خــطٌّ يُشعـل حـربًا فـي الأعــالـي

أشعل تغييرٌ طفيف أجرته وكالة أميركية على خريطةٍ، فتيلَ الحرب بين كل من الهند وباكستان في أعلى ساحة معركة في العالم. وإلى اليوم، ما زال الغموض يكتنف من يقف وراء ذلك التغيير، ومسوغاته.

اجتمع الرائد "عبد البلال"، من "مجموعة الوحدات الخاصة" لدى الجيش الباكستاني، مع فريقه تحت صخرة بارزة في أعماق سلسلة جبال "كاراكورام". كان ذلك يوم 30 أبريل 1989، وطوقت بعد ظهر ذلك اليوم عاصفةٌ ثلجيةٌ 11 رجلا وهم يجاهدون لاستنشاق الهواء قليل الأوكسجين على ارتفاع يفوق 6.5 كيلومتر فوق مستوى سطح البحر. بَدوا للوهلة الأولى من متسلقي الجبال، لولا سترات التمويه البيضاء التي كانوا يرتدون والأسلحة الآلية المتدلية من أكتافهم.
والحَقّ أن متسلقي الجبال كانوا ليغبطوا هؤلاء الرجال على بلوغ تلك النقطة المميزة التي تتيح لهم الاطلاع على بعض أعظم جبال العالم. فوق الأفق مباشرة، ظهر طيف (K2)، النقطة الثانية علوًا في الكوكب، على بعد 80 كيلومترا إلى الشمال الغربي. لكن جل القمم الجليدية لم تطأها قدمُ متسلق، وظلت بلا مُسمَّيات، ولا تَظهر على الخرائط إلا أرقامًا تتوافق مع ارتفاعاتها. تطلب بلوغ موقعهم على تلك القمة، المسماة (22.158)، صعودَ واجهة صخرية جليدية تنهار فيها الثلوج. ولقد لقي 4 رجال حتفهم أثناء المحاولة. بدلا من ذلك، نُقل رجال بلال على متن مروحيات. تدلَّى الرجال، واحدا تلو الآخر، من حبال، فيما قاومت المروحيات للبقاء عاليًا في الجو شبه المتجمد. أُنزل الفريقُ على بعد 450 مترا من القمة، وأمضى أفرادُه أسبوعًا كاملا في تثبيت الحبال واستكشاف الميدان في الأعلى استعدادًا لهذه اللحظة الحاسمة. اقترح بضعةُ رجال منهم الارتباط بحبل واحد طلبًا للسلامة. لكن بلال قال لهم: "إن ارتبطتم جميعًا بحبل واحد فإن سقوط رجلٍ يعني سقوطنا جميعا. اِرتدوا الكُلّابات على الأحذية بدلًا من استعمال الحبال". أَجْروا فحصًا نهائيا للتأكد من عدم تجمد الأجزاء المتحركة من أسلحتهم. وقُبيل الغسق، والريح تهب خلف ظهورهم، قادهم بلال في صف واحد على امتداد الجرف نحو القمة.
فجأة، أطل من خلف جدار ثلجي بُني في مركز مراقبة مؤقت وجهان قاتمان لحارسين هنديين لوحت الشمس سحنتيهما. خاطبهما بلال باللغة الأردية قائلًا: "أنتما محاصران من قبل جنود الجيش الباكستاني. ألقيا أسلحتكما". توارى الهنديان خلف جدار الثلج. واستطرد بلال قائلا: "إن الجيش الهندي ألقى بكما إلى التهلكة بإرسالكما إلى هنا". وسرعانَ ما سَمِع الصوتَ المميز لتعبئة بندقيتي "كلاشينكوف". يَذكر بلال هذه القصةَ في بلدته "راوالبيندي"، وقد مرت عليها ثلاثة عقود؛ إذ يقول: "لم نكن قتَلة متوحشين. أردنا صون أراضينا فحسب. كان علينا الدفاع عنها بأي ثمن.. كان ذلك واجبنا الوطني". كان متأكدا أن الهنديين بادرا بإطلاق النار، فما كان من بلال ورجاله سوى الرد. كان الثلج والهواء الرفيع يمتصان وقع الرصاص، وسقط أحد الهنديين. توقف الباكستانيون عن إطلاق النار، ونادى بلال على الهندي الآخر: "غادر هذا المكان.. لن نأسرك، ولن نطلق عليك النار من الخلف". هنالك وقف الجندي الهندي، ورآه بلال ينطلق بعيدا لاهثًا إلى أن توارى في الضباب. 

