كلاب السباق.. تبلغ خط النهاية!
إنها الثامنة والنصف مساء يوم سبتٍ من شهر أغسطس. يتدلى قمر محدب من كبد السماء بنور خافت لا يضاهي توهج أضواء النيون المنبعثة من لافتة كُتَب عليها "سباقات السلوقي" و"دوربي لَيْن". يتناثر نحو 300 شخص في المدرجات الكبيرة هنا في مدينة سانت بطرسبرغ بولاية فلوريدا -بعدما كانت ذات زمن مضى تحتضن آلافًا منهم- وهم يُهَمهمون؛ فيما تصدح مكبرات الصوت بمعزوفات فرقة موسيقية. تصمت الموسيقى ومعها المتفرجون إذ يَقود "فريدريك ديفيس" موكب الكلاب. "تي إنْ تي شيرلوك"، يقول المذيع، داعيًا أول الكلاب الثمانية الرشيقة، التي يُوقفها ديفيس أمام المدرجات. يرتدي كل كلب منها رقمًا ملصقًا على صدرية ناعمة تُعرف باسم البطانية. ينادي المذيع أسماء بقية الكلاب تِباعًا: "تَيلسبين"، "شارلوت يورك..". بعد ذلك، يضع ديفيس -وعُمره 41 عامًا- ومدربو الكلاب الثمانية الذين يشرف عليهم، الكلابَ في بوابة الانطلاق. يُطلَق أرنبٌ آلي يُدعى "هَير-صَنْ هَير" فيتخطى الكلابَ بسرعة فائقة مُطلقًا صرخات وشرارات زرقاء. هنالك تُفتح الأبواب فتندفع الكلاب على المسار كالبرق، مشَكّلةً كتلةً ضبابية متسارعة. تقذف كفوفها الرمال في الهواء وهي تركض حول المسار البيضاوي مدة 30 ثانية، فتصل سرعاتها إلى 72 كيلومترا في الساعة.
في زمن مضى، كان مضمار "دوربي لين" -الذي افتُتح في عام -1925 يُوصَف بكونه نسخةً من مضمار "تشرشل داونز" خاصة بسباق السلوقي. وإلى حدود العام الماضي لمّا كانت الكلاب تخوض السباقات، كان لا يزال بالإمكان ملاحظة شيءٍ من البريق والإثارة اللذين كان المضمار يتمتع بهما أيام مجده في القرن العشرين. ففي ذلك الزمن، كانت مدرجاته تعج بالمراوح التي يحملها أصحاب البدلات والقبعات الفاخرة. إذ كان من بين زواره، نجومٌ رياضيون وفنانون مشهورون. وذات مرة، ترك لاعبُ البيسبول الشهير "جو ديماجيو" زوجتَه "مارلين مونرو" في سيارة متوقفة وطفق يركض إلى داخل المضمار ليراهن على أحد السباقات.
ظل "دوربي لين" أقدمَ مضمار لسباق السلوقي يعمل باستمرار في الولايات المتحدة، إلى أن حلَّ شهر ديسمبر من عام 2020.. حين أُجبِرَ على قطع "آخر مسافة له". وقبل ذلك بعامين اثنين، كانت لدى فلوريدا مضامير سباق يفوق عددها مثيلَه لدى أي ولاية أخرى؛ إذ كانت تستحوذ على 11 مضمارًا من أصل 17 على مستوى البلد. وبحلول نهاية عام 2020، انخفض ذلك العدد إلى ثلاثة، يخوض سباقاتها نحو 2000 كلب. وها هي اليوم تُغلَق جميعًا. ففي عام 2018، حظي ناخبو فلوريدا بفرصة اعتماد تعديل دستوري -وهو التعديل رقم -13 لحظر المراهنة على كلاب السلوقي ابتداء من 31 ديسمبر 2020. هنالك راهن أصحاب هذا القطاع الترفيهي على رفض سكان فلوريدا ذلك التعديلَ، لكن تم إقراره بهامش أصوات واسع؛ ويرجع السبب في الغالب إلى القلق الوطني المتصاعد بشأن المعاملة السيئة للحيوانات المستغَلَّة في الترفيه مثل دُور السيرك.
