، يُقـال اليوم إننا نعيـش حقبـة جيولوجيـة جديـدة: "الأنثروبوسين".
بات من شبه المؤكد أن حرائق العام الماضي وفيضاناته التي بلغت مستويات قياسية ستصبح بعد عشرة أعوام أو عشرين عامًا من الآن، متجاوزةً بفعل حرائق وفيضانات أخرى ستحطم أرقامًا قياسية جديدة.
فمن خلال تدمير الغابات وحفر المناجم وبناء المدن، غيرنا وجه نصف الأرض الخالية من الجليد في كوكبنا (غيرنا نصف ما تبقى على نحو غير مباشر). وبواسطة مصانعنا المنتجة للأسمدة، نعزز كميات من النيتروجين في التربة تفوق ما يمكن أن تقوم به النظم البيئية الأرضية مجتمِعًة؛ وباستخدام محاريثنا وجرّافاتنا، نتنقل عبر الأراضي بوتيرة تفوق وتيرة جميع الأنهار والجداول في العالم. أما من حيث الكتلة الحيوية، فإن الأرقام تثير الذهول؛ إذ يفوق البشر حاليًا الثدييات البرية بمعدل يزيد عن 8 مقابل 1. وإذا أضفنا إلى ذلك حيواناتنا الأليفة (معظمها من الأبقار والخنازير)، فإن المعدل يقارب 23 مقابل 1. وبالتالي، يُعزى حدوث العديد من الكوارث خلال حقبة الأنثروبوسين للإنسان والطبيعة معًا. فالعديد من الزلازل -على سبيل المثال- يقع في الوقت الحالي نتيجة النشاط البشري، ولا سيما عمليات التصديع (Fracking). فلقد امتد تأثير هزة أرضية ناتجة عن هذا النشاط البشري -ضربت بقوة غير معتادة ولاية أوكلاهوما قبل بضعة أعوام- إلى الطريق المؤدية إلى عاصمة ولاية آيوا.
ثم، هناك "كوفيد-19".
يبدو أن الفيروس الذي يسبب مرض "كوفيد-19" قد نشأ لدى خفافيش "حدوة الحصان". ويبدو أنه انتقل إلى البشر بالقرب من مدينة ووهان الصينية، إما بصورة مباشرة أو من خلال نوع وسيط لم تُحدَّد هويته بعد. ويُفترض أن العوامل المسببة للمرض دأبت على الانتقال بين الحيوانات والبشر منذ وجودهما على سطح الأرض. ولكنّ "أشكال العدوى الممتدة" كانت على مرّ جل فترات التاريخ البشري محدودةً في تأثيرها. فلم يكن الأشخاص المصابون بالعدوى يتنقلون إلى أماكن بعيدة ولا بسرعة كبيرة. ومع السفر بالطائرة، يمكن للفيروس حاليًا أن ينتقل إلى الجانب الآخر من العالم أسرع مما قد يمضيه المرء في تتبع النشرات الإخبارية المسائية. ففي ظرف شهر واحد من إعلان أولى الحالات المؤكدة في وسط الصين، كان الفيروس قد وصل إلى 26 دولة أخرى على الأقل. وسرعان ما انتشر في كل مكان تقريبًا، حتى في الأماكن النائية مثل جزر فوكلاند وشبه جزيرة كامتشاتكا.
ومن الصعب التنبؤ -كما كان الحال في السابق- بوقت ومكان وقوع الكوارث الطبيعية الناجمة عن النشاط البشري. لكن مسارات الاتجاهات تظل واضحة. فمع تمادي البشر في تدمير موائل الحيوانات الأخرى ونقل الأنواع إلى أماكن أخرى من العالم، سيصبح تفشي الأمراض الجديدة أكثر شيوعًا. وقد عبر الكاتب (والمساهم المنتظم في ناشيونال جيوغرافيك)، "ديفيد كوامن"، عن ذلك قائلا: "إننا نُلحق الضرر بالنظم البيئية، ونحرر الفيروسات من مضَيِّفيها الطبيعيين. وعندما يحدث ذلك، فإنها تكون بحاجة إلى مضَيِّف جديد". وفي كثير من الأحيان، يكون هذا المضَيِّف الجديد هو نحن البشر.