على مرّ ثلاثة عقود، أرسلت كل من الهند وباكستان جنودًا في مقتبل العمر إلى هذه البيئة القاسية ليقضوا فيها كل مرة شهورا متتالية.. لحراسة برية غير مأهولة.

قلةٌ قليلة خارج باكستان والهند انتبهت للأمر. مع ذلك فإن معركة القمة (22.158) الضارية تحمل طابعا مروِّعًا: إنّ رحاها تدور في أعلى نقطة قتال سجلها التاريخ. في صبيحة يوم صحْو، بعد مضي 28 عاما، تحركتُ رفقة المصور "كوري ريتشاردز" ببطء على الجليد الكثيف فوق مهبط مروحيات على بعد سبعة كيلومترات عن موقع ذلك الحادث. ولقد سبق لنا، بوصفنا متسلقين محترفين، أن صعدنا قمما في جبال كاراكورام، وأدركنا الجهود والمهارات اللازمة لمجرد البقاء على قيد الحياة هنا. دأبت كل من الهند وباكستان منذ أزيد من ثلاثة عقود على إرسال جنود شبان إلى هذه البيئة القاسية، حيث يرابطون شهورًا متواصلة لحراسة أرض خلاء نائية. وبدأ المراقبون يَذكرون المواجهة باسم "صراع نهر سياشين الجليدي" المشتق من اسم الغطاء الجليدي الهائل الذي يهيمن على المنطقة حيث تلتقي الحدود المتنازع عليها بين كل من باكستان والهند والصين.
منذ عام 1984، تَكبَّد الجانبان آلاف الضحايا. أُبرم اتفاق وقف إطلاق نار عام 2003، لكن عشرات الجنود ما زالوا يلقون حتفهم هناك كل عام؛ بفعل الانهيارات الأرضية والجليدية، وحوادث تحطم المروحيات، وداء المرتفعات والانسداد وأسباب أخرى. مع ذلك، يتطوع الجنود الهنود والباكستانيون كل عام بشغف للخدمة العسكرية هنا. وقد أخبرني مسؤول باكستاني قائلا: "يُنظر إلى الأمر بمنزلة وسام شرف عظيم".
تحفل رفوف المكتبات بكتب ومقالات إخبارية وأوراق علمية أُلِّفت حول الصراع، وغالبا ما يشير أصحابها إلى عبثية الاقتتال حول أراض غير ذات نفع. والفكرة السائدة أن عَدُوين عنيدين أعمتهما الكراهية قد يذهبان إلى أقصى حد في معارضة بعضهما بعضا، وقد وصف "ستيفن بي. كوهن" -المحلل لدى "مؤسسة بروكينغس"- نزاع سياشين بأنه "صراع بين رجلين أصلعين على مشط". لكن الضوء لم يُلقَ قَط بالكامل على الظروف التي حدت بِـ "الرجلين الأصلعين" إلى الانخراط في أتون الصراع. أمضيتُ أربعة أعوام في أثر وثائق رُفعت عنها السرية مؤخرًا، وأجريتُ مقابلات مع مسؤولين وباحثين وعسكريين من الهند وباكستان والولايات المتحدة، محاولًا إماطة اللثام عن فصل غامض من ملحمة سياشين. وها قد حَللتُ رفقة كوري ريتشاردز بباكستان لنرى رأي العين عواقب ما قد ينجم عن فعلٍ ظاهرُه البساطة.. يتمثل في رسم خط على خريطة.