كان آخر سباق في مضمار "دوربي لين" مقررًا بتاريخ 27 ديسمبر 2020. كان ديفيس، الرجل النحيف ذو الشعر المُجدَّل والابتسامة العاجلة، واحدًا من عشرات الموظفين الذين بات مستقبلهم في كف عفريت؛ وهو الذي ظل يعمل في المضمار 14 عامًا ولطالما عدّه وظيفتَه المثالية. قال ديفيس: "أحب الكلاب، وأحب أن أكون في الهواء الطلق". لم يكن ديفيس الموظف الوحيد في "دوربي لين" الذي يتساءل عمّا سيحدث بعد ذلك. وتعليقًا على الأمر، قال "ريتشارد وينينغ"، الرئيس التنفيذي لِمضمار "دوربي لين": "إنه لَأَمر مُخزٍ أن نُضطر للإغلاق بعد 95 عامًا".
تمتلك عائلة هذا الرجل الستيني المضمارَ منذ افتتاحه عام 1925. ومع إغلاق مضامير فلوريدا، يقول مُحذِّرًا، ستلقى مثيلاتها في أماكن أخرى المصيرَ ذاته بلا شك؛ "وفي غضون 20 عامًا، لن نجد حتى من يتذكر كيف كان سباق السلوقي". وذاك هو الأمر الوحيد الذي يُشاطر فيه وينينغ الرأيَ مع "كاري ثيل"، الذي قادت منظمتُه المسمّاة "غراي2كيه" (Grey2K) -ومقرّها في ولاية ماساتشوسيتس- الحملة الداعية إلى التعديل رقم 13: إغلاق مضامير فلوريدا، لإسقاط القطاع. يقول ثيل: "كانت فلوريدا حقًّا هي ذلك القطاع".
يتفق طرفا الجدال في سباقات السلوقي على أمر واحد: مع إغلاق مضامير فلوريدا، سينهار القطاع بأكلمه.
لدى وينينغ لحية شيباء، وهو حكواتي بالفطرة. بدأ العمل في المضمار قبل 45 عامًا، حيث كان يحصّل تذاكر الدخول (نصف دولار) من البوابات الدوارة. يتذكر أنه عندما كان من بين الزوار مراهنون ومقامرون باذخون، كان مطعم المضمار يقدم وجبات فاخرة، بوجود فرقة موسيقية حية تعزف بين كل سباق وآخر. ويقول وينينغ إن كلاب السلوقي هي السلالة الوحيدة المذكورة في الكتاب المقدس. وهذا صحيح نوعا ما. إذ ورد في طبعة "الملك جيمس" من "سِفر الأمثال" أنها "لطيفة الحركة" (ويقول الدارسون إن الطبعة العبرية الأصلية تشير إلى كلب الصيد الأفغاني أو السلوقي). وقد عرف مترجمو الملك البريطاني عن السلوقي بسبب رياضة كانت شائعة في ذلك الزمن، تسمى التعقيب (Coursing)؛ حيث يتسابق سلوقيان للانقضاض على أرنب. وقد أَحبّتها الملكةُ "إليزابيث الأولى".. ولذا اكتسب سباق السلوقي لقب "رياضة الملكات".
نشأ سباق الكلاب كما نعرفه اليوم على يد مخترع أميركي يُدعى "أوين بي. سميث"، الذي تأثر بالنفوق المأساوي لتلك الأرانب؛ ليتوصل إلى حل بديل. كانت فكرة سميث هي استبدال الأرنب الحي بآخرَ آلي. وفي عام 1910 حصل على براءة اختراع لِما أسماه "ناقل الأرانب الجامدة". وأشادت مجلة "سبورتس إليستريتد" الشهيرة بذلك الإنجاز في عام 1973 إذ ذكرت: "ما مِن أحد في تاريخ أي رياضة أحدث تغييرًا يضاهي ما فعله مخترع هذا الجهاز؛ ومع ذلك، ما مِن مخترع عبر تاريخ الرياضة طاله التجاهل أكثر منه". صمَّمَ سميث وشريكاه كذلك أول مضمار عصري للسلوقي، باسم "شركة النجم الأزرق للترفيه"، والذي افتُتح عام 1919 في ضاحية أوكلاند، كاليفورنيا. لكن المشروع فشل، كما كان مصير كثير غيره، لأنه لم يسمح بالمراهنات. فالقمار، وإن كان ذا شعبية، لم يكن قانونيا.