ومع التزايد المتواصل للاحتباس الحراري، سيصبح نطاق الحرائق أوسع والعواصف أشد إضرارًا. فقد أظهرت دراسة حديثة أن تواتر أيام "الطقس المواتي لنشوب الحرائق" الخطيرة في ولاية كاليفورنيا زاد بأكثر من الضِّعف خلال العقود الأربعة الماضية.
ويمكن أن يتضاعف مرة أخرى مع نهاية القرن الحالي. وبات من شبه المؤكد أن حرائق وفيضانات العام الماضي التي بلغت مستويات قياسية ستصبح بعد عشرة أعوام أو عشرين عامًا من الآن، متجاوزة بفعل حرائق وفيضانات أخرى ستحطم أرقامًا قياسية جديدة. وكما قال "أندرو ديسلر"، أستاذ علوم الغلاف الجوي في "جامعة تكساس إيه. أند. إم."، في الخريف الماضي: "إذا كنت مذعورًا من كل كوارث المناخ التي تحدث في عام 2020، فلدي بعض الأنباء السيئة التي تنتظرك في ما تبقى من حياتك". فما العمل؟ وفقًا لإحدى المدارس الفكرية، فإن أفضل طريقة للتعامل مع التدخل البشري في العالم الطبيعي هي التدخل بصورة أفضل. فقد أقحمتنا التقنيات القديمة في هذا الوضع، لكن التقنيات الجديدة ستخرجنا منه. ويشير دعاة هذا المنظور إلى ما يُحرَز من تقدم غير عادي طوال الوقت في مجالات تتنوع ما بين الحوسبة وعلم الوراثة وعلم المواد. فقد عمد الباحثون الصينيون، سعيًا منهم إلى تيسير العثور على علاجات لـ "كوفيد19-"، إلى إحداث تعديل وراثي على الفئران لتزويدها بمستقبلات هذا الفيروس نفسها لدى البشر. ولجأ هؤلاء العلماء إلى استخدام تقنية تُعرف باسم "كريسبر" (CRISPR) أحدثت على مرّ الأعوام القليلة الماضية ثورة في مجال تنقيح المورّثات. ولمكافحة تغير المناخ، صنع المهندسون آلات تمتص ثاني أوكسيد الكربون من الهواء؛ وإذا كانت أعدادها محدودة في الوقت الحالي، فربما ستصبح في يوم من الأيام شائعة مثل هواتف "آيفون".
ومن ناحية أخرى، طُرحت اقتراحات تشير إلى إمكانية مواجهة تغير المناخ عن طريق صدّ بعض الأشعة المنبعثة من الشمس؛ إذ يعمل الباحثون على تقنيات لتفتيح الغيوم، والتي من شأنها عكس كثير من ضوء الشمس إلى الفضاء. وثمة تقنية أخرى تُعرف باسم "الهندسة الجيولوجية الشمسية" أو "إدارة الإشعاعات الشمسية" من شأنها أن تنشر الجسيمات العاكسة في طبقة "الستراتوسفير"؛ لتمدّ الكوكب بأكمله بنوع من ظل الشمس. وقد سبق لِـ "دانييل شراغ"، مدير "مركز جامعة هارفارد للبيئة"، أن كتب ما يلي: "من المفارقات أن هذه الجهود الهندسية قد تكون أفضل فرصة لضمان بقاء جل النظم البيئية الطبيعية للأرض". لكن، ربما ينبغي -على حد قوله- الكف عن تسمية النظم البيئية "بالطبيعية إذا ما استُخدمت هذه الأنظمة الهندسية".