بالنسبة إلى "مكتب الجغرافي" الأميركي ذي النفوذ، كانت القضايا الجيوسياسية والحدودية في كشمير.. "كابوسًا خرائطيًا".

الجغرافي
في 27 يونيو 1968، أي قبل 21 عامًا من قيادة بلال مجموعتَه إلى القمة (22.158)، أُرسلت البرقية (A-1245) إلى "مكتب الجغرافي"، وهو وحَدة غير مشهورة يحتضنها مقر وزارة الخارجية الأميركية في العاصمة واشنطن. انتهت البرقية على مكتب الجغرافي المساعد، "روبرت دي. هودغسون"، البالغ من العمر آنذاك 45 عامًا. حملت البرقيةُ توقيعَ "ويليام ويذرسبي"، القائم بالأعمال في السفارة الأميركية بنيودلهي، وكان مستهَلُّها: "في مناسبات عديدة.. قدمت حكومة الهند احتجاجًا رسميا إلى السفارة بشأن خرائط الحكومة الأميركية الموزَّعة في الهند، والتي تظهر كشمير إقليمًا 'متنازعًا عليه' أو منفصلًا بطريقة ما عن بقية الهند". واختُتمت بطلب إرشاد حول كيفية تمثيل حدود الهند على خرائط الولايات المتحدة.
كانت الخرائط مسألة هوية قومية في أعين الهند وباكستان، الدولتين الناشئتين من حمّام دم صاحبَ "التقسيم" (Partition)، وهو المصطلح الرسمي المستخدَم للتعبير عن حل "الهند البريطانية" وتقسيمها. أما لدى هودغسون وبقية العاملين في مكتب الجغرافي، فكان الأمرُ مِهنيًا صِرفًا. كانت الحكومة الأميركية تنشر كل عام آلاف الخرائط؛ فكانت -وفقًا للعديد من التقديرات- أكبر ناشر خرائط في العالم. وتقع مسؤولية رسم الحدود السياسية الدولية على عاتق "مكتب الجغرافي". منحت هذه المهمةُ للمكتب تأثيرًا كبيرا في دوائر بعيدة بالحكومة الأميركية، بما في ذلك وزارة الدفاع و"وكالة الاستخبارات المركزية". يتمتع المكتب بالسلطة النهائية لتنسيق الحدود السياسية الدولية مع سياسة الولايات المتحدة الرسمية، ويساعد في تشكيل تصور بقية الدول لهذه الحدود. مفاد ذلك أيضا أن المسائل الخرائطية الشائكة، من بين نحو 325 من الحدود الفاصلة بين الدول التي تعترف بها الولايات المتحدة، تقع على عاتق هودغسون وزملائه الجغرافيين. وقد تطلبت معالجة هذه الأمور الحساسة دقة مسَّاح ونهجَ باحث أكاديمي.