وكان أول مضمار ناجح، وسُميَ "نادي ميامي لبيت الكلاب"، هو الذي أسسه سميث وشريكاه عام 1922 بمنطقة مستنقعات في فلوريدا تُعرف باسم "هامباغوز". كان قريبًا جدًا من مستنقعات "إيفرغليدز" المكسوة بالحشائش، إلى درجة أن مُلاك الكلاب كانوا يستأجرون صائد ثعابين لصد الزواحف السائبة. كان مفتاح نجاح ذلك المضمار هو استخدام الأضواء الكهربائية، حسب قول "جوينيث آن ثاير"، مؤلفة كتاب (Going to the Dogs)، وهو كتاب عن سباقات كلاب السلوقي ومكانتها في الثقافة الشعبية. كانت الأضواء تعني إمكانية إجراء السباقات ليلًا، حيث يمكن للعاملين حضورها. وفي غمرة الازدهار العمراني بولاية فلوريدا في عشرينيات القرن الماضي، سعى آلاف من سكانها الجدد إلى الترفيه مساءً (وتم تحويل المضمار لاحقًا إلى سباق للخيول وأُعيد تسميته، حديقة هياليه).
في عام 1925، على الجانب الآخر من فلوريدا، افتُتح مضمار "دوربي لين" وسط موجة من الشكوك والريبة. نفدت أموال الشركاء الذين شيدوه، لذا حاز ملكيتَه إمبراطور تجارة الخشب، "تي. إل. ويفر"، جد وينينغ الأكبر. تقول عنه "لويز ويفر"، مؤرخة المضمار، إنه كان يزرع الفاصوليا في جوانب مسار الركض. وبين كل سباق وآخر، كان ويفر يُرْكِب القرود على كلاب السلوقي، بعد أن تُخاط أزياؤها على صدريات الكلاب، كي لا تهرب، وكذلك كي لا تستطيع هذه الأخيرة التخلص من القرود. على الرغم من أن المراهنات كانت غير قانونية، إلا أن أصحاب مضامير السباق "كانوا يفعلون شيئًا خلسةً"، على حد تعبير وينينغ، الذي يستطرد قائلًا: "لقد كانوا يبيعون أسهم الكلاب". كان الفائزون يحصلون على "أرباح"، أما الخاسرون فلا. وكانت مضامير أخرى تتدبر أمرها "بالمناورات"؛ أي أنها تستمر في العمل بالمراهنات حتى تتم مداهمتها، ثم تستأنف نشاطها مرة أخرى متى أصبح الطريق سالكا.
في عام 1931، إذ أدى "الكساد الكبير" إلى إفلاس الحكومات المحلية، اعتُمدَ في فلوريدا مشروع قانون لإضفاء الشرعية على المراهنات وفرض ضرائب على السباقات. عارضها الحاكم "دويل كارلتون"، وهو معمداني متدين. وبعد أعوام، قال إن المقامرين عرضوا عليه 100 ألف دولار للمصادقة على القانون. بدلًا من ذلك، استَخدَم حق النقض ضدها. لكن أعضاء مجلس الشيوخ في الولاية تجاوزوا حق النقض، مما جعل فلوريدا الولاية الأولى التي تضفي الشرعية على مراهنة سباقات الكلاب. ومن ثم ظهرت مضامير السباق في مدن: تامبا (عام 1932) وأورلاندو وجاكسون فيل (1935) وبينساكولا (1946) وكي ويست (1953). وهكذا أصبح سباق السلوقي جزءًا من صورة فلوريدا المزدانة بالشمس والمتعة. وقد صوَّر نجم البيسبول الأميركي، "ميكي مانتل"، إعلانًا للسجائر في "دوربي لين"، وتجول أبطال الملاكمة ونجوم السينما على مساراته. وفي فيلم (A Hole in the Head) المنتَج عام 1959، يظهر "فرانك سيناترا" وهو يراهن على سباقات الكلاب في ميامي.
يَعني انسحاب فلوريدا أن ثلاث ولايات -فرجينيا الغربية وآيوا وأركنساس- لديها الآن مواسم سباقات ثابتة. ويسعى دعاة الرفق بالحيوان إلى حظر سباقات السلوقي في جميع أنحاء الولايات المتحدة وفي بلدان أخرى عديدة.