وتُجادل مدرسة فكرية أخرى بالقول إنه من المحتمل أن تكون للتقنيات التي تغير العالم الجديد تأثير التقنيات نفسها التي غيرت العالم القديم، لكن مع مخاطر أكبر. فلننظر في مثال مُركّبات "الكلوروفلوروكربون". إذ صُنعت هذه الأخيرة أول مرة في أواخر عشرينيات القرن الماضي، على أمل حل المشكلات التي سببتها المبردات الأولى، مثل "الأمونيا"، والتي كانت سامة. وأُنتجت مليارات الكيلوجرامات من مُركَّبات الكلوروفلوروكربون قبل أن يُكتشف في ثمانينيات القرن العشرين أن هذه المواد الكيميائية كانت تدمر طبقة الأوزون التي تحمي الأرض ضد الأشعة فوق البنفسجية. وعلى الرغم من الحظر العالمي على مُركَّبات الكلوروفلوروكربون، لا يزال إنتاج المواد الكيميائية يتواصل بطريقة غير قانونية، وفي كل عام ينفتح "ثقب" في الأوزون فوق نصف الكرة الجنوبي. ومن شأن إطلاق الجسيمات العاكسة في الستراتوسفير أن يلحق مزيدًا من الأضرار بطبقة الأوزون. كما يمكن أن يسبب مشكلات أخرى لم تكن متوقعة، وربما لا يمكن توقعها على الإطلاق. وقد وصف النقاد فكرة إدارة الإشعاعات الشمسية بأنها فكرة "مجنونة للغاية" و"خطرة بشكل لا يصدق" وبأنها "الطريق السريعة المؤدية إلى الجحيم".
أما عن نفسي، فأجدُني منجذبة إلى الاتجاهين معًا. فالاختيار الذي نواجهه ليس بشأن تغيير العالم من عدمه؛ فهذا القرار للأسف اتُّخذ سلفًا. أما القرار الذي يرتهن المستقبل فهو: كيف سنغيره؟ لقد أجريت طوال أعوام مقابلات مع عشرات العلماء والمخترعين ورجال الأعمال، حيث يزداد إعجابي بعبقرية النوع البشري. لكن عندما تحمل الرياحُ دخانَ حرائق الغابات من بُعدٍ يصل إلى 5000 كيلومتر، سرعان ما أستحضر مدى خطورتنا نحن أيضًا.
كوارث غير "طبيعية" تمامًا
صرَّح حاكم ولاية كاليفورنيا خلال مؤتمر صحافي في منتصف أغسطس 2020، بأن الولاية سجلت اندلاع 367 حريقًا "معروفًا" في الغابات. "أقول حريقًا 'معروفًا'، لأن احتمال ارتفاع هذا العدد أمر وارد جدًا"، على حد تعبير الحاكم. فبعد يومين اثنين، ارتفع العدد فعليًا إلى 560 حريقًا. وبعد ذلك بأسابيع قليلة، كان العديد من الحرائق لا يزال مشتعلًا، وأضحى أحدُها (وهو حريق "داو" في شمال مدينة سانتا روزا) أكبرَ حريق في تاريخ كاليفورنيا؛ إذ كان الدخان المنبعث من الولاية شديدًا للغاية فحجب الشمس في نيو إنغلاند. وبحلول الوقت الذي أُخمد فيه جل ألسنة اللهب بكاليفورنيا في أواخر نوفمبر الماضي، كانت النيران قد تسببت بوفاة ما لا يقل عن 31 شخصًا وإجلاء عشرات الآلاف من السكان. وفي الوقت الذي كان فيه أكثر من 15 ألف إطفائي يكافحون حرائق الغابات في كاليفورنيا، كان إعصار "لورا" يقترب من لويزيانا. ومع مروره فوق خليج المكسيك، اشتدت قوته لتبلغ مستويات قريبة من المستويات القياسية. ففي ظرف لا يتجاوز 24 ساعة، انتقل تصنيفه من الفئة الأولى إلى الفئة الرابعة. وعندما ضرب "لورا" مقاطعة كاميرون في وقت مبكر من صباح يوم 27 أغسطس، أضحى خامسَ إعصار شديد يصل إلى اليابسة في تاريخ الولايات المتحدة. وقد تسبب هذا الإعصار في مقتل ما لا يقل عن 16 أميركيًا وخسائر بلغت 12 مليار دولار.