"استعادة الحدود" هو المصطلح الموظَّف للتعبير عن هذا الأمر، وفقًا لقول "ديف لينثيكوم"، الرجل المتحمس الذي تقاعد مؤخرا بعد أزيد من 30 عاما من العمل خبيرَ خرائط لدى كل من وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب الجغرافي. يقول: "نحن لا نرسم خطوطا من القماش [الكامل]. نحن نعيد الحدود إلى حيث كانت عام 1870 أو 1910 أو أي تاريخ شئتم في الخرائط والمعاهدات القديمة". يُمضي لينثيكوم ومعاصروه اليوم جزءا كبيرا من عملهم في تأمل صور الأقمار الصناعية فائقة الدقة. ومن باب المقارنة، بدأ هودغسون -الجندي السابق في مشاة البحرية الذي أصيب وهو يقاتل في أوكيناوا- مسارَه المهني "منقِّبًا في الخرائط" لمصلحة وزارة الخارجية الأميركية أثناء مَهمته في ألمانيا بين عامي 1951 و 1957. اقتضى التنقيب في الخرائط، التنقلَ عبر المناطق والبحث في أرشيفات خرائط ورقية متعفنة والتحقق الفعلي من مواقع البلدات والمعالم الجغرافية على الأرض. في الأيام الأولى للحرب الباردة، كان من شأن خطأ خرائطي أن يؤدي إلى عواقب وخيمة: ففي حالة نشوب صراع، قد تُرسَل طائرات أميركية لقصف البلدة الخاطئة، أو البلد الخاطئ، إن أخطأت الخريطة ببضعة كيلومترات أو كُتب اسم مكان بشكل مختلف قليلا. يُدرك لينثيكوم جيدا أن ارتكاب خطأ أمرٌ وارد. قبل عقد من الزمان، كُلف برسم الحدود بين نيكاراغوا وكوستاريكا على امتداد نهر "سان خوان" نحو البحر الكاريبي، فرسم الحدود بمحاذاة مجرى مائي قديم بدلًا من مجرى النهر الحالي؛ وبذلك ضم خطأً بضعة كيلومترات مربعة من جزيرة إلى نيكاراغوا. اعتمدت "خرائط غوغل" خط لينثيكوم، وسرعان ما أرسلت نيكاراغوا فصيلة من 50 جنديا لاحتلال الجزيرة. يقول لينثيكوم: "أحيانا، أثناء العمل مع زملائي، يتساءلون: لماذا تُمضي كل هذا الوقت منشغلًا بهذا الأمر البسيط [جزء من الحدود]؛ فيتبيَّن بعد أسبوعين أن ذلك المكان الصغير في غاية الأهمية. وحتى إن لم يكن مهما من الناحية العسكرية أو الاستخباراتية، فهو مهم لشخص ما.. ووضعُ قريةِ ذلك الشخص أو بيته أو حقله في البلد الخطأ، أمرٌ أعمل جاهدا كل يوم لتحاشيه".
من سوء حظ هودغسون أن مجموعة القضايا الجيوسياسية والحدودية التي وصلت إلى مكتبه عبر البرقية (A-1245) شكَّلت إحدى أعقد المشكلات في العالم -بل هي"كابوس خرائطي"، على حد تعبير أحد الجغرافيين- ألا وهي النزاع على إقليم كشمير.