صحيحٌ أن فلوريدا مكانٌ مشمس، لكنها قد تكون كذلك ملاذًا لأشخاص يرافقهم ظل الشبهات. ولقد اجتذبت أموال سباقات الكلاب كثيرًا منهم. يستذكر وينينغ من هؤلاء أتباعَ زعيم عصابات مدينة تامبا، "سانتو ترافيكانتي جونيور"، الذين كانوا يراهنون في "دوربي لين". كان بعض أعضاء المافيا أكثر عددًا من عملاء هذا المضمار. كان لدى المجرمين الشهيرين "تشارلز لاكي لوسيانو" و"ماير لانسكي" اهتمام كبير بمضامير سباق الكلاب في جنوب فلوريدا، كما يقول "سكوت ديتش"، مؤلف سبعة كتب عن المافيا. وأثارت مشاركة تلك العصابات في مراهنات السباقات، شائعات بشأن التلاعب في النتائج. إذ قال المراهنون إن الكلاب كانت تُطعَم أكثر من اللازم لإبطاء ركضها، أو تُربَط أصابع أقدامها بأشرطة مطاطية لإعاقة قدرتها على الركض، أو تُعطى عقاقير لجعلها أسرع أو أبطأ.
ظلت المنشطات مشكلةً قائمة حتى الأعوام الأخيرة للسباقات. في عام 2017، ألغى مسؤولو الولاية رخصة أحد مدربي الكلاب لدى "دوربي لين" بعد أن أثبتت التحاليل المَخبرية وجود الكوكايين -وهو من المنبهات- في دماء خمسة من كلاب السلوقي التي امتلكها. وبعد أشهر، تم توقيف مدرب في مسار آخر بولاية فلوريدا بعد أن ثبت تناول عشرات من كلابه المنشطات. وفي العامين التاليين، يقول مسؤولو الولاية، كشفت الاختبارات أن 11 كلبًا آخر من كلاب المدربين تناولت المنشطات. والحال أن المنشطات لم تكن سوى مصدر قلق واحد من بين أخرى لدى مناهضي تلك السباقات. وأمضت منظمة "غراي2كيه" ما يقرب من 20 عامًا في تجميع التقارير حول الوضع الذي يعيشه سلوقي السباقات، وتؤكد أنه حتى ممارسات هذا النشاط الترفيهي المعيارية تنطوي على سوء معاملة. إذ تقول إن هذه الكلاب تُجبَر على التسابق في ظروف يمكن أن تسبب لها إصابات خطيرة، مثل كسور الساقين والظهر والجمجمة والعمود الفقري، وحتى الصعق بالكهرباء بواسطة الأرنب الآلي. وهناك مصدر قلق آخر يتمثل في ما يحدث للكلاب التي لا تتسابق. ففي عام 1952، ذكر سِجل سباقات السلوقي أن 30 بالمئة فقط من الكلاب التي رُبِّيت لأجل التسابق تخوض المنافسة، تاركةً مصير 70 بالمئة الأخرى مفتوحًا على كل الاحتمالات. وتتوقف كلاب السباق عن المنافسة في سن الرابعة تقريبًا. وجمعت "غراي2كيه" تشكيلة كبيرة من القصص حول القتل الرحيم للسلوقي أو بيعه للمختبرات. ولمعالجة تلك المشكلات، أسس أصحاب القطاع "مجلس السلوقي الأميركي" في عام 1987، لإنشاء وكالات لتبَنِّي كلاب السلوقي ودراسة السبل الفُضلى لتحسين وضعها. ومع ذلك، وقعت فضيحتان من العيار الثقيل في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ففي عام 2002، أُلقي القبض على حارس سابق لدى "مضمار بينساكولا"، بعد أن اكتشفت السلطات قتلَهُ ما بين 1000 سلوقي إلى 3000 ودفنها في أرضٍ له بولاية ألاباما. قال إنه كان يحصل على 10 دولارات نظير إطلاق النار على كل كلب. وصف المدعي العام أرضَ الحارس تلك بـ "داخاو الكلاب" (وكان داخاو أحد معسكرات التعذيب النازية)، وفقًا لتحقيق نُشر في صحيفة "نيويورك تايمز". مات الحارس قبل محاكمته. وفي عام 2010، عَمَدَ أحد المدربين في مضمار ببلدة إيبرو بولاية فلوريدا إلى التخلي عن عشرات الكلاب لتنفق بعد انتهاء موسم السباق. أَقرَّ بارتكاب القسوة في حق الكلاب وحُكم عليه بالسجن خمسة أعوام.