قبل عشرين عامًا، كان من الممكن أن تُوصف الكوارث -من قبيل حريق "داو" وإعصار "لورا"- بأنها "كوارث طبيعية". لكن بسبب التغير المناخي، لم يعد الأمر كذلك. ففي الوقت نفسه تقريبًا حين كان حاكم كاليفورنيا يُدلي بتصريحه الصحافي، وصلت الحرارة في "وادي الموت" إلى 54.4 درجة مئوية، وهي أعلى درجة حرارة تُسجَّل بصفة موثوقة في الأرض. ومن المرجح أن تشتعل النيران مع ارتفاع الحرارة والجفاف في كاليفورنيا. وتتزايد حرارة خليج المكسيك أيضًا مع ما قد يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة. وتستمد الأعاصير طاقتها من دفء المياه السطحية، ولذلك أصبحت أقوى وأكثر قابلية للاحتدام. وقد درجتُ على إعداد تقارير عن تغير المناخ منذ قرابة عقدين من الزمان، وخلصتُ إلى اعتقاد مفاده أننا بحاجة إلى مصطلح جديد لتوصيف هذه الأحداث. وربما ينبغي أن نسميها "كوارث طبيعية ناجمة عن النشاط البشري".
وإذ يـؤدي البشـر دورًا مؤثـرًا في كوكـب الأرض، يُقـال اليوم إننا نعيـش حقبـة جيولوجيـة جديـدة: "الأنثروبوسين".
بات من شبه المؤكد أن حرائق العام الماضي وفيضاناته التي بلغت مستويات قياسية ستصبح بعد عشرة أعوام أو عشرين عامًا من الآن، متجاوزةً بفعل حرائق وفيضانات أخرى ستحطم أرقامًا قياسية جديدة.
فمن خلال تدمير الغابات وحفر المناجم وبناء المدن، غيرنا وجه نصف الأرض الخالية من الجليد في كوكبنا (غيرنا نصف ما تبقى على نحو غير مباشر). وبواسطة مصانعنا المنتجة للأسمدة، نعزز كميات من النيتروجين في التربة تفوق ما يمكن أن تقوم به النظم البيئية الأرضية مجتمِعًة؛ وباستخدام محاريثنا وجرّافاتنا، نتنقل عبر الأراضي بوتيرة تفوق وتيرة جميع الأنهار والجداول في العالم. أما من حيث الكتلة الحيوية، فإن الأرقام تثير الذهول؛ إذ يفوق البشر حاليًا الثدييات البرية بمعدل يزيد عن 8 مقابل 1. وإذا أضفنا إلى ذلك حيواناتنا الأليفة (معظمها من الأبقار والخنازير)، فإن المعدل يقارب 23 مقابل 1. وبالتالي، يُعزى حدوث العديد من الكوارث خلال حقبة الأنثروبوسين للإنسان والطبيعة معًا. فالعديد من الزلازل -على سبيل المثال- يقع في الوقت الحالي نتيجة النشاط البشري، ولا سيما عمليات التصديع (Fracking). فلقد امتد تأثير هزة أرضية ناتجة عن هذا النشاط البشري -ضربت بقوة غير معتادة ولاية أوكلاهوما قبل بضعة أعوام- إلى الطريق المؤدية إلى عاصمة ولاية آيوا.
ثم، هناك "كوفيد-19".