 

خــطٌّ يُشعـل حـربًا فـي الأعــالـي

أشعل تغييرٌ طفيف أجرته وكالة أميركية على خريطةٍ، فتيلَ الحرب بين كل من الهند وباكستان في أعلى ساحة معركة في العالم. وإلى اليوم، ما زال الغموض يكتنف من يقف وراء ذلك التغيير، ومسوغاته.

اجتمع الرائد "عبد البلال"، من "مجموعة الوحدات الخاصة" لدى الجيش الباكستاني، مع فريقه تحت صخرة بارزة في أعماق سلسلة جبال "كاراكورام". كان ذلك يوم 30 أبريل 1989، وطوقت بعد ظهر ذلك اليوم عاصفةٌ ثلجيةٌ 11 رجلا وهم يجاهدون لاستنشاق الهواء قليل الأوكسجين على ارتفاع يفوق 6.5 كيلومتر فوق مستوى سطح البحر. بَدوا للوهلة الأولى من متسلقي الجبال، لولا سترات التمويه البيضاء التي كانوا يرتدون والأسلحة الآلية المتدلية من أكتافهم.
والحَقّ أن متسلقي الجبال كانوا ليغبطوا هؤلاء الرجال على بلوغ تلك النقطة المميزة التي تتيح لهم الاطلاع على بعض أعظم جبال العالم. فوق الأفق مباشرة، ظهر طيف (K2)، النقطة الثانية علوًا في الكوكب، على بعد 80 كيلومترا إلى الشمال الغربي. لكن جل القمم الجليدية لم تطأها قدمُ متسلق، وظلت بلا مُسمَّيات، ولا تَظهر على الخرائط إلا أرقامًا تتوافق مع ارتفاعاتها. تطلب بلوغ موقعهم على تلك القمة، المسماة (22.158)، صعودَ واجهة صخرية جليدية تنهار فيها الثلوج. ولقد لقي 4 رجال حتفهم أثناء المحاولة. بدلا من ذلك، نُقل رجال بلال على متن مروحيات. تدلَّى الرجال، واحدا تلو الآخر، من حبال، فيما قاومت المروحيات للبقاء عاليًا في الجو شبه المتجمد. أُنزل الفريقُ على بعد 450 مترا من القمة، وأمضى أفرادُه أسبوعًا كاملا في تثبيت الحبال واستكشاف الميدان في الأعلى استعدادًا لهذه اللحظة الحاسمة. اقترح بضعةُ رجال منهم الارتباط بحبل واحد طلبًا للسلامة. لكن بلال قال لهم: "إن ارتبطتم جميعًا بحبل واحد فإن سقوط رجلٍ يعني سقوطنا جميعا. اِرتدوا الكُلّابات على الأحذية بدلًا من استعمال الحبال". أَجْروا فحصًا نهائيا للتأكد من عدم تجمد الأجزاء المتحركة من أسلحتهم. وقُبيل الغسق، والريح تهب خلف ظهورهم، قادهم بلال في صف واحد على امتداد الجرف نحو القمة.
فجأة، أطل من خلف جدار ثلجي بُني في مركز مراقبة مؤقت وجهان قاتمان لحارسين هنديين لوحت الشمس سحنتيهما. خاطبهما بلال باللغة الأردية قائلًا: "أنتما محاصران من قبل جنود الجيش الباكستاني. ألقيا أسلحتكما". توارى الهنديان خلف جدار الثلج. واستطرد بلال قائلا: "إن الجيش الهندي ألقى بكما إلى التهلكة بإرسالكما إلى هنا". وسرعانَ ما سَمِع الصوتَ المميز لتعبئة بندقيتي "كلاشينكوف". يَذكر بلال هذه القصةَ في بلدته "راوالبيندي"، وقد مرت عليها ثلاثة عقود؛ إذ يقول: "لم نكن قتَلة متوحشين. أردنا صون أراضينا فحسب. كان علينا الدفاع عنها بأي ثمن.. كان ذلك واجبنا الوطني". كان متأكدا أن الهنديين بادرا بإطلاق النار، فما كان من بلال ورجاله سوى الرد. كان الثلج والهواء الرفيع يمتصان وقع الرصاص، وسقط أحد الهنديين. توقف الباكستانيون عن إطلاق النار، ونادى بلال على الهندي الآخر: "غادر هذا المكان.. لن نأسرك، ولن نطلق عليك النار من الخلف". هنالك وقف الجندي الهندي، ورآه بلال ينطلق بعيدا لاهثًا إلى أن توارى في الضباب. 

على مرّ ثلاثة عقود، أرسلت كل من الهند وباكستان جنودًا في مقتبل العمر إلى هذه البيئة القاسية ليقضوا فيها كل مرة شهورا متتالية.. لحراسة برية غير مأهولة.