كلاب السباق.. تبلغ خط النهاية!
إنها الثامنة والنصف مساء يوم سبتٍ من شهر أغسطس. يتدلى قمر محدب من كبد السماء بنور خافت لا يضاهي توهج أضواء النيون المنبعثة من لافتة كُتَب عليها "سباقات السلوقي" و"دوربي لَيْن". يتناثر نحو 300 شخص في المدرجات الكبيرة هنا في مدينة سانت بطرسبرغ بولاية فلوريدا -بعدما كانت ذات زمن مضى تحتضن آلافًا منهم- وهم يُهَمهمون؛ فيما تصدح مكبرات الصوت بمعزوفات فرقة موسيقية. تصمت الموسيقى ومعها المتفرجون إذ يَقود "فريدريك ديفيس" موكب الكلاب. "تي إنْ تي شيرلوك"، يقول المذيع، داعيًا أول الكلاب الثمانية الرشيقة، التي يُوقفها ديفيس أمام المدرجات. يرتدي كل كلب منها رقمًا ملصقًا على صدرية ناعمة تُعرف باسم البطانية. ينادي المذيع أسماء بقية الكلاب تِباعًا: "تَيلسبين"، "شارلوت يورك..". بعد ذلك، يضع ديفيس -وعُمره 41 عامًا- ومدربو الكلاب الثمانية الذين يشرف عليهم، الكلابَ في بوابة الانطلاق. يُطلَق أرنبٌ آلي يُدعى "هَير-صَنْ هَير" فيتخطى الكلابَ بسرعة فائقة مُطلقًا صرخات وشرارات زرقاء. هنالك تُفتح الأبواب فتندفع الكلاب على المسار كالبرق، مشَكّلةً كتلةً ضبابية متسارعة. تقذف كفوفها الرمال في الهواء وهي تركض حول المسار البيضاوي مدة 30 ثانية، فتصل سرعاتها إلى 72 كيلومترا في الساعة.
في زمن مضى، كان مضمار "دوربي لين" -الذي افتُتح في عام -1925 يُوصَف بكونه نسخةً من مضمار "تشرشل داونز" خاصة بسباق السلوقي. وإلى حدود العام الماضي لمّا كانت الكلاب تخوض السباقات، كان لا يزال بالإمكان ملاحظة شيءٍ من البريق والإثارة اللذين كان المضمار يتمتع بهما أيام مجده في القرن العشرين. ففي ذلك الزمن، كانت مدرجاته تعج بالمراوح التي يحملها أصحاب البدلات والقبعات الفاخرة. إذ كان من بين زواره، نجومٌ رياضيون وفنانون مشهورون. وذات مرة، ترك لاعبُ البيسبول الشهير "جو ديماجيو" زوجتَه "مارلين مونرو" في سيارة متوقفة وطفق يركض إلى داخل المضمار ليراهن على أحد السباقات.
ظل "دوربي لين" أقدمَ مضمار لسباق السلوقي يعمل باستمرار في الولايات المتحدة، إلى أن حلَّ شهر ديسمبر من عام 2020.. حين أُجبِرَ على قطع "آخر مسافة له". وقبل ذلك بعامين اثنين، كانت لدى فلوريدا مضامير سباق يفوق عددها مثيلَه لدى أي ولاية أخرى؛ إذ كانت تستحوذ على 11 مضمارًا من أصل 17 على مستوى البلد. وبحلول نهاية عام 2020، انخفض ذلك العدد إلى ثلاثة، يخوض سباقاتها نحو 2000 كلب. وها هي اليوم تُغلَق جميعًا. ففي عام 2018، حظي ناخبو فلوريدا بفرصة اعتماد تعديل دستوري -وهو التعديل رقم -13 لحظر المراهنة على كلاب السلوقي ابتداء من 31 ديسمبر 2020. هنالك راهن أصحاب هذا القطاع الترفيهي على رفض سكان فلوريدا ذلك التعديلَ، لكن تم إقراره بهامش أصوات واسع؛ ويرجع السبب في الغالب إلى القلق الوطني المتصاعد بشأن المعاملة السيئة للحيوانات المستغَلَّة في الترفيه مثل دُور السيرك.