يبدو أن الفيروس الذي يسبب مرض "كوفيد-19" قد نشأ لدى خفافيش "حدوة الحصان". ويبدو أنه انتقل إلى البشر بالقرب من مدينة ووهان الصينية، إما بصورة مباشرة أو من خلال نوع وسيط لم تُحدَّد هويته بعد. ويُفترض أن العوامل المسببة للمرض دأبت على الانتقال بين الحيوانات والبشر منذ وجودهما على سطح الأرض. ولكنّ "أشكال العدوى الممتدة" كانت على مرّ جل فترات التاريخ البشري محدودةً في تأثيرها. فلم يكن الأشخاص المصابون بالعدوى يتنقلون إلى أماكن بعيدة ولا بسرعة كبيرة. ومع السفر بالطائرة، يمكن للفيروس حاليًا أن ينتقل إلى الجانب الآخر من العالم أسرع مما قد يمضيه المرء في تتبع النشرات الإخبارية المسائية. ففي ظرف شهر واحد من إعلان أولى الحالات المؤكدة في وسط الصين، كان الفيروس قد وصل إلى 26 دولة أخرى على الأقل. وسرعان ما انتشر في كل مكان تقريبًا، حتى في الأماكن النائية مثل جزر فوكلاند وشبه جزيرة كامتشاتكا.
ومن الصعب التنبؤ -كما كان الحال في السابق- بوقت ومكان وقوع الكوارث الطبيعية الناجمة عن النشاط البشري. لكن مسارات الاتجاهات تظل واضحة. فمع تمادي البشر في تدمير موائل الحيوانات الأخرى ونقل الأنواع إلى أماكن أخرى من العالم، سيصبح تفشي الأمراض الجديدة أكثر شيوعًا. وقد عبر الكاتب (والمساهم المنتظم في ناشيونال جيوغرافيك)، "ديفيد كوامن"، عن ذلك قائلا: "إننا نُلحق الضرر بالنظم البيئية، ونحرر الفيروسات من مضَيِّفيها الطبيعيين. وعندما يحدث ذلك، فإنها تكون بحاجة إلى مضَيِّف جديد". وفي كثير من الأحيان، يكون هذا المضَيِّف الجديد هو نحن البشر.
ومع التزايد المتواصل للاحتباس الحراري، سيصبح نطاق الحرائق أوسع والعواصف أشد إضرارًا. فقد أظهرت دراسة حديثة أن تواتر أيام "الطقس المواتي لنشوب الحرائق" الخطيرة في ولاية كاليفورنيا زاد بأكثر من الضِّعف خلال العقود الأربعة الماضية.
ويمكن أن يتضاعف مرة أخرى مع نهاية القرن الحالي. وبات من شبه المؤكد أن حرائق وفيضانات العام الماضي التي بلغت مستويات قياسية ستصبح بعد عشرة أعوام أو عشرين عامًا من الآن، متجاوزة بفعل حرائق وفيضانات أخرى ستحطم أرقامًا قياسية جديدة. وكما قال "أندرو ديسلر"، أستاذ علوم الغلاف الجوي في "جامعة تكساس إيه. أند. إم."، في الخريف الماضي: "إذا كنت مذعورًا من كل كوارث المناخ التي تحدث في عام 2020، فلدي بعض الأنباء السيئة التي تنتظرك في ما تبقى من حياتك". فما العمل؟ وفقًا لإحدى المدارس الفكرية، فإن أفضل طريقة للتعامل مع التدخل البشري في العالم الطبيعي هي التدخل بصورة أفضل. فقد أقحمتنا التقنيات القديمة في هذا الوضع، لكن التقنيات الجديدة ستخرجنا منه. ويشير دعاة هذا المنظور إلى ما يُحرَز من تقدم غير عادي طوال الوقت في مجالات تتنوع ما بين الحوسبة وعلم الوراثة وعلم المواد. فقد عمد الباحثون الصينيون، سعيًا منهم إلى تيسير العثور على علاجات لـ "كوفيد19-"، إلى إحداث تعديل وراثي على الفئران لتزويدها بمستقبلات هذا الفيروس نفسها لدى البشر. ولجأ هؤلاء العلماء إلى استخدام تقنية تُعرف باسم "كريسبر" (CRISPR) أحدثت على مرّ الأعوام القليلة الماضية ثورة في مجال تنقيح المورّثات. ولمكافحة تغير المناخ، صنع المهندسون آلات تمتص ثاني أوكسيد الكربون من الهواء؛ وإذا كانت أعدادها محدودة في الوقت الحالي، فربما ستصبح في يوم من الأيام شائعة مثل هواتف "آيفون".