قلةٌ قليلة خارج باكستان والهند انتبهت للأمر. مع ذلك فإن معركة القمة (22.158) الضارية تحمل طابعا مروِّعًا: إنّ رحاها تدور في أعلى نقطة قتال سجلها التاريخ. في صبيحة يوم صحْو، بعد مضي 28 عاما، تحركتُ رفقة المصور "كوري ريتشاردز" ببطء على الجليد الكثيف فوق مهبط مروحيات على بعد سبعة كيلومترات عن موقع ذلك الحادث. ولقد سبق لنا، بوصفنا متسلقين محترفين، أن صعدنا قمما في جبال كاراكورام، وأدركنا الجهود والمهارات اللازمة لمجرد البقاء على قيد الحياة هنا. دأبت كل من الهند وباكستان منذ أزيد من ثلاثة عقود على إرسال جنود شبان إلى هذه البيئة القاسية، حيث يرابطون شهورًا متواصلة لحراسة أرض خلاء نائية. وبدأ المراقبون يَذكرون المواجهة باسم "صراع نهر سياشين الجليدي" المشتق من اسم الغطاء الجليدي الهائل الذي يهيمن على المنطقة حيث تلتقي الحدود المتنازع عليها بين كل من باكستان والهند والصين.
منذ عام 1984، تَكبَّد الجانبان آلاف الضحايا. أُبرم اتفاق وقف إطلاق نار عام 2003، لكن عشرات الجنود ما زالوا يلقون حتفهم هناك كل عام؛ بفعل الانهيارات الأرضية والجليدية، وحوادث تحطم المروحيات، وداء المرتفعات والانسداد وأسباب أخرى. مع ذلك، يتطوع الجنود الهنود والباكستانيون كل عام بشغف للخدمة العسكرية هنا. وقد أخبرني مسؤول باكستاني قائلا: "يُنظر إلى الأمر بمنزلة وسام شرف عظيم".
تحفل رفوف المكتبات بكتب ومقالات إخبارية وأوراق علمية أُلِّفت حول الصراع، وغالبا ما يشير أصحابها إلى عبثية الاقتتال حول أراض غير ذات نفع. والفكرة السائدة أن عَدُوين عنيدين أعمتهما الكراهية قد يذهبان إلى أقصى حد في معارضة بعضهما بعضا، وقد وصف "ستيفن بي. كوهن" -المحلل لدى "مؤسسة بروكينغس"- نزاع سياشين بأنه "صراع بين رجلين أصلعين على مشط". لكن الضوء لم يُلقَ قَط بالكامل على الظروف التي حدت بِـ "الرجلين الأصلعين" إلى الانخراط في أتون الصراع. أمضيتُ أربعة أعوام في أثر وثائق رُفعت عنها السرية مؤخرًا، وأجريتُ مقابلات مع مسؤولين وباحثين وعسكريين من الهند وباكستان والولايات المتحدة، محاولًا إماطة اللثام عن فصل غامض من ملحمة سياشين. وها قد حَللتُ رفقة كوري ريتشاردز بباكستان لنرى رأي العين عواقب ما قد ينجم عن فعلٍ ظاهرُه البساطة.. يتمثل في رسم خط على خريطة.

بالنسبة إلى "مكتب الجغرافي" الأميركي ذي النفوذ، كانت القضايا الجيوسياسية والحدودية في كشمير.. "كابوسًا خرائطيًا".