كان آخر سباق في مضمار "دوربي لين" مقررًا بتاريخ 27 ديسمبر 2020. كان ديفيس، الرجل النحيف ذو الشعر المُجدَّل والابتسامة العاجلة، واحدًا من عشرات الموظفين الذين بات مستقبلهم في كف عفريت؛ وهو الذي ظل يعمل في المضمار 14 عامًا ولطالما عدّه وظيفتَه المثالية. قال ديفيس: "أحب الكلاب، وأحب أن أكون في الهواء الطلق". لم يكن ديفيس الموظف الوحيد في "دوربي لين" الذي يتساءل عمّا سيحدث بعد ذلك. وتعليقًا على الأمر، قال "ريتشارد وينينغ"، الرئيس التنفيذي لِمضمار "دوربي لين": "إنه لَأَمر مُخزٍ أن نُضطر للإغلاق بعد 95 عامًا".
تمتلك عائلة هذا الرجل الستيني المضمارَ منذ افتتاحه عام 1925. ومع إغلاق مضامير فلوريدا، يقول مُحذِّرًا، ستلقى مثيلاتها في أماكن أخرى المصيرَ ذاته بلا شك؛ "وفي غضون 20 عامًا، لن نجد حتى من يتذكر كيف كان سباق السلوقي". وذاك هو الأمر الوحيد الذي يُشاطر فيه وينينغ الرأيَ مع "كاري ثيل"، الذي قادت منظمتُه المسمّاة "غراي2كيه" (Grey2K) -ومقرّها في ولاية ماساتشوسيتس- الحملة الداعية إلى التعديل رقم 13: إغلاق مضامير فلوريدا، لإسقاط القطاع. يقول ثيل: "كانت فلوريدا حقًّا هي ذلك القطاع".
يتفق طرفا الجدال في سباقات السلوقي على أمر واحد: مع إغلاق مضامير فلوريدا، سينهار القطاع بأكلمه.
لدى وينينغ لحية شيباء، وهو حكواتي بالفطرة. بدأ العمل في المضمار قبل 45 عامًا، حيث كان يحصّل تذاكر الدخول (نصف دولار) من البوابات الدوارة. يتذكر أنه عندما كان من بين الزوار مراهنون ومقامرون باذخون، كان مطعم المضمار يقدم وجبات فاخرة، بوجود فرقة موسيقية حية تعزف بين كل سباق وآخر. ويقول وينينغ إن كلاب السلوقي هي السلالة الوحيدة المذكورة في الكتاب المقدس. وهذا صحيح نوعا ما. إذ ورد في طبعة "الملك جيمس" من "سِفر الأمثال" أنها "لطيفة الحركة" (ويقول الدارسون إن الطبعة العبرية الأصلية تشير إلى كلب الصيد الأفغاني أو السلوقي). وقد عرف مترجمو الملك البريطاني عن السلوقي بسبب رياضة كانت شائعة في ذلك الزمن، تسمى التعقيب (Coursing)؛ حيث يتسابق سلوقيان للانقضاض على أرنب. وقد أَحبّتها الملكةُ "إليزابيث الأولى".. ولذا اكتسب سباق السلوقي لقب "رياضة الملكات".
نشأ سباق الكلاب كما نعرفه اليوم على يد مخترع أميركي يُدعى "أوين بي. سميث"، الذي تأثر بالنفوق المأساوي لتلك الأرانب؛ ليتوصل إلى حل بديل. كانت فكرة سميث هي استبدال الأرنب الحي بآخرَ آلي. وفي عام 1910 حصل على براءة اختراع لِما أسماه "ناقل الأرانب الجامدة". وأشادت مجلة "سبورتس إليستريتد" الشهيرة بذلك الإنجاز في عام 1973 إذ ذكرت: "ما مِن أحد في تاريخ أي رياضة أحدث تغييرًا يضاهي ما فعله مخترع هذا الجهاز؛ ومع ذلك، ما مِن مخترع عبر تاريخ الرياضة طاله التجاهل أكثر منه". صمَّمَ سميث وشريكاه كذلك أول مضمار عصري للسلوقي، باسم "شركة النجم الأزرق للترفيه"، والذي افتُتح عام 1919 في ضاحية أوكلاند، كاليفورنيا. لكن المشروع فشل، كما كان مصير كثير غيره، لأنه لم يسمح بالمراهنات. فالقمار، وإن كان ذا شعبية، لم يكن قانونيا.