ومن ناحية أخرى، طُرحت اقتراحات تشير إلى إمكانية مواجهة تغير المناخ عن طريق صدّ بعض الأشعة المنبعثة من الشمس؛ إذ يعمل الباحثون على تقنيات لتفتيح الغيوم، والتي من شأنها عكس كثير من ضوء الشمس إلى الفضاء. وثمة تقنية أخرى تُعرف باسم "الهندسة الجيولوجية الشمسية" أو "إدارة الإشعاعات الشمسية" من شأنها أن تنشر الجسيمات العاكسة في طبقة "الستراتوسفير"؛ لتمدّ الكوكب بأكمله بنوع من ظل الشمس. وقد سبق لِـ "دانييل شراغ"، مدير "مركز جامعة هارفارد للبيئة"، أن كتب ما يلي: "من المفارقات أن هذه الجهود الهندسية قد تكون أفضل فرصة لضمان بقاء جل النظم البيئية الطبيعية للأرض". لكن، ربما ينبغي -على حد قوله- الكف عن تسمية النظم البيئية "بالطبيعية إذا ما استُخدمت هذه الأنظمة الهندسية".
وتُجادل مدرسة فكرية أخرى بالقول إنه من المحتمل أن تكون للتقنيات التي تغير العالم الجديد تأثير التقنيات نفسها التي غيرت العالم القديم، لكن مع مخاطر أكبر. فلننظر في مثال مُركّبات "الكلوروفلوروكربون". إذ صُنعت هذه الأخيرة أول مرة في أواخر عشرينيات القرن الماضي، على أمل حل المشكلات التي سببتها المبردات الأولى، مثل "الأمونيا"، والتي كانت سامة. وأُنتجت مليارات الكيلوجرامات من مُركَّبات الكلوروفلوروكربون قبل أن يُكتشف في ثمانينيات القرن العشرين أن هذه المواد الكيميائية كانت تدمر طبقة الأوزون التي تحمي الأرض ضد الأشعة فوق البنفسجية. وعلى الرغم من الحظر العالمي على مُركَّبات الكلوروفلوروكربون، لا يزال إنتاج المواد الكيميائية يتواصل بطريقة غير قانونية، وفي كل عام ينفتح "ثقب" في الأوزون فوق نصف الكرة الجنوبي. ومن شأن إطلاق الجسيمات العاكسة في الستراتوسفير أن يلحق مزيدًا من الأضرار بطبقة الأوزون. كما يمكن أن يسبب مشكلات أخرى لم تكن متوقعة، وربما لا يمكن توقعها على الإطلاق. وقد وصف النقاد فكرة إدارة الإشعاعات الشمسية بأنها فكرة "مجنونة للغاية" و"خطرة بشكل لا يصدق" وبأنها "الطريق السريعة المؤدية إلى الجحيم".
أما عن نفسي، فأجدُني منجذبة إلى الاتجاهين معًا. فالاختيار الذي نواجهه ليس بشأن تغيير العالم من عدمه؛ فهذا القرار للأسف اتُّخذ سلفًا. أما القرار الذي يرتهن المستقبل فهو: كيف سنغيره؟ لقد أجريت طوال أعوام مقابلات مع عشرات العلماء والمخترعين ورجال الأعمال، حيث يزداد إعجابي بعبقرية النوع البشري. لكن عندما تحمل الرياحُ دخانَ حرائق الغابات من بُعدٍ يصل إلى 5000 كيلومتر، سرعان ما أستحضر مدى خطورتنا نحن أيضًا.