الجغرافي
في 27 يونيو 1968، أي قبل 21 عامًا من قيادة بلال مجموعتَه إلى القمة (22.158)، أُرسلت البرقية (A-1245) إلى "مكتب الجغرافي"، وهو وحَدة غير مشهورة يحتضنها مقر وزارة الخارجية الأميركية في العاصمة واشنطن. انتهت البرقية على مكتب الجغرافي المساعد، "روبرت دي. هودغسون"، البالغ من العمر آنذاك 45 عامًا. حملت البرقيةُ توقيعَ "ويليام ويذرسبي"، القائم بالأعمال في السفارة الأميركية بنيودلهي، وكان مستهَلُّها: "في مناسبات عديدة.. قدمت حكومة الهند احتجاجًا رسميا إلى السفارة بشأن خرائط الحكومة الأميركية الموزَّعة في الهند، والتي تظهر كشمير إقليمًا 'متنازعًا عليه' أو منفصلًا بطريقة ما عن بقية الهند". واختُتمت بطلب إرشاد حول كيفية تمثيل حدود الهند على خرائط الولايات المتحدة.
كانت الخرائط مسألة هوية قومية في أعين الهند وباكستان، الدولتين الناشئتين من حمّام دم صاحبَ "التقسيم" (Partition)، وهو المصطلح الرسمي المستخدَم للتعبير عن حل "الهند البريطانية" وتقسيمها. أما لدى هودغسون وبقية العاملين في مكتب الجغرافي، فكان الأمرُ مِهنيًا صِرفًا. كانت الحكومة الأميركية تنشر كل عام آلاف الخرائط؛ فكانت -وفقًا للعديد من التقديرات- أكبر ناشر خرائط في العالم. وتقع مسؤولية رسم الحدود السياسية الدولية على عاتق "مكتب الجغرافي". منحت هذه المهمةُ للمكتب تأثيرًا كبيرا في دوائر بعيدة بالحكومة الأميركية، بما في ذلك وزارة الدفاع و"وكالة الاستخبارات المركزية". يتمتع المكتب بالسلطة النهائية لتنسيق الحدود السياسية الدولية مع سياسة الولايات المتحدة الرسمية، ويساعد في تشكيل تصور بقية الدول لهذه الحدود. مفاد ذلك أيضا أن المسائل الخرائطية الشائكة، من بين نحو 325 من الحدود الفاصلة بين الدول التي تعترف بها الولايات المتحدة، تقع على عاتق هودغسون وزملائه الجغرافيين. وقد تطلبت معالجة هذه الأمور الحساسة دقة مسَّاح ونهجَ باحث أكاديمي.
"استعادة الحدود" هو المصطلح الموظَّف للتعبير عن هذا الأمر، وفقًا لقول "ديف لينثيكوم"، الرجل المتحمس الذي تقاعد مؤخرا بعد أزيد من 30 عاما من العمل خبيرَ خرائط لدى كل من وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب الجغرافي. يقول: "نحن لا نرسم خطوطا من القماش [الكامل]. نحن نعيد الحدود إلى حيث كانت عام 1870 أو 1910 أو أي تاريخ شئتم في الخرائط والمعاهدات القديمة". يُمضي لينثيكوم ومعاصروه اليوم جزءا كبيرا من عملهم في تأمل صور الأقمار الصناعية فائقة الدقة. ومن باب المقارنة، بدأ هودغسون -الجندي السابق في مشاة البحرية الذي أصيب وهو يقاتل في أوكيناوا- مسارَه المهني "منقِّبًا في الخرائط" لمصلحة وزارة الخارجية الأميركية أثناء مَهمته في ألمانيا بين عامي 1951 و 1957. اقتضى التنقيب في الخرائط، التنقلَ عبر المناطق والبحث في أرشيفات خرائط ورقية متعفنة والتحقق الفعلي من مواقع البلدات والمعالم الجغرافية على الأرض. في الأيام الأولى للحرب الباردة، كان من شأن خطأ خرائطي أن يؤدي إلى عواقب وخيمة: ففي حالة نشوب صراع، قد تُرسَل طائرات أميركية لقصف البلدة الخاطئة، أو البلد الخاطئ، إن أخطأت الخريطة ببضعة كيلومترات أو كُتب اسم مكان بشكل مختلف قليلا. يُدرك لينثيكوم جيدا أن ارتكاب خطأ أمرٌ وارد. قبل عقد من الزمان، كُلف برسم الحدود بين نيكاراغوا وكوستاريكا على امتداد نهر "سان خوان" نحو البحر الكاريبي، فرسم الحدود بمحاذاة مجرى مائي قديم بدلًا من مجرى النهر الحالي؛ وبذلك ضم خطأً بضعة كيلومترات مربعة من جزيرة إلى نيكاراغوا. اعتمدت "خرائط غوغل" خط لينثيكوم، وسرعان ما أرسلت نيكاراغوا فصيلة من 50 جنديا لاحتلال الجزيرة. يقول لينثيكوم: "أحيانا، أثناء العمل مع زملائي، يتساءلون: لماذا تُمضي كل هذا الوقت منشغلًا بهذا الأمر البسيط [جزء من الحدود]؛ فيتبيَّن بعد أسبوعين أن ذلك المكان الصغير في غاية الأهمية. وحتى إن لم يكن مهما من الناحية العسكرية أو الاستخباراتية، فهو مهم لشخص ما.. ووضعُ قريةِ ذلك الشخص أو بيته أو حقله في البلد الخطأ، أمرٌ أعمل جاهدا كل يوم لتحاشيه".
من سوء حظ هودغسون أن مجموعة القضايا الجيوسياسية والحدودية التي وصلت إلى مكتبه عبر البرقية (A-1245) شكَّلت إحدى أعقد المشكلات في العالم -بل هي"كابوس خرائطي"، على حد تعبير أحد الجغرافيين- ألا وهي النزاع على إقليم كشمير.