وكان أول مضمار ناجح، وسُميَ "نادي ميامي لبيت الكلاب"، هو الذي أسسه سميث وشريكاه عام 1922 بمنطقة مستنقعات في فلوريدا تُعرف باسم "هامباغوز". كان قريبًا جدًا من مستنقعات "إيفرغليدز" المكسوة بالحشائش، إلى درجة أن مُلاك الكلاب كانوا يستأجرون صائد ثعابين لصد الزواحف السائبة. كان مفتاح نجاح ذلك المضمار هو استخدام الأضواء الكهربائية، حسب قول "جوينيث آن ثاير"، مؤلفة كتاب (Going to the Dogs)، وهو كتاب عن سباقات كلاب السلوقي ومكانتها في الثقافة الشعبية. كانت الأضواء تعني إمكانية إجراء السباقات ليلًا، حيث يمكن للعاملين حضورها. وفي غمرة الازدهار العمراني بولاية فلوريدا في عشرينيات القرن الماضي، سعى آلاف من سكانها الجدد إلى الترفيه مساءً (وتم تحويل المضمار لاحقًا إلى سباق للخيول وأُعيد تسميته، حديقة هياليه).
في عام 1925، على الجانب الآخر من فلوريدا، افتُتح مضمار "دوربي لين" وسط موجة من الشكوك والريبة. نفدت أموال الشركاء الذين شيدوه، لذا حاز ملكيتَه إمبراطور تجارة الخشب، "تي. إل. ويفر"، جد وينينغ الأكبر. تقول عنه "لويز ويفر"، مؤرخة المضمار، إنه كان يزرع الفاصوليا في جوانب مسار الركض. وبين كل سباق وآخر، كان ويفر يُرْكِب القرود على كلاب السلوقي، بعد أن تُخاط أزياؤها على صدريات الكلاب، كي لا تهرب، وكذلك كي لا تستطيع هذه الأخيرة التخلص من القرود. على الرغم من أن المراهنات كانت غير قانونية، إلا أن أصحاب مضامير السباق "كانوا يفعلون شيئًا خلسةً"، على حد تعبير وينينغ، الذي يستطرد قائلًا: "لقد كانوا يبيعون أسهم الكلاب". كان الفائزون يحصلون على "أرباح"، أما الخاسرون فلا. وكانت مضامير أخرى تتدبر أمرها "بالمناورات"؛ أي أنها تستمر في العمل بالمراهنات حتى تتم مداهمتها، ثم تستأنف نشاطها مرة أخرى متى أصبح الطريق سالكا.
في عام 1931، إذ أدى "الكساد الكبير" إلى إفلاس الحكومات المحلية، اعتُمدَ في فلوريدا مشروع قانون لإضفاء الشرعية على المراهنات وفرض ضرائب على السباقات. عارضها الحاكم "دويل كارلتون"، وهو معمداني متدين. وبعد أعوام، قال إن المقامرين عرضوا عليه 100 ألف دولار للمصادقة على القانون. بدلًا من ذلك، استَخدَم حق النقض ضدها. لكن أعضاء مجلس الشيوخ في الولاية تجاوزوا حق النقض، مما جعل فلوريدا الولاية الأولى التي تضفي الشرعية على مراهنة سباقات الكلاب. ومن ثم ظهرت مضامير السباق في مدن: تامبا (عام 1932) وأورلاندو وجاكسون فيل (1935) وبينساكولا (1946) وكي ويست (1953). وهكذا أصبح سباق السلوقي جزءًا من صورة فلوريدا المزدانة بالشمس والمتعة. وقد صوَّر نجم البيسبول الأميركي، "ميكي مانتل"، إعلانًا للسجائر في "دوربي لين"، وتجول أبطال الملاكمة ونجوم السينما على مساراته. وفي فيلم (A Hole in the Head) المنتَج عام 1959، يظهر "فرانك سيناترا" وهو يراهن على سباقات الكلاب في ميامي.
يَعني انسحاب فلوريدا أن ثلاث ولايات -فرجينيا الغربية وآيوا وأركنساس- لديها الآن مواسم سباقات ثابتة. ويسعى دعاة الرفق بالحيوان إلى حظر سباقات السلوقي في جميع أنحاء الولايات المتحدة وفي بلدان أخرى عديدة.
صحيحٌ أن فلوريدا مكانٌ مشمس، لكنها قد تكون كذلك ملاذًا لأشخاص يرافقهم ظل الشبهات. ولقد اجتذبت أموال سباقات الكلاب كثيرًا منهم. يستذكر وينينغ من هؤلاء أتباعَ زعيم عصابات مدينة تامبا، "سانتو ترافيكانتي جونيور"، الذين كانوا يراهنون في "دوربي لين". كان بعض أعضاء المافيا أكثر عددًا من عملاء هذا المضمار. كان لدى المجرمين الشهيرين "تشارلز لاكي لوسيانو" و"ماير لانسكي" اهتمام كبير بمضامير سباق الكلاب في جنوب فلوريدا، كما يقول "سكوت ديتش"، مؤلف سبعة كتب عن المافيا. وأثارت مشاركة تلك العصابات في مراهنات السباقات، شائعات بشأن التلاعب في النتائج. إذ قال المراهنون إن الكلاب كانت تُطعَم أكثر من اللازم لإبطاء ركضها، أو تُربَط أصابع أقدامها بأشرطة مطاطية لإعاقة قدرتها على الركض، أو تُعطى عقاقير لجعلها أسرع أو أبطأ.
ظلت المنشطات مشكلةً قائمة حتى الأعوام الأخيرة للسباقات. في عام 2017، ألغى مسؤولو الولاية رخصة أحد مدربي الكلاب لدى "دوربي لين" بعد أن أثبتت التحاليل المَخبرية وجود الكوكايين -وهو من المنبهات- في دماء خمسة من كلاب السلوقي التي امتلكها. وبعد أشهر، تم توقيف مدرب في مسار آخر بولاية فلوريدا بعد أن ثبت تناول عشرات من كلابه المنشطات. وفي العامين التاليين، يقول مسؤولو الولاية، كشفت الاختبارات أن 11 كلبًا آخر من كلاب المدربين تناولت المنشطات. والحال أن المنشطات لم تكن سوى مصدر قلق واحد من بين أخرى لدى مناهضي تلك السباقات. وأمضت منظمة "غراي2كيه" ما يقرب من 20 عامًا في تجميع التقارير حول الوضع الذي يعيشه سلوقي السباقات، وتؤكد أنه حتى ممارسات هذا النشاط الترفيهي المعيارية تنطوي على سوء معاملة. إذ تقول إن هذه الكلاب تُجبَر على التسابق في ظروف يمكن أن تسبب لها إصابات خطيرة، مثل كسور الساقين والظهر والجمجمة والعمود الفقري، وحتى الصعق بالكهرباء بواسطة الأرنب الآلي. وهناك مصدر قلق آخر يتمثل في ما يحدث للكلاب التي لا تتسابق. ففي عام 1952، ذكر سِجل سباقات السلوقي أن 30 بالمئة فقط من الكلاب التي رُبِّيت لأجل التسابق تخوض المنافسة، تاركةً مصير 70 بالمئة الأخرى مفتوحًا على كل الاحتمالات. وتتوقف كلاب السباق عن المنافسة في سن الرابعة تقريبًا. وجمعت "غراي2كيه" تشكيلة كبيرة من القصص حول القتل الرحيم للسلوقي أو بيعه للمختبرات. ولمعالجة تلك المشكلات، أسس أصحاب القطاع "مجلس السلوقي الأميركي" في عام 1987، لإنشاء وكالات لتبَنِّي كلاب السلوقي ودراسة السبل الفُضلى لتحسين وضعها. ومع ذلك، وقعت فضيحتان من العيار الثقيل في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ففي عام 2002، أُلقي القبض على حارس سابق لدى "مضمار بينساكولا"، بعد أن اكتشفت السلطات قتلَهُ ما بين 1000 سلوقي إلى 3000 ودفنها في أرضٍ له بولاية ألاباما. قال إنه كان يحصل على 10 دولارات نظير إطلاق النار على كل كلب. وصف المدعي العام أرضَ الحارس تلك بـ "داخاو الكلاب" (وكان داخاو أحد معسكرات التعذيب النازية)، وفقًا لتحقيق نُشر في صحيفة "نيويورك تايمز". مات الحارس قبل محاكمته. وفي عام 2010، عَمَدَ أحد المدربين في مضمار ببلدة إيبرو بولاية فلوريدا إلى التخلي عن عشرات الكلاب لتنفق بعد انتهاء موسم السباق. أَقرَّ بارتكاب القسوة في حق الكلاب وحُكم عليه بالسجن خمسة أعوام.